تركيا ونظرية المؤامرة وحتمية الوصاية

محمد فاروق الإمام

محمد فاروق الإمام

[email protected]

تابعت البرنامج الحواري الذي أجراه الصحافي التركي المخضرم حسني محلي على القناة التركية مع ضيف البرنامج الدكتور سمير صالحة أستاذ العلاقات الدولية في جامعة كوجا التركية يوم السبت 28 أيار الحالي والذي كان تحت عنوان (تركيا والانتفاضات العربية)، ولفت انتباهي إصرار الصحافي حسني محلي على أن هناك مؤامرة على سورية وأن بشار الأسد هو الوحيد الذي يمكن له أن يقود عملية الإصلاح في سورية وهو الوحيد المؤهل لها، وكان ضيفه الدكتور سمير صالحة يحاول – عبثاً – إقناع محلي بأن الثورة في سورية هدفها إسقاط النظام وتغيير بنية النظام الديكتاتوري الاستبدادي واقتلاعه من جذوره لأنه نظام غير شرعي استأثر بالحكم والثروة وأفسد المجتمع على مدى أربعين سنة وجر على سورية الدمار والخراب والتخلف، وأن النظام يحكم سورية ونحن في القرن الواحد والعشرين بعقلية ستينيات القرن الماضي، وبنى النظام قاعدته على مجموعة من الأجهزة الأمنية السادية، تفننت في قمع المتظاهرين واستخدمت أساليب وأدوات مرفوضة لدى المجتمع الإنساني الدولي، وبالتالي فإن فاقد الشيء لا يعطيه.

حسني محلي الذي كان دائماً يصر – كعادة المذيعين السوريين في القنوات الرسمية على فرض رأيهم على ضيفهم المحاور – كان حسني يفعل الشيء ذاته ويصر على ضيفه أن ما يجري في سورية هو مؤامرة خارجية بشكل مباشر على سورية لأنها دولة ممانعة، وأن هذه المؤامرة تستهدف تركيا بشكل غير مباشر لأنها توجهت إلى دول المنطقة وأقامت معها أفضل العلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وكان في حواره مع ضيفه يشير دائماً إلى أن السيد رئيس الجمهورية السورية بشار الأسد هو الأجدر بقيادة عملية الإصلاح وأن الدعوة إلى إسقاطه أو رحيله هو مؤامرة وأن الشعب السوري هو ضحية هذه المؤامرة ولا يعي حقيقة مراميها وما يخطط له ولسورية، وأن هناك غرف سرية في العديد من المحطات الفضائية التي تدار بأيد خارجية للتحريض على سورية ونظامها، وكلما أراد ضيفه استبعاد نظرية المؤامرة رفض قبول ذلك، إلى درجة أنه كان يحاول استجرار الدكتور سمير صالحة إلى مناقشة مواضيع أخرى، ولكن صالحة كان لا يخرج عن القضية السورية، فوجه حسني محلي نقداً لا يليق بمثله للدكتور سمير حيث اتهمه قائلاً: كلما أريد أن نتحدث ونناقش موضوع آخر عدت بنا إلى سورية!!

إصرار حسني محلي على التركيز على وجود مؤامرة وراء الانتفاضة السورية تناغما مع ما يدعيه النظام السوري وأبواقه، والذي نسمعه على مدار الساعة قد مجّه السوريون وقرف العالم من سماعه، وقد أجمع السوريون وكل المراقبون والمهتمون بالشأن السوري على أن ما يحدث في سورية هو ثورة شعبية تريد التخلص من هذا النظام السادي الذي استأثر بالحكم والثروة لأكثر من أربعين عاماً، وأن ما تشهده المدن والقرى السورية من تظاهرات تطالب بالحرية والكرامة وإسقاط النظام، وهي تتعرض لأبشع عمليات القمع الدموي، التي أزهقت أرواح ما يزيد على 1200 مواطن وجرح أكثر من 3000 آخرين وفقدان ما يزيد عليهم، واعتقال أكثر من 11000 مواطن في نحو سبعة أسابيع من الانتفاضة، غير مبالية بهذا الثمن الذي تدفعه لقاء انتزاع الحرية والفوز بالكرامة.

السيد حسني محلي، الذي على ما يبدو لم يكن في برنامجه إعلامياً محايداً أو مهنياً منصفاً، كان يريد ليَّ عنق الحقيقة لغاية في نفس يعقوب، لا أعتقد أنه يمثل الرأي الرسمي التركي الذي سمعناه من وزير الخارجية الذي طالب بشار الأسد بإصلاح سريع شبهه بالصدمة الكهربائية لتجنيب سورية الانزلاق إلى نفق التدخل الدولي وآثاره وتداعياته التي لن تنجو منه كل دول المنطقة.

نحن في سورية نقدر عالياً المواقف التركية الشعبية التي سبقت بمراحل الموقف التركي الرسمي من الثورة في سورية، هذا الموقف الضبابي الذي لا زال يعتبر أن النظام في تركيبته الحالية قادر على إجراء عمليات الإصلاح وأن بشار الأسد هو المؤهل لقيادة عملية الإصلاح، وأن الشعب السوري لا يزال بحاجة إلى وصاية للانتقال من النظام الديكتاتوري الشمولي إلى النظام الديمقراطي التعددي وعلى مراحل متباعدة ليتمكن من قيادة نفسه بنفسه، وهذا يحتاج وقتاً يجب على الشعب السوري أن يعطيه للمسؤولين القائمين على الأمر حتى يتمكنوا من السير في عملية الإصلاح والتغيير.

هذه النظرة القاصرة التي يتعامل بها المسؤولين الأتراك مع الشعب السوري تجعلنا نذكرهم بالحقائق التالية:

لقد خبرت سورية التعددية الحزبية والشفافية والنزاهة في الانتخابات النيابية، واحترمت الأطياف السياسية السورية الرأي والرأي الآخر، وأقامت فيما بينها التحالفات التي ضمت اليسار واليمين والوسط، والإسلامي والشيوعي والليبرالي والعلماني في حالات عدة، وتداولت الانتقال السلمي للسلطة عقب كل انتخابات نيابية منذ بواكير إعلان استقلالها عام 1943 وحتى قبل جلاء الفرنسيين عن أراضيها، وكانت من أولى الديمقراطيات في العالم وأعرقها، في الوقت الذي كانت تركيا ومعظم دول العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية لا تزال ترزح إما تحت قهر حكومات استبدادية ديكتاتورية أو في ظل القهر الاستعماري، وأن مقولة أن الشعب السوري بحاجة إلى وصاية ليتلمس طريقه إلى الديمقراطية فهذا أمر مردود على من يدعيه، فالسوريون بما ميزهم الله من ذكاء خلاق ووعي وإبداع مؤهلين بفطرتهم التي فطرهم الله عليها، للتمتع بالحرية وفق نظام ديمقراطي حقيقي يكفل العيش السلمي المشترك لكل الفسيفساء الجميلة الرائعة لهوية المواطنة السورية القائمة على التساوي بالحقوق والواجبات والعدل والمساواة وإتاحة الفرص للجميع، وأن الشعب السوري قد ضاق زرعاً بحكامه والذين يتقمصون عباءة الوصاية عليه، يريد من الجميع مواقف نبيلة تقوم على القيم الحضارية والإنسانية تجاه ما يجري في بلدهم سورية، وكل ما يريدون من دعم يقدم لهم هو التوقف عن دعم النظام، ومعاملته كما يستحق عقاباً لما يرتكبه بحق شعبه من جرائم وسفك للدماء وإزهاق للأرواح وتعذيب وتمثيل بالأطفال ومن مقابر جماعية واعتقال، وحصار للمدن وقطع الماء والغذاء والدواء وحليب الأطفال والاتصالات عنها للتعتيم على ما يقترفه من جرائم وموبقات وسرقات وتخريب وتدمير، والشعب السوري كفيل بهذا النظام السادي وكفيل بإسقاطه وإنهاء أسطورته التي ستحفر في أذهان السوريين والعالم بقعة سوداء من تاريخ الإنسانية التي سترويها الأجيال بعد الأجيال، وهي تحكي فصول مأساة الشعب السوري وما تحمّله من تلك العصابة السادية المافاوية التي جثمت على صدره وكتمت أنفاسه لأكثر من أربعين سنة!!