القسر والاختيار

عقاب يحيى

كما أسماءنا التي يختارها الأهل لأسباب تخصّهم..فترافقنا العمر، وتصبح جزءاً من كياننا الذاتي، وقد تترك آثارها فينا، وقد تكون مناسبة" اسماً على مسمّى" أو مناقضة تماماً، فنحاول الأقلمة بطريقة ما.. أو التكيّف، أو الاعتياد...

كذلك هو الوضع العقيدي، أو الانتساب لدين، أو مذهب.. وهنا يلعب القسري دوراً أكبر لما لذلك من ثقل، وأثر.. حيث يمكن للأسماء أن تكون عادية الفعل، لكن "الانتماء" الديني، او المذهبي أشدّ قوة في مفاعيله، وثقله ليس في تكوين أساس وعي الناس، على العموم، وإنما، ايضاً، في خياراتهم، ومستقبل حياتهم، وفي وعيهم، وما هو أكثر، خاصة بعد تلك الشقلبات التي عرفتها مجتمعاتنا في ظل وظلال نظم القمع والتغييب والتهميش والتغريب.. حين عملت، بكل الوسائل الخبيثة والقهرية، على تشتيت بنى المجتمع وزرع سيدا فقدان مناعتها التي كانت ثوابتها، وزرع بدائل التقاطية، وهجينة بديلة، ثم استخدام وتوظيف الدين، والمذهب، والأقليات، والطائفية، وكل ما هو في قاع المجتمع للتشقيف والاستناد والزعزعة.. فظهر الانتماء الديني والمذهبي عاملاً منافساً للوطني، والقومي والأممي، والسياسي، والفكري، وفي شرائح معينة، وحين أرست التحولات المتراجعة أثقالها بات عاملاً رئيساً يعلو على غيره، ويصيب أصحاب الاتجاهات الفكرية المغايرة بلوثات مختلفة، فتظهر فيهم تلك الازدواجية، وتنمو الانتهازية السياسية والفكرية وهي تتلوّن بالسائد .

ـ في مراحل النهوض ومقاومة المستعمر، وعبر الحياة الديمقراطية التي عاشتها سورية لسنوات ـ رغم القطع القسري من قبل سلسلة الانقلابات العسكرية ـ نامت التوزعات الإثنية والدينية والمذهبية في أسرّتها العادية، متعايشة مع الآخرين، ومكتفية بدورها العادي الذي لا يطال، ولا يناقض تلك الخيارات التي شكّلت الأساس، والحدّ.. ثم حدثت الزعزعات غير الطبيعية المتناسبة طرداً مع سلسلة الهزائم، وخيانة الأهداف المرفوعة، ومع نحر ونخر ذلك المشروع النهضوي من قبل دعاة حملته، ثم الدوس عليه علانية بكل فجورهم وعهرهم، وموضعة الطائفية استناداً علنيا لا تخفيه جموع الشعارات الكاذبة، وواجهات التدليس ....

ـ حين ولدنا وجدنا أنفسنا مسلمين.. ثم موزعين في فرق وشيع... لم يك ذلك خيارنا، وبرغم رفض الكثير، المبكر للجانب السلبي في تلك الفرق، إلا أن مركبات، وعوامل متشابكة كانت ذات تأثير متناوب فينا، تُحدث تلك الازدواجية داخلنا، وتحوّل كثيرنا إلى فصاميين من طراز خاص، بينما لم يكن وارداً، او ملحاً، أو خياراً أن يعلن معظم هؤلاء رفضهم، أو تمردهم على السائد في هذا الجانب، أو اختيار دين ومذهب آخر، وكان هناك قفز واعِ، وتقليدي، وسائد يحاول التخفيف من وقع وفعل المفروض، او الاستهانة بمؤثراته، في حين أنه كان يمور، بأشكال مختلفة، في القاع، ويضرب نخاع الخيارات الفكرية والسياسية في أكثر من موقع، أو يخدشها عند الانعطافات والامتحانات الجادّة .

في فترات النهوض والصعود.. ما قبل الانكشاف والكشف عن طبيعة البنى المتخلفة والمفوّتة في القوى الحاكمة، خاصة المؤسسة العسكرية التي كانت لها اليد الطولى في عموم أحداث بلادنا، وفي الأحزاب التي ادعت الطليعية، والنخب المثقفة وأشكال تمردها المظهري، والاندفاعي، وردّات الفعل  غير المنضبطة بادعاء الالتزام الفكري والسياسي، وغير المؤسسة على برنامج بديل.. كان المنتمين إلى الاتجاهات القومية واليسارية، أو المحسوبين عليها، يبدون متجاوزين لعُقد المذهبية والانقسامات الاجتماعية المبنية عليها، وعديدهم بدت قابليته كبيرة على التطور باتجاهات علمانية كانت على الأغلب شعارية، وقشرية، ومناسباتية.. لكنها تخفي ذلك القابع في العمق، وذلك الذي توجد نوايا لتجاوزه لما يشكله من تضاد للمرفوع من المبادئ، ومن أخطار على وحدة المجتمع والبلاد..وبما أوجد أرضية لأنواع من الازدواجية بأبعاد متناقضة، ومتراكبة بطريقة غرائبية أحياناً، حتى إذا ما ناس الوضع، أو عانى أزماته البنيوية والذاتية حدث لدى العديد ذلك التصارع بين متناقضين، وبما كان يشجّع عديد، وفي مواقع نافذة للاحتماء، والاستخدام، والتوظيف ولو بشكل سرّي، وباطني، وكان الطاغية الأكبر ـ حافظ الأسد ـ أنموذجاً صارخاً، وغيره عدد مهم من حملة الشعارات القومية واليسارية، كما كان وريثه الأكثر نهلاً من ذلك الكهف، وتعبيراً فجّاً   .

ـ في مراحل الأرجحة، والتأزمات، وبدل مواجهة ظواهر غير طبيعية راحت تتسلل بوسائل عديدة، ثم برزت واقعاً فاقعاً.. كان الهروب إلى الأمام رهاناً على علاجها.. فولّد ذلك سياسة الوشوشة، والهمس التي راحت تنتشر بقوة حتى في أوساط قيادية حاكمة، لكن بشكل جانبي، وخائف لدى جلّ الفئات الشعبية، ثم عن طريق أسئلة ذات معنى كان يلخصها سؤال مباشر " من وين أنت" بحثاً عن معرفة المنطقة، او القرية، أو المدينة لتحديد التالي ..ثم أعلنها قائد انقلاب التفحيح صريحة فاقعة .

ـ وحين حطّت الهزائم رحالها بدت في الكثيرين قوة تلك البيئة، او الشخصية الأخرى تحمل بعبعاً يخاف من آخر على طول الخط يصل حدّ الهوس والوساوس، ويبحث عن تنظيرات مؤدلجة، وفكرية للتغطية والتبرير، خاصة في اللجوء إلى قصص اليمين واليسار، والوقوع في أخطاء فجّة عند التحليل والمواقف السياسية تنزلق نحو كشف ذلك المستور الذي كان مثار اللبس، والشكوك من الآخر المختلف مذهبياً، ويحدث ذلك التراكب بين المظهري والداخلي. بين الفكري السياسي والمخبوء، فتحدث الأرجحة، وتنوخ مناخات الشك في أخلص المخلصين، وأكثر المتخلصين من عوائقهم وتناقضهم، ويرتفع المذهبي فوق جميع الاعتبارات لكن بطريقة ملتوية، وغير رسمية.. إلا في التحولات والمنعطفات.. بينما" أهل العراق" وبفعل الأمريكان وإيران... لم يعودوا خجلى من تغليب هوياتهم المذهبية على غيرها، ومن إعلان مشروعاتهم الكلية القائمة على ذلك الأساس ..وسحق العراق الواحد، والبنية المجتمعية التي كانت ملتحمة على مدار تاريخ العراق الحديث .

ـ يقابل ذلك فكر مذهبي يغالي في تشدده، ويحاول بناء بدائله وفق تلك الأسس، لكن على حامل مقولة الأكثرية وحقوقها، ومشروعيتها.. فيقع الاختلال الذي يهدد اللحمة الوطنية في جوهرها، ويصبح الوطن محمولاً على قرني التناحر، والتنابذ، وكلّ يرمي بالمسؤولية على الآخر، وتتصاعد تلك الحالة مستوى بعث الأحقاد ونبش طيّات التاريخ لاستخراج المناسب منها، ولا مانع من التوليف والتضخيم والتوظيف المريض، ومن تحميل الأجيال المتعاقبة مسؤولية نتائج الخلافات الماضية، أو مقتل الحسين، أو ما حدث للشيعة من مذابح واضطهاد، والعكس أيضاً، وتحويل" المظلومية" إلى كهف يخرّج المبررات لأفعال حديثة، ولتنفيذ مشاريع سياسية لا علاقة للمذاهب والصراعات التاريخية بها .

ـ وحين تنتقل من المذهبي إلى الإثني المنبعث من رمادات وبقايا الموضعات المفروضة، وتفحص المواقف المتحزبة على العموم عن موقع الاختلافات الفكرية، السياسية بينها.. ستصاب بذات الحالة.. حيث يعلو الموقف الذاتي، والإثني على كل ما عداه، على الأقل فيما يخصّ المواقف الخارجية، والتي تحاول أن تغطي جميع الصراعات والتباينات والتنافسات الداخلية تحت مظلة القومية المسحوقة، والمظلومة، والواجبة الإحياء بكل السبل، وانتزاع حقوقها بكل الوسائل، وطرح سقوف عالية تضع الأسس لبناءات مستقلة تودي بوحدة الوطن الجغرافية والمجتمعية، وتغليب هذا البعد على سواه..وقيادة ركب الجميع نحو هدف يعتبرونه الأكبر والأهم، وتأثر مكوّنات كثيرة : دينية وإثنية بهذا الجو ومحاولة الأقلمة مع المتناقضات، والنكوص المتدرّج، والعلني، وكأننا ما نزال في مرحلة العشيرة، والقبيلة، والملّة، والمجموعات المتناثرة، المتنافرة.. والكل، هنا، يتلطّى بالديمقراطية والحقوق المهدورة والواجبة التجسيد، وبما يُظهر الديمقراطية وكأنها المرادف للتفتيت والعودة إلى كهوف الماضي وبعثه بطريقة متخلفة .

ـ إن الإيمان بالانتماء للوطن، والمجتمع الواحد يتنافى بالقطع مع كل العوامل المناقضة له، مهما يكن موقعها في أصحابها، ومهما رفعتها أمواج مرحلية : موضوعية، أم مفتعلة وعابرة . الإيمان بوحدة الوطن تعني الحسم مع جميع العوائق المانعة، او المشوشة، وتوضيح قصة الحدود بين العقيدة : الإيمان . المذهب الذي هو بالأصل، وكما يُفترض خلاصة لعلاقة الإنسان مع الخالق، والذي لا يتناقض بأصله وتاريخه مع الانتماء للوطن، ومع التعايش والتصالح والتسامح بين جميع مكوّنات الأمة، وإقرار حقوق الجميع المشروعة، والمساواة في المواطنة . ذلك مهم في مرحلة الثورة وما أنتجت، كي لا تكون المدخل لتفريخ الانقسام، والتفتيت، والاحتراب المذهبي والإثني، وغيرهما .

ـ إن أصحاب الخيارات العلمانية، واليسارية، والفكرية التي  تملأ دنيانا صخباً عن قوة ذلك الانتماء، وعن ابتعادها  ـ المظهري غالباً ـ عن كل ما يناقضه، وخاصة الدين والمذهب.. مطالبون قبل غيرهم بإثبات صدقهم في الممارسة، وإعلان ذلك في مواقفهم خاصة تلك التي تمسّ الحالة المذهبية، والإثنية، ومجمل عوامل التقسيم والاحتراب، وإضعاف الانتماء الوطني، وأن يتجردّوا ما أمكنهم من مخلفات الموروث المتخلف، والمؤذي ليكونوا فعلاً وحقيقة في الموقع الوطني ..