ذكرى هزيمة حزيران ورائحة الدم
محمد فاروق الإمام
[email protected]
من المفارقات الأليمة ونحن نستقبل الذكرى الرابعة والأربعين
لهزيمة حزيران عام 1967 ودبابات الجيش السوري العقائدي ومجنزراته ومدرعاته وناقلات
جنده تستبيح المدن السورية طولاً وعرضاً محاصرة وقصفاً وتدميراً لدور العبادة
والممتلكات العامة والخاصة وقتل المواطنين الآمنين والمتظاهرين السلميين في مشهد
تكسوه رائحة الدم المتفجر من أجساد الأطفال والحرائر والمقعدين والشيوخ والرجال
والفتيان في العديد من المدن السورية المستباحة، تزامناً مع احتفال الصهاينة بنصرهم
المبين على جيشنا العقائدي الذي قاد حرب حزيران وسلم الجولان دون دفع أو مدافعة
ببيان ممهور بخاتم وزير الدفاع اللواء حافظ الأسد يوم العاشر من حزيران، ويحمل
الرقم (66) أعلن فيه عن سقوط القنيطرة، قبل أن تطأها أقدام الصهاينة بأكثر من 17
ساعة، وأمر في بيان آخر جنود وضباط القوات المسلحة السورية بالانسحاب الكيفي من أرض
المعركة، وترك أسلحة الجيش الثقيلة على أرضها بكل جاهزيتها لتقع غنيمة سهلة بيد
العدو.
أقول مرت هذه الذكرى الأليمة والجيش السوري مديراً ظهره للعدو،
وقد تاهت أسلحته الثقيلة في أزقة وميادين وساحات وأحياء المدن والقرى السورية تقمع
الجماهير المطالبة بالحرية والكرامة، والجيش الصهيوني يجري مناوراته في جولاننا
المحتل، الذي كان عصياً عليهم منذ قيام كيانهم الغاصب في فلسطين عام 1948 حتى
تسليمه دون دفع أو مدافعة عام 1967، ومعروفاً لمناعته وكثرة حصونه ووعورة أرضه
بـ(خط ماجينو الشرق)، مستخدماً دبابات جيشنا المدمرة عام لتكون أهدافاً لرمايات
أسلحته ومختبراً لفاعليتها!!
ورغم هذه الهزيمة البشعة التي كللت جبين السوريين بالعار
والشنار فإن قادة حزب البعث المدنيين والعسكريين الذي قادوا هذه المعركة أبوا إلا
أن يتحفونا بنظرية، ما سبقهم إليها أحد قديماً أو حديثاً، نظرية تحويل الهزيمة
النكراء إلى نظرية (الانتصار العظيم) الذي حققه حزب البعث التقدمي على الصهاينة،
والذي أعلنوه من حمص بعد تركهم العاصمة دمشق لقدرها مفتوحة الأبواب، مكشوفة الصدر
والظهر والجوانب في مواجهة القوات الصهيونية، وقد اهتبل قادة حزب البعث ولصوصه
الفرصة، ونهبوا ما استطاعوا نهبه من أموال البنك المركزي في دمشق، بحجة أن نقل
احتياطي الذهب واجب (قومي) لئلا يقع بيد العدو فتفلس الدولة، محملين قوافل السيارات
الحكومية والعسكرية ما في بيوتهم من ممتلكات منهوبة خف وزنها وغلا ثمنها، وللتاريخ
نعيد على أذهان السوريين قبل العرب المبررات التي ساقها هؤلاء القادة لتكريس
(الانتصار العظيم)، الذي ادعوه، في أذهان الناس وعقولهم وظلوا لسنوات طويلة يرددونه
على أسماع أربعة أجيال من السوريين، حتى توهم البعض أنه كان هناك انتصار في حزيران
حققه حزب البعث وجيشه العقائدي:
(إن المعركة لا تقاس نتائجها بعدد الكيلو مترات التي خسرناها..
بل بأهدافها وما استطاعت أن تحقق. فقد كان هدف إسرائيل، ليس احتلال بضعة كيلو مترات
من سورية، بل إسقاط الحكم التقدمي فيها، وهذا ما لم يتم لها، ولذا يجب أن نعتبر
أنفسنا الرابحين في هذه المعركة).. من أقوال قائد الجيش قبل الحرب وبعدها اللواء
أحمد سويداني.
(ليس مهماً أن يحتل العدو دمشق، أو حتى حمص وحلب.. فهذه جميعاً
أراض يمكن تعويضها، وأبنية يمكن إعادتها، أما إذا قضي على حزب البعث، فكيف يمكن
تعويضه وهو أمل الأمة العربية؟).. (... لا تنسوا أن الهدف الأول من الهجوم
الإسرائيلي، هو إسقاط الحكم التقدمي في سورية، وكل من يطالب بتبديل حزب البعث، عميل
لإسرائيل...). من أقوال وزير خارجية سوريا قبل الحرب وبعدها الدكتور إبراهيم ماخوس.
(الحمد لله لقد استطاعت قواتنا الباسلة حماية مكاسب الثورة أمام
الزحف الإسرائيلي! الحمد لله الذي أفسد خطة العدو وقضى على أهدافه الجهنمية!.. إن
إسرائيل لن تحقق نصراً يذكر، ما دام حكام دمشق بخير!!). معلق في إذاعة دمشق بعد
الإعلان عن وقف النار.
بنفس هذه النظرية (المشقلبة) يريد الحزب القائد للدولة والمجتمع
بموجب المادة الثامنة من الدستور السوري الذي وضعه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد
ومافيا السلطة الحاكمة، تسويق قمعه الدموي للجماهير السورية المنتفضة في المدن
السورية سلمياً.. المطالبين بالحرية والكرامة والديمقراطية، حيث يتعامل معهم
كمتآمرين وخونة وعملاء ومندسين وإرهابيين وسلفيين ومتطرفين ومتسللين وعصابات
ومخربين، ليبرر قمعه وهمجيته الوحشية لهم، ظناً منه – متوهماً– أنه بقمعه الدموي
هذا الذي طال الطفل والمرأة والشيخ والناس أجمعين سيوقف تصاعد الثورة كيفاً وكماً،
هو رهان خاسر لن يحصد منه إلا الهباء والهزيمة والسقوط، وقد اتخذت الجماهير قرارها
الفصل في مواصلة الثورة على هذا النظام السادي حتى إسقاطه، وهم يعرفون مسبقاً الثمن
الغالي الذي عليهم أن يدفعوه لانتزاع حريتهم المصادرة وكرامتهم المداسة منذ ما يقرب
من خمسين عاماً.