السوريون ودروس الثورات العربية

السوريون ودروس الثورات العربية

حسام مقلد *

[email protected]

أظن أن السياسيين في شتى أنحاء العالم قد ضحكوا ساخرين من زعم النظام السوري بأن السلفيين (الأصوليين الراديكاليين المتشددين المتزمتين المتطرفين... إلخ!!) يريدون إقامة إمارة إسلامية لهم في سوريا، وأظن كذلك أن الشعب السوري قد ضحك ساخرا هو الآخر ـ وشر البلية ما يضحك ـ من زجِّ نظام الأسد بفرية السلفيين هذه فيما يلاقيه مؤخراً من احتجاجات شعبية واسعة من أبناء هذا الشعب الكريم الذي يرزح تحت ظلم وقهر هذا النظام الطائفي الظالم المستبد منذ عقود خلت!!

إن كل ما يطالب به الشعب السوري هو الكرامة والعدالة واحترام حقوق الإنسان، والعيش في عزة ورخاء وتنسم عبير الحرية أسوة بغيره من الشعوب، ولكن للأسف الشديد بدلا من أن يستجيب النظام السوري لرغبات شعبه والمسارعة بتحقيق حقوقه المشروعة هذه نراه يراوغ  ويناور ويخترع القصص الواهية، ويلقي باللائمة على المؤامرات الخارجية تارة وعلى السلفيين تارة أخرى، وبدلا من الاستماع لصوت العقل والحكمة والبدء الفوري في إجراء إصلاحات عملية جذرية وحقيقية تلبي طموحات ملايين السوريين بدلا من ذلك كله راح النظام السوري يلعب نفس اللعبة القديمة ـ التي لم تنطلِ على أحدٍ من الشعوب العربية الأخرى ـ فأوهم الناس والعالم أنه اتخذ بعض القرارات المهمة كإلغاء قانون الطوارئ الذي يحكم به الناس منذ نحو خمسة عقود، ولا أفهم كيف تسمى هذه الحال حال طوارئ ـ أي حال استثنائية ـ وقد صارت هي القاعدة والأصل الذي دام ثمانية وأربعين سنة بالتمام والكمال، حتى إن أغلبية الشعب السوري قد ولدت وعاشت في كنف هذه الحال بما فيهم الرئيس السوري بشار الأسد نفسه؟!!

في الحقيقة لم يتقدم النظام السوري أية خطوة ولو ضئيلة نحو توفير الحد الأدنى من الحرية والديمقراطية التي يطالب بها الناس، ولم يتخذ أية إجراءات حقيقية توحي بأنه عازم على الاستجابة لهذه المطالب، وبدلا من ذلك راح يضرب شعبه بكل قسوة تماما كما يفعل القذافي، وللتلبيس على الناس في الداخل والخارج راح يتهم السلفيين بارتكاب أعمال العنف وإثارة الشغب والفوضى في البلاد، ويشن حملة دعاية مضللة ليسوِّغ من خلالها ما يرتكبه من جرائم، وما يفعله من بطش بالشعب السوري الأعزل وشبابه المسالم المُطالب بحقه في الحياة الحرة الكريمة، ويزعم أنه إنما يفعل ذلك حفاظاً على سوريا من هؤلاء السلفيين القساة غلاظ الأكباد، وحمايةً لها من ضلالهم وأفكارهم المتشددة!!

وصدقاً لا أدري من أين جاء هؤلاء السلفيون المزعومون إلى سوريا؟! ولا أعرف كيف هبطوا عليها فجأة هكذا؟! ولا أفهم كيف تمكنوا من الإفلات بهذه السرعة التي تقترب من سرعة الضوء من قبضة جحافل الأمن السوري؟! ولا كيف استغفلوا الرفاق المناضلين في سوريا الأسد وتمكنوا من تكوين تنظيم خطير كهذا يضم كل هذه الألوف المؤلفة من الناس الذين نراهم يتظاهرون في كل المدن والقرى السورية؟! وكل هذا محض كذب وتضليل وافتراء، فما هذه الجموع المسالمة الثائرة في سوريا إلا أبناء سوريا وشبابها الطيبين المسالمين الذين يقفون بصدورهم العارية أمام آلة القمع المتوحشة التي يغرس النظام السوري أنيابها في أجسادهم البريئة،  وحقيقة لا أتخيل أن النظام السوري يظن أن هناك شخصاً واحدا فوق هذا الكوكب سوف يصدق شيئا من هذه الافتراءات والمزاعم الكاذبة!!

ويبدو أن النظام في دمشق لا يدرك أن الزمن قد تغير فعلا، ولا يعي أنه لن يقدر على الإفلات بفعلته هذه المرة لو أقدم على جريمة جديدة كتلك المذبحة البشعة التي ارتكبها بحق شعبه في حماة في 2 فبراير (شباط) عام1982م، والتي تعد أبشع مجزرة وحشية تعرض لها السوريون في العصر الحديث، حيث تم قمع الانتفاضة الشعبية آنذاك بقسوة فاجرة خلَّفت وراءها نحو ثلاثين ألف شهيد، وخمسين ألف سجين سياسي، ونحو نصف مليون إنسان وضعوا على اللائحة السوداء، وتم تهجير معظمهم وطردهم خارج سوريا تحت وطأة تعذيب أجهزة القمع السورية المتوحشةّّ، ولا تزال معاناتهم ومعاناة أبنائهم وأحفادهم مستمرة في المنافي حتى الآن!!

ومن خلال تعاطي النظام السوري مع الثورة الشعبية السلمية الحالية التي اندلعت شرارتها في محافظة درعا جنوبي سوريا قبل نحو ستة أسابيع من الآن يتضح جليا أنه لمَّا يستوعب بعد ما جرى للأنظمة العربية الشقيقة ـ شقيقته في الظلم والقهر والتنكيل بشعوبها ـ في مصر وتونس واليمن وليبيا...؛ فلا يزال هذا النظام يمارس لعبة التضليل ذاتها التي مارسها طويلا زاعماً أنه النظام العروبي الوحيد المقاوم الذي أذل اليهود والأمريكان، وكسر شوكة الصهاينة بفنون النضال والمقاومة الباسلة، وأنه كان على وشك أن يحرر مرتفعات الجولان السورية من دنس الاحتلال الإسرائيلي، وكان قاب قوسين أو أدنى من تحرير الأقصى الشريف بعد أن حشد لذلك كل قواه المقاومة المناضلة، وأنه كاد أن يحقق ذلك الحلم العربي العتيق لولا هؤلاء السلفيين الجهلة المتطرفين الذين أفسدوا خطته!!

إن النظام السوري يراهن الآن على عدم جدية الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص في اتخاذ إجراءات عقابية ضده كما فعلوا بحق القذافي، وقد يكون محقا في ذلك فبقاء النظام السوري في الحكم هو في الواقع أكبر ضمانة لأمن إسرائيل، ولبقاء الوضع القائم الآن كما هو عليه، فنظام الأسد الابن كنظام الأسد الأب يجيد فقط مقاومة إسرائيل ومحاربتها وتدميرها على الورق، وفي مخيلته وعبر أبواقه الإعلامية وحسب، لكن على أرض الواقع فهو أكبر ضامن لأمن اليهود وبقائهم في المنطقة لأطول وقت ممكن.

حقيقة أنا لا أفهم كيف تفكر الأنظمة العربية ومن بينها النظام السوري فكل ما تتوق إليه هذه الجماهير العربية الهادرة هو الحياة الحرة الكريمة القائمة على الديمقراطية والنزاهة والشفافية والعدالة الاجتماعية، فهل هذا كثير عليها؟! ولكن إذا كان النظام في دمشق قد عجز عن استيعاب دروس الثورات العربية، ولم يفهم بعد أن إرادة الشعوب الحية لا تقهر بأمر الله تعالى، وإذا كان مصرا على رهانه الخاسر على دعم حلفائه في إيران ولبنان، وموقف بعض العرب المتواطئين الصامتين، وموقف المنافقين الأوربيين والأمريكيين وكيلهم الدائم بمكيالين ـ فإن التعويل الآن على كافة أبناء الشعب السوري العظيم أن يتوحد بكل طوائفه وشرائحه الاجتماعية، وأن يكون على قلب رجل واحد، وأن يتحلى بالعزيمة والإصرار، ويصعِّد دائما من احتجاجاته السلمية البيضاء، لاسيما في المدن الكبرى كدمشق وحلب، ويرفع سقف مطالبه باستمرار، ولا يستكين أبدا للظلم والقهر، ولا يخاف من البطش والقمع والإذلال، ولا يخشى التنكيل الوحشي الذي يهدده به زبانية النظام، فهؤلاء لن يردعهم إلا تكاتف السوريين، ووقوفهم جميعا بشجاعة أمام جبروت هذا النظام الفاسد، الذي كنا نتمنى أن يكون أذكى من ذلك ويتدارك الأمر ويبادر باتخاذ قرارات عملية حاسمة وجذرية تؤدي إلى إصلاح حقيقي، وتلبي طموحات الشعب السوري في مستقبل أفضل وحياة أكثر عدالة وحرية وديمقراطية، وساعتها كان العرب جميعا فضلا عن السوريين سيلتفون حول هذا النظام ويفدونه بنفوسهم وأرواحهم، لكن بكل أسف أثبت سدنة هذا النظام أنه فقط نظام حنجوري يقول ما لا يفعل، ويفعل عكس ما يقول، وكل سوري يعلم تمام العلم الآن أن هؤلاء الزبانية لن يتورعوا عن ارتكاب أبشع الجرائم كما فعلوا من قبل في سبيل الحفاظ على مصالحهم وبقاء السلطة في يدهم، وأنه لا يؤمن جانبهم أبدا بعد الآن، فإذا كان المنتظر منهم التنكيل بالثوار على أية حال فليس أمام هؤلاء الشباب الآن بعد طلب العون والنصر من الله تعالى سوى الصبر والثبات ومواصلة الاحتجاج السلمي حتى يستجيب النظام لكل مطالبهم، أو يرحل غير مأسوف عليه كما رحل أقرانه في مصر وتونس، فليس أمامكم يا شباب سوريا اليوم إلا كما قال الشاعر عبد الرحيم محمود:

فإما حياة تسرُّ الصديقَ              وإما مماتٌ يغيظُ العِدى

وكما قال محمود سامي البارودي:

فإمَّا حياة ٌ مثلَ ما تشتهى العلا       وإما ردى ً يشفى منَ الداءِ وفدهُ

فتوكلوا على الله أيها الأبطال الأبرار واثبتوا واصبروا وصابروا "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [آل عمران:200] "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف:21].

                

 * كاتب إسلامي مصري