طلاب وأطفال داريا يستلمون الراية
ويوقدون جذوة الثورة
إياد شربجي
عل جريمة مدينة داريا الكبرى أنها ارتكبت خطئاً جغرافياً فادحاً عندما قبعت ملاصقة لمطار المزة العسكري جنوبي غربي دمشق العاصمة، هناك حيث توجد الأقبية الأكثر وحشية، والآلة الضاربة لأعتى فروع المخابرات في سورية (إدارة المخابرات الجوية) بكل ما يصبغ اسمها به من صيت مخيف صار يعرفه الجميع خلال الثورة.
وجود داريا وجارتها المعضمية (ضمن حرم) هذا المقر السلطوي الرهيب، وضع المدينتين تحت ضغط أمني هائل ربما لم تشهده معظم مناطق سورية المنتفضة. هذا الضغط كان أكبر وأشدّ وطأة على داريا بين مناطق ريف دمشق كلها، كونها المبادرة منذ أول يوم في الثورة السورية إلى التظاهر ضد النظام ، ولأنها أيضاً أخرجت تجربة ناضجة شهد العالم أجمع بسلميتها ورقيّها، لكنها للسبب ذاته سبّبت إرباكاً كبيراً للنظام وأسقطت من يده الحجةّ التي يدعيها في وجود تمرّد مسلّح يواجهه.
خنق حتى آخر نفَس
شباب ناشطون وجامعيون من أمثال يحيى شربجي وغياث مطر وإسلام الدباس ومجد خولاني ورياض جنّح (غياث استشهد تحت التعذيب والبقية معتقلون منذ شهور طويلة) قدموا الورود والماء لعناصر الأمن الجيش الذين أُرسلوا لقمعهم، ونتيجة ذلك كادت الانشقاقات الأولى في صفوف الجيش أن تقع في داريا، حيث تمنّع عدد منهم عن إطلاق النار على المتظاهرين بعد أن رأوا ما رأوه منهم من سلمّية لم يتوقعوها، ما سبب نقمة شديدة لدى اللواء جميل حسن (مدير إدارة المخابرات الجوية) دفعه لزيادة الضغط الأمني على المدينة بشكل لا يوصف، وأحكمت قواته مستعينة بجنود من الفرقة الرابعة سيطرتهم عليها، فنشروا الحواجز في كل مكان (ما تزال قائمة حتى الآن)، وقاموا بعدة حملات مداهمات واسعة، واعتقلوا المئات من أهالي المدينة، وعلى رأسهم قادة التظاهر والناشطين السلميين الذين تمت تصفية بعضهم لاحقاً، ونشروا قوائم بمئات المطلوبين الآخرين (معظمهم توارى عن الأنظار أو هرب بشكل غير شرعي خارج البلاد، هناك عائلات بأكملها مطلوبة) وبثوا في داريا العشرات من العواينية والمخبرين من أراذل المجتمع ليتصيّدوا كل حركة ويبلغوا عنها، بالإضافة لسيارات التكسي الصفراء التي تطوف شوارع المدينة صباح مساء دون أن تقلّ راكباً واحداً، فيما يرابط باص على الأقل مليئ بعناصر الأمن المسلحين المتأهبين بشكل شبه دائم أمام المخفر ليتدخلوا عند خروج أية تظاهرة، أو ليقيموا حاجزاً طيّاراً، أو ليقتحموا البيوت والمحلات.
كل ذلك ضيّق على المتظاهرين وخنقهم، وتسبب بحصر المظاهرات بالحارات الضيقة والأماكن القصيّة من المدينة؛ وإقامتها في أوقات مبكرة جداً من الصباح أو متأخرة من الليل، مظاهرات يقوم بها العشرات والمئات لا تلبث أن تنفضّ خلال دقائق بعد ورود أخبار عن تحرّك باص الأمن المرابط نحوهم، ناهيكم عن الباصات الأخرى التي يتم استدعاؤها عند الضرورة والتي تصل خلال دقائق قادمة من مطار المزة عبر طريق تم فتحه في الساتر الترابي للمطار مؤخراً ليختصر الزمن والمسافة.
ثورة الطلاب
إثر كل ذلك، وبسبب الصعوبات الكبيرة التي يكابدها الناشطون الشباب وأهالي المدينة، وصعوبة التئامهم بأعداد كبيرة بمظاهرة ضمن الشوارع الرئيسة، أخذ الطلاب والأطفال المبادرة، ومنذ بدأ العام الدراسي يكاد لا يمرّ يوم في داريا لا تخرج فيه مظاهرة طلابية من إحدى المدارس، أولاد وبنات بعمر الورود من الصف الرابع وحتى البكالوريا، يخرجون بعد نهاية الدوام من مدارس عدة (الحكمة-الغوطة الغربية-مدرسة البنات- المحدثة) ليهتفوا بإسقاط النظام، وقد تمكنوا مراراً من الاجتماع في مظاهرة واحدة التأمت من تلك المدارس مجتمعة.
تكتيكات طلابية
نتيجة انتشار حالة التظاهرات الطلابية بسرعة كبيرة، لم يطل الأمر كثيراً قبل أن يلجأ الأمن لذات الأسلوب والطريقة التي لا يعرف غيرها، ودون أن يراعي عمراً أو جنساً أو أي مانع آخر، فبالنسبة له كل هؤلاء (أعداء وعراعير ومتآمرون) هي أيام فقط وصار الأمن يأتي مدججاً و بأعداد كبيرة ليحاصر المدارس قبيل انتهاء الدوام، وليعتدي على الطلاب بكل وحشية إن خرجوا بأية مظاهرة، أو لمجرد أن ينظروا بأحد العناصر نظرة لا تعجبه.
نتيجة ذلك اتبع الطلاب تكتيكاً آخر، صاروا يتظاهرون باكراً قبيل الدوام، لم يطل الرد هذه المرة أيضاً....صارت باصات الأمن تأتي قبل الدوام لتحاصر المدارس، ورغم ذلك كان الطلاب ينجحون بالتظاهر، إذ صاروا يتفقون مسبقاً، ثم يخرجون بشكل طبيعي من مدارسهم المحاصرة، يتجاوزون الشبيحة والأمن، ثم لا يلبثون أن يجتمعوا بعيداً ويتظاهرون....فعلوا ذلك عدة مرات أمام منزل عائلة الشهيد غياث مطر وهتفوا له (بالروح بالدم نفديك يا غياث...ارفع راسك أبو الشهيد)
لكن الأمن كعادته لم يسمح لهم باستمرار اللجوء لهذا التكتيك، صارت سياراتهم تسير خلف الطلاب بعد خروجهم من المدارس وتستعجل تفرقتهم خشية أن يجتمعوا، وعند الحاجة صاروا يرمون عليهم قذائف الغاز المسيل للدموع، ويطلقون النار في الهواء لإخافتهم، واعتقلوا عدة طلاب منهم علي عليّان وأغيد الدلعين وأنس الحلاق الذين ما يزال مصيرهم مجهولاً حتى اللحظة، فيما خرج الطالب أسيد مدوّر بعد خمسة أيام برصاصة في بطنه لكنها لحسن الحظ لم تقتله.
أيضاً وجد الطلاب أنفسهم مضطرين للجوء لتكتيك جديد؛ حيث اخذوا بالتظاهر خلال الفرص بين الدروس، ظنوا أن الأمن لن يجرؤ على اقتحام بيوت العلم، كانوا مخطئين، بل ومخطئين جداً، اقتحمت قوات الأمن والشبيحة المدارس بوحشية مفرطة، دخلوا بأسلحتهم وعتادهم الكامل وبدؤوا يركلون الطلاب كالكرات، ويضربونهم بأخمص البنادق، ويصفقونهم على وجوههم وسط صمت الإدارة وذعرها.
وكما استعملوا العواينية والمخبرين في الشوارع، اعتمد الأمن أيضاً على بعض المدرسين والموجهين (الغرباء عن المدينة) والموالين لهم، صار هؤلاء يدلون لهم بأسماء الطلاب الذين يتظاهرون أو يحرّضون عليه، وصاروا يستدعون الأمن إلى المدرسة عند الضرورة (ليقوم بواجبه) معهم، ولاحقاً ظهرت قوائم بأسماء طلاب مطلوبين للأمن، وبات هناك طلبة ملاحقين، وحتى اليوم يأتي الأمن لمدارسهم ويسأل عنهم..!!.
بعض الأساتذة (من أهالي المدينة) لم يتعاونوا مع الأمن، فتم تهديدهم بقسوة على مرأى من الطلاب جميعاً،
الجميل في الموضوع أن الطلبة قدروا لأستاذتهم الحرج الذين أوقعوهم فيه، فصاروا يتحاشون التظاهر ضمن الدوام.
تنسيقية الطلاب
عرف الطلاب أنهم بحاجة لتنسيق الأمور بشكل أكثر حرفية، أنشؤوا تنسيقية أسموها (تنسيقية طلاب داريا)، ظن البعض في البداية أنها مجرد لعب أولاد، لكن سرعان ما ذهلوا عندما رؤوا على شاشات الفضائيات فيديو لتظاهرة طلابية وظهرت فيها ورقة مكتوب عليها (مظاهرة طلابية...تنسيقية طلاب داريا)
طبعاً ساعدهم في ذلك بعض الناشطين الأكبر سناً، والذين صاروا يطوفون حولهم متخفّين لحمايتهم وتهريبهم عند الحاجة.
أزعج هذا الموضوع الأمن جداً، كيف لا ورئيس فرع المخابرات الجوية يتباهى أمام جميع زوّاره أنه تمكّن من السيطرة على داريا، ووأدها.
فزاد من نطاق الاعتقالات والعنف بحق الطلبة.
تحرّش بالطالبات
بنات داريا شاركن بقوة أيضاً ومنذ البداية، سواء بمفردهن، أو مع الذكور، الأمن حاصرهم أيضاً، وفعلوا بهم ما فعلوا بالذكور، وزادو عليهم مؤخراً أنهم بدؤوا بالتحرش بهنّ بشكل أقل ما يوصف به أنه نذل
ذات مرة صرخ به أحدهم هي أختي، فتكاثروا عليه وأشبعوه ضرباً مبرحاً وأدموه.
هذا الأمر دفع بعض الأهالي أخيراً لمنع أولادهم من الذهاب للمدرسة لأيام، وعندما لم يحصل أي تغيير قاموا (بتبطيلهم) من المدرسة بشكل نهائي.
غازات سامة
رغم كل ذلك لم يتوقف الطلبة عن التظاهر وبشكل شبه يومي، فازداد عنف عناصر الأمن، صاروا يطلقون عليهم قنابل غازية من نوع آخر، أحد هؤلاء الأولاد وصفها كالتالي:
"أكيد مو مسيل للدموع، نحن منعرف المسيل للدموع، بيخلي الواحد يدمعو عيونو ويوجعو حلقو، بس هي غير....هي بتخلي الواحد ما يقدر يشوف أبداً وبيصير وجهو بينمل وبيصير يسعل كتير بعدين بيوقع على الأرض وبيغمى عليه"
بالفعل كان هذا الطفل دقيقاً في كلامه، قبل أيام وتحديداً يوم 5 كانون الثاني خرج الطلاب بتظاهرة من مدرسة الحكمة، فضربوا عليهم هذا النوع من الغازات، قال شاهد على الحادثة أن الأولاد صاروا يتساقطون كالذباب، وبعضهم أغمي عليه بشكل نهائي، ولم يكتفوا بذلك، بل هجم الأمن عليهم وصار يرفسهم ويضربهم وهم فاقدو الوعي، أحدّ المارة انتخى عندما رأى هذا المشهد، فحمل طفلاً وأسرع به ليسعفه، لحقه عناصر الأمن، وصوبوا بنادقهم نحوه، وكادوا يقنصونه لولا أن أحدهم توقف بسرعة بدراجته النارية وأقلّ الاثنين بعيداً.
لعبة القط والفأر
لم يتوقف الأولاد، بل صار الأمر بالنسبة لهم أشبه بالتحدي، صاروا يتقصّدون إغاظة الأمن، في إحدى المرات أمسك عنصر أمن ولداً، فبدأ الأخير بالبكاء بشدة وبشكل يقطّع القلب وهو يقول "أقسم بالله ما دخلني أقسم بالله ما دخلني هاد بسام قلي تعا نتظاهر وأنا ما رضيت وتركتهم وهربت"
اعتبر عنصر الأمن أن الولد بريء، وأنه ساعده بأن أدلى باسم من يجب التقاطه حقاً، فلطمه كفين على وجهه وتركه، وعندما ابتعد الولد عنه مسافة آمنة مسح دموعه ثم صار يصرخ به "يلعن روحك يا حافظ يلعن روح يا حافظ" فلحقه العنصر ولم يدركه، ثم عاد ليحقق مع الأولاد بحثاً عن رأس الفتنة (بسام) ليكتشف أنه لا يوجد أحد في المدرسة بهذا الاسم..!!
في مرة أخرى أجبر الأمن الطلاب الخارجين من مدرسة على لمّ منشورات كان أحدهم رماها أمامها، فأستجاب الطلاب، لموها، وضعوها في جيبوهم، وعندما صاروا بعيدين بدؤوا بنثرها، وهذه المرة على مساحة أوسع.
ثورة على الجدران
الأمر نفسه انسحب على الكتابات على الجدران، جدران مدارس داريا لم يعد فيها مكان للكتابة، قصة الكتابات هذه تستحق فيلماً لوحدها، فهي تلخّص كل شيء. في البداية كان الناشطون يكتبون عبارات إسقاط النظام، فيأتي الأمن و(يبخ ) فوقها، وتكرر الأمر مراراً، لكن بعد زيارة السفراء للعزاء بالشهيد غياث مطر اتخذ الأمر منحىً آخر، صار الأمن هو من يبادر بالكتابة، إذا استيقظ اهالي داريا في اليوم التالي لهذه الحادثة ليروا جدران مدينتهم مطلوسة بعبارات من قبيل (يسقط السفير الأمريكي- يسقط الناتو- غير تلاتة ما منختار...الله سورية وبشار-يسقط العرعور- يسقط آل مطر الخونة) وذيلوا تلك العبارات بـ (أهالي داريا) على اعتبار أن أهالي داريا هم من كتبوها..!!، فأتى الطلاب وحوّروا العبارات،مثلاً (يسقط عرور) فيحوّرونها وتصبح (يسقط بشور) ، (تسقط إسرائيل) فيكملونها (التي تحمي الأسد).
ولشدة غبائه ولافتقاره للإبداع حتى بمثل هذه الأمور بدأ الأمن يلعب لعبة التحوير ذاتها، فمثلاً إحدى العبارات كانت تقول(يسقط بشار الأسد) فيأتي عنصر الأمن ويطمس كلمة يسقط ويضع مكانها يعيش، وفي اليوم التالي يقوم الطلاب بإضافة كلمة جديدة إليها، فتصبح الجملة (يعيش بشار الأسد في الحاوية)
مؤخراً بدأ الأمن يفقد صوابه بعد فشله من تتبع الكتابات ليل نهار، فصار يكتب عباراته في أماكن عالية من الجدران ليصعب طمسها، معظم تلك العبارات هي تأييد للرئيس بالطبع، لكن كثيراً منها كان يهدف لإغاظة أهالي المدينة من قبيل (الأسد أو لا أحد- من أنتم لولا الأسد....).
بعض هذه الكتابات كان غريباً جداً، بل مدهشاً بغبائه، مثلاً هناك عبارة ما زال الجميع لم يفهم معناها بعد، تقول (تسقط البيروقراطية) ربما العنصر الذي كتبها كان يقصد الامبريالية، لكن هذا ما أسعفه خياله، على أن هناك عبارة هي الأكثر دناءة بين التي كتبها الأمن على جدران إحدى المدارس الابتدائية، وتقول (يسقط العرعور اللوطي( ورسموا إلى جانبها عضواً ذكرياً..!!
معظم الأولاد لم يفهموا هذه الكلمة، وصاروا يسألون أهاليهم عن معنى كلمة (لوطي) وعن ذلك الشكل المرسوم إلى جانبها، ولكم أن تتخيلوا شعور الأهل عندما يطرح في وجههم هكذا سؤال..!!
وعي أولاد الثورة
نظراً لقسوة ما يحصل على الأرض، ووقوعهم مباشرة تحت تأثير الحدث وتذوّق ألمه، وعى الطلاب إلى ما يحدث، وصاروا يعرفون معنى الحرية وقيمتها وكيف يعبرون عنها، فرفعوا في مظاهراتهم لافتات غاية في الوعي والإدراك، من العبارات المكتوبة عليها مثلاً:
(لا تحزني يا أم حمزة أنت أمنا - أريد أن أكون حراً- يا عناصر الأمن أليس لديكم أولاد- أريد أبي- ليش ساويتو مدرستي سجن- الأطفال عصافير الجنة- سنخرج لكم من كل مكان- لن نركع إلا لله...) وغيرها من العبارات التي كان الناس يذهلون عندما يرونها، لكنهم سيذهلون أكثر عندما يتحدّثون ويناقشون أولائك الأطفال ويسمعونهم وهم يتحدّثون عن الحرية، ويعبرون عن ألمهم على الشهداء والمعتقلين، وإصرارهم على المضي قدماً، وبدت قيمة الطلاب الحقيقية خلال اليومين الأخيرين عندما تمنّعوا من تلقاء أنفسهم عن الذهاب للمدارس التزاماً بإضراب الكرامة، أو كانوا يذهبون فقط ليتظاهروا ثم يعودون إثر ذلك، وهم مستمرون بالتظاهر بشكل شبه يومي مبدعين في كل يوم طرائق وفنون جديدة للمحافظة على اتّقاد شعلة الثورة في هذه المدينة الجريحة.