الناتو وربيع الثورات العربية
محمد عمر
كثير من " المفكرين والمحللين وسلاطين الرائي والمتحذلقين والمتشدقين " يطنون بانهم اكثر نقاء وصفاء من الجماهير الثائرة التي تسطر ملاحم البطولة والشهادة على ارض الواقع والمعركة والاضطهاد، بصدور عارية الا من الايمان بمشيئة الخالق جل في علاه، ومن ثم الايمان بحقها في المطالبة بالحرية والكرامة والصحوة، ليس من اجلهم فقط، بل من اجل الوطن والاجيال القادمة لتحتل المستقبل المروى بالدماء النازفة من ارواح تلتصق بإذن الله الكريم بعليين، ومن اجل الامة العربية والاسلامية، كي يكون هناك بصيص من نور في ديجور الظلام من اجل مكانة حضارية للشعوب المختطفة من دورة الحضارة والوجود الفاعل بين الامم والحضارات.
فهم ينكرون على ثوار ليبيا الابطال الاشاوس الذين انطلقوا تيمنا بثورة تونس ومصر للإطاحة بطاغية معتوه مغرور مصاب بداء وهمي لعظمة وهمية، طاغية انزل الدين منزلة التخلف، وتعدى على الصحابة والسنة النبوية الطاهرة، وسفك من دماء الشباب والشيوخ والاطفال ما يشيب له الولدان وتخر له الراسيات، طاغية انكر الشعب وسخر ثروات البلاد كلها لمتع رذيلة منحطة لأولاده وبناته وعائلته.
وحين انتفض الشعب، وحاول ان يتخذ من تجربة الثورة التونسية والمصرية من اجل الاصلاح والاطاحة بالنظام، بطرق سلمية ومدنية، معلنين رغبتهم في التغيير والانتقال بالبلاد من حكم الفرد والعائلة الى حكم الشعب والارادة الجماهيرية، لم يصدق طاغية الوهم والسراب بان هناك عبى ارض ليبيا من يمكن ان يفكر او يتبادر الى ذهنه المطالبة بنزعه عن سدة الحكم، اخذته وعائلته العزة بالإثم، تماما كفرعون والنمرود وموسوليني وهتلر ونيرون، فاعلن بوضوح هو وابنه بانهما سيدمران ليبيا، وسيسحقوا اهلها، وقالوا بان المطاردة ستكون من بيت لبيت ومن دار ومن زنقه الى زنقه، وانهم " سيطهرون " ليبيا من الثوار، كما فعلت الولايات المتحدة في الفلوجة، وكما فعل الروس في البرلمان والمدرسة، وكما فعلت الصين بالساحة الحمراء.
كان اعلان الحرب والقتل والسلخ والتدمير واضحا، على ثورة سلمية عارية من أي نوع من انواع العسكرة والتسليح، وتكشفت ملامح الجريمة التي يمكن للنظام وعائلته ممارستها حين ارسل طائرتين حربيتين لقصف مناطق وتجمعات المتظاهرين العزل في طرابلس، لكن حكمة الله الواسعة ورحمته التي لا تغفل، اخرجت من قاد الطائرات الى صف الثوار العزل حين رفضوا الانصياع للأوامر وطلبوا اللجوء والحماية من مالطا.
عندها تحركت المرتزقة التي اشترتها العائلة بأموال الشعب والوطن الليبي بالدبابات وقاذفات الصواريخ والمجنزرات والمدافع لتهاجم المدن والقرى وتعمل في الناس قتلا وتنكيلا، مما دفع الثوار قسرا وجبرا الى حمل السلاح من اجل الدفاع عن انفسهم.
لكن النظام كان اقوى، فهو يملك مرتزقة تم اعلامهم بان المناطق التي يدخلوها هي ملكهم بالكامل، فهم يملكون حق التصرف في القتل والنهب والتمزيق واغتصاب النساء واعتبارهن سبايا، وفعلا بدأت المجازر تتخذ شكلها المحموم والمروع.
دخل العرب على الخط، لكنهم يعلمون مسبقا بان النظام الموجود في الحكم، هو نظام يقوده ابله معتوه وجبان ورعديد، لذلك فان اقناعه بحقن الدماء ووقف تدمير البلاد، لم يكن ممكنا باي طريقة من الطرق، ورغم كل ذلك افسحوا بعض الوقت لعل المعتوه يصحو من تحكم الطغيان بذهنيته ووهمه وسرابه، لكنهم فوجئوا بحجم شهوة الدماء التي لا تحد تتمدد، وان الشعب الليبي فعلا على طريق الازالة والتصفية الممنهجة.
كان لا بد من قرار، يوقف الثور وعائلته الهائجة، ليس من اجل ليبيا فقط، ولكن من اجل الانسان والحق والعدالة والكرامة، فتم الطلب من حلف الناتو التدخل من اجل حماية الشعب الليبي من الفناء المحتم.
نحن كنا نتمنى ومن كل قلوبنا، ان تمتلك الدول العربية حلفا واحدا قادرا على حماية الشعوب والاوطان من الخطر الخارجي والداخلي، لكن هذا التمني لم يكن ليوقف المجازر والابادة الممنهجة والمدروسة للشعب الليبي.
تدخل الناتو، وكان على المعتوه وعائلته ان يدركوا، بان ليبيا اكبر منهم ومن وجودهم، وان الوطن ابقى من الجميع، وان التاريخ سيكتب النهايات كما كتب البداية، كان عليهم ان يعلنوا من اجل ليبيا والوطن والتاريخ تنحيهم عن السلطة امام المد الجماهيري المتعاظم، حتى يحقنوا دماء الشعب، ويحافظوا على مقدراته، لكن القاتل، لا يمكنه ان يتخلص من غريزة الجريمة، حتى وهو داخل القضبان وفي محيط الجدران، وهؤلاء ساقتهم غريزتهم القاتلة المتوحشة التي لم تر في الشعب الليبي سوى خدما وعبيدا، ان يفتكوا قبل انهيارهم بكل مقدرات الشعب وامكاناته، من الارواح والاعراض الى الجدران والارصفة والشوارع، وحتى المصحات والمشافي والمساجد والمصاحف.
الان السيناريو يعود بنفس الطريقة، لكن المعتوه الليبي كان يكشف عن انيابه ومخالبه لطبيعة التهور والاستهانة والغرور المحشو بالوهم والسراب، اما النظام السوري، فإننا لا نشك ابدا، بان المكر والخديعة والمراوغة والاحتيال والكذب والنفاق والالتفاف والدوران، بانها مقومات متوطنه في شخصيته الى حد انها تشكل ملامح العائلة منذ عهد الاب وحتى يومنا هذا، واذا ما اضفنا الى ذلك الصفات والنصائح المدموجة بجيناته وتركيبته من النظام الايراني وخدمه وعبيده في لبنان، فإننا نخرج بصورة تم التزاوج فيها بين خبرة الجريمة التي نشأت عليها العائلة، واكتسبتها وطورتها من خلال المجازر والمذابح التي ارتكبها طوال فترة حكمه، ومن الملاحقات والاغتيالات التي ميزت قدرته، وكذلك من افقاره للشعب وإيصاله الى حد الفاقة، وبين خبرة ايران منذ " الثورة " التي قادها مجموعة ممن يحملون الحقد والضغينة ليس على الشعب الايراني فقط، بل وعلى العالم اجمع.
من تحت هذا النظام، خرجت ثورة الاحرار في سوريا، ثورة الدرعيين والدمشقيين والحمصيين والحمويين، وامتدت لتشمل كل المناطق السورية التي طالبت النظام بإحداث اصلاحات تضمن كرامة الشعب السوري وتفتح الافاق امام الاجيال التي اعتقلت في الارض السورية منذ انقلاب الاب وتوريث الابن.
وتماما، كثورة تونس ومصر وليبيا واليمن، خرجت الثورة السورية تحمل حلم الخلاص من الاضطهاد والظلم، لكنها ايضا حملت الكرم في التسامح فلم تطلب من الطاغية التنحي عن الحكم، لكنها وضعته امام مسؤولية لم يكونوا يعرفون بانها اكبر من حجمه ومن قدراته، وان الضعيف البصر والاعشى، رغم انه طبيب عيون، فانه لا يستطيع ان يرى النور الا بصورة مغايرة للحقيقة، ومن هذه الرؤيا فانه يصدر احكامه وقراراته، فاذا اضفنا غريزة القتل والجريمة المتأصلة فيه، ونفي الاخر الذي لا يشكل امام عينيه سوى عبدا، ليس له في الاصل، بل لمن يراه هو عبد اصلا، الى ايران التي توجته عبدا سيدا على عبيد لبنان المتمثلة بحزب اللات وحركة امل والمأجورين من المثقفين والمدعيين.
لم يطق العبد السيد، ان يرى العبيد تثور عليه، فلم يكن امامه سوى اعمال الات القتل والدمار، والاغتصاب والتدمير، والتشريد والتهجير، وحتى تقطيع الجثث، وقطع رؤوس الثوار وهم احياء، ودوس رؤوس الناس ببساطير " الجيش السوري الباسل " الذي قبع في الحفر كالجرذان يوم مرت طائرات العدو من فوق عاصمته، وتمادى الى حد اقتحام المساجد ليسفك الدماء فيها، ووصل الامر الى هدم المساجد والمآذن.
امام الموت تهون الحياة، لم يدرك النظام المسيطر على سوريا، بان تلاحق الموت وتلاقح الارواح، لا يزيد الثورة الا اشتعالا، وان الموت الغائب المتخفي بين ثنايا الغيب له سطوة الرعب، اما الموت المثل امام العيون، والمتربع في الاحداق، فانه يصبح امنية ان لم تحقق فانها تنتظر التحقق.
لم يفهم الطاغية السفاح الخالي من أي قيمة اخلاقية او انسانية او حيوانية، بان الدماء تملك خصوبتها المتفجرة، وقدرتها على التنامي والاذهال، وهذا ما دفع الشعب السوري العظيم الصابر المرابط الواثق من قدراته على التضحية من اجل الوطن ان يصعد مطالبة الى تنحي الطاغية، ومن ثم الى اعدام الطاغية.
وهو ما دفع الشرفاء الاوفياء للوطن والشعب والتاريخ من القوات المسلحة ان ينشقوا ويعلنوا تمردهم على الاوامر، فكان النظام يعرف كيف يستخدم هذا الرفض ويسوقه، قام بتصفيتهم، مثل بأجسادهم، شوههم، ثم اعلن انهم قتلوا بيد الثوار، وكالمثل الموزع في بلاد الشام عمل، فاخرج لهم جنازات فاخرة، سار فيها وهو يمثل دور الحزن والاسف.
فهو لم يكتف بتعذيبهم وتمزيقهم وهم احياء، بل وصلت دناءته الى استخدام جثثهم كدليل على وجود مندسين في صفوق الثورة السورية، هل يمكن لإنسان مهما بلغ من القذارة والانحطاط ان يتصور نظاما يستخدم الجثث التي مزقها ومثل بها وقطعها وشوهها استخداما يسيء الى الهدف الذي دفع اصحابها للموت على ان يخونوا وطنهم وشعبهم؟ هذا النظام وصل الى مرحلة قتل الجثث، ووصل الى مرحلة لم يصلها ظالم على الارض على مر العصور.
لهذا اخذت الانشقاقات تتزايد وتتوالد، لكن دون ان تسلم نفسها لمجموعة القتلة والمرتزقة القادمة من ايران ومن حزب اللات، وهم الان يشكلون النواة التي من شانها حمل اللواء من اجل تحرير سوريا العظيمة من ربق العائلة المستعمرة ومرتزقتها.
وحين تتدخل تركيا، او يتدخل حزب الناتو، فليس هناك متسع لمتشدق ان يقول بان الشعب السوري هو من احضر القوات الاجنبية الى سوريا، لأنه لا يمكن ترك سفاح قاتل يقود مجازر يومية ضد الشعب، ويدمر ويشرد ويهجر ويغتصب النساء ويختطف الفتيان والفتيات، من اجل الا يتدخل العالم لحماية الناس الذين لا يملكون ليس حماية انفسهم، بل لا يملكون حماية من في الارحام او من سيأتي من الارحام.
ليس من العدل او المنطق ان يطلب من الشعوب ان تذبح، ان تقبل الذبح من اجل المحافظة على القاتل وعائلته واعوانه، وليس هناك أي حق لحاكم ان يواجه ارادة شعبه بالقتل والتدمير، وان يخير الشعب بين ان يحكمهم ويذلهم ويستعبدهم ، او يقتلهم ويجزرهم، مثل هذا الحاكم لا يمكن ان يكون سويا او على حد من العقل.
ولمن يريد ان يلوث الثورات باتهامها بجلب التدخل الأجنبي، مهما كانت حجته او كان منطقه، فهي حجة اخوى من الخواء ومنطق اقل قيمة من النظر فيه او مراجعته، عليه ان يطلب من الحاكم التخلي عن السلطة والرضوخ لإرادة الشعوب من اجل تشكيل مستقبل يرتضيه الشعب وتختاره الجموع الثائرة، من اجل تجنيب الارض والوطن ويلات الدمار والقتل والتشريد والتهجير.
لا يمكن ابدا، ولا بأي شكل من الاشكال ان تكون ثورة تونس وارادة شعبها مشوهة او خائنة، وكذلك لا يمكن اعتبار الثورة المصرية والشعب المصري على خطأ، وايضا لا يمكن اعابة الثوار الليبيين والانتقاص من طهرهم وطهر ثورتهم، وكذلك اهل اليمن اهل الحكمة، كما لا يمكن باي حالة من الحالات، واي عذر من الاعذار، او أي مراوغة ومخادعة واحتيال تصوير الثورة السورية على انها غير ثورة شرفت الوطن الاسلامي، وستشرف التاريخ والمستقبل، لما فيها من قدرة ومن ثبات ومن تضحية، ومن صمود امام مجموعة من الطغاة الذين لا يعرفون شيئا غير العبودية.
من يصل الامر الى تشويه خمس ثورات، خمس شعوب، ملايين من البشر، من اجل حفنة من الطغاة، فلا بد ان يكون خائنا بالضرورة لقيم الانسانية والدين والحضارة والتاريخ.
ومن لا يريد للشعوب ان تطالب بالحماية، فعليه ان ينظر للفروق بين الطغاة، فطاغية تونس هرب وترك تونس لأهلها، وطاغية مصر تنحى وترك الحكم، فلم تطالب الشعوب ولم تفكر باللجوء الى الناتو من اجل حمايتها، فظل الوطن التونسي والمصري بأيدي المصريين والتونسيين، اما ليبيا، فقد قدم الناتو وساعد في حماية المدنيين وانهاء حكم طاغية قرر ان يبيد الشعب ليبقى حاكما، فكانت نتيجته في انبوب للصرف الصحي، تماما كالجرذان والدود، وحاكم اليمن خرج من الموت ليتغول بدماء الشعب اليمني، لكن نهايته ان شاء الله ستكون اسوأ من نهاية الطاغية الليبي، اما الطاغية المستعمر للوطن السوري، فيبدو انه لم يفهم الدرس ولم يعييه، ظنا منه بان ايران وحزب اللات سيقومان بحمايته من ارادة الشعب وضمير الشهداء والجرحى والمشردين، فهو مصر على ان يرسم نهايته بصورة نتمنى على الله ان يكون انبوب المجاري اكثر رفعة وشأنا منه ومن عائلته وممن يسانده ويقف في صفه.
من حق الشعوب ان تطلب الحماية، امام من وقف ذليلا وعبدا وجبانا ورعديدا امام من احتل ارض سوريا، وحرك كل جهاز التسليح الذي دفع الشعب السوري من احداق العيون، ليقتل النساء والاطفال والجثث ويشردهم كما شرد الاستعمار اهل فلسطين.