حربُ القلّة المؤمنة ضدّ الكثرة الكافرة

د. أبو بكر الشامي

إن واحدة من أهم خصائص ديننا الإسلامي الحنيف هي الواقعية الحركية ، فهو حركة تغيير شاملة ذات مراحل مختلفة ، ولكل مرحلة أولويّاتها وخصائصها التي تتناسب مع طبيعة الظرف والواقع الذي يعيشه المسلمون ، ففي المرحلة المكيّة مثلاً ، لم يكن مسموحاً للمسلمين بالجهاد في سبيل الله واستخدام العنف الثوري في التغيير، لا لزهد في عملية الجهاد ، بل لأن فقه المرحلة ، وفهم الواقع ، كان يقتضي استخدام وسائل أخرى أنفع للدعوة والدعاة ، مثل : الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، والصبر واحتمال الأذى ، وكفّ الأيدي وعدم المواجهة المسلّحة . بسم الله الرحمن الرحيم (( ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة )) النساء (77).

ولكن ، ما إن وطئت أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض المدينة المنوّرة ، وتغير الظرف وتغيّرت المرحلة ، حتى أذن الله له بالجهاد ..

بسم الله الرحمن الرحيم (( أُذِنَ للذين يُقَاتَلونَ بأنهم ظُلموا وإنَّ اللهَ على نصرهم لقدير ، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق ، إلا أن يقولوا ربُّنا الله )) الحج (4).

ونظراً لقلة أعداد المسلمين يومها بالمقارنة مع كثرة أعدائهم ، لذلك فقد لجأ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى ما بات يعرف اليوم بالحرب الشعبيّة أو الحرب الشاملة ، فاستنفر لمعركته مع قوى الشرّ كل طاقات الأمة ، وحشد للمواجهة مع المعتدين كل إمكانات المسلمين ، ولذلك فلم يكن مقبولاً من أي مسلم يدين بالولاء الكامل لهذا الدين ، أن يتخلّف عن ركب الجهاد والاستشهاد مهما تكن أعذاره ، ولقد أصبح عدد أفراد الجيش المسلم مطابقاً لعدد المسلمين أنفسهم .. وبهذا نفسّر التزايد المطّرد في تعداد ذلك الجيش المبارك وتسليحه ، ففي الوقت الذي لم يتجاوز عدد المسلمين المجاهدين في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة الشريفة ، الثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، فقد بلغ عددهم في معركة أحد ، في السنة الثالثة للهجرة ، حوالي ألف مقاتل ، سبعمائة بعد رجوع المنافقين ، ثم بلغ عدد المجاهدين في معركة الخندق ، في السنة الخامسة للهجرة ، حوالي ثلاثة آلاف مجاهد ، في حين وصل عددهم يوم فتح مكة ، في السنة الثامنة للهجرة إلى عشرة آلاف مجاهد ، ثم وصل عددهم في غزوة تبوك ، في السنة التاسعة للهجرة إلى ثلاثين ألف مجاهد ، فيهم عشرة آلاف فارس .. ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر من مائة وعشرين ألفاً من الصحابة الكرام ، كانوا يشكلون جيلاً فريداً ، وجيشاً عقائديّاً مجاهداً ، لم يسبق أن تجمع مثله وبنفس مواصفاته في التاريخ البشري كلّه .!!!

ولقد اقتدى بهذا الرسول العظيم ( ص ) خلفاؤه من بعده ، فها هو ذا الخليفة ( الصدّيق ) رضوان الله عليه ، يطبّق نفس المباديء التي تعلّمها من حبيبه وقائده ، وذلك عندما يجد نفسه أمام نفس التحدّي الذي واجه صاحبه من قبل إبّان ارتداد المرتدّين ، فيستنفر الأمة للجهاد ، ويحشدها للمعركة ، ويقول قولته الخالدة التي لا تزال تجلجل في أذن التاريخ : ( والله لو منعوني عَقالاً كانوا يؤدّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لجالدتهم بسيفي هذا حتى تنفرد سالفتي ) .

ويكفي لكي ندلّل على مدى جدّية الصدّيق (رض ) وحزمه في هذا الأمر ، أن نذكّر بأنه كان قد جهّز أحد عشر جيشاً ، عقد لكلّ منها لواءً ، وجعل على كلّ منها قائداً ..

ونذكّر أيضاً بأن واحداً فقط من هذه الجيوش ، وهو جيش خالد بن الوليد ( رض ) ، كان تعداده عشرة آلاف مجاهد ، وهو الذي كان فيما بعد النواة الأولى لفتح العراق كلّه .!!!

وبعد أن قمعت الرّدة ، وأُخمدت نار الفتنة ، وتوحّدت الجزيرة العربيّة تحت راية التوحيد من جديد ، أراد الصدّيق ( رض ) أن يستثمر هذا الزخم الجهادي للعرب ، وأن يوظف هذه الروح المعنوية العالية للمسلمين،  فأصدر قراره التاريخي الرائع ( قرار الفتوح ) ، ولكنّه فتح له باب التطوّع هذه المرة لأن درجة التحدّي التي تواجه الأمة قد خفّت نسبياً ، وكتب إلى قائديه ، خالد بن الوليد ، وعياض بن غنم رضي الله عنهما  ، يأمرهما بالتوجّه إلى العراق ، ويطلب منهما بصريح العبارة :

( وأذنا لمن شاء بالرجوع إلى أهله ، ولا تستفتحا بمتكاره ) الطبري (4/19).

ثم يأتي من بعده الفاروق عمر ( رض ) ، ويسير على نفس النهج الذي سبقه أليه صاحباه …

فها هو يتابع حركة الفتوح المظفّرة في المشرق والمغرب ، ويستمر في إرسال المتطوّعين لرفد ساحات الجهاد المباركة ، ويصعّد من عملية التعبئة والحشد كلّما ارتفعت نبرة التحدّي للأمة ، فيسمح لمن حسن إسلامه من المرتدين بالمشاركة في شرف الجهاد ، ويأمر بجمع ما تفرّق من قبائل العرب ليشكّل منها وحدات حربية مقاتلة تدعم حركة الفتوح ، وتعزّز ساحات الجهاد …

وفجأةً ، يجد الفاروق ( رض ) نفسه أمام نفس التحدّي الذي واجه صاحباه من قبل.

إنه موقف التحدّي الخطير للأمة ، والتهديد الجدّي لها ، وذلك أن الفرس بعد أن ذاقوا الهزائم المتكرّرة على أيدي الفاتحين العرب ، حزبوا أمرهم ، واجتمع ملؤهم على تولية يزدجرد من ولد شهريار أمور دولتهم ، ودانوا له بالولاء ، وتباروا جميعاً في طاعته ، فبدأ هذا الأخير بحشد طاقات الامبراطورية المهزومة ، وأرسل إلى أطراف فارس يستنفرها ، فاجتمع له من الحشود ما لم يجتمع لغيره ، ولكنَّ عيون المثنّى ( رض) ، القائد الميداني المبدع وابن العراق البار ، كانت ترقب كل هذه التطورات ، وترسل بها إلى الفاروق  ( رض ) أولاً بأول ، وينتخي الفاروق ( رض ) كما هي عادة العربي دوماً ، ويقبل التحدّي المفروض عليه، ويكتب إلى المثنّى ( رض ) يقول :( أما بعدُ …فاخرجوا من بين ظهراني العجم ، وتنحّوا إلى البَرّ ، وتفرّقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرض العرب ، وادعُ للجهاد من يليك من قبائل العرب ، ولا تدَعوا أحداً من ربيعة ولا مضر ولا حلفائهم من أهل النجدات ، ولا فارساً إلا اجتلبتموه ، فإن جاء طائعاً ، وإلا حشرتموه ، احملوا العرب على الجدّ إذا جدَّ العجم ، فلتلقوا جدّهم بجدّكم ، وأقم منهم قريباً على حدود أرضك وأرضهم حتى يأتيك أمري ). 

يا للعبرة الباهرة ، ويا للروعة الساحرة ، ويا لألق التاريخ .!!!

أية عزّة ، وأية نخوة ، وأية رجولة ، وأية شجاعة ، وأية حكمة ، وأية براعة ، وأية مدرسة حربيّة تلك التي تخرّج منها الفاروق ( رض ) ، حتى يصدر عنه مثل هذا البيان العسكري الساحر .!!!؟

إنه يتّخذ خطوته الأولى العاجلة التي لا بدّ منها ، فيخرج جنوده من أعماق العجم ليؤمّن حمايتهم ، لأن روح حرب القلّة ضد الكثرة هو : إنهاك العدوّ ، وعدم التشبّث بالأرض ...!!!

ثم يقسم بالله فيقول : ( والله ، لأضربنَّ ملوك العجم بملوكِ العرب ) .!!!

ثم يكتب إلى عماله في أرجاء الدولة الإسلاميّة بالمرسوم الجمهوري الذي يتناسب مع درجة التحدّي ، والذي يعلن النفير العام ، فيقول: ( ولا تدَعوا أحداً له سلاحٌ أو فرسٌ أو نجدةٌ أو رأيٌ ، إلا انتخبتموه ، ثمّ وجّهتموه إليَّ ، والعجَلَ .. العجَلْ ) الطبري (4/87).

وهكذا ، فلم يدع الفاروقُ ( رض ) رئيساً ولا فارساً ولا ذا رأي ولا ذا شرف أو سطوة ، ولا خطيباً ولا شاعراً ، إلا رماهم به …

فرماهم بوجوه الناس وغرر العرب …!!!

واليوم ، ونحن نحبس أنفاسنا ، وننتظر معركة حلب الفاصلة نقول لمجاهدينا الأبرار في حلب وغيرها : أيها المجاهدون الأبطال ...!!!

إن روح وجوهر حرب القلّة المؤمنة ، ضد الكثرة الكافرة ، أو ما بات يُعرف اليوم ( بحرب العصابات ) هو إنهاك العدوّ ، بتوجيه ضربات سريعة ، وخاطفة ، ومتلاحقة لتدويخه ... مع عدم التشبّث بالأرض ..!!!

وذلك لوجود فارق هائل في التسليح بين المجاهدين وأعدائهم من العصابات الأسدية الفاجرة ..!!!

وهاهي دروس الفلوجة ، وباب عمرو ، وغيرها من المدن التي تشبّث بها المجاهدون لأسبابهم لا تزال ماثلة أمامنا ...!!!

ليس عيباً ، وليس جبناً ، أن ينسحب المجاهدون من حلب أو غيرها بعد أن يؤدبوا عصابات الشبيحة والأمن والإجرام فيها ...

وأضرار المدنيين في حالة الانسحاب التكتيكي من حلب وغيرها ، أقل بكثير من أضرارهم بعد محاصرتها ، وقصفها ، وتدميرها بجميع أنواع الأسلحة الثقيلة ...

اللهم احفظ أهلنا في حلب وفي جميع المدن السورية المجاهدة ، وثبّت أقدام المجاهدين ، وانصرهم نصراً عزيزاً مؤزّراً ... آمين