هل سنشهد حقاً ربيع للديمقراطية
د. ضرغام الدباغ
يدور حديث كثير وباتجاهات مختلفة عن الربيع العربي، وما شهدته الساحات العربية من فعل جماهيري، (أتت أكلها في ساحات وأخرى تنتظر) لم تشهده الساحات العربية من قبل ربما في كل تاريخها، أن تنهض الجماهير في مبادرة تريد منها أن تكون فاعلة في صياغة مستقبلها، لا أن تهرج وراء الحكام، وإزاحة من تسلط على رقابهم عقود طويلة دول تخويل ولا تصويت ولا انتخاب، سواء عبر انقلابات أو تهديد بالقوة المسلحة، أو عبر عمليات تدليس معروفة، وغش واضح لعقل الجماهير.
الآن انتهى كل ذلك ... بكل ما أنطوى عليه التغير من سلبيات وإيجابيات، من مظاهر مفرحة أو محزنة ... هي أحداث جسيمة تمثل بتقديرنا لها سلبياتها دون ريب، ولكن إيجابياتها تمثل المقدمات الابتدائية لمرحلة جديدة، وهي قفزة كبيرة إلى الأمام. فالأوضاع التي كانت سائدة قبل يناير 2011، كانت بصفة عامة أشبه ببحيرة مياه آسنة راكدة، مليئة بالطفيليات والطحالب، لا تنبئ بخير، بل تنذر بالشرور من كل حدب وصوب، تحفل بمشكلات كبيرة تتفاقم وتتسع تبدو كجمرات تحت الرماد لا تكبحها سوى أجهزة القمع، بل تلوح مع كل عاصفة بشر مستطير. أوضاع لا يمكن وصفها إلا بالمراوحة في ذات النقطة، وإن كان هناك تقدم فبطئ للغاية، لا يتناسب قط مع القدرات، حتى ليمكن القول أن ليست هناك من المعضلات الأساسية تمكنت الأنظمة من حلها بصفة جذرية أو حتى شبه جذرية.
الأقطار التي حسمت فيها أمر الأنظمة السابقة، وقذفت بها إلى خانة العهود البائدة، هي اليوم على طريق التحولات، وهناك نظامان يسيران على الطريق نفسه بسيناريوهات مختلفة، ولكن النتائج ستكون متشابهة أو متقاربة. وإذا كان النظامان التونسي والمصري قد استسلما (بسهولة نسبياً)، لإدراكهما بذكاء السلطة الكلاسيكية، أن المخزون أو المتراكم الشعبي قد أنفجر بصورة لا يمكن درئه، ويصعب معالجته حتى بعمليات دموية. فالديكتاتورية في هذين القطرين (التونسي والمصري) كانت تستند لنظام دولة مؤسساتي له تقاليده، بينما قاوم النظام الليبي حتى النفس الأخير في محاولة بائسة لإعادة التاريخ للوراء.
فيما يبدو واضحاً بجلاء مصير النظامان السوري واليمني المحتوم ولكنهما بمنطق: بيدي السلطة والسلطان فلنسحق أعدائنا، يقاومان بغباء رغم وضوح خط النهاية، إذ تأسس في القطرين منذ عقود عديدة دول ذات مؤسسات تجذرت على أساس الولاء العائلي، ونمت فروع وأغصان من العلاقات الطفيلية وشبكة من مصالح انتهازية، إضافة إلى شحن باتجاه طغيان عائلي للديكتاتورية، وفوق ذلك يسبغ عليها النظام عبر مؤسسات أسسها أو استولى عليها: حزبية/ مخابراتية، يرفع لافتات آيديولوجيه ويتلاعب بالشعارات الوطنية والقومية والاشتراكية، ولا مانع من استخدام الطائفية والقبلية والمناطقية عند اللزوم، بانتهازية واضحة تصب في طاحونة تكريس حكم ديكتاتوري مافيوي عائلي من طراز هو غير ما كان معروفاً وسائداً في مراحل التاريخ العربي في العصر العباسي الوسيط والمتأخر، ولكنه جديد على الساحة العربية بعد فجر الاستقلال من بدايات وأواسط القرن المنصرم، أتخذ فيها الأنظمة:(السوري والليبي واليمني) شكل نظام ديكتاتورية عائلية مارست الحكم بنظام المافيا وقواعده ولكن بإطار سياسي (المال والنفوذ) كمحور لنظام حكم(السلطة والمال)، في أنماط هي حديثة في العصر السياسي العربي الحديث.
لكن يجمع بين الأنظمة البائدة أنها فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق مكتسبات كبيرة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأسباب ذلك، وتلك صفة تلازم غالباً الأنظمة الديكتاتورية في البلدان النامية والمتخلفة، أنها عجزت سياسياً أن تكون نظام الشعب كله، فيما تمثل نهجها اقتصادياً بالميل إلى تحقيق المكتسبات السريعة السهلة، والهزيلة المردود، لا تحقق انتقالا في الاقتصاد الوطني، بل الغاية منها تحقيق زخم إعلامي وراء الطاغية، لذلك شاعت في الاقتصاد السياسي للتنمية ( The Poitical economy of Development) مصطلح مشاريع الأبهة (Pomposity Projects)، التي لا تزجى منها فائدة تنموية إستراتيجية كبيرة، بقدر ما تمثل مدخلاً للفساد المالي والإداري الذي يلتهم القليل من موارد المشاريع المفيدة.
كما وأغلب الظن، يدرك الجميع اليوم أن عصر توريث الحكم قد ولى بلا عودة، والحاكم إذا ما فكر بذلك، إنما يجازف حتى بالمكاسب الشخصية المالية التي جناها وكدسها طيلة حكمه. وإذا أقررنا بحلول مرحلة جديدة تتمثل بزوال تدريجي لعصر الاستبداد والأنظمة المطلقة، فإن الحصيلة المنطقية لذلك، هو نهاية لعصر الفساد، وتحكم الديكتاتور بخزانة الدولة، ونهب الدولة المنظم والمباح من قبل الرئيس وأبناؤه وأقاربه، والمزاجية في المناهج الاجتماعية والثقافية.
ولكن.... هل ستستطيع الثورات أن تعيد حقاً التوازن والثقة للفعاليات السياسية والاجتماعية في البلاد ..؟ وهل ستتمكن من إقامة أنظمة حديثة على أنقاض الأنظمة الفردية الديكتاتورية ..؟. فبرغم أن أقطارنا قطعت أشواطاً في عملية التحضر، إلا أنها تفتقر في معظمها إلى تجربة الحياة في مجتمعات سياسية حرة، وإلى بنى سياسية، وقوى معارضة منظمة بسبب خضوع المجتمعات لقمع طويل الأجل، والأنظمة الديكتاتورية لا ترى في المشهد السياسي إلا نفسها أو ظلها وصداها، لذلك فإن التحولات عملية سوف لن تكون سهلة، ولن تخلو من التعقيد. ودون ريب فإن هذه أسئلة بالغة الأهمية، بل يتوقف عليها مصير تحولات التي طالما أنتظرها العقل العربي ليخاطب الجماهير من أجل تشيد دول حديثة، ولكن ولكي لا نصاب بمفاجئات صغيرة أو كبيرة، علينا أن نوطد العزم أننا نخوض في واحدة من أهم مفاصل التاريخ السياسي العربي الحديث، فسوف تكون هناك إخفاقات لابد منها، كما لابد من النجاح في تجربتنا الجديدة.
وبادئ ذي بدء، لابد من إيقاف تسلط الأجهزة الأمنية، وإنهاء حالات القمع، والتحقق من إقامة سيادة تامة للقانون والدستور، وأن لا تكون الدولة حكراً لجماعة أو فئة، وضرورة والمواطنون سواسية أمام الدولة. وأن يشعر كل مواطن أنه يماثل غيره تماماً، ولابد من الاتفاق الجماعي أو شبه الجماعي على ثوابت نهائية، كما على الجهات الوالجة في عمليات التحولات، أن تدرك أن ليس من الحكمة طرح كامل فقرات المشروع الذي في تصورها، إذ ليس في وارد العملية السياسية أن يحقق الجميع أهدافهم السياسية، التاكتيكية منها والاستراتيجية، بل ما يستحق التركيز عليه هو الثوابت التي هناك إجماع أو شبه إجماع عليها:
الوضوح التام للهوية القومية للبلاد.
تأكيد اللغة الوطنية الرئيسية.
التأكيد على الوحدة الوطنية.
تأكيد أن الدين هو جزء مهم من ثقافة المجتمع ويصلح أن يكون ملهم القوانين.
التأكيد على حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
التأكيد على حرمة أموال المواطنين، وحقوقهم في العمل والتعليم والسكن والصحة.
كما لا بد من مرحلة ابتدائية هي هامة للاستقرار، ضرورية كي يترسخ لدى الجماهير الوعي بالديمقراطية، وإن الثورة عبر الشارع لإسقاط الديكتاتوريات، سيعقبه ديمقراطية صناديق الانتخاب، ولابد من التوصل إلى ثقافة الإقرار بالهزيمة، وتهنئة الفائز، ولا ينبغي للمنتصر عبر صناديق الانتخابات، أن يعتبر أن نصره أزلي. وبتقديري سنحتاج لوقت غير قصير لبلوغ هذه النتائج، وهي دعوة للجميع أن لا يستعجلوا ثمار التحولات.
الديمقراطية، أو لنسمها ما نشاء من مصطلحات مشتقة من الفكر السياسي العربي / الإسلامي، سيكون ما يمهد لها الطريق، من طرح كثيف لأفكار تنطوي على التعايش بين القوى الرئيسية القابلة بالثوابت، وضرورة التنازل الطوعي لإرادة المجموع، والإدراك أن عكس ذلك هو ما سيقذف الحركة السياسية / الاجتماعية في المجهول، أو القبول بديكتاتورية طغيانية، تلغي دور الجميع، ليتسيد الموقف، قائد أو طغمة عسكرية، يتوصل بأساليب التكتل والتآمر، لا تتوانى عن استخدام العوامل المهددة للوطن والأمة المتمثلة بالطائفية والقبلية والمناطقية لبلوغ الهدف، في سياق من أساليب فردية في فرض الإرادة على العملية السياسية الشامل في البلاد.
الربيع العربي يفتح للتطور آفاقاً كانت مغلقة، أو يشوبها الهواجس، المستقبل هو مسؤولية الجميع أن يمضوا به إلى الأمام، لإنجاح التجربة، النجاحات الأولى لا تعني عدم وجود المصاعب، أو الإخفاقات ولا تعني عدم نشوءها مستقبلاً، وكل عمل سياسي ينطوي أساساً على جهات تتفق معه، وأخرى تخالفه، ولكن لنحسن التصرف في حالة الموافقة، أو المخالفة، من أجل صفحات مشرقة نريد أن نصل إليها.
فلتتناهض كل القوى المتطلعة للأمام، لتشييد دولاً ومجتمعات مؤسسة على ثوابتنا الوطنية والقومية والثقافية، وعلى هدى من تراث وتاريخ عريق، ليعمل كل من بوسعه العمل، على تحديث مجتمعاتنا، لتأخذ أقطارنا وأمتنا مكانتها بين الأمم والقضاء على آفة التخلف وجذورها، من أجل أن ينهض الإنسان العربي حراً كريماً، واعياً لحقوقه وواجباته.