الدماء السورية بين القرارات والتعديلات
الدماء السورية
بين القرارات والتعديلات
محمد عمر
لحظة انطلاق الشرارة الاولى للثورة السورية الخالدة في درعا، تصور النظام السوري الحاذق في الجريمة والقتل والترويع، بان الهجوم المركز والشرس على النواة ذاتها، يمكن ان ينهي الامر بلحظات خاطفة وسريعة، لكنه ايضا ادرك قوة الاعلام في حقن الثورة والثوار بدماء الاستمرارية والمثابرة، فعمل على افراغ سوريا برمتها من الصحافة وادوات الاعلام المختلفة، وباشر بتنفيذ مجزرة تلو مجزرة في درعا، اغلق المحافظة وعزلها عن الوطن السوري، كما عزلها عن العالم باسره، وكانت الجريمة التي ترتكب في تلك اللحظات هي ذات الجريمة التي نفذت في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا ودير ياسين.
دخلت الدبابات والمجنزرات والملالات والقاذفات والمدافع، ولك ان تسمي ما شئت من اسماء السلاح، وبدأت باكتساح المحافظة بخطة معدة مسبقة ومدروسة، لأنه لا يمكن تصور النظام السوري الغارق باضطهاد وظلم ونفي وكتم انفاس الشعب، لم يتوقع نشوب ثورة من اجل الاطاحة بعصر الظلام والجريمة والخيانة التي بدأت مع الانقلاب الذي قاده الاب الذي دمر لبنان والمقاومة الفلسطينية وحماة وحمص من قبل.
لم يملك النظام بمواليه من الجيش، ومن المرتزقة الإيرانيين ومرتزقة حزب اللات، أي رادع انساني او قيمة خلقية، وحتى لم يصلوا بأرواحهم المشوهة من امتلاك رأفة حيوان، كانت الضربة ثقيلة ودقيقة وسريعة كزلزال مدمر او بركان غاضب، نفذت الجريمة والمجازر، بالشوارع والبيوت، بالأزقة والسهول، بالمساجد والمآذن، اختطفت النساء واغتصبت، اختطف الاطفال وعذبوا وشوهوا، روع الامنين ترويعا لم تروعه الغابة لمخلوق على مر التاريخ، نزفت درعا من حدها الى حدها، وذبحت من وريدها الى وريدها، لكنها رغم البطش المركز من جيش كامل ومرتزقة يملكون فنون القتل والترويع والاذلال، رغم كل هذا، استطاعت درعا ان تمرر دماءها من بين جذور الالم ونسغ الشهادة، وان تترك لروحها تسلق النسمات من اجل الوصول الى الهواء، لتنعش بقية الوطن السوري، حيث يكون الشرفاء ويكون الابطال، حيث يتواجد الثائر والثائرة.
امتدت الدماء لتتشابك وتختلط، والارواح تعانقت واندمجت، فانفتح الوطن السوري الاصيل المعتق بالعزيمة والثورة والتاريخ والحرية والصفاء والنقاء، انفتح على ثورة استطاعت ان تقدم اول رسالة موقعة بدماء الوطن كامل، رسالة نصها ان ما استطاع والدك ان يجتازه من جرائم ومجازر ومذابح، وما تحاول انت زرعه في درعا، لن يوقف مسيرة طفل كحمزة الخطيب ويافعة كطل الملوحي، وان الجيش والمرتزقة التي تخاف من طفل ويافعة، وتكشر عن انيابها بطريقة العصور الخاضعة لمحاكم التفتيش، لا يمكنها مواجهة شعب وارادة حرية.
توسع انتشار الجيش، ومن المهم ملاحظة شيء لا يمكن ان يخطر على بال بشر يؤمن بقضيه وطن او حتى الادعاء بالإيمان بقضية وطن، فقد تركت الحدود مع المحتل فارغة شاغرة من الية يمكنها ان تعلن وان كذبا الدفاع عن الوطن لو فكر العدو من اقتحامه.
وبدأت المجازر تتوالى هنا وهناك، ليس في كل مدينة فقط، بل وفي كل حي وحارة، كانت الجرائم التي تنفذ تتم بصورة مواجهة بين دولتين خاضا حربا ضروس من سنوات، فالجثث هنا وهناك، ممزقة، مقطعة، مشوهة، وكان اقتحام البيوت يأخذ صورة من صور افلام الرعب التي يتقزز الانسان منها ويعافها، وكان التهجير والتشريد، واعطيت الاوامر للمرتزقة باغتصاب النساء والفتيات، وسرقة كل ما تقع عليه ايديهم، ببساطة اباح النظام للموالين من الجيش والمرتزقة التصرف بالبلاد والعباد حسب شهيتهم التي هيئت من قبل كشهية منحرفة مركبة لا يمكنها الشعور بالاكتفاء من جريمة او انتهاك اعراض.
ظل النظام ماضيا بوحشيته بصورة متوالية متصاعدة، ظنا منه بان القتل والتنكيل والمذابح والمجازر والصمت العربي وانشغال العالم بالثورات المتفجرة في ليبيا واليمن ستمنحه الفرصة لإنهاء الثورة واخمادها والفوز بقطاف الجريمة، وقد بنى كل خطته على هذا الاساس، لكنه لم يتبه بان عصر مجزرة حماة وحمص التي نفذها والده يختلف عن هذا العصر، فأي هاتف نقال او الة تصوير حية او صور ثابتة، يمكنها التسلل من خلال الشبكة العنكبوتية لتصل الى العالم في رمشة عين، ولم يدرك ايضا بان زمن المجازر والمذابح قد اصبح محدودا وغائبا بشكل ما تحت ضغط وسائل الاتصال المنوعة والسريعة والتي اصبحت في متناول الطفل قبل متناول المثقف والمتعلم، وان ارادة الشعوب يمكنها ايضا ان تتواصل مع بعضها في ذات اليوم واللحظة.
لكنه ضمن التصور الاخر، وهو اهمال الشعوب والحكومات العربية، والانقضاض عليهم بتهم التخويف والتخوين، وبممارسة جرائم اخلاقية ومجازر قيمية نحو المؤيدين للثورة، بقي على يقين منتزع من روح الجريمة والغرور والصلف بانه يستطيع من خلال المثقفين والمدعين التابعين له، اخماد التكافل والتضامن مع الشعب السوري، وادل ما يدل على ذلك، العبارات الصادرة من راس الهرم الذي اعلن بانه سيحرق الشرق الاوسط اذا ما تعرض نظامه للانهيار، وفي نفس الوقت كان قد أمر رامي مخلوف طلب صك الموافقة الصهيونية على تقديم الخيانة المطلقة والولاء الكامل مقابل التدخل لمنع انهيار نظامه، ثم جاء المعلم ليعلن بانه سيمحو اوروبا عن الوجود، وكذلك جاء المفتي الذي باع دم ابنه ليفتي بان العمليات الارهابية والانتحارية ستغزو العالم ان سقط النظام، عدا عن الاتهامات والتصريحات الخالية من أي ادب بين رواد حانات الخمر والدعارة التي تميز به اقطاب النظام من المثقفين والمدعين سواء في المحافل الدولية او حتى في المناظرات التلفزيونية.
وحين تحركت الجامعة العربية بدفع من وقود الدماء والارواح والاعراض المسفوحة من النظام ومرتزقته، ظن النظام بانه في منأى عن غضب العرب وحميتهم، لكنه حين شعر بقوة الارادة المتوجهة من الجامعة العربية واللجنة الوزارية، بدأ ينكمش ويعتذر ويتملق ويتذلل ويعتذر، لكنه تذلل الماكر والمخادع والمنافق والافاق، فهو يريد مساحة من الوقت من اجل اعمال القتل والتنكيل والمذابح والمجازر على امل ان يتمكن من خنق الشعب وانتفاضته، وهو مستعد لتقديم تنازلات وتذلل اكثر مما يتوقع احد، طالما ان ذلك التذلل والانحناء يمنحه مزيدا من الوقت لاختبار قدرته على القتل والجزر من التعلق بأمل انهاء الثورة السورية الخالدة.
الان اصبح النظام يحس بخطر زواله، بعد الانشقاقات المتعاظمة في قواته المسلحة، فقدر ادرك الثوار المنسلخين عن الجيش اسلوبه في اعدام كل من سولت له نفسه التفكير بالامتناع عن قتل الشعب واغتصاب عرضه وشرفه، ادركوا ورأوا بأم اعينهم كيف تمت تصفية الشرفاء واخراج جنازاتهم على انها جنازات لمن قتلهم المندسين والمسلحين، وعرفوا بان الانشقاق يجب ان يتم بطريقة الاختفاء والدفاع عن النفس، حتى لا يتمكن المرتزقة من تصفيتهم واستخدام جثثهم وارواحهم بأدنى واحط الطرق التي لم يعرفها قاتل او سفاح عبر التاريخ.
من بين كل هذه التناقضات، ما زال النظام يخادع ويناور من اجل كسب المزيد من الوقت، لكن ما يجب ان تدركه الجامعة العربية، واللجنة الوزارية، بان الايام التي تمنح لمناورة النظام انما هي ايام تنفذ فيها مجازر ومذابح، وتهتك اعراض فتيات ونساء، وتهدم منازل وتستباح مساجد ومآذن، وتحرق مصاحف وتسيل دماء، هناك الكثير من الجرائم التي لم تصلنا حتى الان، ينفذها النظام ومرتزقته من اجل اللحظات الاخيرة قبل الاختناق والانهيار.
نأمل من الجامعة العربية واللجنة الوزارية ان تدرك، ونحن نعلم انها تدرك، بان دماء الشعب وعرض النساء والفتيات وحرمة المساجد والمآذن والمصاحف قد بلغت حدها الذي لا يمكن احتماله او قبوله، وهذا ما يدفعنا الى تنبيه الجمعة واللجنة الوزارية باحتواء المخادعة والنفاق الذي يسعى النظام لاكتسابه بمشروع التعديل على هذه الوثيقة وتلك، لان مطلب الشعب السوري والشعوب العربية والاسلامية قاطبة هو ازالة نظام المجازر والذبح والسلخ والاغتصاب والتشبيح، وليس هناك مطلب اخر للشعب السوري والشعوب العربية والاسلامية.