مصر ودول الخليج وآفاق التعاون

مصر ودول الخليج وآفاق التعاون

حسام مقلد *

[email protected]

يخطئ من يتصور أن مصر ثورة 25يناير تتقارب مع أشقائها العرب في دول الخليج العربي طلباً لنجدة أموال النفط!! فهذه النظرة سطحية جدا ولا تتفهم التوجهات الجديدة لمصر بعد نجاح ثورتها المباركة، والواقع أن مصر الثورة تتجه بقوة لتدعيم علاقاتها  الإستراتيجية في عمقها الحيوي العربي والأفريقي والإسلامي؛ فهذا العمق هو السند الحقيقي لمصر ومصدر قوتها الذي لا ينضب، وما نراه الآن ما هو إلا بداية إيجابية وجيدة جدا بعد ما شهدته علاقات مصر مع معظم هذه الدول من تراجع، بل وربما تردٍّ وصل أحيانا إلى حد القطيعة خلال العقود الماضية، ولا بأس أن نؤكد ونكرر مرارا أن العلاقة بين مصر وأشقائها العرب ـ وبخاصة في دول الخليج العربي ـ ليست مجرد علاقات سياسية ودبلوماسية تفرضها المصالح المشتركة التي تربط بين الدول، وإنما هي علاقات راسخة متجذرة عبر الزمن يعمِّقُها الدين واللغة ووشائج القربى وصلة الرحم، وتؤكدها حقائق التاريخ والجغرافيا والثقافة المشتركة، ولا أحد يستطيع أبدا أن ينكر أن مصر حاضرة بقوة في عقل ووجدان وضمير كل عربي، ومن يشكك في ذلك فليراجع ما يكتب ويقال عن مصر وشعب مصر في جميع وسائل الإعلام العربية.

لكن ينبغي أن تبنى العلاقات بين مصر وأشقائها العرب بعد الثورة على أسس جديدة لتصبح أكثر جدوى ونفعا لمصر وأمتها العربية قاطبة، ولعل تجربة الاتحاد الأوربي تلهمنا الكثير في هذا المجال، فهذه الدول رغم ما كان بينها من عداوات تاريخية عميقة وراسخة لا يجهلها أصغر طالب في قسم التاريخ إلا أنها استطاعت الوصول إلى صيغة فعالة حققت لها التكامل والاتحاد فيما بينها حتى بلغت هذه الدرجة من القوة والنفوذ.

والحقيقة التي ينبغي أن يتعامل معها الجميع بهدوء ودون انفعال أن مصر هي الشقيقة الكبرى للعرب جميعا، وأقولها بكل تواضع ودون أدنى عُجْبٍ أو تباهي، لكن على مصر أن تدرك أن شقيقاتها العربيات قد كبرت وشبَّت عن الطوق وبلغت سن الرشد، وأصبح لكل منها الآن رصيده الزاخر من تراكم الخبرات الاقتصادية والعمرانية والدبلوماسية الكبيرة، ومن لا يصدق عليه فقط أن يدرس نجاحات التجربة الدبلوماسية القطرية خلال السنوات العشر الماضية، وأن يتأمل النهضة العمرانية في دولة الإمارات المتحدة، ويبحث التجربة الاقتصادية السعودية الناجحة التي أصبحت بسببها إحدى الدول العشرين صاحبة أكبر اقتصاديات في العالم، من حيث حجم الاقتصاد وقدرته التنافسية العالية، وإنجازاته الرائدة فيما يعرف بالتنمية المستدامة.

وعلى الضفة الأخرى من الخليج العربي تقع الجمهورية الإيرانية، ولا شك أن لها مطامع في المنطقة، ولعل احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث (جزر: أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى) دليل مادي على وجود هذه المطامع الإيرانية، ورغم التفهم التام لدواعي الريبة والحذر لدى دول الخليج العربي من إيران، إلا أن الجميع يدرك أن إيران تبقى مع هذا كله جارة للعرب؛ فهذه حقيقة لا يمكن أبدا تجاهلها، أجل هذه حقيقة جغرافية على أرض الواقع لا ريب فيها ولا مناص من قبولها والتسليم بها، وكذلك هناك حقيقة دينية وديموجرافية أخرى تقول إن نسبة الطائفة السنية في إيران لا تقل عن نحو40% من عدد السكان، كما أن وجود العرب الشيعة حقيقة ديموجرافية ثابتة هي الأخرى ولا يمكن أيضا الالتفاف عليها؛ إذ لا يمكن إنكار وجود الشيعة كأحد المكونات السكانية في كل دول الخليج العربي تقريبا، وكل هذه الحقائق الثابتة التي لا نزاع فيها تستلزم من الجميع أن يسعى لإيجاد أفضل وسائل للتفاهم والتعاون والتواصل الإنساني والعيش المشترك بين إيران والعرب جميعا.

ولا أفهم سر تخوف بعض الدول العربية من اتجاه مصر نحو إقامة علاقات طبيعية مع إيران، بل لعل هذا هو في الواقع صمام الأمان الحقيقي لحفظ أمن وسلام المنطقة، نعم الحكومة الإيرانية بارعة ـ بكل أسف ـ في إرسال الإشارات المتناقضة لجيرانها العرب، لكن رغم ذلك تبقى إيران جارة قوية ينبغي إقامة علاقات طبيعية جدا معها؛ حفاظا على أمن واستقرار وسلامة هذه المنطقة الحيوية بالغة الأهمية للعالم أجمع، وهذا ما هو حادث بالفعل بين دول الخليج العربي وإيران، فلِمَ يتخوف بعض العرب من تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية؟!! والمؤكد أن هذه العلاقات لن تكون خصما من العلاقات المصرية العربية ولن تأتي على حسابها أبدا، فكيف تتخلى مصر عن دور الشقيق الأكبر  الذي يجب عليه أن يحمي كل أشقائه ويقف دائما معهم...؟!!

وبعد الأحداث الأخيرة التي عصفت ولا تزال بالمنطقة العربية يجب التنبه جيدا إلى تعاظم المخاطر الحقيقية التي تحيق بمنطقة الخليج العربي من النواحي الدينية والطائفية؛ لأنها مخاطر شديدة الالتباس والتعقيد والتشابك، إضافة إلى الحقائق الجيوسياسية وطبيعة التركيبة السكانية في المنطقة، ولعل الأوضاع الراهنة تفرض على الجميع ضرورة البحث عن صيغة حضارية مستقبلية تحدد أطر وملامح التعاون بين العرب والإيرانيين، وأتصور أن المرحلة الجديدة تستلزم البدء بمراجعة وتقويم مجمل السياسات السابقة المتبعة في هذا الشأن؛ لاستخلاص الدروس والعبر المستفادة، ثم الشروع فورا في إرساء إستراتيجية واضحة ورؤية متكاملة تبادر إلى معالجة المشاكل العالقة بين العرب وإيران بكل صراحة ووضوح وشفافية، وتبحث عن أساليب جديدة وتدابير مبتكرة تتجاوز إخفاقات الماضي، وتتغلب على مخاوف الحاضر وشكوكه القوية المتبادلة، وتصحح الأخطاء التي اتسمت بها أغلب المواقف التاريخية السابقة!! إذ ليس من الحكمة في شيء أن تنشب الصراعات الدينية فيما بيننا، ونظل نتحارب ويأكل بعضنا بعضا حتى نفنى عن آخرنا، والمنطق والعقل يقضيان بأن يحترم كل منا رغبة الآخر وحريته الدينية، وأن نتعاون فيما بيننا من عيش مشترك؛ لتحقيق الحياة الحرة الكريمة اللائقة بنا جميعاً.

ولو نظرنا إلى نقاط القوة التي تتمتع بها كل دولنا العربية لوجدناها كثيرة ومتنوعة، فمصر لديها قوى بشرية كبيرة ومدربة وأيدي عاملة رخيصة وموقع استراتيجي متميز ومناخ معتدل ومناطق سياحية ومتاحف أثرية لا مثيل لها على الإطلاق في أي بقعة في العالم، إضافة إلى كونها سوقا استهلاكية كبيرة لاسيما للمنتجات الزراعية والصناعات الغذائية والملابس والأدوات المنزلية والأجهزة الكهربائية التي لا غنى لأي بيت عصري عنها، وكل هذه مجالات استثمار واسعة جدا ونجاحها مؤكد ـ بأمر الله تعالى ـ ونسبة المخاطرة فيها محدودة، وهناك دول عربية خليجية لديها أموال كبيرة وعندها تجارب استثمارية ناجحة، فما المانع أن يتكامل الجميع لإحداث نهضة عربية شاملة؟!

وفي الحقيقة يجب أن نتقدم بالشكر الجزيل لسمو أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الذي كان أول زعيم دولة عربية يزور القاهرة بعد ثورتنا المظفرة، وقد أثلج صدورنا جميعا ما سمعناه من وزير المالية المصري الدكتور سمير رضوان بأن قطر ستستثمر في مصر وديعة مالية بقيمة عشرة مليارات دولار، وأنها ستقوم باستثمارات عملاقة على أرض مصر، وستستوعب نحو ربع مليون مصري للعمل لديها في تشييد النهضة العمرانية الهائلة التي تشهدها قطر حاليا، وقد أثبتت قطر فعلا أنها دولة عصرية حديثة  تهتم بالتخطيط والبحث العلمي، وتنشئ نهضتها ومشاريعها الحديثة على أسس علمية راسخة، ولا أدل على ذلك من تقدمها على الولايات المتحدة الأمريكية في الفوز بتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم في عام2022م إن شاء الله، وقد أثبت سمو أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني عمليا أنه رجل الوفاء، وجميع  المصريين يتذكرون أنه وهو الأمير وزعيم الدولة قد قام بزيارة غير رسمية وعاجلة لمصر قبل عدة أشهر لتقديم واجب العزاء في وفاة معلمه المصري الذي كان يدرس له في المرحلة الابتدائية!! فرجل بهذا الوفاء والنبل وهذه الأخلاق الإسلامية العربية الراقية ليس بمستغرب منه أن يقف بكل جرأة وشجاعة وتجرد لمساندة كافة الشعوب العربية وكأنه الأب الروحي لها، والشعب المصري العريق المعروف بوفائه الشديد وعدم نكرانه للجميل إذ يشكر لهذا الرجل النبيل صنيعه يتمنى لشعب قطر الشقيق دوم التفوق والتقدم والازدهار، ويتطلع إلى إقامة شراكة إستراتيجية بين مصر وبين كافة الدول العربية.

وأتوقع أن الحكومة المصرية الحالية والقادمة لن تنتظر مجيء المستثمرين العرب والأجانب للتفكير في نوعية المشروعات التي يمكنهم أن يقيموها في مصر، فمصر بعلمائها وخبرائها وعقول أبنائها النوابغ أنشط كثيرا من ذلك، فهل لي أن أؤكد أن حكومتنا لديها دراسات جدوى جاهزة ومتكاملة لأهم المشروعات التي تخدم مصر وتخدم المستثمرين على حد سواء؟! هل لي أن أؤكد أن مصر الثورة ستقضي تماما على كل أشكال الفساد التي كانت تنفر المستثمرين وتعوق الاستثمار الحقيقي في مجالات كثيرة؟! هل لي أن أؤكد أن حكومة الثورة سوف تفتح الطريق تماما أمام أي مستثمر جاد يريد أن يقيم مشروعا على أرض مصر؟! هل لي أن أتصور أن كل القوانين البيروقراطية المعوقة للاستثمار قد ألغيت وأصبحت جزءا من الماضي؟! هل لي أن أحلم أن أي مستثمر سيأتي إلى مصر سيجد قائمة وافية بكافة أنواع المشروعات والمجالات الاستثمارية في الزراعة والصناعة والسياحة والخدمات وغيرها، بحيث يمكنه اختيار ما يتناسب معه ومع إمكاناته الاستثمارية؟! هل لي أن أحلم بأن مصر والدول العربية قد دخلوا في وحدة حقيقية كدول الاتحاد الأوربي؟!!

                

 * كاتب إسلامي مصري