حرائق الساحل…. دلالات المكان والزمان

د. سامر عبد الهادي علي

من جديد، وخلال أقل من شهر، عادت الحرائق لتندلع من جديد في مناطق الساحل السوري الخاضع لسيطرة النظام السوري منذ منتصف ليل الجمعة، ولا تزال حتى الآن، إلا أنها هذه المرة كانت أكثر انتشاراً وأشد قوة، وشملت معظم الساحل السوري وجباله الممتدة من محافظة طرطوس إلى محافظة اللاذقية بشكل لم يسبق له مثيل. ومما يثير الدهشة والاستغراب أن هذه الحرائق اشتعلت في آنٍ واحد وتزامنت في اللاذقية وطرطوس بأكثر من عشرين نقطة حريق، وهو ما لم يحدث سابقاً. ويمكن القول أن النيران التهمت ما تبقى من غابات الساحل وأراضيه الزراعية، كما أنها امتدت إلى مدن وبلدات وقرى المحافظتين ما أدى إلى أضرار مادية وبشرية، حيث احترقت المنازل والممتلكات، كما لقي ثلاثة أشخاص على الأقل مصرعهم في وعشرات حالات الاختناق وصلت المشافي، وسط حركة نزوح كبيرة تشهدها القرى والبلدات تلك. والجدير بالذكر أنّ السبب وراء هذه الكارثة لا يزال مجهولاً بالرغم من الكثير من المقولات والتحليلات المتضاربة حول ذلك.

* أهم مناطق الانتشار:

بدأت الحرائق في اللاذقية وطرطوس بشكل متزامن منذ منتصف ليلة الجمعة وحتى الآن، وشملت مناطق واسعة من المحافظتين، وتحديداً المناطق الجبلية فيها، ذات الكثافة الحراجية والزراعية الكبيرة. ففي طرطوس شملت الحرائق مناطق (مشتى الحلو، الكفرون، ريف بانياس، جبل السيدة وحريصون، حمام واصل، ضهر كشاش، باملاخا، المروية، مشتى الحلو، عيون الوادي) والعديد من المناطق والقرى في ريفي طرطوس وبانياس وصافيتا.

أما في محافظة اللاذقية فكانت الحرائق أكثر انتشاراً وضراوةً، وامتدت على معظم جبال اللاذقية من حدودها مع طرطوس وحتى الحدود التركية في منطقتي كسب وجبل التركمان، ويمكن أن نذكر أهم تلك المناطق (جبلة، سربيون، قلعة بني قحطان، البودي، الحفة، حبيت، شير القاق، منجيلا، محيط قلعة صلاح الدين، أم الطيور، العيسوية، بللوران، وادي قنديل، رأس البسيط، الزيتونة، القرداحة، بسوت، الفاخورة، بيت زنتوت) ومناطق أخرى متعددة.

أدت الحرائق إلى خسائر بشرية ووفاة 3 أشخاص حتى الآن، وخسائر مادية جسيمة في الممتلكات والمنازل والأراضي الزراعية، واحتراق عدد من القرى بكاملها، ونزوح آلاف السكان من تلك المناطق باتجاه مناطق أكثر أمناً، كما تعرضت عدد من المباني الحكومية إلى الاحتراق منها مبنى الريجي ومستودعات التبغ والمشفى الوطني في مدينة القرداحة، وجرى كذلك إخلاء مشفى الحفة والدوائر الحكومية في المدينة بسبب وصول النيران إليها. ولا تزال الخسائر النهائية غير معروفة بسبب استمرار اندلاع الحرائق حتى اللحظة في المناطق المذكورة، وسط عجز إدارات النظام الرسمية من التعامل معها بسبب قلة المعدات اللازمة لهذه الظروف وقلة المحروقات اللازمة لتشغيل سيارات الإطفاء والآليات اللوجستية المرافقة، وانعدام تام للطيران المروحي لإطفاء الحرائق.

* دلالات المكان والتوقيت:

من خلال نظرة سريعة على مدى يومين من الحرائق المندلعة يمكن تسليط الضوء على بعض النقاط المهمة التي يمكن ملاحظتها على الصعيدين المكاني والزماني. ونشير هنا إلى ما قاله أحد الأكاديميين السوريين والمتخصص في علم المناخ بقسم الجغرافيا في جامعة تشرين الدكتور رياض قره فلاح في كلام مهم حول تفسير ما حدث، حيث قال: (عندما تندلع الحرائق ليل وفجر الجمعة في أماكن متفرقة ومتباعدة وداخلية في الغابة، وبشكل مخيف يصعب على رجال الإطفاء السيطرة عليها، وقبل يوم واحد من تحول الرياح إلى شرقية جافة جعلت من الرطوبة في المناطق الساحلية تنخفض حتى رقم متدن جدا يصل حتى دون 25%. هذا يعني من وجهة نظري أن الحريق قام بها شخص أو مجموعة أشخاص، أو جهة (مثقفة ومتعلمة) تتابع حالات الطقس وتفهم تماماً الأحوال الجوية التي تساعد فيها الرياح على حدوث أكبر امتداد للحرائق، وهي بذلك تدرك جيداً ما تفعل. علماً أن هذا يحصل للمرة الثانية خلال شهر، وبنفس الظروف الطقسية والأهم من ذلك في أماكن جديدة لم تطالها الحرائق المرة السابقة….).

وأضاف (كلامي السابق يصبح بالنسبة لي يقيناً عندما تكون الحرائق قد اندلعت عند الفجر حيث يكون الضغط الجوي مرتفعاً، وتكون الرياح في أهدأ أوقاتها وسرعاتها، والأجواء باردة نسبياً بالمقارنة مع النهار، ومن المعروف أن السرعة الأعلى للرياح تحدث نهاراً وليس ليلاً مع انخفاض الضغط الجوي، مما يعني أن من افتعل الحريق كان يعلم بأن الرياح ستشتد مع شروق الشمس وسيصبح الوضع كارثياً خلال فترات الظهيرة مع اشتداد سرعة الرياح الشرقية الجافة).

وفي تحليل للمعطيات السابقة يقول الدكتور قره فلاح: (عموماً تقول الإحصاءات العالمية أنه من بين كل 100 حريق هناك 4 حرائق فقط قد يكون الطقس سببها وأهمها أسبابها الصواعق – ونحن لسنا في الشتاء- يمكن أن ندرك أن من قام بالحريق – من وجهة نظري- فرد أو أفراد حاقدون مدركون لما لهذا الأمر من تبعات كارثية بيئية واقتصادية وسياحية، ولا يمكن مطلقاً أن نعزو السبب بناء على المعطيات السابقة للأسباب الصغيرة مثل توسيع أراض زراعية على حساب الأحراج أو لغايات التفحيم أو أي سبب صغير كهذه الأسباب أو أن نتواكل ونتهم الحرارة المرتفعة والرياح الحارة التي هي سبب ساعد على اندلاع أوسع للحرائق وليست المسبب. الموضوع أكبر بكثير من ذلك وهو عملية تخريبية كبرى تهدد الأمن البيئي والاقتصادي والسياحي والسكني لسورية… وهذا أمر يعد بمثابة الخيانة العظمى لمن قام به إن كان من الداخل، أو حرب كارثية علينا من النوع الخطير والمؤذي جدا إن كان المتسبب من أعداءنا الخارجيين).

بالتالي فإن للتوقيت الذي اندلعت فيه الحرائق مؤشر كبير على وجود أيدٍ فاعلة وليست نتيجة ظروف طبيعية التي يمكن أن تشعل منطقة أو منطقتين على الأكثر في آنٍ واحد وليس أكثر من 40 نقطة حريق في التوقيت ذاته، خاصة وأن الاختيار جرى في أفضل الظروف المناخية المساعدة على سرعة الانتشار وهي وجود الرياح.

من ناحيةٍ أخرى فإن حصر الحرائق ضمن سلسلة جبلية واحدة ممتدة على محافظتي طرطوس واللاذقية فقط، ودون إشتعال المناطق الأخرى السهلية سواء في القسم الشمالي لمحافظة حمص أو حتى في منطقة سهل الغاب يشير إلى أن المقصود هو منطقة بعينها دون غيرها، وتحديداً الحاضنة الأكثر تأييداً وتمسكاً بالنظام، والمنطقة الأكثر أمناً طيلة سنوات الثورة السورية، حيث تعرضت كل مدن وبلدات وقرى سورية للتدمير والتهجير الممنهج باستثناء هذه المنطقة الجغرافية من الرقعة السورية، يتزامن ذلك مع ضغوط دولية على النظام، خاصة الأمريكية والروسية، لتقديم تنازلات سياسية في طريق الحل السياسي واللجنة الدستورية. كما أنّ روسيا نفسها بدأت مطالباتها للنظام بالوفاء بديونه تجاهها وهي التي دعمته سياسياً وعسكرياً واقتصادياً طوال خمس سنوات من دون جدوى، واستطاعت الحصول على بعض المكتسبات القليلة التي لا تغطي إلا جزء يسير من أموالها على النظام وسط عجز النظام عن سداد أي ديون، لهذا يمكن أن يكون لروسيا نفسها يد طولى في هذه الحرائق تمهيداً للسيطرة على هذه البقعة الجغرافية الاستراتيجية بعد إخراجها من صفتها كأراضي حراجية يمنع المساس بها، وبالتالي السيطرة عليها لاحقاً، وهذا ما يفسره عدم تدخلها لإطفاء تلك الحرائق التي وصلت محيط قاعدتها في حميميم بريف جبلة.

لا يزال كل ما سبق تحليلات قد يلامس بعضها الحقيقة، ولا يمكن الجزم بأيٍّ منها مع استمرار اندلاع الحرائق وتوسع رقعتها المكانية، وما سيكون بعدها من خطوات على مستوى ردود فعل النظام أو روسيا أو جهة ثالثة قد تظهر على ساحة المشهد في الأيام القادمة، خاصة مع عدم استبعاد لدور إيراني في هذه الحرائق أيضاً كما أشار إلى ذلك عدد من المتابعين للقضية السورية، ويبقى الأمر رهن المستقبل حتى تتضح الصورة أكثر.

وسوم: العدد 898