قانون الطوارئ هو الحاكم في سورية

سوري خائف

قانون الطوارئ الذي فرض على السوريين طوال نصف قرن, هو حالة هيمنة واحتكار واستبداد لامثيل له في العالم كله. أباح للسلطة أن تهيمن على كل شيء في سورية, وتتحكم حتى بالحجر وبذرة التراب, وبنسبة المواليد وبنسبة الموتى وبنوعية الرغيف... أحد مبادئ حزب البعث يقول: (حزب البعث ثوري وانقلابي). وقد مورس هذا المبدأ على السوريين جميعاً, فكانت النخبة الحزبية تمتلك الحق بالإنقلاب على السوريين, والثورة عليهم في كل لحظة, لايمكنني أن أتصور اليوم كيف استطاع السوريين أن يعيشوا كل تلك السنوات في ظل ذلك الوضع الرهيب. لقد كان كل مواطن سجين. حتى النخبة المتنفذة في السلطة ظلوا سجناء وأسرى مثالهم في ذلك كأي مواطن سوري.

كلما اقتربت من السلطة تصبح أكثر ارتهاناً لها. وتصبح حياتك أكثر خطراً.. فلا تعرف من يتحكم بالقرار, ومن يمتلك زمام الفعل. ولا تعرف إلى أين يسير القطار السوري, ويأخذ الشعب برمته معه.!. إن الذين خدموا النظام طوال سنين, وشغلوا مناصب رفيعة فيه, كانوا أيضا يجهلون كل شيء يتعلق بمسيرة ذلك القطار..

ماذا يريد النظام الحاكم من مواطنيه المطيعين؟. لا أحد يعرف الجواب الحقيقي.. هل يريدون منا أن نعادي الصهيونية؟ أن نعادي الولايات المتحدة؟. أن نعادي فرنسا أو السعودية أو قطر؟. هل يريدون منا أن نؤدي أي دور لنسمى عندهم مواطنين صالحين؟. ثم ماهو الخط الذي يمنع علينا تجاوزه؟ لا أحد يعرف أي جواب. لكن من الثابت ومنذ اليوم الأول لحكم حافظ الأسد حتى هذه اللحظة أن النظام يقدس الإعلام السوري, ويلزم المواطن بترديد كل مايقال في الإعلام السوري, كما يلزمه بحمل أو رفع أو تعليق صورة الرجل الواحد الحاكم للبلاد. وأن يكتب كل مواطن كلمة نحبك. هذا هو المواطن رقم واحد في سورية.. لكن هل هذا الأداء يكفي لكي نفهم سياسة السلطة داخليا وخارجيا.؟ بالطبع لا.

إن سيطرة حافظ الأسد على السلطة في سورية, واستمرار حكمه وتعيين ابنه بشار, وقيام هذه السلطة في رسم كل الأقدار في سورية من تراب وحجر وبيوت ونفوس ونبات ورغيف وموظفين وجنود وأجهزة أمن... كل هذه الأشياء رسمتها السلطة بدقة وفرضتها وفق نموذج صارم, الغرض منه تعزيز بقاء السلطة وهيمنتها واستمرارها. كل هذا حدث بموجب قانون الطوارئ البائد.

لقد استغلت السلطة في سورية هذا القانون, ليس إلى حدوده القصوى فحسب, بل إلى ماهو أبعد من حدوده القصوى بآلاف المرات. لذلك لايمكن أن نتصور سلطة فيا لعالم كله أمكنها استغلال أحكام الطوارئ بهذا الشكل الذي مورس على السوريين.

أنا أكتب الآن. وأجلس في مكتبي. ورغم الإعلان عن رفع أحكام الطوارئ في بلدي, فإنني لا أثق, ولايمكن لمثلي أن يثق بأنه لن يعتقل بسبب مايكتبه على الورق. لقد صنع هذا القانون قلوبا ضعيفة مرتجفة, ونفوسا ضعيفة. وأشخاص قلقين, لو سألتهم عن لون الصفحة البيضاء لقالوا بأنها سوداء. الإعلام السوري مازال حتى هذه اللحظة يغير الكثير من الألوان. وسوف يستمر في هذا الأداء, رغم رفع قانون الطوارئ. فحينما يتحاور المذيع مع ضيف البرنامج, يتوجب عليهما أن يغيرا كل الألوان. وأن يتحدثا بكلمات من خارج القوانين الطبيعية. هذا يعني أن القانون لايمكن للسلطة أن تلغيه أبدا.

في الأمس كنت في ضيافة صديق لي, فطلب من ضيوفه أن يطفئوا أجهزة الموبايل. وطلب الثاني انتزاع البطاريات. إنهم يعتقدون فعلاً أن السلطة تراقب كل شخص وتسمع حواره حتى حينما يكون في سرير زوجته. فهذا القانون وطرق تطبيقه الكثيرة صنع أشخاصاً خرافيين فعلاً. يتصورون أن الحكومة تمتلك قدرات سحرية خارقة.

كان سكان سورية يعيشون مرتاحين ثابتين في مدنهم وقراهم, ومحافظين على العلاقات الاجتماعية والقبلية المتينة. لكن حافظ الأسد رسم خارطة سكانية جديدة لكل المدن والقرى والأحياء. فقد وفد القرويين إلى المدن بتوجيه من السلطة, إلى المدن الكبيرة, واستأجروا بيوتا من أصحاب هذه المدن. فصدر قانون يمنح الوافدين حقوقاً إضافية. فأصبحوا بموجب قانون الإيجار يمتلكون هذه البيوت التي استأجروها. ثم أصدر الرئيس بشار تعديل طفيف لهذا القانون, منح للمستأجر مانسبته أربعون بالمائة من قيمة البيت المستأجر. وهذا قانون عرفي وغير عادل.

القانون العرفي فرض حالة اللا قانون في سورية. وهذه الحالة استمرت طوال الفترة السابقة كلها, وسوف تبقى اليوم وغداً.. وهي تنطلق على كل المجالات التي يمكن أن يتخيلها القارئ. فمثلاً أنا الآن, في دمشق أحاول تصفح الأنترنيت, لكن يتعذر الإتصال طوال هذا اليوم.. وفي يوم الأمس أتيحت لنا حوالي ثلاث ساعات فقط. المشغل الذي أستأجره خاص وليس حكومي, فلا يهم, الحكومة تفرض على المشغل أوامرها. ويستطيع المشغل أن يغش المستأجر أيضاً, وكل هذا يجري تحت غطاء الأوضاع العرفية. هذه الأحوال خلقت أنماطاً جدية من السوريين. هذه الأنماط يسايرون الحال العرفية, فيبنون كل أعمالهم ونشاطاتهم وأفكارهم وتجاراتهم على الوضع الراهن. فالطالب لا يريد أن يدرس, لأن الغش في الامتحان متاح, والشهادة سيشتريها بمال أبيه لو أراد. كما أن امتهان الغش والسرقة والنصب والممنوع أكثر ربحاً له. وأقرب وأسهل من وسيلة الدراسة. لهذا فشل التعليم وفشلت كل المؤسسات التعليمة... وهذه الحال فرضت مدرسين وإداريين وأساتذة جامعيين غير أكفاء, وأزاحت الأكفاء والقديرين... وقس على هذا كل المجالات في المجتمع السوري..

بذريعة هذا القانون استولت السلطة على عقارات تعود أملاكها لمواطنين عاديين من أبناء المدن والقرى والأرياف. وبنيت على هذه العقارات مشاريع كبيرة جداً اغتنى منها من أرادوا الاعتناء. أي المقربين من السلطة طبعاً. فيما ذهب أصحاب تلك الأملاك إلى الفقر والمجاعة أو الموت حزنا وبردا وجوعا وقهرا. أقرب مثال على هذا الأمر هو كاتب المقال الذي لا يمتلك اليوم بيتاً يأوي عائلته وأولاده فيه. فيما تقدر قيمة العقارات التي استملكتها الحكومة منه ومن أسرته بمليار ليرة سورية. وقد بنيت عليها أهم المشاريع العمرانية في سورية. وقد جرى الاستملاك في كل المدن والقرى تقريباً. ومنع المواطن بموجب قوانين مكملة وعرفية من بناء بيت يأويه وأولاده. وقد وضع المواطن في موضع الريبة والتهمة والمخالفة والانتظار للفرج الذي قد لا يأتي.. فكأن من وضع هذه القوانين قرأ مسرحية (بانتظار غودو), وجعل كل السوريين ينتظرون غودو. كأنه قرأ رواية الطاعون لكامي, وجعل كل السوريين يعيشون في زمن الطاعون. ورغم أن طاعون كامي, قد زال عن المدينة الجزائرية فإن طاعون المجتمع السوري رسم له أن يكون مرض لا نهائي. فمنذ تمكني من لفظ الكلمات, أتذكر أن والدي كان يتحدث عن تهديد أمانة العاصمة التي جاءت وهدمت الغرفة التي كان يبنيها. وحتى اليوم يقوم عمال البلدية بهدم أي جدار يمكن أن أتجرأ وأخالف القانون وأضيفه لمنزلي.. لقد صمم واضع القوانين على أن يبقى كل مواطن ينتظر الفرج فلا يجده. ينتظر الحل فلا يأتيه. ينتظر الإصلاح فلا يمنح له. ذلك لكي يموت هذا الموت في حسرته. ونتيجة لأوضاع البيوت المخالفة هذه مثلاً فإن أغلب السوريين يعيشون في هذه التي هي شبه بيوت. في حين يمكن للسلطة أن تيسر لهم تنظيم المدن وبناء العقارات بالشكل السليم. وبالطبع فإن كل موظف يمتلك عشرات من الأجوبة التي تنفي ما أكتبه هنا. حتى الخطاب صار عبثياً وبعيداً عن الموضوعية. ومنع الخطاب الصادق الحقيقي, بل يعاقب قائله, والتهمة جاهزة لمحاسبته, فهو شخص يمنح أسرار الدولة للأمريكان.!.

لقد سلّم المواطن السوري بأن للسلطة الحاكمة هيبة, فمنهم من تقرب من السلطة ليكسب من هيبتها. ومواطنين ظلوا بعيدين عن هذا النفوذ, فمورست الهيبة الشبيهة بالكرباج عليهم جميعاً. هذه الهيبة قامت على أركان القانون العرفي. لكن السوريين رغبوا اليوم برفع هذا الكرباج عن رؤوسهم. فاضطرت السلطة لإصدار قانون برفع الأحكام العرفية.. فالسلطة تعلم بأنها لو رفعت كل الأحكام الناتجة عن والمتعلقة بهذا القرار فسوف تزول هيبتها كلياً. ويتوجب عليها أن تذهب بلا عودة. لذلك فإن هذا القرار لن يرفع. ولن يرفع منه بنداً واحداً, بل ستصاغ قوانين أكثر صرامة وتعسفاً. ففي هذا اليوم ترفع الأحكام العرفية بينما تصدر قوانين بمنع التظاهر. مع أن التظاهر السلمي مباح بموجب الدستور السوري. كما يقتل ويعتقل في المدن السورية عدد كبير من الأبرياء.

في الدوائر الحكومية توجب على الموظفين مثلاً أن يخرجوا في تظاهرات مساندة للحكومة. لنتصور رجل في الخمسين من عمره, يرقص في الشارع ويصرخ ويرفع صورة, ويجبر على المشي طوال خمس ساعات..!. إنه مجبر على أداء هذا الدور المضحك. ولو تجرأ ورفض, فسوف يعاقب. فكل موظف مدني يخضع للأحكام العرفية. ويفرض عليه أن يعلن عن حبه للسلطة ولرمزها.. لقد صارت هذه الدوائر الحكومية المدنية شبه مؤسسات عسكرية. لذلك تصدر القوانين برفع رواتب الموظفين فقط. بينما باقي الشعب لايستفيدوا من الدولة بقرش واحد.. فكأن هؤلاء من صنف السلطة, والآخرين من صنف غير سوري.!.

 الحديث عن القانون العرفي ومانتج عنه, أمر لا ينتهي, ويمكن للمراقب أن يكتب آلاف الصفحات في هذا الموضوع. فسورية لم تسعى السلطة لتحديث شيء فيها حتى الآن. مع أن كل مواطن سوري يتمنى ويرجو أن تأتي الإصلاحات من قبل السلطة. لاأخفي أنني أثناء كتابة كل كلمة في هذا المقال بقيت أحذف هذه وأعدلها بهذه.. وبقيت أضع يدي على قلبي. وأوصيت زوجتي بالأولاد. وأرسلت هذا المقال للنشر, رغم أن القانون يحميني لكننا نحن في سورية مازلنا نعيش خارج كل القوانين. إنما في عالم الأمزجة. لقد فرض الوضع السلطوي أنه ليس بين المواطن والحكومة أي عقد اجتماعي أو تضامني, فالمواطن عاش طال خمسين عاماً في وادي. وكانت السلطة ترفع عرشها عن ذلك الوادي. فالسفارة السورية في بلد أجنبي تمارس دور التجسس على المواطن العادي, فيما تدعم وتمول المتعاون معها والذي لا يتميز إلا بشيء واحد, ربما هو أنه يعلق صورة الرئيس على قبة معطفه حين دخوله مبنى السفارة. كأن هذا مواطن وذاك غير مواطن.!. وحين يعتقل سوري في بلد أجنبي مثلاً لم نسمع عن مطالبة الحكومة السورية به, بل ندرك بأن هذه السلطة تقول في سرها, اعتقلوا مئات وآلاف من مواطنينا, وأريحونا من أعباءهم. مثل هذه العبارات قرأناها وسمعنا فعلا مئات المرات. من مواطنين سوريين, في حوارات على الأنترنيت وعلى التلفزيون السوري, يقول كثير من أتباع السلطة: عبارات من نوع: من لم يعجبه الحكم فليرحل, ليعيش خارج سورية. حتى كبار المسؤولين السوريين حينما تحدثوا عن السوريين في الخارج, وصفوهم بالأغيار, والأعداء. إن إطلاق صفات: السلفيين والمسلحين والمتطرفين على عشرات الآلاف الذين تظاهروا في حمص وبانياس, يعني أن السلطة تقسم الشعب السوري إلى موالين ومعادين. فهؤلاء المعادين يمكن قتلهم أو اعتقالهم. وباختصار فهم ليسوا مواطنين. وقد تحدث الرئيس بشار عن صنفين من المواطنين حين قال: (لايوجد وسطيين). فقطع الطريق بهذا على أكبر شريحة من السوريين. وهؤلاء هم الذين اعتقدوا في البداية بأنهم سيظلوا محايدين وصامتين إلى أن تنتهي المرحلة. لكن هذه الشريحة الكبيرة أدركت بأنها مهددة وموسمة بالعدو. فبدأت تنحاز فعلاً إلى الإصلاحيين. لقد نفى الرئيس بشار خمسة عشر مليوناً من السوريين بزّلة لسان. أي بحكم عرفي. وفرض حكمه على الجميع. فتقيدت السلطة بهذا الحكم. الذي سيبقى سارياً حتى يتحدث الرئيس مرة أخرى ويلفظ كلمة أو (زلة لسان) أخرى تعتبرهم مواطنين. رفع قانون الطوارئ يعني تنازل السلطة عن مليون بند من مكاسبها, فلا أحد من السوريين يتصور بأن السلطة قادرة للتنازل على خمسة بنود فقط من هذه المكتسبات غير الشرعية... أنا أشتغل في الكلمات, ورغم ذلك فإنني, وبسبب القانون العرفي, وكأي مواطن في سورية أخشى حتى الآن أن ألفظ كلمتين هما: (أسد. علوي). لقد منع الناس طوال عقود من التحدث مثلاً عن ملك الغابة, الأسد. وفي التلفزيون السوري وفي الكتب المدرسية يتحاشون ذكر هذا الحيوان (الأسد). وفي الأبحاث الدينية والتاريخية يمنع أي نقاش يتناول العلويين. بل يمنع ذكر كلمة علويين. وهذا الأمر أفقر المكتبة التاريخية من مادة تاريخية رئيسة ومهمة ومرتبطة بكل الأبحاث الإسلامية والصوفية. اتسع القانون العرفي حتى أصبح وضعاً وحالة عامة, فبإمكان أي شخص أن يتعامل مع خصمه بموجب العرفي وبطريقة عرفية. وقد منح الناس حق استثمار هذا العرفي لتحقيق مصالحهم الشخصية. ففي عهد حافظ الأسد وضع بند قانوني يسجن كل شخص يقطع شجرة, وقانون آخر يسجن كل شخص ينقل مواد بناء..!. هذه القوانين كانت تتيح لأي كاره أن يتسبب بالسجن لشخص بريء. فتنفيذ الحكم في سورية لا يستند إلى محكمة وشهود, بل إلى شكوى هاتفية من مجهول. ولم يكن الهدف من تلك القوانين أن تخدم المجتمع والدولة, بل كان هدفها هيمنة السلطة وقمع الجميع والحفاظ على سياسة ترعيب المواطن وقهره وإذلاله.

إن امتدادات القانون العرفي في سورية كثيرة لدرجة أنها لا نهائية. فكل شيء عرفي هنا. وكل شيء يفرض حتى بزلة لسان.

إن مذيع التلفزيون السوري, وكذلك الصحفي العامل في الصحف الحكومية, لا يستطيع أن يقدر مبادئ السلطة, لأنه لم يفهمها ولن يفهمها. فكثيرا ما يعبر الصحفي عن ولاءه للنظام بطرق وأفكار يعتبرها البعض منهم معادية لأفكار النظام. فيقع الرجل في ورطة نتيجة اجتهاده.. في عصر الحجاج الثقفي, كان الشاعر يقول كلمته, فإما أن يقطع رأسه أو يمنح ألف دينار, هذه الطريقة نجدها اليوم في النظام السوري. فالشابة طل الملوحي اعتقلت بسبب كلمات كتبتها على فيس بوك. وحكم عليها بالسجن لخمس سنوات. بسبب كلمات من أحرف هي في الحقيقة أزرار على لوحة الكيبورد. رفع قانون العرفي في سورية لكن طل الملوحي بقيت في السجن. إذاً, في أي سجن؟ من يعرف؟. من يسأل من؟ من يمتلك الجواب؟. لا أحد يعرف ؟. هذه الإبهامية في سورية ترتبط بالقانون العرفي أيضاً.