البهلوان على منبر الأزهر
محمد عبد الناصر
أعود توًّا إلى منزلي.. بعد يوم طويل حافل أمضيت معظمه أهتف وأمشي وأقول..
بدايةً أعتذر للقارئ الكريم عن طول ادخاري لهذا المقال الذي أردت أن أخصصه للحديث عن جنازة الشيخ الشهيد عماد عفت..
إنه ليس أخطر على الحق من أن يخفيه الموكلون به، وليس أخطر على الدين من أن يحوله رجاله إلى شعائر خاوية دون روح ولا موقف، لطالما جذبنا خوفنا الطويل إلى عباءات المشايخ، ولطالما جذبتنا عباءات المشايخ إلى حديث داعمٍ للخوف يُنمي في الإنسان أشواك التخاذل والتخلف والاستعباد.. لطالما طالبونا باجتناب الفتنة، فإذ بالفتنة لا تكون إلا غضبنا للحق ونصرتنا له! ولطالما حثونا على الامتناع عن الإثارة، حيث كانت الإثارة هي أن تقول كلمة الحق والصدق وتعمل بها!! بئست هذه أمةٌ التي يكون هؤلاء علماؤها، وإنما هم عملاؤها الذين قذفوا بها من أعلى عليين إلى أسفل سافلين.. حتى صار حال هذه الأمة إلى ما صار إليه.
منذ الصباح.. انتظرت وانتظر مئات النشطاء والناشطات في صحن وأروقة الأزهر الشريف، نترقب انتهاء إجراءات المشرحة لكي يصل إلينا جثمان الشيخ الشهيد، من جميع التيارات كنا، مسلمين ومسيحيين أيضا.. وبعض من شباب الإخوان المسلمين يشاركون على استحياء، نوينا أن نصلي عليه بعد الظهر ونخرج به في جنازة تمر عبر ميدان التحرير، لكن الجثمان تأخر وجاءنا قبل العصر بقليل.
هرعانا وراء التابوت الذي أُقلي في يم المشايخ أمام المنبر! وتأبط أحدهم سلك الميكروفون وبدأ يخطب خطبة عصماء يمتدح فيها "الفقيد" الذي كان من خيار الناس وأفضلهم، ويُكلمنا عن قضاء الله وقدره في الموت الذي ليس لنا فيه اختيار، وكأن الفقيد هذا مات في حادث سيارة مثلا!! حتى قال: "إننا اليوم نشيِّعُ قتيلا لا نعرف من قتله"! فاشتعل الأزهر عن بكرة أبيه بالهتاف.. يسقط يسقط حكم العسكر.. الشعب يريد إعدام المشير..
إن الشيخ الشهيد عماد عفت رحمه الله ليس فقيدًا أيها الشيخ المُدلِّس الذي لم يراع حرمة ولا تاريخ الأزهر وهو يمارس كذبه الصراح عليه بالتستر على القتلة والمجرمين، عماد عفت شهيد.. وليس فقيدا ولا قتيلا.. عماد عفت ثأر جديد لنا عند عسكر طنطاوي وشركاه.. عماد عفت هو الفرقان الذي بيننا وبين القوم الظالمين، الذين بغوا وتجبروا في الأرض حتى وصل بهم الجبروت إلى اغتيال الشيخ الأعزل صاحب المواقف السياسية والدينية البيضاء بطلق ناري نافذ لا يخرج إلا من سلاح الجيش ولا يقدر سلاحٌ غير سلاح الجيش أن يُحدث أثره الفتاك بأحد.. ثم بعد ذلك يريدون عبر حزمة المشايخ الذين لم يعارضوا الفساد يوما ولم يعترضوا على إفقار ولا إذلال ولا تجويع ولا تشريد ولا حصار وانكسار أن يدفنوا الشيخ الشهيد في سكوت وصمت، وأن يُشعلوا هم الفتنة بين الناس بالتشكيك في الموقف الوطني الذي اغتيل بسببه الشهيد.
إن البهلوان الذي وقف خطيبًا في الأزهر اليوم، لا يختلف عندنا قليلا أو كثيرا عمّن يمارس القتل بنفسه، هذان شريكان في الجريمة، اللص.. والذي هرَّب اللص، القاتل.. والذي تستر على جرمه، المغتصب.. والذي كان "يراقب له الجو" أثناء أدائه عمله المشؤوم.. إنهما شريكان في الجرم، لا احترام لهما عندنا ولا توقير ولا إجلال، لأن الإنسان المحترم لا يكتسب احترامه من بدلته العسكرية أو عمامته الأزهرية، وإنما يكسب البدلة والعمامة احتراما من احترامه لذاته ولرسالته ولكلمة الحق التي جعلها الله جمرة في صدور المؤمنين حتى يقولوها.
عماد عفت لم يكن آخر المشايخ المحترمين فينتهون باستشهاده، كما أن ضباط 8 إبريل لم يكونوا آخر العسكريين الرجال لنعدمهم بعد اعتقالهم، ولكن ثقةً ما في نفسي وفي نفوس زملائي من الشباب الثائر تشرق يوما بعد يوم، وتكبر وتتعضد ساعة بعد ساعة.. تؤكد لنا أن الإصلاح قادم لا محالة، وأن أصواتنا التي بحت في تناوب الهتاف وأجسادنا التي هزلت من السعي في كل حادث لم تنضمر على شوك وأذى..
إننا اليوم نفتح بابا جديدا في أفق التاريخ لمستقبل هذه الأمة الواعد، ولن يثنينا عن ذلك غطرسة العسكر أو محاولاتهم الدؤوبة التي يسعون فيها الآن إلى إضرام الحرائق وبث الفوضى المحدودة ليُرهبوا الناس بتحولنا إلى الصومال أو إلى بلاد تركب الأفيال.. ولسنا عازمين إلا على التحول إلى بلادٍ لا تركبها الأبغال! ولا تخدعها خطب البهلوانات على المنابر السلطانية!!