هل بدّلت أمريكا مواقفها؟...

هل بدّلت أمريكا مواقفها؟...

أم نحن المصابون بعمى الألوان ؟؟؟....

عقاب يحيى

تنهال التصريحات كثيفة من مسؤولين أمريكيين كباراً، آخرهم وزير الخارجية، وهي تسفر عن حقيقة الحقيقة التي طالما جرى تلطيخها بكثير المراهنات والتفسيرات الزئبقية، وبما كان يترك المجال للمتفائلين ب"صداقة أمريكا" كي يمطّوا الكلمات بما يتناسب ومقاس تفكيرهم، ورغباتهم، بينما جميع المعطيات تؤكد خلاف ذلك، وتدلّ بما يفقأ عيون الاحتمالات أن لأمريكا استراتيجتها الواضحة، ومواقفها البعيدة عن إرادة السوريين وحلمهم بالحرية، وإنهاء نظام الفئوية والاستثناء .

ـ سيغرق كثير في التبرير والتحليل، وفي جلب الأسباب المانعة، والاعتبارات التي تنطلق منها إدارة أوباما، وحين تصدمهم الحقيقة التي ترد صريحة، معلنة على لسان كبار المسؤولين سيصاب بعضهم بالخرس، أو يلوي عنقه، كما حاول لوي عنق الوقائع.. كي يستمر في طميمة المتاهات، وعمى الألوان .

ـ منذ بدايات الثورة، ونحن نلج عامها الخامس، لم تكن مواقف الإدارة الأمريكية واضحة، أو حاسمة لجهة دعم الثورة السورية وتمكينها من تحقيق أهدافها بمختلف الوسائل السلمية، والمسلحة، والسياسية، وكان الخلاف بيّناً بين مواقفها من ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، وحتى اليمن عنها إزاء سورية، حين مارست ضغوطاً قوية، وأشكالاً من التدخلات المباشرة والسرّية لإنهاء تلك الأوضاع لصالح الثورات ـ ولو شكلياً، ومرحلياً.. بينما بدت مرتبكة، ومزدوجة، ومائعة، ومغمغمة، وضربة على الحافر وضربة على المسمار، وقابلة لكثير من التفسيرات فيما يخصّ الثورة السورية..وقيل الكثير في محاولة التفسير، أو الدفاع والتبرير..

ـ كان علينا ـ جميعاً ـ أن ندرك ـ منذ البداية ـ أن للثورة السورية خاصياتها المختلفة، وأن نجاحها زلزال قوي سيعمّ المنطقة مباشرة، أو عبر ارتداداته الاجتياحية، وأن قيام نظام ديمقراطي، تعددي، شعبي.. يعيد سورية إلى مكانتها الطبيعية، ودورها المميز يمثل تهديداَ استراتيجياً لكيان الاغتصاب الصهيوني، ولمجمل الأوضاع الاستنقاعية في وطننا.. لذلك فمحاولات الحرف، والتشويه، والإثقال بكثير المفاعلات المصطنعة، والطبيعية، والضحك على ذقون" الإيجابيين" والمراهنين على الدور الأمريكي، والغربي، والخارجي، وتلوّن وتلوين المواقف والتصريحات، ثم الانعطاف العلني باتجاهات أخرى مغايرة : إيران وملفها النووي، فقصة الإرهاب ومحاربته...ووضع ذرائع متنقّلة عن ضعف المعارضة، وتشتتها، أو موقع الأسلمة ومخاطرها، أو الفراغ ونتائجه..والحل السياسي وموقعه..إلخ، جميعها كانت نتاج وجود استراتيجية متسقة تتبادل لتنفيذها مجموعة من الخيارات، والأوراق.. وفق الحاجة، ومستلزمات التكتيك..وصولاً إلى فتح النزيف السوري من مختلف الجهات وتركه حتى منتهاه ..

                                                                  ******

ـ بعض المبلبلين يتوقفون عند الاتفاق على السلاح الكيماوي مع روسيا، ويعتبرونه المحطة الفاصلة التي دفعت الإدارة الأمريكية باتجاهات أخرى مغايرة ألغت فيه قرار التدخل، أو دعم الثورة السورية بما يمكنها من الحسم، بينما تبرهن الوقائع أن السياسة الأمريكية ليست اعتباطية، ولا تبنى على ردود الفعل والاستثناءات، وأنها نتاج اعتبارات مأسسية لا تشلعها، أو تبدلها ريح من هنا وهناك، وأن وسائل تحقيقها متنوّع، وليس شرطاً أن يسير بخط واحد، او أن يسلك طريقاً واحداً : مستقيماً كان أم بعديد التعرّجات، وأن الرهانات على تأهيل النظام، وإبقائه بشكل ما، وبحجم ما، ودور ما كانت موجودة في جميع الحالات والتكتيكات كواحدة من خيارات قوية.... حتى إذا ما أسفرت التطورات : الطبيعية والقسرية عن مصاعب ما، وعن تعقيدات مانعة.. وحتى إذا ما اقتربت الثورة من الحسم عماداً على تضحياتها وتصميم شعبها.. برزت الأثقال صخوراً مانعة، وسدّاً في ذلك الطريق يلزمها على التوقف، أو الانحراف في شعاب متعددة متفرّعة، وعديدها مصطنع.. كي تضيع قوى الثورة وتتوه، ويضطر، أو ينتقل عديدها إلى تغيير اللباس، والوسيلة، والراية ..

ـ الاتفاق حول السلاح الكيماوي طرح أسئلة قوية عن مضامينه.. لكن قوى المعارضة، خاصة المنضوية في الإئتلاف ـ معظمها ـ لم تنقّب عن تلك المضامين، ولم تبذل جهداً للتوقف عنده وما نتج عنه، وظلّ عمى الألوان يتغذى سواقي السراب، ويقنع نفسه والآخرين بأن الظاهر هو الباطن، وأن أمريكا صديقة يجب بذل الجهد، والمال، والحركة، والمواقف الإيجابية لكسبها وتطوير مواقفها...في حين كانت الموضعات على الأرض تدلل بالقطع عن وجود اتفاقات بعيدة المدى أدخلت إيران بقوة طرفاً، ومعادلاً، ومحتلاً، ونافذاً، وأن دوراً ما، وموقعاً ما منح للروس.. وأن انتصار الثورة قضية مؤجلة حتى نهايات النهايات، وأن بقاء النظام برأسه، أو بمرتكزاته جزؤ من تلك الاتفاقية، ويجب تسويقه على طريقة الجرعات التي تسبقها المسكّنات وحبوب التخدير.. ولمّ لا تقديم نظارات تزيد عمى الألوان توهاناً، وازدواجيات في الرؤية والرؤى..

                                                                      ***

حقائق متلتلة على الأرض تكاثفت في الأشهر الأخيرة وجميعها تفقأ عيون التصريحات الملتبسة عن مواقف أمريكية ما زالت تحكي عن إبعاد رأس النظام، وأن لا مستقبل له في أي حل سياسي، أو في مستقبل البلاد.. وحين تكلم السفير فورد بالوقائع الصافعة المغايرة تماماً لكل ما كان يصرّح به ويعلن، وهو الذي كان يبدو من أشدّ المتحمسين للتدخل الأمريكي، وإنهاء النظام، تلجلجت الكلمات في أفواه المراهنين، واعتبروا ذلك أمراً شخصياً.. حتى كان التصريح الذي لا يقبل أي ازدواجية في التأويل لمدير المخابرات.. ثم" العم" كيري...و" ضغوطه" لأجل أن يقبل النظام ورأسه بالحل السياسي ؟؟!!!!......

ـ الوقائع من عامين صارخة.. والوجود الإيراني كان شديد البرهان عليها، ومثله حكاية الحل السياسي، وقصة جنيف 1وجنيف 2 .. وتفشيل مهمة الأخضر الإبراهيمي، والمجيء بأبو المسكّنات : ديمستورا .. ونهاية مهمته تقريباً لصالح العودة إلى رواية تأهيل النظام.. وتجميع المعارضة ضمن قفص واسع.. علّ ذلك يكون حلقة جديدة، طويلة في مسلسل المأساة السورية ..

                                                                       ***

الوقائع الثقيلة لن تنهيها سياسة الشتم والتوسل.. ولا عنجهية اكتشافها وكأننا اكتشفنا نجماً خارقاً، أو إعجازاً إعجازياً، بل تفرض على جميع المؤمنين بالثورة. بالشعب. بالأهداف التي قامت لأجلها أن يقفوا وقفة نقدية إيجابية مع المعطيات والنتائج كي يُعملوا العقل فيما يمكن عمله لبناء ميزان القوى بناء على العامل الذاتي تأسيساً، والتوجه نحو التوافق تحت عنوان : الوطنية السورية العريقة.. والثورة المعجزة التي لن يستطيع أحد توقيفها، أو دحرها، أو تقزيمها ..

ـ بناء العامل الذاتي لا يتمّ بالعواطف وردود الأفعال، ولا بسياسة الرهان والاستغاثات، وإنما بالعمل الفاعل لتجميع كافة عوامل القوة في الشعب بمختلف أطيافه وحراكه ومناحيه.. وفق برنامج واقعي للمهام، وبناء علاقات ندّية، وطبيعية مع الأشقاء والأصدقاء الذين لهم مصلحة في إنهاء النظام، وإيقاف مأساة الشعب السوري، ودحر الاحتلال، والمشروع الإيراني .