لماذا حلب

إن المتابع للأحداث السورية الراهنة يلحظ تركيز الإعلام بشكل لافت على كل صغيرة وكبيرة تجري في حلب، بل على كلّ نفَس يتنفّسه أهلوها، فقد تتجاهل قنوات الإعلام عشرات الشهداء في مكان ما، كما تهمل مظاهراتٍ بعشرات الألوف، لتنتقل إلى حلب وترصدَ جرحَ أحد المتظاهرين بمظاهرة لا يبلغ  عدد أفرادها المئات !! فلماذا حلب ؟

تقع محافظة حلب في أقصى الشمال السوري على الحدود التركية، وهي عبارة عن هضبة ترتفع عمّا حولها ..هذا الارتفاع أسبغ عليها شموخاً وعلى أهليها علوّاً.. ترى هذا في اعتداد أهليها بأنفسهم ومحبّتهم العجيبة لمدينتهم.. أمّا هواها، فآهٍ من هواها ! في فصل الصيف يلامس الروحَ فينزل برداً وسلاماً .. ولن تتعرفه ما لم تبتْ ليلةً خلف نافذةٍ غربيّة ..

حلب مدينة تجارية، أعطاها وقوعها على طريق الحرير وموقعها الجغرافي مكانة تجارية مرموقة، فهي البوابة البريّة للعرب والأفارقة في طريقهم إلى آسيا الوسطى وأوربة الشرقية، هذا الموقع طبع الحلبيَّ على التجارة، وبراعته فيها موضع اتفاق، ومما يُروى في هذا الجانب أن الحلبيّ عندما كان يدخل أسواق اسطنبول في القرن الثامن عشر كانوا يقولون: ها هو اليابانيّ يدخل السوق، والتجارة ولّدت لدى الحلبيّ ثراءً ..

حلب مدينة صناعية، والحلبيّ صناعيّ بامتياز، اكتسبَ ذلك من كثرة أسفاره التجارية، ومن معايشة الأرمن – المَهَرَة -  الذين استوطنوا حلب بعد تهجيرهم من تركيا، فأخذ عنهم وتفوّقَ عليهمْ، يستطيعون في حلب أن يستنسخوا للسيارة أو لأيٍّ من أنواع المحرّكات توءماً قبل أن ينزل السوق، وهذا ثراءٌ آخر.

حلب مدينة زراعية، أنا ابن أريافها، أرضها من أخصب بقاع الأرض، سهولها تنبسط كانبساط الرّاح،  إنها بساط أخضر يجود بما لذّ وطاب، وأطوارها تينٌ وزيتون، وسفوحها أعنابٌ ورمّان، وأنا لا أعرف شيئاً لا يُزرع في حلب، و لا أعرفُ شبراً فيها لا يصلحُ للزراعة، كما يجتاز سهولها أكثر من نهر، وعلى كل نهر أكثر من سدّ .. وهذا ثراء أيضاً ..

حلب مدينةُ العلم والتاريخ والأدب، من أبوابها السبعة تغلغلت ثقافات أمم شتّى، فامتزجت بترابها، وشربت من مشرقيّتها الراسخة، فأينعت ثماراً طيبة، وأنتَ أنّى تحركتَ فيها شممْتَ عبق المتنبي وأبي فراس الحمدانيّ وبينهما سيف الدولة على أريكته القشيبة في أحد قصور قلعتها السامقة، يعارضان قصيدةً للبُحتريّ، وفي البهو عمر أبو ريشة والأميريّ والكواكبيّ ينتظرون الإذن للمثول بين يديّ أمير الدولة الحمْدانية، وعلى أنغام الماء الذي يتراقص من نافورة ٍ تتوسّطُ الجلسة تطربُ نفسكَ بسماع القدود الحلبية المُخضّبة ببعض الموشّحات الأندلسية بصوت صباح فخري، ليتوقف بعد ذلك وينشد بزهوٍ :

                     كلّما رحبتْ بنا الروضُ قلنا                  حلب قصدُنا وأنتِ السبيلُ

 وإذا خرجتَ من باب القلعة وجدتَ نفسكَ على باب مسجدٍ قريبٍ، تشدّكَ إلى نوافذهِ أصوات لها دويٌّ كدويّ النحل، تدخله فإذا هي حلقات مصفوفة ومتلاصقة، جلس على رأس إحداها جبل من جبال العلم والورع، إنه الشيخ الجليل مصطفى الزرقا، وإلى الأخرى العالم الربّانيّ عبدالله سراج الدين، وإلى باقي الحلقات جلس شيخ المُحدّثين عبدالفتّاح أبو غدّة وشيخ المُفسّرين محمد علي الصّابوني، وحلقات بعيدة رأيتٌ على رأسها الشيخَ النبهانيّ و الشيخين العِتر والشيخَ أديب، وغيرَهم الكثيرين من أعلام النور والهُدى، والطبّاخُ راح يدقق ويوثقُ، فكم تتلمذ على أيادي هؤلاء؟ وكم تتلمذ على أيادي تلامذتهم؟ وكم وكم وكم ؟ وهذا ثراء ما بعده ثراء ..

يربو عدد سكان حلب عن خمسة ملايين نسمة، جلّهم من المسلمين السُّنّة، قلة مسيحية منسجمة مع الغالب المسلم ومتجانسة تجانساً أخّاذاًَ، وقريتان فقط للشيعة،كأنهما غير موجودتين على الخريطة، وعدد السكان ونوعيّته ثراء وإثراء لأنواع الثراءات السابقة  ..

هذه المُعطيات ساهمت في بناء حضارة تلاقحت مع حضارات أخرى في ربوع تلك المدينة، وإذا كانت الحضارة تُعرّف على أنها ( حضورٌ مادّيّ وإنسانيّ ودينيّ في بقعة ما)، فإن لحلبَ حضوراً وأيّ حضور!! .. هذا الحضور اصطدم بنظام آل الأسد منذ قيامه، فحضور أهل حلب التاريخيّ والدينيّ والإنسانيّ لا يتفق وطريقة حضور الطغمة الحاكمة، ثم لا يعجبهم حضورُ غيرهم، إذاً هناك اختلاف مبدئيّ يبدأ من النواة لينتهي بالقشرة، وهناك عِداء يتبارى فيه كلّ من الطرفين للآخر، بل هناك حقد دفين دفين، فكلاهما لا يصلح للآخر، وهي الحقيقة التي لا أراهن على ذكاء الحكومة في معرفتها القديمة والعميقة، بدأ هذا العِداء المُبطّن منذ السبعينيات، فأسرفت الحكومة في الإهمال المقصود لمحافظة حلب، شمل ذلك كل المرافق الخدمية والحياتية، كما راحت تضيّق على علمائها الأشراف، و للأشراف أتباعٌ ومريدون لا يطيقون التضييق ولا التنكيل،  فما كان من أهلها إلا أن أوقدوا أول ثورة للتغيير و التحرير والتطهير، إنها الثورة الأولى في تاريخ سوريا التي نادت بإسقاط آل السدّ، كان لحلب شرفُ القيام بها، لكن أنياب النظام كانت أكثر صلابة، ففتك بأهلها شرّ فتكة، وتوّج جهوده لإخماد لهيب تلك الثورة  بمجازر ختم بها حوارهما في فترة السبعينيات، ومن ثم اعتقالات طالت الآلاف شملت القرى والمدن، والمعتقلون ما زالوا  معتقلين منذ ما يزيد على أربعين سنة، وأعداداً أخرى قد أُقصيت عن المدينة نهائياً، أما القوانين التي أعقبتْ تلك الثورة فكانت حجرَ عثرة في وجه التجّار والصناعيين، كل هذا لتقويض الإشعاع السنّيّ في حلب، ولأجل هذا أيضاً منعوا كل أنواع العلوم الإسلامية إلا ما كان تحت إشراف الحكومة ( ومناهجه عقيمة )، فهل يُعقل أنّ مدينة كحلب لا يُوجد فيها كلية واحدة للشريعة؟؟!! كما كبّلوا التعليم العام بعراقيل لسْنا بصدد حصرها، وبالمقابل أزكوا الطائفية والقبلية وربطوا كبارها ومشايخها بهم، وسلّطوا الشُّذاذَ وحُثالة العشائر على رقاب البشر، وأمدّوهم بالمال والسلاح، وأطلقوا فيها اليد الأمنية والبعثية، تعبثُ كما شاءتْ ولا رقيبٌ ولا حسيب إلا الرقيبُ الحسيب! فصار الناسُ تُبّعاً، لكنّ الحقدَ في النفوس دفينٌ دفين..

وعندما حطّت رياح الثورة الحالية في سوريا كان لحلب أيضاً معاملتها الخاصة من قبل الحكومة، وتمثلتْ هذه المعاملة الخاصة من جانبين : الجانب الأول : أنهم وضعوا ظلاً لكلّ رجل، وشددّوا القبضة على أهلها وكثفوا من التواجد الأمنيّ والعسكريّ والاستخباراتيّ بأنواعه، فهم يعرفون ماذا زرعوا فيها، وبالتالي يعرفون ماذا سيحصدون، بل ويدركون تمام الإدراك أنه إذا انفجرت حلب فإنها لن تبقي ولن تذر، أما الجانب الثاني من معاملتهم لأهالي حلب، فإنه يتمثل في الدلال الكبير الذي خصّت به الحكومةُ مدينةَ حلب، فكان لمعتقليها معاملة خاصة، وفي المطارات وعلى الطرق العامة  وعلى الحدود وحواجز التفتيش صار الحلبيّ مقدَّماً على غيره وكأنه من أتباع السلطة، كما سمحوا لأهل حلب بالبناء المخالف لإشغالهم عن الواقع، وبالتالي الحولُ بينهم وبين رياح التغيير العاتية، كانت الحكومة مستعدة للقيام بأي شيء يحول دون قيام أهل حلب وانضمامهم إلى ركب الثورة .

لكني أرى الحكومة قد خابت وخاب مسعاها، فالحمْدانيون قادمون، أرى أن الفتيلَ قد اشتعل، وأرى المرجل يغلي، والصدور تستشيط كأنها انطوت على براكين، وأرى الشهباء التي أشعلت الجولة الأولى منذ ثلاثين سنة، أراها تحسم الجولة الثانية، يومٌ بيوم، وسنٌّ برأس، وعين بجسد، وما على الله بعزيز ..