إلى علماء سوريا
د
. نور الدين صلاحفي الوقت الذي كان يمارس سيادة الرئيس (الفهلوة) على المشايخ في المائدة الرمضانية ويعطيهم دروساً في الأخلاق ويمارس الوعظ على من أمضوا حياتهم في الوعظ وكما يقولون في المثل (كالمبضع تمره إلى هجر) ويمزج ذلك بالإهانات والتنديد والتهديد المبطن ويلقنهم دروساً في الوطنية ويحدد لهم البوصلة مستخدماً في ذلك مزيجاً من (الرغوة اللفظية) وتزييف الحقائق والتبرير السمج والخداع الوقح وكأنه يستخف بعقول الحاضرين وهم من المفترض أن يكونوا من العلماء صفوة الأمة، ويستخف بمن وراءهم من عموم الشعب بكل أطيافه ليصل إلى لحظة الانهيار السياسي في حديثه ليخرج عن ضوابط السياسة واللباقة ليحدثنا هكذا بأن الغرب يكرهنا وهو حاقد علينا ويستشهد بأنه قد عاش بينهم في بريطانيا ويعلم ذلك جيداً، ولن أناقش هذا القول بما يحمله من انتهازية سياسية وتناقض هو أقرّ به على نفسه في نفس اللقاء حين قال إن التعميم في الحكم لا يخلو من ظلم وهو مجاف للحقيقة، وهكذا نلاحظ أن هؤلاء كفرعون حين أدركه الغرق قال آمنت، فهم يصبحون حماة الإسلام ورافعي لوائه ويلبسون مسوحه ويصبح سقوطهم سقوط الإسلام كما سوَق البوطي لذلك، ولا أنسى الاستدعاءات التاريخية كما سمعنا القذافي يحدثنا عن الحرب الصليبية بينما كانت سجونه تمارس ما لم تمارسه محاكم التفتيش في أعتى عصورها، يحدثنا سيادة الرئيس عن الأخلاق ولست بحاجة لأحدثكم عن الممارسات الأخلاقية ومفرداتها لهذا النظام والتي يعرفها الشارع السوري وتفيَأ ظلالها عقوداً من الزمن فذلك شرح يطول، ولست هنا في مقام تفنيد ما جاء في لقاء سيادة الرئيس فلذلك موضع آخر، لكن أريد أن أقول إنه في نفس الوقت الذي كان سيادته يحدث المشايخ عن الأخلاق والممارسات الأخلاقية ودور العلماء في غرس الأخلاق ويحدثهم بأنه حامي الإسلام والمسلمين ويبرر دك المآذن وقصف المساجد وإهانة المصاحف وإذلال المشايخ وإكراه الناس على تأليهه كانت قواته الأمنية تقتحم جامع الرفاعي في وسط دمشق في ليلة القدر التي أرادها المولى عز وجل سلاماً إلى مطلع الفجر ويعتدون على القائمين الراكعين الساجدين ويصل بهم الأمر إلى الاعتداء على خطيب المسجد الشيخ أسامة الرفاعي ويقتادون ابنه (معتز) وبعض المصلين ويبعثرون كل شيء في المسجد ويعيثون فساداً حتى استحى بعضهم وكان يريد أن يكتب لوحة يعلقها في المسجد (التتار والمغول مروا من هنا) ثم بعد ذلك يغلق المسجد فلا تراويح ولا قيام ولا صلاة ولا عيد، ثم تأتي الشبيحة الإعلامية قناة الدنيا (الدنيا) إلى الشيخ في مشفى (الأندلس) لتجعل منه شاهد زور على نفسه وأهله ومحبيه ليقول إن ملثمين قد اعتدوا عليه فما كان من الشيخ إلا أن أبى وصرفهم وامتنع عن الحديث معهم، وكان لهذا أثره السيء في العالم الإسلامي فكتبت رسائل وبيانات التنديد على لسان علماء العالم الإسلامي ومنظماته وكذلك رسائل التضامن مع الشيخ، وأنا وإن كنت أخاطب علماء سوريا وهم يعلمون فداحة الخطب وأبعاد العدوان، فالشيخ أسامة من وجهاء علماء سوريا ولا أقول دمشق فحسب، وهو سليل العالم الرباني الشيخ عبدالكريم الرفاعي الذي يشهد له الجميع بالعلم والحكمة والدعوة ويحظى بمحبة الجميع واحترامهم وتقديرهم على اختلاف التوجهات الفكرية والدينية، ولمن لا يعرف مسجد الرفاعي فهو امتداد للعمل الدعوي الذي بدأه الشيخ عبدالكريم الرفاعي في مسجد زيد بن ثابت الأنصاري الذي يعرف القاصي والداني لا سيما أهل دمشق أثر هذا العمل الدعوي في تهذيب وتثقيف الناس، وهنا لست بصدد الحديث عن هذا العمل الدعوي وآثاره الجليلة ولكن أقول ما يلي :
أولاً : يعلم علماء سوريا قبل غيرهم حقيقة ما أقول ولذا هم أدرى وأخبر بما يعنيه هذا العدوان السافر المبيت على هذا المسجد وشيخه وطلابه ومرتاديه ومن قبل قُتل أحد طلابه وجُرح آخرون ولا يزال كثير منهم في السجون والمعتقلات
ثانياً : ويعلم المشايخ جيداً أن هذه رسالة موجهة لهم جميعاً مفادها أنه لا خطوط حمراء ولا حصانة لأحد، ولا مكانة ولا قداسة ولا حرمة لموقع ولا لوقت بأي اعتبار من الاعتبارات فلا لرمضان ولا لليلة قدر ولا لمسجد أو صلاة أي قيمة أو اعتبار، وبالتالي سكوت العلماء عما حدث تشجيع وتسهيل لما سيحدث لهم هم في المستقبل
ثالثاً : وهذا الاعتذار المستخف بعقول الحاضرين عمن دكوا المآذن وألّهوا القائد، ليقول للمشايخ أن هؤلاء شرذمة قليلون وتلك الحوادث فردية، ولن يجدي معهم إلا الحكمة والموعظة الحسنة، على حين المتظاهرين يقابلون بالرصاص وتكسر عظامهم وتسلخ جلودهم، وهذا ليس غريباً فقد تحدث أبوه ليلة العدوان على الحجاب والمحجبات بدمشق في الثمانينات من القرن المنصرم بتنفيذ المظليات وحماية سرايا الدفاع مخاطباً الشعب السوري إن هؤلاء غلطوا وهم أبناؤكم يجب أن تتحملوهم، بكل استخفاف واحتقار للأمة ومشاعرها
رابعاً : ولعل المراد من ذلك كله كسر نفسية الأمة وتهشيم إرادة المحتجين والمتظاهرين، فهم يعلمون مدى قداسة المساجد في نفوس الشعب السوري وكل ما يتعلق بالمعتقدات والمقدسات
خامساً : وعلى هذا فقد تلقى حاضرو المائدة الرمضانية أكبر تكريم لهم ونالوا (العيدية) من هذا الرئيس المراوغ الذي يقول ما لا يفعل ويظهر ما لا يبطن، وإني لأذكر في هذا المقام ما حصل على يد أبيه عام 1979م فقد اقتحم الأمن العسكري وداهم مساجد دمشق في ليلة واحدة فحطم أبوابها واعتقل روادها وأئمتها ولما اعترض المشايخ في اليوم التالي حملهم وزير الأوقاف (محمد الخطيب) إلى الرئيس ليشتكوا إليه مباشرة فأخذ الرئيس يحدثهم عن صيامه للنهار وقيامه للَيل وحفظه للقرآن ونصرته للإسلام وحبه للدين والمتدينين، مما حدا بأحد الحاضرين ولعله الشيخ عبدالرؤوف أبوطوق رحمه الله ليقص عليه قصة الصياد الذي يكسر أجنحة الطير بعد صيدها ويرميها في السلة وتذرف عيناه من شدة البرد فقال أحد الطيور لله در هذا الصياد ما أرحمه انظروا إلى دمع عينيه فقال الثاني لا تنظر إلى دمع عينيه ولكن انظر إلى صنع يديه، فالكلام شيء والفعل شيء آخر، وهذا نهج سياسي واضح انتهجه النظام في إدارة الأزمة على شتى المستويات
سادساً : يا سيادة وزير الأوقاف الدكتور محمد عبدالستار السيد أخاطبك بكونك المسؤول عن بيوت الله فما جوابك لرب العالمين عن المساجد التي دكت مآذنها وانتهكت حرماتها وأغلقت أبوابها وعطلت الشعائر فيها فلا أذان ولا صلاة واعتدي على مؤذنيها وأئمتها وخطبائها، أليس هؤلاء موظفين في وزارتك وأنت يجب أن تكون المدافع عنهم والحامي لهم !!!!!!!
وأنا أسجل موقفاً لأبيك الشيخ عبدالستار فقد استطاع أن يستصدر قراراً في عهده بعدم استدعاء أي خطيب للأمن إلا عن طريق وزارة الأوقاف ولا أنسى مأثرته العظيمة في مناهج وكتب وزارة الأوقاف التي عهدها إلى الغيورين والمؤتمنين الثقاة في العلوم الشرعية المختلفة ولقد أرد الله به خيراً إذ ترك الوزارة قبل الثمانينات، وها هو الأمن بأجهزته يرتع في عهدك كما يشاء ويعربد كما يريد، فيعزل الخطباء وتقتحم المساجد في كل المحافظات ويعتدى عليها وعلى المصلين، وأنت بدورك تضغط على الخطباء والأئمة ليقولوا ما لا يعتقدون وليحضروا ما لا يريدون حضوره كمائدة رمضان السيئة الصيت، ولا أنسى عقارات الأوقاف ومحاباة المجرمين والمتنفذين في تمليكها وتأجيرها لهم ............ إلخ ، وكنت أتمنى أن أخاطبك بصفتك المشيخية عندما كنت بالعمامة البيضاء واللحية الطويلة فما أدري لم نزعت العمامة وقصرت اللحية وهذا أمر يخصك
سابعاً : أن العالِم في مثل هذه الأزمات كما أثبتت الأحداث في كل البلاد التي حدثت فيها ثورات كمصر وتونس وليبيا وغيرها وما يحدث الآن في سوريا له أحد أربعة مواقف:
الأول : موقف المؤيد للنظام والمبرر للظلم والمفتي للسلطان، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان وعقوبتهم قبل حساب رب العالمين شهادة التاريخ وألسنة الخلق، وقد يكتب لهم الخزي في الدنيا كما رأينا اليوم على الفضائيات مفتي القذافي الذي كان يبرر القتل ويدافع عن الظلم والظالمين وقد تنصل من فتاويه السابقة وهي مسجلة مثبتة وتبرأ من نفسه، فكتب له خزي الدنيا ومزبلة التاريخ بانتظاره وما عند الله أشد وأبقى، وله نماذج كثيرة في سوريا لست بحاجة إلى ذكرهم وعلى هؤلاء أن يقفزوا من المركب الغارق قبل فوات الأوان وإلا فإن طلاؤهم وتلميعهم له لن يمنعه من الغرق والسقوط
الثاني : موقف العدل وذلك بقول كلمة الحق والانحياز للمظلوم ضد الظالم وعدم المداهنة للحاكم والسلطان، وعدم الرضوخ للترغيب أو الترهيب مع الثبات على هذا الموقف، وحسب هؤلاء تثبيت الأمة في المحن والشدائد ورضوان رب العالمين وشهادة التاريخ لهم وثناء الناس عليهم الذين هم شهداء الله في أرضه، فلم يكن عمر المختار أبرز علماء ليبيا علماً لكنه كان أبرزهم ذكراً وأثراً وموقفاً
الثالث : موقف المداراة وعنوانها الرئيسي الصمت ولكن ضابطها أن الضرورة قد تبيح الصمت عن الحق لكن لا تبرر النطق بالباطل والدفاع عنه، وإذا كان ثمَة ضرورة قصوى فتقدر بقدرها والله هو الشاهد والرقيب والحسيب، وفرق بين المداراة والمداهنة، وكما قال حذيفة بن أسيد (كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا در فيحلب) هذا إذا كانت فتنة وغالباً ما تكون في أولها وإقبالها فكيف إذا انجلت وتجلت وظهر الحق من الباطل وتميز العدوان والظلم والبغي، وبان من هو الضحية المعتدى عليه، وهذا أضعف الإيمان أي الصمت، لكن هؤلاء لن يكون لهم موقع الريادة والثقة في مستقبل هذه الأمة فهم أقرب إلى العامة ومواقف الرخص لا العزائم، وقد لا يقبل هذا الموقف من كبار العلماء الذين نالوا الشهرة وثناء الناس وثقتهم، فهؤلاء كما يرى الكثيرون أنه لا رخصة لهم
الرابع : الخروج والهجرة عندما يكون البقاء في الديار إثمه أكبر من نفعه وضرورته قد تفضي إلى ضرر فادح وضلال مبين، فيكون الخروج لهذا والله أعلم بالنيات ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ولكن هذا إذا خرج ينبغي أن يبين ذلك للناس وأن يقوم مقام الحق والعدل بعد خروجه ويفعل كما فعل اتحاد علماء سوريا فلقد قالوا كلمة الحق وأبرؤوا ذمتهم وهم مطالبون بالمزيد
إن كل واحد من العلماء يضع نفسه في المكان الذي سيراه الله ثم الناس بعد ذلك (فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ولا شك ولا ريب أن سنة التمحيص ماضية، وهنيئاً لمن كان شامة في جبين التاريخ وبئس من كان منافقاً متلونا انتهازياً فهو الخائن للقيم التي يدعو الناس إليها (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)
مركز الدراسات الاستراتيجية لدعم الثورة السورية