المناطق الآمنة

مجاهد مأمون ديرانية

رسائل الثورة السورية المباركة (65)

مجاهد مأمون ديرانية

لم تعد المناطق الآمنة محلاً للتخمين والترجيح بعدما أُعلِن عنها ما أُعلِن وقيل فيها قيل، فقد باتت أمراً محسوماً تقريباً ولم يبقَ إلا الإعلان والتحديد والتنفيذ، وهو أمر قد يستغرق عدةَ أسابيع.

قبل أيام تداولت مواقع الثورة ما أسمته خطة لإسقاط النظام السوري نقلتها عن جريدة "صباح" التركية المقرَّبة من الحكومة، قائلة إنها أُعِدّت باتفاق بين تركيا والجامعة العربية، وتبدأ بطلب ستقدمه الجامعة العربية إلى الأمم المتحدة لإصدار قرار يقضي بتطبيق حظر جوي على سوريا، وبعد ذلك ستُعلَن منطقة عازلة شمال حلب بعمق خمسة كيلومترات في المرحلة الأولى (تتسع فيما بعد) وتتولى تركيا مراقبتها، وسوف تنفذ تركيا الحظر الجوى بدعم من الجامعة العربية والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي.

لن أستقبل ما ورد في الخبر السابق بالتسليم، فبعضه يبدو صحيحاً ومنطقياً والبعض الآخر فيه نظر، لكني سأركز على الخلاصة المهمة: تركيا بدأت فعلاً بالحركة، وهي ستقود الحملة الكبرى لإسقاط نظام الأسد بإذن الله.

لكي أكون أكثر دقة فإن تركيا ستنتقل في حركتها إلى العلن وإلى مراحل حاسمة متقدمة، أما أنها تتحرك دعماً للثورة السورية فليس هذا خبراً جديداً، حتى لو لم يُعلَن إعلاناً عاماً، فما أعلمه هو أن تركيا تقدم منذ أربعة أشهر على الأقل دعماً كبيراً لجناحَي الثورة السورية، السياسي والعسكري؛ فأما السياسي فظاهرٌ للناس من رعايتها العلنية لمؤتمرات وأنشطة المعارضة، وأما العسكري فلم يكن ظاهراً تماماً ولكنّ الأخبار عنه كانت مؤكدة (رغم أنها لم تنتشر كثيراً لأسباب مفهومة)، وشملت تقديم المأوى والحماية لضباط وجنود الجيش الحر، وإمدادهم بالسلاح (الخفيف حتى الآن) وبالذخائر، وبالدعم اللوجستي اللازم من استخبارات واتصالات وتدريب وعلاج وتموين وتمويل.

تلك كانت المرحة الأولى من مراحل الدعم التركي، والآن ستنتقل تركيا إلى المرحلة الثانية، اعتماداً على الغطاء العربي الذي أتوقع أن تكون قد حصلت عليه في اجتماع الرباط، وإن كان لم يُعلَن رسمياً حتى الآن حسب متابعاتي.

أول ما يُنتظَر من تركيا في هذه المرحلة المتقدمة من الدعم هو توفير المنطقة العازلة، أو المنطقة الآمنة بتعبير أدق (فهي وإن كانت عازلة بين دولتين أو قوتين إلا أن مهمتها الأساسية -في حالتنا الراهنة على الأقل- هي توفير الأمان قياساً بما حولها من مناطق لا أمانَ فيها، لذلك يناسبها وصف "الآمنة" أكثر من العازلة، خلافاً لأصل اللفظ الأجنبي الذي يعني "العزل" وليس الأمان باعتبار عموم المصطلح، لأنه يدل على أي عزل وليس بالضرورة لأغراض سياسية أو عسكرية، بل قد يكون لأغراض بيئية مثلاً أو اجتماعية أو غيرها).

هذه المنطقة صارت أمراً محسوماً أخيراً، أو شبهَ محسوم بتعبير أكثر دقة، ففي عالم السياسة يبقى كل شيء قابلاً للتغيير مع تبدل المعطيات. بانتظار إعلانها عملياً سنحاول تحديد معالمها: موقعها وعمقها وطريقة تكوينها.

*   *   *

بعض الناس توقعوا أن تصل المنطقة الآمنة إلى حلب، وهذا مستبعَد برأيي لأن أي منطقة آمنة لا يمكن أن تكون بعمق ستين كيلومتراً أو سبعين، ربما تصل إلى عمق عشرين كيلاً أو ثلاثين مثلاً، لكن ليس سبعين والله أعلم. كما أن توقع منطقة آمنة على امتداد الحدود الفاصلة بين البلدين أمرٌ غيرُ عَمَلي، فإنشاء منطقة بامتداد مئات الكيلومترات يستنزف قوات عسكرية هائلة لا يمكن توفيرها في الظروف العادية، أعني الظروف التي لا تُعلَن فيها التعبئة العامة، لذلك أتوقع أن يكون التركيز على الحدود الغربية مع تركيا، تحديداً من باب الهوى إلى الغرب وإلى الجنوب، وهذه المساحة ستغطي المنطقة المنكوبة من محافظة إدلب وجبل الزاوية بما فيها جسر الشغور، وربما تمتد المنطقة الآمنة أيضاً إلى الشمال قليلاً، من الأتارب‘إلى إعزاز، مروراً بدارة عزة وعفرين.

ويغلب على ظني أيضاً أن لا تفوّت تركيا الفرصة لإنشاء منطقة آمنة أخرى في الطرف الشرقي من حدودها مع سوريا، من الدرباسية إلى المالكية، فتوفر الملجأ الآمن لمنطقة القامشلي وتحافظ على استقرار حدودها التي يُظَنّ أن النظام السوري قلقلها مؤخراً بتحريك عناصر من حزب العمال الكردستاني. مع العلم بأن هذه المنطقة قد لا تلقى الترحيب الكبير الذي ستلقاه المنطقة الغربية، وأخشى ما أخشاه أن يحرك النظام عملاءه من أتباع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، فالظاهر أنه بدأ بتطبيق خطة خبيثة لضرب تركيا وشق المعارضة عن طريق اللعب بالورقة الكردية، حيث سمح للحزب المذكور بالعمل السياسي العلني بعد حظر طويل واضطهاد وملاحقات شملت عدداً كبيراً من أنصاره، وسمح لمسؤوله محمد صالح مسلم بالعودة إلى سوريا. هذه المعلومات نشرتها قبل أيام جريدة لوغيغارو الفرنسية في تقرير يُفهَم منه أن النظام السوري يزمع تكوين إقليم كردي مستقل على الحدود التركية لإشعال الجبهة مع تركيا، ولا نستطيع الآن تأكيدها أو نفيها.

بالطبع لا أعني ولا أتوقع أن يضع الأكراد يدهم في يد النظام كخيار إستراتيجي، فهم أنفسهم كانوا من أكثر الأطراف معاناة بسبب ممارساته الأمنية القمعية والسياسية القومية على مدى عقود، لكن يبدو أن بعض الأحزاب الكردية ستحاول استغلال ضعف النظام وخروج مناطق الأكراد عن سيطرته المركزية لتحقيق مكاسب ميدانية وسياسية على طرفَي الحدود، أقول هذا من باب تغليب الظن لا من باب اليقين، فرغم أن الناطق باسم حزب العمال الكردستاني نفى أي تعاون أو تنسيق مع النظام السوري القمعي -كما وصفه- إلا أن الواقع المشاهَد يوحي بأن الحزب يستغل الظروف لتحقيق بعض المكاسب على الجبهة التركية، حتى لو كان تحركه ذاتياً وليس بتوجيه من النظام السوري. لذلك فإنني أتمنى من إخواننا الأكراد على الأراضي السورية والتركية أن يتوقفوا توقفاً كلياً عن أي تحرك عسكري أو انفصالي حتى لا يمنحوا النظام السوري ورقة ضغط هو بأمسّ الحاجة إليها، وأتمنى من أي قارئ يقرأ هذه الكلمات وله اتصال بأي من قادة الأحزاب الكردية أن يوصلها إليهم، مع المحبة والثقة.

*   *   *

بقيت مسألة التكوين وهي أعقد المسائل، فحتى بعد اختيار مساحة المنطقة وعمقها وتحديد موقعها المناسب،  كيف سيتم تنفيذها؟ المنطقة الآمنة لا تكون آمنة إلا بوجود قوة تحميها، وهذه القوة ستأتي من الخارج (من تركيا في هذه الحالة)، ودخول قوات من دولة أجنبية إلى دولة أخرى دون إذن يعتبر عملاً حربياً، فهل يُفهَم من هذا أن تركيا ستعلن الحرب على سوريا من طرف واحد؟ لا يبدو هذا احتمالاً مرجَّحاً أبداً. هل ستتلقى القوات التركية دعوة من الحكومة السورية للدخول؟ بالطبع لا. هل ستُدخل تركيا قِطَعاً من جيشها إلى سوريا بعمل منفرد؟ لا. إذن؟

ما يبدو حتى الآن هو أن تركيا ستجهز قواتها، أو أنها جهزت القوات اللازمة للتدخل بالفعل، لكنها لن تتحرك إلا بعد الحصول على الغطاء المناسب، عربياً ودولياً. أظن أن الغطاء العربي لم يعد مشكلة، ويبدو أن الغطاء الدولي بات قريباً (أرجو مراجعة مقالة "غطاء الحرب")، ومن ثم فإن التحرك لم يعد بعيداً أبداً والله أعلم. ثمة أيضاً من يتحدث عن إمكانية افتعال بعض الحوادث الحدودية التي تدعو الجيش التركي إلى عبور الحدود لحماية الأراضي التركية والمصالح التركية، بصورة مشابهة لما صنعته تركياً سابقاً في إقليم كردستان العراق، ويبدو لي أن هذا الاحتمال وارد وأنه مبرر أخير يمكن أن تستعمله تركيا لو لم تنجح في الحصول على الغطاء الدولي، بل ربما استعملته مع الغطاء من باب المصداقية الإضافية وقطع الطريق على أي اعتراض روسي أو إيراني.

قبل ثلاثة أيام ظهر الرئيس التركي في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية، وبعدما قدم المقدمات الضرورية: (أ) تركيا لم تعد تثق بحليفها السابق الرئيس بشار الأسد، (ب) النظام السوري وصل الآن إلى طريق مسدود، (ج) تركيا مستعدة لأسوأ الاحتمالات. بعدها جاءت الزبدة: نحن لا نود التدخل في الشؤون الداخلية السورية، لكن طالما أن ذلك يحدث في جوارنا، وطالما أن السوريين أصدقاؤنا، وطالما أننا نتمنى لهم الخير، فلا يمكن أن نكون غير مبالين بما يحدث. وأخيراً: إن سوريا تحتاج إلى تغيير أوسع من مجرّد الإطاحة بالأسد. ليس الأمر قضية شخص واحد بل هي قضية النظام وحزب البعث بالمٌجمَل.

في اليوم التالي ذهب قائد القوات البرية التركية، الجنرال خيري كفرك أوغلو، مع وفد من كبار ضباط الجيش لتفقد الوحدات العسكرية المرابطة على الحدود مع سوريا.

*   *   *

الخلاصة: يبدو أن مسألة المنطقة (أو المناطق) الآمنة قد باتت قضية محسومة، على الجبهة التركية على الأقل وربما على الجبهة الأردنية في مرحلة لاحقة، ويبدو أن تنفيذها لن يستغرق أكثر من عدة أسابيع ريثما يتم إعداد المسرح وتجهيز الغطاء، وبعدها (أو قبلها بقليل) سيبدأ الحديث عن الحظر الجوي، وهو ما ستناقشه المقالة الآتية بإذن الله ضمن الحديث عن سيناريوهات الحرب المتوقَّعة.