سلوى وكاميليا... وصناعة الفتنة
حسام مقلد *
قبل أيام زلزلت ضمائرَنا الجريمةُ البشعة التي ارتُكِبَت على خلفية طائفية وأعني بها جريمة قتل المواطنة المصرية (سلوى عادل) وقتل زوجها وخنق طفلها بمنتهى الفُجْرِ والوحشية، وقيل إن ثلاثة من المواطنين الأقباط هم مرتكبو هذه المجزرة لمجرد أن هذه المرأة أسلمت وتزوجت من مواطن مسلم وأنجبت منه عدة أطفال، والغريب أن إسلامها كان قبل ست سنوات كاملة فما الذي جد في أمرها الآن؟! ومن الذي أثار موضوعها وهيَّج عليها هؤلاء الناس في هذا الوقت بالتحديد؟! وهل جرت عملية شحن طائفي لهؤلاء القتلة أم أن هناك دوافع أخرى وراء هذا الإجرام المتوحش؟! وما موقف الكنيسة الوطنية المصرية وموقف رموزها من هذه الجريمة الشنعاء؟! وأين حكماء الأقباط ومنظمات المجتمع المدني والفضائيات المحلية والعالمية؟! لِمَ سكت الجميع وكفى على الخبر ماجور كما نقول بالعامية؟! وأين دعاة الحرية وأنصار حقوق الإنسان؟! وما سر إهمال جميع وسائل الإعلام تقريبا لخبر هذه المجزرة أو تناوله على استحياء؟! أين جهابذة التحليل السياسي والديني والاجتماعي؟! أين نجوم برامج التوك شو؟! أين حماة المرأة والباحثون عن العدالة والمواطنة؟!
ولم نكد نستوعب كيفية ارتكاب هذه الجريمة المروعة والسكوت عليها حتى فوجئنا بهذا التصعيد الخطير في قضية المواطنة المصرية كاميليا شحاتة التي تحتجزها الكنيسة القبطية مع مواطنات مصريات أخريات على خلفية إسلامهن، فبحسب صحيفة المصريون الإليكترونية قام ما يطلق على نفسه اسم "ائتلاف دعم المسلمين الجدد" يوم الجمعة الماضي 29/4/2011م بتوزيع منشورات على المصلين في عدد من المساجد تحمل العبارات التالية: "أغث مسلمة تستنصر بك: كامليا شحاتة وأخواتها الأسيرات في سجون الكنيسة"، كما نقلت الصحيفة أن الدكتور حسام أبو البخاري المتحدث باسم هذا الائتلاف قد حذر من ردود فعل غاضبة في أوساط السلفيين، إذا لم يتم تنفيذ الوعد بالإفراج عن كاميليا، وقال: "إذا لجأت الكنيسة للعناد والمماطلة أو تراخت الدولة في هذا الأمر، فهناك مخاوف كبيرة جدا من أن يلجأ البعض للعنف, وتدخل البلاد في نفق مظلم حيث سينشب صراع طائفي يدمر الأخضر واليابس" كما هدد "بأن الآلاف من الشباب والرجال والنساء المسلمين الرافضين لتعنت وتعسف الكنيسة ومحاولاتها أن تكون دولة داخل الدولة على استعداد للعودة للتظاهر والاعتصام، وفرض حصار على الكنيسة في العباسية إذا استمرت في العناد والضرب بقوانين البلاد عرض الحائط" وعلق على الخبر أحد القراء ملقبا نفسه بالسلفي قائلا: "والله إن لم يفرجوا عن أخواتنا الأسيرات فستتحول مصر إلى بركة من الدماء فعلى المجلس العسكري أن يتحرك بسرعة لإنهاء بلطجة الكنيسة"...!!!!
وللأسف الشديد صدمنا برنامج العاشرة مساءً ـ على فضائية دريم ـ يوم السبت 30/4/2011م بمعالجته السطحية غير المحايدة وغير الموضوعية لهذه القضية الخطيرة، ووالله العظيم لقد حزنت كثيرا وأنا أسمع الدكتور المحترم عماد جاد الباحث بالأهرام عبر هذا البرنامج وهو يقول ما معناه: أنه لو زاد القهر والاضطهاد الديني على جماعة ما في بلد ما فما الذي يجبرها على التحمل، ولا مفر أمامها آنئذ من حمل السلاح والمقاومة حتى تستقل ولو أدى ذلك لتشظي البلد وانقسامه، وخوَّفنا الدكتور المحترم بنموذج دول البلقان التي شهدت حربا دينية إثنية في أوائل تسعينات القرن الماضي!!
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!! هل في مصر عرقيات متناحرة وإثنيات متصارعة؟! هل في مصر حرب تطهير دينية وعرقية كما شهدت يوغسلافيا السابقة؟! ثم ألم يجد معدو البرنامج غير الشيخ الذي استضافوه مع احترامي لشخصه الكريم ليمثل السلفيين؟! أم أن المشهد مرسوم بعناية لترويع المصريين من السلفيين وتخويفهم بالحرب الدينية التي سيجرُّون مصر إليها؟! وهل هذه النتيجة مُرضِيَة للسلفيين؟! هل يعجبهم أن يحذرهم الناس ويخاف منهم العامة إلى هذا الحد؟! هل يرضيهم أن ينفر الناس من المتدينين بل من الدين نفسه بسبب اندفاع بعضهم غير المحسوب أحيانا؟!!
وهل هذا هو الخطاب التصالحي الذي ننادي به جميعا بعد الثورة؟! هل هذه هي الديمقراطية والحرية؟! ثم أين الدولة من كل ما يجري؟! هل يرضي حكومة الدكتور عصام شرف والمجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يقال إن الفوضى تدب في مصر ولا يوجد ضابط ولا رابط فيها؟! هل يرضينا رواج إشاعة عدم وجود رادع قانوني أو حتى أخلاقي يردع عامة المصريين وعصمهم من الفوضى والفلتان؟! وهل يرضي ذلك علماء الأزهر ورجال الكنيسة وكل المفكرين والمثقفين المصريين مسلمين ومسيحيين؟!!
لقد آلمني وآلم الكثيرين احتجاز الكنيسة السيدة كاميليا شحاتة بغض النظر عن ديانتها، بل أقسم بالله العظيم أن الألم سيتضاعف في نفسي أضعافا مضاعفة لو كانت هذه السيدة لا تزال مسيحية!! ولا تفسير لدي لما حدث لها ولأخواتها سوى أنه اختطاف وأسر لامرأة ضعيفة مسكينة وقهر لإرادتها واستباحة لآدميتها وكرامتها الإنسانية!! فهل يعقل أن تختطف جهة ما أيا كانت امرأة مستضعفة من أهلها وترغمها على العيش بطريقة لا ترغبها؟! وأين يحدث ذلك؟! في مصر الحضارة والتاريخ؟! مصر التي نشمخ بها جميعا ونتغنى بعراقتها وتسامحها!! والله إن ما يحدث لعار على كل رجل مصري مسلما كان أو قبطيا، وأول من تلطخهم وصمة العار هذه هم رجال الكنيسة أنفسهم فكيف تسنَّى لهم ورضوا على أنفسهم أن يختطفوا امرأة مستضعفة مسكينة لا حول لها ولا قوة حتى لو كانت لا تزال مسيحية؟! وممَّ يحمونها؟!!
وبنفس المرارة والأسى الذي يتدفق في أعماقنا بسبب اختطاف الكنيسة المصرية للأخوات المصريات: كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين وماري عبد الله... وغيرهن بغض النظر عن إسلامهن أو عدمه، يتدفق في أعماقنا أسى أعمق ومرارة أكبر بسبب تصوير الإسلاميين ـ خاصة السلفيين ـ على أنهم وحوش كاسرة لا تعرف قلوبهم الرحمة، وأنهم سفاحون سفاكون للدماء، أو أنهم على هذا القدر من السطحية والسذاجة والوحشية بحيث يُستَدْرَجُون بكل بساطة لتحويل مصر العريقة مصر العظيمة إلى بِرْكَةٍ من الدماء!!
وكلي رجاء أن يكفَّ الجميع فوراً عن اللعب بالنار، وأن نتوقف تماما عن استعمال المفردات القاسية العنيفة التي تولِّد الحقد والكراهية في وجدان كل منا، وتشحن نفوسنا بشحنات من الغضب المكتوم الذي لا يفتأ يأكل قلوبنا حتى نصل إلى مرحلة الانفجار، وقد تندلع شرارة صغيرة هنا أوهناك وتضرم ـ لا قدر الله ـ حريقا هائلا يأكل الأخضر واليابس!!
وأتمنى من الأخوة السلفيين، وأحسب أنني أحدهم، أن يحكِّمُوا عقولهم في جميع تصرفاتِهم، وينحُّوا عواطفهم تماما جانبا، فلن يجدي بعد الآن أن نعتذر قائلين عبارات مثل: أخطأنا من شدة الفرح، أو ثرنا من شدة الغضب، أو فجرنا مصر من شدة الحب لديننا والغيرة على وطنيتنا!! ورجائي أيها السلفيون أن توحدوا صفوفكم وتجعلوا لكم متحدثا رسميا (أو أكثر) باسمكم وتعلنوا اسمه في كافة وسائل الإعلام، ولا تقطعوا بشيء ولا تُقْدِموا على عمل أي شيء دون الرجوع إلى علمائنا الأجلاء أمثال الشيخ محمد إسماعيل المقدم، والشيخ محمد حسان وغيرهما، وأسأل الله تعلى أن يمن على شباب السلفيين بالحكمة والهدوء، وأن يخففوا من غلوائهم، ويلينوا لإخوانهم المصريين جميعا مسلمين وأقباط ليروا ما فيهم من رحمة وخير ونفع، ووالله الذي لا إله غيره لو علم الناس ما في الإسلاميين عموما من خير ورحمة وإخلاص وحب للبشرية جمعاء لما وسعهم إلا أن يثقوا فيهم ويقدموهم في كل شيء وهم في غاية الراحة والاطمئنان!!
ولا أدري هل يقبل حكماء كنيستنا المصرية الوطنية ـ الذين نعتز بهم جميعا من منطلق وطني خالص... ـ أن يستمعوا لنصح رجل مثلي أم لا!! وكلي أمل أن يطلقوا فوراً سراح الأخوات المصريات المحتجزات لديهم بغض النظر عن ديانتهن، ولو كان بعضهن قد مات ـ لا سمح الله ـ فالموت علينا حق فأتمنى أن يعلنوا ذلك بكل شجاعة، ويعلنوا أن احتجازهن كان خطأً منذ البداية، ويعتذروا لأهالي هؤلاء النسوة ولكل أبناء الشعب المصري، ويتعهدوا بعدم تكراره أبداً في المستقبل.
وبقيت كلمة أوجهها لنفسي أولا ثم لكل صاحب قلم، ولكل من له منبر يتحدث من خلاله أن يتقي الله في مصر وأن يتقي الله في أهل مصر، فنحن شعب واحد ومن صفاتنا حدة العاطفة وسرعة الغضب والانفعال، ولا يجوز ولا يصح مطلقا أن نثير الجماهير ونوقظ الفتنة بينهم، فلو اشتعلت نيرانها ـ لا قدر الله ـ فلن تبقي ولن تذر، فلنحذر الفتنة التي وصفها الله تعالى قائلاً: "وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ" [البقرة:191] ولنتقِ الله فيما نقوله من كلام، ولنحرص على إظهار التسامح والبشاشة والهشاشة في وجوه بعضنا البعض لنخفف من حدة الانفعالات وكآبة الحياة وصعوبتها، ولنرسم الابتسامة الرقيقة دائما على شفاهنا، ولننشر أخلاق الرحمة والمحبة والتراحم والتواضع بين الناس ولنحرص على أن نشيع ونبث الكلمة الطيبة فيما بيننا، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)" [إبراهيم24 :26] وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم" وفي رواية أخرى: "يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" (رواه البخاري) وعنه ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الكلمة الطيبة صدقة" (رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي) حفظ الله مصر من كل سوء ووفق لكل ما فيه خير وصلاح وإصلاح.
* كاتب إسلامي مصري