الفكر الأقلوي ومفرزاته

شبه دراسة

عقاب يحيى

تمهيد  :

الفكر الأقلوي ليس وليد الحاضر، إنه حالة تاريخية طالما تكررت وتجسّدت حين تسيطر مجموعة أقلوية اجتماعيا، أو اقتصادياً، أو عسكرياً على مقاليد الحكم وتفرض وجودها بالقوة، والعسف، والجبروت..

وحين تصل مجاميعاً صغيرة إلى السلطة، بغض النظر عن عقائدها، وطبيعتها، عن غير طريق الانتخابات، والخيار الشعبي ستنتج الاستبداد والأحادية وإعدام الديمقراطية بشتى الوسائل التي تفرّخها، أو تضطر إليها. وهي لذلك يستحيل أن تلجأ إلى الشعب في انتخابات فعلية، أو إلى الانفتاح الديمقراطي لأن ذلك نهاية لها، ومخالف لتركيبها، وقد كانت"الحالة الماركسية" الحاكمة تجسيداً شاملاً  للفكر الأقلوي، وفلسفاته وتبريراته.

بين ماركسية ماركس وماركسية لينين تظهر الفجوة الكبيرة القسرية التي فرضتها ظروف روسيا ومستويات التطور فيها " نصف رأسمالية ـ نصف إقطاعية" (وفق التوصيفات أيام ما قبل الثورة البلشفية) وتلك العملية الإجبارية التي صاغها لينين وقولبها لتناسب ظروف روسيا.. ثم صارت بمثابة النظرية، والقانون، والإضافات " الإبداعية" .

ـ بالأصل انطلق ماركس من تصورات نظرية، تنبؤية وافتراضية عن التطور البشري، ونظم الإنتاج، مؤكداً أن الثورة الصناعية ستسود وتنتج طبقة عاملة مهيمنة على الإنتاج، والمجتمعات.. فتفرز، بشكل طبيعي دكتاتورية البروليتاريا التي هي هنا نافية للدكتاتورية باعتبارها القوة المهيمنة ..

ـ عملية الاستبدال أفرزت البديل : العامل الذاتي . اي اللجوء إلى أداة خاصة تقوم بفعل الظرف الموضوعي عبر الإجبار، والتدخل القوي، والتسريع، وحتى القولبة، وكان عليه أن يخلق الثورة الصناعية وتوليد طبقة عاملة مهيمنة

كانت الفكرة أن ذلك العامل الذاتي هو المعبّر عن الطبقة العاملة، المنبثق منها اساساً. الملتزم بما افترض أنه إديولوجيتها الشمولية، لكن العامل الذاتي تحوّل من الطبقة العاملة إلى"حزبها" ثم من حزبها إلى ممثلها، والوصي عليها، أو المؤتمن على مصالحها، وبما ولّد : القائد، والممثل، والمعبّر.. و... البديل عملياً، ومنه إلى مؤسسات الحزب : اللجنة المركزية، فالأمين العام.. فولادة الستالينية تجسيداً لتك التطورات، فنوع من التقديس للفرد، والنصّ.. و.. التخثر، والسقوط...فتلك المسافة التي كانت تزداد بين الطبقة العاملة ومن يدّعي تمثيلها.

ـ لتبرير، وإنجاز عملية الإنضاج والتسريع، والتراكب، والانتقال والكوننة، وما قيل عن الصيرورات النهائية (المجتمع الشيوعي).. وكثير التنظيرات المنبثقة عن ذلك تبلورت مقولات الشرعية الثورية، والعنف الثوري، والقفزات النوعية، وحرق المراحل، والدكتاتورية الحقيقية في قوالب المركزية الشديدة، والشمولية، وإعدام الحريات العامة والفردية.. فاكتسحت جزءاً كبيراً من العالم، خاصة ذلك الذي أطلق عليه مجازاً "العالم الثالث".. حيث البنى أكثر تخلفا، وكذا الطبقات، والأحزاب، والوعي، والاختلاط المريع في أنماط الإنتاج، ووسائلها، ومنتجاتها الاجتماعية والوعيوية ..

في تلك البنية الاختلاطية، المتخلفة كانت المؤسسة العسكرية الأكثر تنظيماً، وتماسكاً، وقوة.. بما رشّحها للعب دور طاغ يخالف المهام والأهداف التي وجدت لأجلها، فسيطرت بالقوة، وعبر الانقلابات العسكرية على الحكم في عديد البلدان، واستخدمت العنف متعدد الأشكال لفرض وجودها واستمرارها.

ـ المؤسسة العسكرية ذاتها انعكاس لبنى المجتمعات التي وجدت فيها، وكثيرها كان يحمل إرث وفكر مفرزات تلك البنى بما فيها من اختلاطات طبقية، وعيوية، ومن تشكيلات ما قبل وطنية وقومية.. من عشائرية وجهوية ودينية ومذهبية وما هو دون ذلك أحياناً، والتي ارتكز كثيرها عليها للبقاء والتحكّم بالمجتمع وإدارة الدولة التي تمازجت وتشابكت مع السلطة والحاكم الفرد فاختلطت الحدود، وتحوّلت كثير الدول إلى ممالك للحاكم وعائلته وزبانيته وطائفته، ومجاميع المافيا التابعة له .

                                             *****

في مرحلة المجادلات النظرية برز المفكر اللبناني الشيوعي "مهدي عامل"(اسماً حركياً) والذي اغتاله حزب الله فيما بعد.. كأهم المفكرين الذين نظّروا لفكرة الهيمنة والسيطرة، وفرّق بينهما بنوع من إبداع حين اعتبر الهيمنة نتاج تطور موضوعي للمجتمعات حيث تصل في سوياتها إلى مرحلة تولّد فيها الطبقة الرئيس المنتجة، أو المهيمنة اجتماعياً، وحينها لا تحتاج تلك الطبقة إلى وسائل وسيطة للفرض فيما يعرف بالعنف وأشكاله المختلفة، ولا إلى الاستثناء، والجبر والقسر.. بينما القوى المسيطرة أقلويات إنتاجية واجتماعية تلجأ حكماً، وحتماً إلى العنف تثبيتاً لحكمها، وفرضاً لمصالحها .

                                          ***** 

سورية الحديثة التي أفرزتها اتفاقية سايكس بيكو بعملية قيصرية مفروضة عملت على نسخ التجارب الغربية الديمقراطية رغم تخلف بنى المجتمع، وقوة التشكيلات الاختلاطية ما قبل وطنية.. ومع ذلك، وبالرغم من كل السلبيات التي نجمت، والأخطاء والثغرات التي وقعت.. إلا أن حركية التطور الاجتماعي والسياسي سجّلت مردوداً إيجابياً كبيراً، ووضعت البلد في مقدمة بلدان العالم الثالث التي تنجز تطورات كبيرة في أزمان قصيرة.. إلا أن الانقلابات العسكرية ـ متعددة الخلفيات والأسباب ـ كانت تقطع بشكل باتر وقسري تلك الحركية التطويرية، وتفرض فكراً أقلوياً وحكماً على شاكلته يتوسّل القمع، وقوانين الاستثناء، والفرض طريقاً للبقاء، ولضرب هيئات المجتمع المدني ومحاولة قولبتها ونخرها، وإعدام الحياة الديمقراطية. وحتى نظام الوحدة الذي جاء في أوج تصاعد مدّ وحدوي ـ تحرري، ورغم الزعامة الفريدة لعبد الناصر.. إلا أنه لم يخرج عن منطوق بنى وفكر وأساليب الانقلابات العسكرية في محتوى الحكم وأدواته، وفي تغييب الحياة الديمقراطية، والاعتماد على الأحادية، والفرد، والقرارات الفوقية.

ـ حركة الثامن من آذار 1963ـ بتحالفاتها بدءاً ـ لم تخرج عن توصيف الانقلابات العسكرية إلا بزخم الشعارات الوحدوية التي رفعت، والنوايا المعلنة عن إعادة الوحدة السورية المصرية. وحين أرسى الخلاف البعثي ـ الناصري قيوده/ 18 تموز 1963/ وانفرد البعث المُستخدم واجهة في السلطة برزت الحالة الأقلوية في ميادين عديدة..

ـ بعيداً عن شعارات البعث ومبادئه القومية، العروبية..فقد كان الواقع يخالف ذلك في جميع الميادين.. مما عزز العقل الأحادي، الشمولي، الأقلوي، وفرض مزيداً من نهج الفرض في مختلف جوانب الحياة السورية، وأعدم الحياة الديمقراطية، بينما كانت مقولات الديمقراطية الشعبية تفتقر إلى محتواها، وإلى سويات متقدمة من التشكيلات الاجتماعية والوعيوية والحرية.

ـ ضمن التركيب الأقلوي ذاك، وعبر الصراع التناحري، والاستنزافي داخل البعث، وانعكاسه على المؤسسة العسكرية وعموم المجتمع، بدأت تبرز مفردات أكثر أقلوية ذات منبت مذهبي تختلط فيها النوايا، والأصبغة.. وتخوم الصدق من الاستخدام..وأخذت الحالة الطائفية تتورّم في الجيش والأجهزة الأمنية وعموم السلطة وصولاً للحزب الذي ينادي بما يخالف ذلك على طول خط الخطاب المعتمد .

ـ في الحالتين : فإن أقلوية البعث، وخدعة، أو خلّبية مقولات الطليعة والطلائعي، والنخبة ـ كالجيش العقائدي تماماً ـ وعجزه عن التحوّل لحزب جماهيري، أو عن إقامة تحالفات جبهوية عريضة، أو تكريس المبادئ واقعاً.... كانت الأرضية الخصبة لنمو وتغوّل الأقلوية السياسية، والجنوح مزيداً نحو الشعارية، والقفز فوق الواقع وموازين القوى، وبنى المجتمع وإرادة وحرية الشعب.

ـ وحين تراكبت هذه الأقلوية مع هزيمة حزيران وبروز التكتل العسكري بقيادة الطاغية الأسد وبموضعة علوية واضحة فيه، وفي المؤسسة العسكرية.. وما تلا ذلك من عجز عن مواجهة التحديات الكبيرة، ومعالجة تلك الموضعات الطائفية في أوانها، وبانفتاح لا يخشاها ولا يهرب منها إلى الأمام.. كانت "حركة التفحيح" نتاجاً منطقياً.. وكان الارتحال إلى ممارسات فاقعة طائفية وأقلوية مشبعة بالخبث والتجويف ونخر بنى المجتمع، وزعزعة المعهود في النسيج السوري... وصولاً إلى التوريث وخلفياته الفاضحة.. والواقع الحالي ومنطقية الإجرام في نهج الطغمة الحاكمة، وتكريس مزيد أقلويتها وفئويتها ودمويتها..

                                                    ***

لا يمكن للفكر الأقلوي أن ينجح، حتى لو أنجز مؤقتاً بعض التحولات، في تحقيق تطور المجتمعات وانتقالها الطبيعي إلى مراحل أرقى. على العكس.. فالفكر الأقلوي يحمل في صلبه وأحشائه العنف، والاستعلاء، والدكتاتورية، والفردية، وهو يتوسّل تغييب وتهميش الشعب طريقاً للتحكم والبقاء، والقتل سبيلاً لمزيد من الفرض.. ولن يكون هناك بديل عن التعددية، والديمقراطية التي تكرّس المساواة في الحقوق والواجبات، والتي تستدعي الشعب ليقرر إرادته في صناديق الاقتراع، وعبر تنشيط وتدعيم هيئات المجتمع المدني ...وتكريس الحوار بديلاً لكل أنواع القسر والعنف .