ثرثرة على ضفاف "البسفور"

ثرثرة على ضفاف "البسفور"

عبد العزيز قاسم

عشرون عاما كاملات، تلك التي غبتها عن مدينة "إسطنبول"، وأنا الذي تكررت زياراتي لها وقتذاك، إبان تعاوني مع جمعية "الوقف الإسلامي" أثناء انخراطنا الدعوي في الجمهوريات الإسلامية، وكانت عاصمة الأتراك الاقتصادية هذه محطة في طريق الذهاب والعودة.

علقت تلك المدينة في ذواكرنا وأصدقائي؛ كعجوز شمطاء، تكيل المساحيق على وجهها القبيح بغية تحسينه، من الفساد والتخلف والتخطيط البائس والإرهاب، إذ لا أنسى أننا استيقظنا ذات صباح -مفجوعين- على انفجار في الفندق القريب لسكننا في منطقة "تقسيم"، وكان حزب "العمال" الكردستاني في أوج معارضته المسلحة، حتى قبض على زعيمه عبدالله أوجلان.

كنت بداية الأسبوع الفارط في "إسطنبول"، وذهلت حقا بعروس حسناء تتمخطر تيها ودلالا، وكل جزء منها يحكي جمالا روميا فاتنا، وظهر أهلها بملابس متمدنة زاهية، والحجاب لافتٌ عكس أزمنتي القديمة فيها، بينما البنى التحتية السياحية الخلابة تفاجئ زائرا متفحصا مثلي، وهو يتجول في تلكم الأزقة التاريخية التي تحولت بالكامل لأماكن زيارة باذخة، وآلاف العائلات الخليجية يملأون دروب المدينة الحسناء، وهم الذين تفننت الحكومة التركية الحالية في استقطابهم، وجعل تركيا قبلة أولى واختيارا أول لهم.

ثمة أصدقاء أحبة اختاروا السكنى فيها، بيد أنني كنت حريصا على لقاء صديق إعلامي تركي، هو لسان حزب "العدالة والتنمية" في الفضائيات العربية وغيرها، وشارك معي لمرات عديدة في برنامجي. تواعدت معه، وأتاني في الموعد المضروب بيننا، وانخرطنا في ثرثرة سياسية حول ما يحصل في المنطقة، وامتد "البسفور" أمامنا بزرقته التي تأخذ بأبصارنا في سحر لا متناه، تجعلنا ننسى الوقت ونحن نتساجل؛ كلٌ يدافع عن بلاده وسياستها.

لأربع ساعات متصلات تحاورنا وتساجلنا، وعندما ودعته، همست له: "أخي محمد زاهد غول، أستأذنك في سرد بعض ما دار بيننا من حديث، لأهميته من وجهة نظري للنخب السياسية والتيارات الإسلامية"، فأجاب وهو يومئ موافقا، بل مرحِّبا. والحقيقة أنني أمقت كل المقت، أولئك الذين ينقلون ما يدور في المجالس الخاصة دون استئذان، فهذا نقيض مروءة الرجل، وخيانة كبرى لأمانة المجالس، وكم زميل أساء لمهنتنا بسبب نقله هذا دون استئذانه من المسؤول الذي يطمئن وهو يحكي في المجالس الخاصة.

قلت للصديق غول: "لا أفهم هذا العناد من إردوغان حيال مسألة (الإخوان) في مصر، وهي العائق الأكبر أمام تحالف سعودي خليجي وثيق معها، من المفترض كسياسي أن يقدم مصالح بلده، على رؤيته الحزبية الضيقة".

 أجابني: "اسمع أبا أسامة، كل الحوادث أو المحن المتعلقة بالإخوان في الخمسين عاما الفارطات؛ محن تتعلق بأفراد. أما اليوم؛ فمحنتهم كبيرة بسبب أنها تتعلق بالجماعة ككل ووجودها، وكنت حاضرا لقاء إردوغان في زيارته الشهيرة معهم في مصر، إبان قوتهم وحكمهم القصير لمصر، وسمعت بأذني إردوغان يقول لهم: ما تفعلونه خطأ، ويجب أن تتعلموا الدرس من تجربتنا. حلوا الجماعة برمتها إن أردتم الانخراط في السياسة، وأسسوا حزبا سياسيا يقوم بالأساس على اللعبة السياسية، أو انصرفوا للدعوة ودعوا السياسة، الجمع بين الدين والسياسة خطأ كبير، هما لا يجتمعان".

ومضى الباحث السياسي التركي يسرد، وقد أطلق تنهيدة أسف: "بالطبع، ردّ عليه شباب (الإخوان) وقتها، عصام العريان ورفقته، بأن إردوغان لا يعرف طبيعة وتركيبة المجتمع المصري، وقرأت أنت كل ردات الفعل التي أعقبت ذلك الاجتماع إذ ذاك".

عدت له قائلا: "أنت للآن لم تجبني عن موقفه المنحاز بالكامل ضد السيسي، والأخير بات واقعا سياسيا، وخيارا أول للنظم الخليجية، ولا عودة عنه؟ إن رجلا سياسيا بحنكة إردوغان يضيع مصالح تركيا بالكامل، وخصوصا في هذا الظرف العصيب الذي يمرّ به، وحاجته للسعودية ودول الخليج ومصر، لمواجهة إيران بالدرجة الأولى، والتحالف الغربي الذي يضغط عليه. الحقيقة لا أفهم هذا الموقف؟". 

ردّ عليّ: "ما قلته حقّ أخي عبدالعزيز، بيد أن المسألة لديه مسألة مبدأ فقط، الله يستر من القادم، فقد تشظت اليوم الجماعة في مصر، إلى ثلاثة فصائل، ونحن نتابع بقلق ما يحدث. الفصيل الأول انحاز لرؤية حمل السلاح وهم الأخطر، والفصيل الثاني، انقلاب الشباب على الشيوخ، بمثل ما حصل بين إردوغان وشيخه نجم الدين أربكان، والفصيل الأخير، ما زال على قناعته بالشيوخ. تأكد أن القادم أسوأ للجميع، لكم ولنا ولمصر"، وأشاح صديقي بوجهه وهو يحتسي القهوة السعودية اللذيذة التي قدمناها له.

قلت له: "تركيا اليوم تحاول أن تكون رأس حربة الدول السنية، وتريد استعادة دورها إبان السلطنة العثمانية، وها هي اليوم تنشئ معهدا إسلاميا كبيرا ينافس (الأزهر)، وتتكلم كأنها قائدة الدول السنية! أليس من السذاجة فعل ذلك، بتخطى تأريخها الحديث، ولديكم الدولة العميقة المتجذرة في مفاصل تركيا، فضلا عن المؤسسة العسكرية العتيقة، المحملة بالروح الأتاتوركية، بل هي حارسته؟

 هل من السهولة تجاوز كل ما فعلته السعودية خلال عقودها الثمان، والتي كرست سياستها لخدمة الإسلام والمسلمين، وأنفقت المليارات تلو المليارات، بل وانتهجت سياسة دفعت فيها أكلافا باهظة، انحازت فيها لقضايا الأمة والمسلمين، وتأتون بجرة قلم، تريدون انتزاع هذا الدور"؟

أجابني وهو يبتسم بمكر السياسيين:" ليست القضية توافر تركيا على الأراضي المقدسة، بل القضية من يخدم المسلم السني وقضاياه، وهذا الميدان بيننا. انظر إلى موقفنا من (داعش) لأنه يدخل في هذا السياق، لماذا تريد الدول الغربية ضربها، وتضعنا في مواجهة مع فصيل سني متطرف. سندخل الحرب إذا كانت النية ضرب كل التنظيمات الإرهابية بغض النظر عن مذهبها، لماذا لا يضربون بشار الأسد، أو (حزب الله)، أو الأحزاب الشيعية المتطرفة في العراق؟".

انتقل الحديث بعدها للطفرة الاقتصادية والاستثمار الكبير الذي تشهده تركيا، وقال لي بكثير من الاعتزاز: "خططنا من سنوات بعيدة، لجلب رؤوس الأموال السعودية والخليجية في تركيا، ونحن نتابع -بكل الارتياح- الإقبال الضخم منكم.

 هل تعلم أخي أبا أسامة، أن قرى تركية بالكامل اليوم باتت خليجية، وما زلنا نستقطب ونقدم التسهيلات الكبرى للمستثمرين الأجانب، الاقتصاد هو طريق حكم الشعب، ولدى إردوغان هدف؛ أن يتقاعد في العام 2023، وهو يضع تركيا في أوائل دول العالم اقتصادا.

 ها نحن ننشئ مطارا دوليا ضخما سينتهي خلال سنوات قلائل، سيكون المطار الأول في أوروبا وآسيا كلها، ولدينا مشروع لشق نهر جديد في تركيا الأوروبية أيضا، سيمكّن من زيادة عدد السفن التي تمخر البحر الأسود والبحر المتوسط، والعديد العديد من المشروعات العملاقة التي نسابق الزمن لتحقيقها. هلّم واستثمر هنا -أبا أسامة- وأنصحك كصديق بهذا".

بالطبع رسمت ابتسامة صفراء، وهززت برأسي وأنا أردد: "أنت إعلامي، وتعرف أننا مفاليس هذا الزمان، واقتعدنا مكان الشعراء، فدعك من التهكم". وانخرطنا في نوبة ضحك شامتة.

الحديث تشعب إلى ملفات عديدة، بيد أنني ختمت بكلمات حادة، قائلا وأنا أودعه: "عناد إردوغان حيال مسألة واحدة، يكلفكم ويكلفنا الكثير، أنتم الجزء الناقص في الترس السنيّ، (باكستان-السعودية-مصر-تركيا)، أنتم بحاجتنا ونحن بحاجتكم".

سكت طويلا صديقي التركي محمد زاهد غول، وتفرّس في ملامح وجهي الجادة، ورمى ببصره بعيدا إلى السفن التترى التي تمخر "البسفور" وغادر.