وقفة مع مسار الثورة الشعبية في سورية

بين الشعب والقيادات.. والعصيان المدني

نبيل شبيب

كلما اقتربت لحظة الانتصار الأول في مسار الثورة، أيّ ثورة، وعلى وجه التخصيص الثورة الشعبية في سورية، المتميّزة عن سواها على أكثر من مستوى.. يزداد تشعّب المواقف والتصرفات، وقد يصل الأمر إلى درجة ما يوصف باختلاط الحابل بالنابل، وبقدر ما يتمكن الثوّار، وعلى وجه التحديد من يشكّلون قلب الثورة ميدانيا، النابض بالإخلاص والفداء، والحافل بالتضحيات والبطولات، والمتواصل مباشرة مع الحدث الحقيقي الفاعل.. بقدر ما يتمكّن هؤلاء من الرؤية الواضحة البصيرة لمسار الثورة الأصيل، وما يمكن أن يدخل عليها من عناصر دخيلة، يقتربون بإذن الله من تحقيق الانتصار الأوّل، فتزول بقايا نظام لم يكن في يوم من الأيام نظاما، وتبدأ المرحلة التالية.. المرحلة الانتقالية على طريق بناء المستقبل.

الرؤية الصائبة البصيرة في اللحظات الحاسمة في مسار الثورة الآن شرط لا غنى عنه للحيلولة دون انحراف يستفحل، نتيجة عناصر دخيلة على مسار الثورة، في صيغة أفراد وفوى وأفكار وتصرفات، بعضها يعطي الثورة دفعة إلى الأمام، وبعضها يضغط في اتجاه "السبل المتشعبة".

ما الغرض من هذا الكلام النظري؟..

في مسار الثورة هذه الأيام:

1- القوة الشعبية الثائرة ببطولة منقطعة النظير

2- إشكاليات على صعيد "قيادات" منهم ميدانيون.. منهم من يرغب أن يكون ميدانيا وهو خارج الميدان

3- بقايا النظام المتهالكة الباحثة بحث اليائسين عن مخرج مع متابعة طريق الانتقام الهمجي بكلّ ما تملك

4- معارضات لا تزال تتحاور حول ما ينبغي أن تتحاور عليه..

5- أطروحات جميعها شائكة.. وجميعها يحتاج للرؤية الثاقبة تحت عناوين عديدة من بينها في اللحظة الراهنة، الإضراب العام، والعصيان المدني، فضلا عن المنطقة العازلة، والحظر الجوي، واحتمالات تدخل عسكري، ومبادرة جامعة الحكومات العربية، ومواقف تركيا وسواها دوليا..

جميع ذلك.. وتيار الضحايا الدامي يتدفق.

وكثير من ذلك.. لا يراعي أن تيار الضحايا الدامي يتدفق.

فكيف يصل قلب الثورة الحقيقي النابض إلى رؤية صائبة بصيرة وسط هذه المعطيات؟..

ليس الجواب سهلا، ولا يزعم هذا القلم أن الخواطر التالية -وهي مجرد خواطر.. ومعذرة إن استفاض بها القلم- تعطي جوابا، إنّما قد تساعد على العثور على الجواب من جانب صانعي القرار على أرض الثورة مباشرة.. وهم مصدر العطاء، الذي بات يتعّلق به الجميع وينسب الجميع أنفسهم إليه، دعما مشكورا.. أو لأغراض أخرى. 

القوة الشعبية الثائرة

إنّ من صنع الثورة هم جيل الثورة داخل سورية المغتصبة، هم الذين أدموا قبضة الاستبداد القمعي.. بأيديهم وحناجرهم وبطولة أطفالهم ونسائهم ورجالهم.

هؤلاء فقط.. من كل حي من الأحياء، في كل مدينة وبلدة، هم الذين أوصلوا الثورة إلى ما وصلت إليه وهم الذين يمضون بالثورة إلى الانتصار، وجميع ما سوى ذلك.. إما رفد يدعم أو عقبة تعرقل.

ويعني ذلك ببساطة ووضوح: انتصار الثورة مرتبط فقط باستمرارها على الأرض، وهذا ما تدعمه الاستفادة ممّا يرفدها، وتجاوز العقبات التي تعرقلها في وقت واحد.

ويعني ذلك أنّ المعيار الذي يجب أن يقاس به كل ما يجري "حول الثورة" هو معيار القبول بدعم من يرفدها دون شروط تؤثر على نمائها واستمرارها، فمن يرفد -مهما بلغ شأنه وموقعه والتسميات التي يطرحها لنفسه- ليس جزءا من الثورة، ولا يملك حق توجيهها، ولا يستطيع، وإن حاول ذلك يتحوّل قاصدا أو غير قاصد إلى عقبة، وفي مقدّمة خطر العقبات ما يكمن في الانشغال بها -فكرا وجهدا ووقتا- عن مسار الثورة وفعالياتها الميدانية وتصعيدها واستمراريتها.  

إشكاليات قيادة الثورة

الخطر الأكبر من خطر العقبات الخارجية هو الخطر الذي تشكله عقبات داخلية، وفي مقدمتها ما يرتبط بقيادتها، وأوّل ما يجب تثبيته هو أن الثورة تصنع قيادتها بنفسها ميدانيا ويستحيل أن تنشأ قيادة فاعلة بقرار.

وقد تميزت الثورات الشعبية في الأقطار العربية عموما، وفي سورية تخصيصا، بأنها لم تكن من صنع فئة معينة، لتتولّى قيادتها حتى يوم انتصارها الأوّل، بل نشأت شعبيا، في بقعة بعد أخرى داخل الجغرافية الدامية للوطن بأسره.. وهذا ما يوجب وجود قيادات ميدانية محلية، وأقصى ما يمكن صنعه في ظلّ ظروف الثورة ومعطياتها هو التواصل والتنسيق، وليس الاندماج والتوحيد. وعندما تظهر جهة من الجهات القيادية تحت عنوان "يزعم" لها أنها هي القيادة الموحدة.. أو العليا.. أو الشاملة، فلا ريب في وجود خلل لا ينبغي أن يستمر، واستمراره يؤدّي إلى ظهور مجموعات أخرى، محلية، بتسميات "جامعة" غير حقيقية على أرض الواقع، اي تزداد التعددية القيادية بدلا من "التوحيد" المستهدف.

الفارق كبير على سبيل المثال بين "هيئة عامة".. و"هيئة قيادة عليا" أو بين "مجلس ثوري" و"المجلس الأعلى للثورة".

بل إنّ من ميزات الثورة الشعبية عدم وجود قيادة واحدة عليا إذا قضي عليها أثناء الثورة تبعثرت الجهود وقد يصبح ذلك مقدمة لإخماد الثورة نفسها.

توجد في الوقت الحاضر إشكاليات على صعيد القيادات الميدانية وتشكيلاتها وتسمياتها، وهنا يمكن اعتبار معيار الإخلاص للثورة في هذه المرحلة، هو معيار تجنّب كل تسمية توحي بصورة أكبر من الصورة الحقيقية للتشكيل القيادي الذي يعلن عن نفسه بها أو يستخدمها، والفارق كبير بين أنّ المخلصين فيه "يتطلّعون" إلى قيادة موحدة، أو يعتبرون أنفسهم قيادة عليا موحدة قبل الوصول إلى هذا الهدف أصلا، على افتراض إمكانية تحقيقه، بل على افتراض أنّ ذلك يخدم مسار الثورة فعلا.

ولئن كان تجنّب "التسميات" واجبا على هذا النحو، فإنّ تجنّب خطوات عملية وإجراءات فعلية في مثل ذلك الاتجاه أوجب بكثير، وعدم الالتزام بذلك مصدر خطر كبير.

وعلاوة على ماسبق: لا يحق لأحد من خارج الميدان أن يزعم لنفسه القدرة على التعامل مع هذه الإشكالية بصورة صحيحة، حتى وإن كان موجودا في الميدان من قبل واضطر إلى الخروج لسبب من الأسباب.. وإلى المخلصين جميعا خارج ميادين الثورة نداء مخلص: دعوا القرار لمن هم في الميدان الآن!.. 

بقايا ما يسمّى نظاما

تتناقض الصور الهمجية للبطش والتقتيل وتصعيد عمليات التدمير وإطلاق الشبيحة لاختطاف الحرائر -كما وردت الأخبار عن حمص ساعة كتابة هذه السطور- مع حقيقة ما أصبحت عليه بقايا عصابات متسلطة كانت تسمّي نفسها ويسمّيها العالم "نظاما"، ومن شواهد ذلك -ساعة كتابة هذه السطور أيضا- تلك المحاولة البائسة الصادرة عن رأس العصابات الأول وهو يحاول التبرؤ من صنيع فروع الاستبداد القمعي التي يترأسها.. والذي اغتصب لنفسه وراثة حق صناعة القرار بمرسوم فردي!..

يدركون أنّهم عسكريا وسياسيا وماليا على شفا جرف ينهار بهم لحظة بعد لحظة، حتى أصبحت "المهل" التي تمنحها لهم قوى خارجية لينقذوا أنفسهم، مزالق تهوي بهم أكثر مما سبق، مهلة بعد مهلة.

لقد أصبح واضحا للثوار.. ويجب أن يكون واضحا لكل من لا يزال مترددا:

لم يعد السؤال المطروح هل هم ساقطون أم لا، بل هو السؤال عن كيفية السقوط.. فقط.

إنّ كل انشغال عن مسار الثورة ميدانيا، لتعجيل سقوطهم المحتم، يتحوّل دون قصد إلى تأخيره.. أي يعطي تلك "المهل" المفعول الذي يشتكي منه المخلصون: مزيد من الضحايا ومزيد من الدماء ومزيد من الدمار.

إنّ ما تصنعه القوى الخارجية، بدءا بجامعة الدول العربية انتهاء بالقوى المهيمنة على مجلس الأمن الدولي، لا يتجاوز أن يكون محاولة إيجاد مرتكزات جديدة لنفسها، بصيغة جديدة في سورية ما بعد الثورة.

وسواء أعطت بقايا النظام لذلك وصف "مؤامرة" أو اعتبرته "مساومات" وحاولت أن تستخلص منها قشة النجاة من الغرق، فلن يمنع ذلك سقوطها، وقد لا يعجّل به.. وهذا بالذات ما يوجب على الثوار، على قلب الثورة في ميادينها، أن يضعوه في حساباتهم وهم يخاطبون تلك القوى.. أن تفعل كذا وكذا، فلن تفعل إلا انطلاقا من موازين مصالحها ورؤاها المستقبلية.. وهذه تتأخر أو يضمحل مفعول السعي لها، رغما عنها، بمقدار ما تتقدّم فعاليات الثورة ميدانيا، رغما عنها أيضا. 

المعارضات وحواراتها

باتت الذريعة الأولى لدى القوى العربية والدولية وهي تصيغ مواقفها فتتقدم خطوة وتتأخر خطوة، هي ذريعة "توحيد المعارضة السياسية مضمونا وتنظيما".. ومن الواقعية بمكان القول: هذا مستحيل التحقيق، وأقرب إلى "شرط التعجيز" منه إلى شرط موضوعي لخدمة الثورة الشعبية.

لا يعود ذلك فقط إلى أن لغة السياسيين في واد.. ولغة الثورة في واد آخر، وأن هدف الحوارات الطاغي عليها، هو المحاصصة، وأن هدف الثوار.. هو الانتصار للوطن وشعبه.

إن العقود الماضية عرفت نظاما ليس بنظام وفق الأعراف السياسية كما عرفت معارضة ليست بمعارضة وفق الأعراف السياسية أيضا. وليس في هذا لوم لها، ولا انتقاص من شأن من بذل ما بذل لتغيير يرجوه ولم يتحقق، إنّما كان -ولا يزال- يوجد تجمعات على خلفية سياسية، ولن تصبح هي "معارضة" بمعنى الكلمة -إذا أصبحت- إلا بعد أن تنشأ "الدولة"، ولن تكون آنذاك معارضة واحدة.. بل كيانات سياسية معارضة متعددة مقابل تكتلات أو ائتلافات سياسية تحكم.

نقطة الضعف الخطيرة في الوقت الراهن هي أنّ ما يجري الحوار عليه منذ أسابيع وأسابيع، لا يدور حول: "كيف نخدم الثورة عبر السياسة" بقدر ما يدور حول: كيف نوزع مواقعنا في كيان مشترك تتعامل معه القوى العربية الدولية، العاجزة أو الرافضة أن تتعامل مباشرة مع الثورة وقياداتها الميدانية أو الاستجابة مباشرة للأهداف المعلنة لهذه الثورة منذ لحظة اندلاعها الأولى.

ليس ما تحتاج الثورة إليه "كيانا معارضا" يتفاوض أو يتحاور مع "كيان نظام متهالك" ومع قوى كانت تتعامل معه وتدرك أن هذا التعامل ولّى -بسبب الثورة- إلى غير رجعة. بل تحتاج إلى "كيان" (1) يمثل الحدّ الأقصى من الفئات الشعبية، لا الاتجاهات السياسية بالضرورة، و(2) رافد للثورة ومرتبط بها وبمسارها، وليس قائدا للثورة التي اندلعت قبل وجوده وتمضي على مسارها بوجوده ودون وجوده.. ودون قيادته على كل حال.

إن مسار الثورة.. هو المصدر الذي يمكن أن يمثل قوّة ضغط على "المعارضات" وعلى تواصلها مع القوى العربية والدولية ليأخذ ذلك وجهة تخدم الثورة ولا تشكل عقبات إضافية في طريقها، ولهذا فلا بد من التركيز على مضاعفة الجهود الميدانية أولا.. وتثبيت إعلان الرؤى الميدانية للثورة بقوة ووضوح ثانيا.. وتأكيد المعيار الوحيد الذي تقبل به الثورة: تحقيق أهدافها، أهداف الشعب الثائر، وليس أي أهداف أخرى، سياسية أو غير سياسية، للمعارضات الموجودة، أو لقوى عربية أو دولية. 

الإضراب العام والعصيان المدني

لو كان للأقلام قلوب وهي تكتب من خارج الميدان لتحوّل المداد إلى دماء.. ويستحيل ذلك، ولو حدث افتراضا فلن ترقى قيمة المداد الدامي في جميع تلك الأقلام معا إلى قيمة قطرة دم واحدة تنزف من قلوب الثوار وأجسادهم.. أطفالا ونساء ورجالا.

ومع ذلك.. بات ما تخطّه الأقلام مدادا دون دماء، يختلط مع نزيف دماء الضحايا من الثوار وما يطرحونه لتصعيد ثورتهم ودعم قوة مسارها، فيصعب الجزم من أين ينطلق بعض الأطروحات على هذا الصعيد.. ومن بينها حاليا أطروحة الإضراب العام والعصيان المدني.

ولا بدّ في مثل هذا الموضوع الشائك للغاية.. من ذكر بعض الملاحظات من خارج الميدان:

1- الإضراب والعصيان المدني من الوسائل السلمية التي تتبع في بلدان مستقرة نسبيا لتحقيق أهداف جزئية، وليس تغييرا جذريا.. أو تُتّبع عندما تصبح الثورة للتغيير الجذري مهيمنة على الأوضاع كلية، فيجد نداؤها للإضراب والعصيان المدني تلبية شاملة، وتكون النتيجة آنذاك بمثابة المسمار الأخير في نعش بقايا المتسلّطين.

2- الإضراب العام والعصيان المدني من الوسائل السلمية التي "ترغم" سلطات بلدان مستقرة على الاستجابة لمطالب مشروعة لأنّها تخشى مغبّة ارتكاب قمع دموي.. ولا يسري ذلك على المتسلّطين الذين يبلغون من الهمجية الانتقامية درجة مواجهة الشعب الثائر بالدبابات والتعذيب في المعتقلات.

3- الإضراب والعصيان المدني من الوسائل السلمية التي "يستجيب" لها عادة العامّة من الشعب كالموظفين في الدوائر الرسمية مثلا.. بينما نعلم أنّ النسبة الأعظم من الموظفين في سورية معتقلون داخل الدوائر الرسمية حيث تعلو قبضة المخبر القمعي ومسدسه حتى على كلمة المدير العام أو الوزير.. ولا يختلف ذلك كثيرا عن أوضاع المصانع والشركات العامة والخاصة.

4- الإضراب والعصيان المدني من الوسائل السلمية التي ترتبط قوة مفعولها بتعداد من يستجيب لها، ولا تتحقق الاستجابة "الجماعية" عادة دون وجود تنظيم محكم، يضمن الفرد العادي من خلاله أنّه لن ينفرد بالاستجابة في الدائرة أو المصنع أو حتى في الامتناع عن تسديد ضريبة أو فاتورة مالية، ولا يمكن القول بتوافر ذلك في سورية.. دون ظروف الثورة الشعبية الحالية، فكيف هو الحال مع هذه الظروف.

ويمكن تعداد المزيد من الملاحظات، إنّما القصد منها هو:

إذا تحققت استجابة جزئية أو كبيرة لدعوة الإضراب العام والعصيان المدني، لا سيما إذا أعلن تسمية ليوم الجمعة كما هو متوقع، فلا بد أن يوضع في الحسبان.. أنّ الاستجابة مهما كانت محدودة، أو كانت كبيرة، تمثل مصدر قوة إضافي، وليس وسيلة حاسمة، من بين الوسائل الإبداعية البطولية التي تظهر كل يوم، في كل مكان، في سورية الثائرة، وتزيد الثورة قوة ومضاء وتزيد اقترابها من ساعة الانتصار الأوّل.. وقد أصبح وشيكا بإذن الله، وما النصر إلا من عند الله القوي العزيز.