حنجرةٌ وريشةٌ ومبضع
البراء كحيل
الحقّ والباطلُ منذُ بدايةِ التاريخِ يتصارعانْ .. والعدلُ والظلمُ منذُ بزوغِ فجرِ البشريةِ يتحاربان ..
قد تكونُ للباطلِ والظلم جولاتٌ ينتصران خلالها على الحقِّ والعدلِ , لكنْ بعد ذلك تعود الأمور إلى نصابها وينتصرُ الحقَّ والعدلُ على الظلم والباطل ..
فهي إذا سنّة الله في هذه الخليقة حتَّى فناء البشرية عن هذه الأرض , ويجبُ على الخلق أن يعلموا أنّ المحكمة الفاصلة بين الظلمِ والعدل ليستْ في هذه الحياة بل هي هناك في الدار الآخرة حيثُ تُحاسبُ كلّ نفسٍ عمّا عملتْ منْ غير ظلمٍ أو اعتداءٍ , فهي محكمةٌ عادلة منصفة لاظلم فيها , وهذا ما يجعلنا نرى كمْ وكمْ من مظلومٍ ماتَ ولمْ يأخذ حقّه منْ ظالمه وكمْ وكمْ مِنْ ظالمٍ ماتَ ولم يُقْتَصَّ منه ..
ولكنْ معْ ذلك ومعْ علم البشر أنّ المعركة في هذه الحياة قد يربحها الظالمُ والباغي,يبقى الكفاحُ والجهادُ في سبيلِ الظلم والبغي حتَّى ولو لمْ يتحقق النصرُ عليه ..
وكنّا نظنّ أنّ الظالم والمتجبِّر والمعتديَ لا يُمكن مقاومته إلاّ بالقوّة والسلاح والضربِ على يديه بالحديد والنّار .. وبقيَ هذا اعتقادنا حتَّى قامتْ تلك الثوراتُ المباركة في البلدانِ العربية فقلبت جميع الموازين وغيّرتْ معظم الأفكار التي كانت مغروسةً في عقولنا وقلوبنا ..
كنّا نظنّ أنّ الظالمَ والباغي لا يخافُ إلاّ مِنَ السلاح والقوّة والإعتداء المسلّح عليه فغيّرتْ هذه الثورات المباركة فكرتنا وصححت نظرتنا للأمور ..
لقد أصبحَ هناك وسائلُ للمقاومة والكفاح ضدّ الظالم والباغي غير تلك الوسائلِ الكلاسيكية من سلاح ونارٍ وحربٍ ودماءٍ وأشلاءٍ ..
فكان السلاح الأوّل في هذه الثورات والذي ساهمَ في اشعالها وانتشارها هو التقنية الحديثة بِشِقَيْها الجوَّال والحاسوب .. أمّا الجوّال فظهر أثره الكبير وضرورته في نقل الأحداث إلى العالم وتعريف البشر بما يجري من ظلمٍ وبغيٍ واعتداءٍ على حياة الأبرياء , ولو لمْ يُقدّر الله هذه الآلة لنقل الأحداثِ لفعلَ الظالمُ مافعل بالشعب من تنكيلٍ وقتلٍ وتدميرٍ منْ غير أن يعلمَ أو يدري أحدٌ بما يجري لهم ..ولذلك حاول الطغاةُ بكل الطرق والوسائل منعَ هذه التقنية الرائعة مِنْ قطعٍ للإتصالات ومصادرةٍ لأجهزة الجوّال وملاحقة منْ يملك الحديثَ منها ..
والشقّ الثاني وهو الحاسوبُ وأقصد به هنا الإنترنت وصفحاتُ التواصل الإجتماعي التي كان لها عظيمُ الأثر في صناعة هذه الثورات ونقل أحداثها للعالم كما كان لها الأثر الأكبرُ في تحفيز الثوّار واشعال نار الثورةِ في تلك القلوب التي كانتْ مازالتْ تغطّ في نومٍ عميق ..
أمّا الوسائل التي كانت لا تجعلُ الظالم ينامُ ولا يذوق طعمَ الراحةِ وأثّرت به أشدّ التأثير فهي من نوع أخر أشدّ عليه من ضربِ النّار وقصفِ المدفع ..
أوّلها هيَ حنجرة المغنّي والتي أشعلت النّار في قلب الحكّام الطغاة وجعلت النوم يفرّ هارباً من أعينهم وحوّلت حياتهم إلى جحيم .. فما كان منهم إلاّ أن قطعوا تلك الحبال الصوتية التي كانتْ تعزف أجمل لحنٍ عرفته البشرية وهو لحن الحرية .. فهذا ما حدث مع ملهبِ الجماهير الحموية خاصة والسورية عامّة البطل "ابراهيم قاشوش" .. عندما بدأ صوته يهزّ الأرض هزّاً حتى وصل إلى مسامع ذلك الطاغية فجعل في أذنيه صريراً كاد رأسه أن ينفجر بسببه .. فظنّ من فرطِ جهله وغبائه أنّه بقتل المغنّي واقتلاع حنجرته يُسكتُ صوتَ الحقّ الذي نطقَ به .. فعمد إلى ذلك بصورة وحشية لمْ يعرفها التاريخ من قبل ولكن بدل أن يقضيَ عليه وعلى أغانيه التي هزّت عرشه , أدّى قتله إلى انتشار أغانيه ليس في سوريا فحسبْ بل أصبحتْ لحناً يرددُ في كلّ أنحاء العالم في وجه كلّ ظالمٍ معتدٍ على شعبه وتحوّل صاحبُها إلى بطلٍ قومي سمعت به صَحَفِيةٌ قادمة من بلادِ ما وراء البحار .
والوسيلة الثانية التي جعلتْ من المجرم محطَّ استهزاء الكبار والصغار , وحقّرتْ مِنْ شأنه حتى أصبح صُعلوكاً لا قيمة له بعد أن كان يظنّ نفسه إلهاً يُعبد .. إنّها ريشةٌ ضعيفة صغيرةٌ لا قيمة لها في نظر البعض لكنّها عندما أصبحتْ في يدي الرسام البارع "علي فرزات" تحولت إلى صاروخٍ محمّل برؤوسٍ نووية حارقةٍ قاتلةٍ تقصفُ قلوب الظالمين وتحرق أسرّتهم الوثيرة فتغدوا جحيماً عليهم .. كيف لا وهو الذي أبدع في الاستهزاء بهذا الطاغية عن طريق رسوماته الكاريكاتورية الساخرة من رأسِ النظام .. ومازال النظام الغبيّ ورأسه العفن يظنّ أنّ هؤلاء الأبطال يمكنُ أن يُسكتهم أو يوقف ثورتهم تهديدٌ أو تنكيلٌ أو سجنٌ وقتلٌ فأرسل عبيده إلى هذا الرسّام كي يكسروا أصابعه ويمنعونه عنْ الرّسم والسخرية من ربّهم الأكبر , لكنْ هيهاتَ هيهات فكيف للباطل الخائفِ أنْ يقف في وجه الحقِّ صاحب القلب الجريء .. وبعد الاعتداء على الرّسام تحوّلت لوحاته إلى مزارٍ لكلّ متلهفٍ للحرية وغدتْ مُحفّزاً لطلاّب الحرية في ميادينهم ..
والوسيلة الثالثة هي عبارةٌ عن سلاحٍ خطيرٍ فتّاكٍ مرعبٍ للظالمين إنّها مبضعُ الجرّاح , هذا المبضعُ الذي وهبَ بقدر الله على يدي صاحبه "ابراهيم عثمان" الحياةَ لكثيرٍ من البشر أرادَ الفاجر أن ينتزعها من صدورهم , وكيف لا تكونُ مرعبةً للظالم وهو الذي يقتلُ ويجرحُ ويقطعُ ليأتيَ غيره كي يُحييَ ويشفيَ ويصلَ ما كان قد قُطعَ بأمر الله , وكما هي سياسةُ الظالم في كلّ مرّة راقبَ وتابع الطبيبَ البطل حتى استطاع أن يضعَ رصاصةً في صدره الطاهر ظنّاً منه أنّه قد أنهى حياته وأوقف نشاطَه وما علم الطاغية أنّ هذا الطبيب حيّ في قلوبِ كلّ من ساعدهم في استعادة حياتِهم وهو حيّ في قلوبِ كلّ من يَنشدُ الحريةَ وأنّ قصة هذا البطل أشعلت الثورةَ في قلوبِ أولئك الأطباء الخانعين وجعلتهم يعرفون أنّهم همْ الأموات وأنّ ابراهيم حيّ لايموت في قلوب الشعب ..
إذاً هيَ وسائلُ أشدُّ على الظالم الباغي من ضربِ النّار وقصفِ المدافع ولهيبِ القنابل .. كيف لا وأثرها يشملُ كلّ منْ تمرّ به , يزيدُ الكرهَ والحقدَ على الظالم ويشعلُ نارَ الثورة في قلوبِ الشعوب ..
وإنّما هي رسالةٌ للطغاة الذين يظنّون أنّهم بقتلهم لهؤلاء يُطفئون نورهم الوهّاج وماعلموا أنّنا أمّة ولاّدة إذا ماتَ منها بطلٌ أنجبتْ أبطالاً وإنْ ماتَ منها عالمٌ أنجبتْ علماء ..
تحيةً منَ القلب لكلِّ حُنجرةٍ تهتفُ بالحرية .. تحيّة لكلّ ريشةٍ تَرسمُ الحرية .. تحيةً لكلِّ مبضعٍ يُعالجُ الحرية.