السلبيات المترتبة عن تأثير الذاتية في تصحيح الامتحانات الإشهادية

بينما كانت مجموع من أولياء أمور المتعلمين ـ وكنت من ضمنهم ـ  ينتظرون خروج أبنائهم من إحدى المؤسسات التربوية إذا بأحدهم وهو مدرس يخبرهم دون أن يطلبوا منه  ذلك بأنه قد صحح مجموعة من أوراق امتحان إشهادي، فلم يحصل على المعدل إلا قلة قليلة من الممتحنين ،وقد صرح بذلك دون احترام سر المهنة  من جهة ، و من جهة أخرى دون مراعاة مشاعر الحاضرين  وقد أساء إليها  بنوع من السادية  شعر بذلك أم لم يشعر مع أنه  واحد منهم، وهو يعلم جيدا أن هاجس تعثر أبنائهم  في الامتحان يؤرقهم في ظرف الامتحانات  ، كما أنه أول المؤرقين بذلك حين يتعلق الأمر بنتائج أبنائه.

هذا الحدث هو الشرارة التي قدحت في ذهني تناول موضوع  ما يترتب من سلبيات عن تأثير الذاتية  في تصحيح الامتحانات الإشهادية ، وقد كنت في فترة ممارستي للتدريس من مصححي هذه الامتحانات ، ومن مراقبي عملية التصحيح خلال ممارستي للتفتيش التربوي ، وقد راكمت من الملاحظات الخاصة بهذا الموضوع ما يلزمني بالكشف عنها للرأي العام من جهة ، ومن جهة أخرى لكل من يمارسون عملية تصحيح الامتحانات أو فروض المراقبة المستمرة .

وأول ملاحظة رسخت في ذهني ولا زالت ، وستبقى كذلك حتى أكون حرضا وأسال الله تعالى العافية وحسن العاقبة هي أن المصحح مهما ادعى الموضوعية في ممارسته عملية التصحيح ، فإن ذاتيته لا تبارحه ، وإن حرص شديد الحرص على ذلك ، وهي أول مؤثر سلبي على نتائج الممتحنين .

ولا بأس أن نذكر بعض تأثير ذاتية المصحح في عملية التصحيح ، ومنها تمثيلا لا حصرا حضور تأثير قناعاته وتوجهاته الشخصية  خصوصا عندما يتعلق الأمر بتصحيح اختبار المقال الأدبي  ، وهو أصعب اختبار بالنسبة للممتحنين لأنهم يكونون في حكم المبدعين لا في حكم المسترجعين أو المجترين ،ذلك أنه إذا كان  المصحح على سبيل التمثيل  ممن يتذوقون جنسا  من الفنون الأدبية، أو يعشقون نوعا من الأدباء ، ويجدون في بعض الأوراق التي يصححونها ما يساير أهواءهم، وتوجهاتهم ،وقناعاتهم ،وأذواقهم نجدهم أسخياء إلى درجة الكرم الحاتمي في التنقيط  دون تأنيب من ضمير أو خوف من سميع بصير مع أنهم يعلمون علم اليقين أن القضاة وهم ينزلون منزلتهم بحكم مهمتهم ،اثنان منهم في النار ، وواحد منهم  في الجنة، ومع ذلك لا يستغفرون ربهم ، ولا يخرون ركعا  له ،ولا ينيبون إليه  كما فعل نبي الله داوود عليه السلام حين حكم حكما فيه شطط بين خصمين لم يرضاه الله عز وجل. وخلاف ذلك حين  تمجّ أذواقهم نوعا آخر من الفنون الأدبية ، ويكرهون أصحابها ، فإنهم يسلطون أقلامهم الدامية على من يشيد بها ، ويشحون في التنقيط إلى درجة شح مادر، وكان اسمه مخارق، وهو أبخل العرب إذ سقى إبله من خوض ماء ثم تغوط فيما فضل عنها من ماء حتى لا ينتفع به غيره .

وكفى بما ذكرنا آفة من آفات تأثير الذاتية في المصححين إلا أنها ليست الوحيدة بل هنالك غيرها من قبيل تبرم المصحح من طول المقالات ، ومن قبح خطوطها فينزل عقوبة سوء التنقيط  بأصحابها دون فحصها بتجرد من ذاتيته ، وإن كانت أحسن ما بين يديه من مقالات .

 ومن الآفات أيضا أن تتوالى بين يديه أوراق قد يسره ما فيها، فإذا أعقبها غيرها مما لا يسره انفلت منه زمام الذاتية الجامحة ، فحاف بذلك  في التنقيط ، والعكس يصح أيضا إذا ما توالت بين يديه أوراق لا تحظى بإعجابه ثم تليها التي ترضيه فيجود على هذه الأخيرة وقد بخل على الأولى ، ولو أنه خالف جموح  ذاتيته لاعتدل في تنقيطه بحيث لا يكون فرق كبير بين الأولى والثانية ، وذلك أقرب إلى التقوى  .

ومن الآفات أيضا ألا يحرر المصحح نفسه مقالا يكون مرجعا ومعيارا في عملية التصحيح ، ويكتفي بما يزود به مما يسمى عناصر الإجابة ، وعيبها التعميم وغياب الدقة ، علما أنه مع ضعف المعيار أو تقصيره تفعل الذاتية فعلها السيء  في المصحح ، فيفوته الكثير مما يجب تثمينه ومما أهمله المعيار بتعميمه وعدم دقته ، لهذا فتحرير مقال مرجع من طرفه يكون أقرب إلى الموضوعية وأنأى من الذاتية لأنه وهو يحرر هذا المقال يعيش حقيقة  تجربة من يصحح مقالاتهم ، ويلتفت جيدا إلى ما يحب أن يلتفت إليه مما في مقاله ،علما بأن كل ذي مقال بمقاله معجب  كإعجاب كل فتاة بأبيها .

ومما يرتبط ارتباطا وثيقا بهذه الآفة سلم التنقيط ، وهو لا يقل تعميما عن عناصر الإجابة بحيث تعطى علامات كبرى مقابل كل جزء من أجزاء المقال دون أن تفتت أو تجزأ إلى علامات صغرى  في الجزء الواحد كأن تخصص على سبيل المثال نقطة واحدة للجواب عن جزء من المقال  دون أن تجزأ هذه النقطة إلى ربعها وثلثها ونصفها وثلاثة أرباعها وفق كيفية  تغطية كل ممتحن لهذا الجزء من المقال ،علما بأن الممتحنين يتفاوتون في هذه التغطية، ويتميز بعضهم على بعض في ذلك ، لهذا  لو أن المصحح الزم نفسه بالعلامة بالكاملة دون تجزئتها  لكان الممتحنون  كلهم سواسية ،وهذا خلاف واقع الحال ، ولو أنه حرم بعض الممتحنين منها كليا تجنبا لتجزئتها  لما كان مقسطا إذ لا تخلو كيفية كل واحد منهم من قدر من الإصابة ،وإن لم تكن  إصابة في المحزّ.

ومن الآفات أيضا أن تتم عملية التصحيح في ظروف عامة أو خاصة، فيها ما يؤثر سلبا عليها من قبيل ضيق المدد المخصصة للتصحيح ، أومن قبيل أحوال المصححين الخاصة من تقلب لأمزجتهم ، أومن معاناة مردها مشاكل مادية أو معنوية ...مع العلم أن المصحح كالقاضي الذي لا يحق له أن يقضي وهو سيء المزاج بغضب أو نحوه الشيء الذي يفسد مهمته .

هذه بعض الآفات التي  قد يكون الممتحنون ضحاياها وأوراق امتحاناتهم بين أيدي مصححين لا تنفك عنهم ذاتيتهم، فيظلمونهم من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون ، ورب حيف في إعطاء  مصحح علامات غير مستحقة زيادة أو نقصان تكون لها أسوأ العواقب على مصير ومستقبل الممتحنين خصوصا وأنها شرط من أهم شروط ولوج ما يحلم به هؤلاء من انتماء إلى معاهد بعينها يكون تخرجهم منها ابتسامة حظ بالنسبة إليهم ، ووسيلة  الحياة السعيدة والمستقبل الزاهر عليهم .

وأخيرا نقول ناصحين إن قبل منا النصح  يا معشر المصححين احذروا مثل هذه الآفات وغيرها مما لم يرد في هذا المقال، واخشوا يوما يرجعون فيه إلى الله عز وجل .  

وسوم: العدد 986