ديمقراطية "كرسي في الكلوب"

ديمقراطية "كرسي في الكلوب"!!

حسام مقلد *

[email protected]

عندما يراقب المرء المشهد المصري الحالي ويتأمله بدقة يتساءل في حسرة: هل هذه هي الحرية التي ننشدها حقا؟! أهذه هي الديمقراطية التي كنا نحلم بها؟! إننا نكاد لا نرى حوارا هادئا بين أي شخصين اثنين سواء أكانا يتناقشان في أمر خاص بينهما أو في شأن من شئون السياسة، فالصوت العالي هو الأصل في مناقشاتنا وحواراتنا المختلفة، والقاسم المشترك بيننا جميعا هو التوتر والانفعال والتحفز للاشتباك مع الآخر، والاستعداد المبدئي للاختلاف معه حول كل شيء وفي كل لحظة وعلى طول الخط، والرغبة في نسف أية محاولات للتوصل إلى قناعات مشتركة فيما بيننا فضلا عن التعاون في تنفيذها، والجميع يدعي  احتكار الحقيقة وامتلاك الصواب وحده، والسمة الغالبة علينا هي حوار الطرشان، فالكل يتكلم في نفس الوقت ولا أحد يسمع فضلا عن أن ينصت ويتدبر ما يقال ليحدد موقفه منه بحسب قربه أو بعده من مبادئه!!

والعجيب أن الكل في مصر الآن أصبح محللا سياسيا، وخبيرا استراتيجيا، ومتخصصا في الشئون السياسية والعسكرية، وباحثا في شئون الثورات العربية، وما يرافقها من آلام المخاض الديمقراطي المتعثر، وكلٌّ يزعم أن لديه أثارة من علم تخوِّله توقع ما إذا كانت ولادة هذه الديمقراطية أو تلك ستكون طبيعية أو قيصرية، ويدعي الجميع أن لديه رؤية دقيقة وخططا شاملة ومتكاملة لما سوف تحتاجه الدولة الديمقراطية الوليدة مستقبلا من عمليات إعادة هيكلة لمؤسساتها ومكوناتها المختلفة، ليس هذا وحسب بل كل فريق ينتحل لنفسه صفة الخبير العليم والأستاذ القدير والناصح الأمين، ويحاول فرض رؤيته على الآخرين فرضا على اعتبار أنهم مجرد أتباع أو تلاميذ ليس من حقهم الاختيار ولا يسعهم سوى الانقياد للجهابذة الفطاحل الذين يمتلكون ناصية الحقيقة!!

وهكذا وبهذا المنطق نرى أصحاب الدستور أولا ومن وراءهم من رجال الأعمال والفلول الفكرية والاقتصادية والثقافية للنظام السابق يستميتون في فرض رؤيتهم على الشعب المصري، والقفز على نتائج الاستفتاء وقهر إرادة غالبية المصريين وذبحها ذبحا؛ كل ذلك بدعوى أن الإخوان والسلفيين قادمون، وأنهم سيضعون دستورا للبلاد يمثل رؤيتهم ومصالحهم ويعكس أفكارهم وثقافتهم، وهم يعتبرون هذه الأوهام والهواجس التي في أذهانهم فقط حقائق مؤكدة وقطعية لا مجال للنقاش فيها!!

ومن ناحية أخرى نرى الأحزاب الليبرالية عاجزة عن تقديم أية تصورات متكاملة، ولا تطرح رؤى حقيقية للنهوض بمصر بعد هذه الثورة الشعبية المباركة، وكل ما يفعلونه اجترار الأفكار المستهلكة التي صدعونا بها طوال العقود الماضية، ويعيدون إنتاج نفس النظريات القديمة المهترئة التي لم تغنِ شيئا ولم تسهم في إبداع أية حلول عملية تنهض بمصر علميا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا!!

وأعجب من العجب أن يخرج علينا كل يوم أدعياء جدد يزعمون أنهم المفجرون الحقيقيون للثورة، ومن ثمَّ يمطروننا بوابل من المواعظ في الوطنية وأهمية القوانين فوق الدستورية والدستور أولا، ويحقنوننا بمزيد من الهواجس والمخاوف، ثم يدعوننا لمليونية جديدة في التحرير تحت مسميات براقة مثل: مليونية استكمال مطالب الثورة، مليونية تقرير المصير، مليونية تصحيح المسار...، وتزداد الحالة ضبابية ويزداد الوضع تأزما حينما يشترك في ذلك بعض مسئولي الدولة الحاليين كنائب رئيس الوزراء الدكتور يحيى الجمل الذي نذر تسخير نفسه وقواه وماله ومنصبه وعقله وأفكاره وتصريحاته لتخريب المسار الديمقراطي الذي تحدد بموجب الإعلان الدستوري الذي أعقب أول استفتاء حر عرفه الشعب المصري في العقود الأخيرة.

وفي ظل هذا التشتت والتمزق والتراشق والتنازع بين القوى السياسية المختلفة بدأ الخوف من المستقبل يسكن رجل الشارع العادي الذي فارقته ـ أو كادت ـ مشاعر الزهو والفخر والابتهاج بالانجاز التاريخي الذي حققه بإسقاط النظام السابق الذي طغى وتجبر وأظهر في الأرض الفساد ونشر ثقافة الإفساد وحمى الاستبداد، وكل مصري الآن يضع يده على قلبه تخوفا من الأيام والليالي القادمة الحبلى بالأحداث الجسام، نسأل الله أن يحمي مصر وأهلها من مكر اللئام وخبث طويتهم.

ويغذي حالة الهلع التي بدأت تجتاح العامة في مصر ما رآه الناس من فوضى واضطرابات طوال الشهور والأسابيع الماضية، فكل من لا يعجبه أي قرار يذهب فورا للاعتراض عليه بطريقة بعيدة كل البعد عن الديمقراطية، وكل من كان له مطالب مشروعة أو غير مشروعة لا يعبر عنها بأسلوب ديمقراطي سليم بل يسرع إلى لي ذراع الدولة وكسر حاجز هيبتها والتطاول عليها، واسألوا ماسبيرو عما تشهده كل يوم، واسألوا محطات القطار والسكك الحديدية والطرق التي تم قطعها، واسألوا الوزارات والمصانع والشركات التي تعطل فيها دولاب العمل لساعات وأيام وبعضها لأسابيع وشهور، كل هذا يحدث باسم الديمقراطية والحرية!!!

وإذا كانت هذه السلبيات متوقعة لاسيما في هذه الفترة المبكرة من عمر ثورتنا الشعبية المجيدة لكن  السؤال المهم الذي ينبغي أن نبحث له عن إجابة عاجلة وفورية هو متى تنتهي هذه الحالة؟ وإذا كان عامة الناس غير مدربين على الديمقراطية بعد فماذا عن السياسيين المحنكين المخضرمين الذين يضربون بعرض الحائط كل الأعراف الديمقراطية ويستكثرون على خصومهم مجرد التعبير عن الرأي، وهم عندهم دائما مدانون سواء بالحق أو بالباطل؟!

فالإخوان على سبيل المثال لو دَعَوْا إلى تحالف واسع بين القوى والأحزاب لإنجاز أهداف الثورة بشكل توافقي يشارك فيه الجميع اتُّهِموا برغبتهم في الالتفاف على إرادة الجماهير والسعي لحرمانها من حرية الاختيار والتعبير عن الرأي، وإن توقفوا وكفوا عن هذه الدعوة اتُّهِموا بالغرور والاستعلاء على القوى السياسية الأخرى!! وإن مدوا أيديهم للتعاون مع السلفيين اتُّهِموا بإهمال وتهميش القوى الليبرالية، وإن أبدوا مرونة في المواقف المختلفة اتُّهِموا بالتحالف مع المجلس العسكري لتمرير صفقة معينة ستحدد شكل الحكم في مصر مستقبلا!! وقصتهم أشبه بقصة جحا وابنه وحماره ... فلا شيء يفعلونه البتة إلا ويعترض عليه الآخرون ويسعون لإفشاله والنيل منه ثم يشمتون فيهم وينعون عليهم فشلهم، تم يتساءلون كيف يحلم هؤلاء الدراويش بإدارة دولة بحجم مصر؟! وما هي قدراتهم التي تؤهلهم لذلك؟!

وأغلب الحوارات التي تشارك فيها مختلف القوى غير ذي جدوى في معظم الأحيان؛ لأنها لا تنطلق غالبا من قاعدة حسن النية، ولا تقوم على أسس ديمقراطية تسعى للتعاون من أجل تحقيق أكبر قدر من الأهداف المشتركة، وبالتالي تجهض أية بوادر إيجابية قبل أن ترى النور، وتظل الحال هكذا دون تحقيق أية نتائج ملموسة على أرض الواقع تقنع جماهير الشعب المصري بأن هناك أملا جديا في التغيير... ولسان حال الجميع يقول لا ديمقراطية ولا يحزنون، ويضرب "كرسي في الكلوب" لتنتهي الليلة ... ونتمنى ألا تكون نهايتها مأساوية لا قدر الله.

                

 * كاتب إسلامي مصري