ثورات الربيع العربي..

عقاب يحيى

قبل إسبوعين، تقريباً، كانت الذكرى الرابعة للثورة المصرية.. وقبلها بقليل أيقونة الثورات وشرارتها : الثورة التونسية.. وهذه الأيام تمر الذكرى الرابعة للثورتين اليمنية والليبية تباعاً، وبعد شهر تقريباً تُكمل الثورة السورية عامها الرابع، والأسئلة الكبيرة تتقاطر مثل أمطار شباط وآذار عن مسار تلك الثورات، وأين صارت، وما فعلت وحققت . عن المآل والقادم.. والخوف كبير من قادم خطير تلوح عوامله في الأوضاع الحالية ...

وحدها التجربة التونسية، وبفعل قوة هيئات المجتمع المدني من جهة، وموقع ودور المؤسسة العسكرية من جهة ثانية، ووعي الأحزاب الرئيسة للمرحلة، وموقع التوافق، والتعايش، والتسامح من جهة ثالثة..تعبر المرحلة الانتقالية الصعبة، وتدخل في بناء الجمهورية الثانية على أسس التعددية، والتداول السلمي على السلطة واحترام خيارات الشعب في انتخابات برلمانية توفّرت لها نسبة عالية من الشفافية...

ورغم ذلك فما زالت مخاطر كبيرة تحيق بهذه التجربة ..والتي يأتي أبرزها من دور وتخريب قوى الدولة العميقة، تلك المشرشة في القوى الأمنية، والأجهزة الإدارية عموماً التابعة للنظام القديم، وبقايا الحزب الدستوري وأعشاشه النافذة، وفي لوبيات المال والضغط، ومصاعب بناء اقتصاد يتخطى الأزمة الضاغطة، ويفتح المجال لمعالجة الفقر والبطالة والتهميش، خاصة في المدن والمناطق الجنوبية ..

ـ بينما تفتح مصر بسيطرة المؤسسة العسكرية واستلامها المباشر للحكم، وإنهاء الشرعية التي أنتجتها الانتخابات الرئاسية.. تفتح الأبواب جميعها لدراسة خلفيات ما جرى، وموقعه من الانقلاب العسكري الموصوف، او التغيير المستند إلى قاعدة شعبية يجري الخلاف في حقيقتها، ونسبتها، ومحركاتها، واستقرارها، وتخوم وحدود ومصداقية الشرعية الشعبية.. والانقسام الكبير والعميق في المجتمع المصري، والدخول فيما يشبه الحرب الأهلية المفتوحة وما يكتنفها من قمع شمولي وأحكام قاسية، وعمليات تفجير وإرهاب... قد تُدخل مصر وضعاً نازفاً يصعب التنبؤ بمصيره، وآثاره .

ـ وبغض النظر ـ هنا ـ عن أخطاء حركة الإخوان المسلمين، وكل ما قيل عن الاستئثار، والتعجل، وفجاجة الممارسات غير الفاهمة للمرحلة، و"الأخونة" .. وما أحدثه ذلك من انقسام بين القوى السياسية وفي المجتمع المصري..دفع، أو أعطى المبرر للمؤسسة العسكرية : القوية، والحاكمة فعلاً للقيام بانقلاب تصرّ على خلطه بتلك الشرعية الشعبية التي أعلنت الوقوف معه، وناصرته، ومنحت أصواتها لقائده.. كي يتحول إلى رئيس للدولة بصلاحيات شبه مطلقة..بغض النظر عن جميع الانتقادات التي يمكن تجميعها على تلك الفترة.. فإن ما جرى كان يكشف حقيقة دور المؤسسة العسكرية في التغيير، وإجبار مبارك على التخلي، وفي الحكم من خلف الستار، ثم مباشرة، وموقع ذلك من الديمقراطية، والتعددية، والحريات العامة والفردية..

ـ أما ليبيا التي تحتفي هذه الأيام بالذكرى الرابعة للثورة.. فأزمتها ضمنها، ومن إفرازاتها ـ على الأقل بشكل مباشر ـ لأن القوى المتصارعة، والمتحاربة هي جميعها، وبغض النظر عن التلاوين، والخلفيات الفكرية والسياسية محسوبة على الثورة، ومن إفرازاتها، وكانت طوال أشهر الثورة والمجابهات العنيفة المدعومة بقصف حلف الناتو تصطفّ في خندق  الثورة ومجابهة النظام السابق، حتى إذا ما سقط بقوة القصف الخارجي انتقلت إلى الحرب المفتوحة فيما بينها.. في حرب ضروس تهدد بتقسيم ليبيا جغرافياً، ومجتمعياً، وقبلياً.. وعلى أكثر من اساس، وشكل .

أبرزت مجريات الثورة الليبية مخاطر فوضى السلاح وانتشاره بتلك الطريقة المليشياوية البعيدة عن التنظيم، والتوحد، وموقع بنى التخلف، والعصبيات الحزبوية والقبلية، وعقليات الاستئثار والتكويش والفرض في تمزيق ليبيا، وتدمير بناها التحتية واقتصادها، وخلق خنادق تتسع كلما اشبعت بدماء الأخوة .. دون إغفال دور القوى الخارجية وتنازعها، واثر ذلك على التوزعات الداخلية والقوى المتحاربة .

ـ ومع ذلك . ومع كل الدمار والخراب.. والخسائر البشرية الكبيرة، وحالات تقسمية متموضعة تقريباً.. فإن استجابة القوى الليبية المتحاربة للحوار والمصالحة برعاية الأمم المتحدة تمثل الأمل المأمول لإيقاف هذا النزيف وما يحمل، وصولاً على توافقات تضع أهداف الثورة التي أعلنها شباب ليبيا وضحى كثيرهم لأجلها في مرمى التجسيد ..

ـ أما اليمن فحكايته مختلفة قليلاً.. بنكهة يمنية وخليجية.. حين استجابت قوى النظام بقيادة الرئيس"الأبدي" علي عبد الله صالح، والقوى السياسية التقليدية للضغوط الخليجية، والدولية وتوقيع تلك الاتفاقية التسووية التي وضعت الرئيس السابق ـ ولو شكلياً ـ خارج الحكم، وجاءت بنائبه بديلاً,,, ثم ذلك التوافق الذي جرى عبر الحوار، ومخرجاته، ومن ثم " اتفاق السلم والشراكة" الذي كان محاولة ولو متأخرة، لإنقاذ وضع ينهار.

ـ إن قطع مسار الثورة قبل الوصول  نهاياتها الجذرية في اشتلاع النظام السابق، وبناء البديل.. عبر مبادرة " مجلس التعاون الخليجي" .. أفرز نتائج سلبية خطيرة تواجهه اليمن اليوم، وأهمها :

1 ـ إبعاد شباب الثورة كلياً عن المشاركة  المباشرة، وتهميشهم ..

2 ـ تكريس القوى التقليدية: السياسية وغيرها بديلاً لقيادة المرحلة الانتقالية .

3 ـ إبقاء النظام القديم بكل ترسانته الأمنية والعسكرية والإدارية قوة  ضاربة، وعلى رأسه الرئيس السابق الذي منح الحصانة الكاملة فعمل بكل السبل على تهشيم وتجويف الاتفاق، وعقد صفقات مع خصوم الأمس : الحوسيين.. بهدف التفشيل والانتقام، ولخبطة الأوضاع جميعاً .

4 ـ لقد جرّد الرئيس البديل، ومعه المؤسسات التي نهضت : الحكومة ـ مجلس النواب .. من أية قوى فعلية، وبما سمح، وبتواطؤ مكشوف من الرئيس السابق، وبدعم قوي متصاعد من إيران، لقوات الحوسيين من التقدّم الكاسح واحتلال مدن عديدة، ثم السيطرة على العاصمة، والقيام بانقلاب شامل يرتدي الكثير من الشعارات الثورية والجمعوية، بينما يحمل في صلبه مشروعاً مذهبياً لا يستطيع الانفكاك منه ـ هذا على فرض أنه يملك بديله، وبما فتح الأبواب للنفوذ افيراني للدخول العلني من أوسع الأبواب في منطقة استراتيجية خطيرة، تهدد بلدان الخليج عموماً، والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، والممرات الهامة، وخليج عدن.. وبما يدخل اليمن في مرحلة الصراع متعدد الأشكال.. المرشح للحروب الأهلية على أسس مذهبية، وقبلية..وصولاً على انفصالات متتالية.. سيكون انفصال الجنوب في مقدمها، ما لم تتغلب الحكمة اليمنية، وما لم يتمّ تقويض الانقلاب بصيغ للتوافق والعودة إلى الاتفاقات المبرمة وتطويرها بما يستجيب لتدعيم وحدة اليمن، والمضي في بناء تجربته التعددية، وقطع الطريق على الحرب المذهبية، والقبلية، وعلى التقسيم الذي يلوح في الواقع .

ـ أما الثورة السورية فشأنها أكثر تعقيداً,,, نتيجة طبيعة النظام الأمنية ـ العنفية ـ الطائفية، ووقوف المؤسسة العسكرية ـ بأغلبيتها وتركيبها ـ إلى جانبه، وتحوّلها إلى أداة للقمع والقتل، ونتيجة موقع سورية الجيوستراتيجي وأهمية ونتائجية نجاح الثورة فيها على الجوار وعموم المنطقة، ودخول عوامل إضافية على خط الثورة، عن كان لجهة طغيان العمل المسلح بمكوناته المتفرقة، وتبعيته، أو ما أفرزه من قوى متشددة كانت داعش، ومعها النصرة التعبير الفظ، والمتوحش، وكذلك دخول قوى إقليمية ودولية، بكثافة، إن كان لجهة تدعيم النظام بالمليشيات المذهبية ، أو ما يشبه الاحتلال افيراني، والدعم الروسي المفتوح، أو لجهة تشابك تداخلات القوى الإقليمية والخارجية، وطبيعة تفكير وسياسة الإدارة الأمريكية، أو لجهة واقع القوى السياسية، وأثر تلك التداخلات والظروف في بنى الثورة والمعارضة.. وبالتالي الدخل في نفق طويل لا يبدو فيه نهاية له..إن كان في إطار حل سياسي وطني، أو بتحقيق أهداف الثورة في إنهاء نظام الاستبداد والفئوية، وبما يرشح" الأزمة السورية" لمزيد من النزيف الطويل ما لم تتوفر إرادة دولية فاعلة تفرض حلاً سياسياً يلبي مطالب الشعب السوري، ويفتح الطريق للشروع في بناء النظام الديمقراطي التعددي، وما لم تملك المعارضة وقوى الثورة قدرة فرض أي حل، وانتزاع الأهداف الرئيسة .

***********

مع ذلك.. فالثورات ليست حدثاً طارئاُ، او فعلاً يسير في خطوط ميسّرة، ومستقيمة . الثورات صيرورات ستعبر العديد من الأشكال، وستمرّ بكثير من التعرّجات والتضاريس، وقد تتأخر، وقد تنحرف، أو تحرف لبعض الوقت، وقد يستولي عليها لصوص معروفون أو مستترون.. وقد..... كثيرات... لكن الأكيد انها باتت هي الحقيقة الرئيس، وهي خط الحياة، والتغيير.. وهي الطريق الذي سيصل إلى مآله الطبيعي..