الحرية وثورة 25 يناير 2011
أ.د. محمود السيد داود
أستاذ السياسة الشرعية المشارك
بجامعة البحرين وجامعة الأزهر
لقد شهدت الأمة العربية والإسلامية ومعها العالم أجمع، فى مطلع هذا العام، الحادى عشر بعد الألفية الثانية للميلاد، عدة احتجاجات ضخمة وقوية وتظاهرات نظيفة مزلزلة، سرعان ما تحول بعضها فى بعض البلاد العربية والإسلامية إلى ثورات عارمة، ثورات الشعوب على أنظمتها الاستبدادية القهرية التى كانت تجمع بين الظلم والفساد والقهر والاستبداد، كالثورة المصرية، التى كان من أهم شعاراتها " حرية . كرامة . عدالة اجتماعية"، والتى على أثرها تمتعت كل أرجاء مصر بنسمات الحرية الخالصة، وهبت على كل أطرافها رياح الحرية والانطلاق والعزة والمكانة بعد أن خلعت عن نفسها رداء الذلة والمهانة، وكأنها أتت على جدار الذل والتقييد والانكفاء على لقمة العيش، والانشغال بسفاسف الأمور فأزالته، هذا الجدار الذى كان يحبس عنا ضوء البدر ونور الفجر وهبوب النسيم وإشراقة الشمس .
لقد هبت مع نجاح الثورة المصرية ومن ميدان التحرير، رياح الحرية والتغيير، على المستوى الخارجى الدولى والمستوى الداخلى المحلى، أما على المستوى الخارجى الدولى ، فلقد أكدت هذه الثورة زوال الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على القرار المصرى، لقد كانت القرارات المصيرية قبل الثورة فى مصر قرارات أمريكية أو إسرائيلية وإن لبست الثوب المصرى، كالقرار بتصدير الغاز إلى إسرائيل الظالمة والمحتلة بأبخس الأثمان، والقرار بالمشاركة فى حصار غزة رغم وجود الأطفال والشيوخ والنساء الذين لا يقوون على الحصار، والقرار ببناء الجدار الفولازى على الأرض المصرية دعما لأمن إسرائيل، والقرار بمحاكمة المدنيين الشرفاء من المصريين أمام المحاكم العسكرية دون منطق، وغير ذلك من القرارات والمواقف التى يصعب عدها وحصرها، أما بعد الثورة فقد فطنت الإدارة الأمريكية والإسرائيلية وغيرها أنها فقدت مقود التوجيه فى مصر والقدرة فى الإملاء عليها، وأن زمنها الذى كانت فيه قادرة على تنصيب حاكم هنا وآخر هناك لرعاية مصالحها على حساب الشعوب ومقدراتها قد ولى إلى غير رجعة، بعدما اكتشف الشعب المصرى نفسه، وأدرك أن الحرية نعمة عظيمة وهبها الله للإنسان لا تقل عن نعمة الحياة، وتستحق أن تقوم من أجلها الثورات وتبذل فى سبيلها التضحيات .
وهذا ما يمكن أن نفسر به العداء الإسرائيلى لفكرة الثورة والتحول الديمقراطى فى مصر، حيث ندبت المؤسسة الإسرائلية حظها لفقدانها أهم حلفائها فى المنطقة وهو نظام الرئيس السابق مبارك، معتبرة أن هذا التحول يشكل تهديدا أمنيا لها، وعليه سعى قادة هذه المؤسسة إلى الضغط على واشنطن من أجل مساعدتها فى استخدام كل ثقلها من أجل ضمان مواصلة مصر ليس فقط التزامها باتفاقيات السلام، بل والتعاون الأمنى الكثيف الذى كان قائما فى الماضى بين تل أبيب والقاهرة، والذى كان يتم أحيانا بمشاركة أمريكية. وهيهات هيهات لما يتمنون .
وأما على المستوى الداخلى المحلى، فلقد عاشت مصر قبيل الثورة أسوا أجواء التقييد والتنكيل والتضييق والإذلال والمهانة، وذلكم حينما غابت الحرية، فى كل دروب الحياة، فلقد غابت هذه الحرية من حياة المصريين فى العهد السابق مع تزوير الانتخابات فى مجلسى الشعب والشورى والمجالس المحلية، ومع تجاهل الطعون وأحكام القضاء ببطلان الترشيح والنتائج، كما غابت أيضا مع الاعتقالات غير المبررة والتعذيب دون جريرة، وزيادة أعداد المسجونين دون محاكمة ، وانقطاع خطوط الاتصال بين القاعدة والقيادة ، والاكتفاء من قبل القيادة بالوقوف على منصات الخطاب واحتكار الحديث وإصدار التوجيهات والانفراد بإصدار القرار وانعدام الحوار الحقيقى وادعاء الحوار المزيف من طرف واحد، ولا يخفى ما ترتب على غياب هذه الحرية فى الحياة المصرية من تراكم الفساد والظلم والإحساس بفقدان الأمل ، وانتشار الرشوة واستغلال النفوذ، وإهدار المال العام ونهب ثروات البلاد، وشيوع الصفقات غير المشروعة ، وتدهور أحوال الفقراء وزيادة التفاوت الاجتماعى بين الفقراء والأغنيتاء، وارتفاع معدل البطالة بين الشباب وزيادة التدفقات المالية غير المشروعة من مصر إلى خارجها وغير ذلك مما عم بلاؤه فى الحياة المصرية قبل الثورة .
أما فى ظلال هذه الثورة المصرية العظيمة، فلقد تنامى الخطاب الإصلاحى، فى مقابل تراجع الخطاب السلطانى الدكتاتورى، فقبل الثورة كان الخطاب الدكتاتورى السلطانى يدعو إلى الاستكانة والخضوع للسلطان والركوع بين يديه، أما الخطاب الإصلاحى اليوم فهو دعوة إلى الحرية والديمقراطية وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلمات الجهل والتقييد والتسخير إلى أنوار العلم والهداية والتحرير، وهذا هو منطق القرآن " كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد"ِ إبراهيم آية 1،. قبل الثورة كان الخطاب الدكتاتورى يركز على ضرورة السمع والطاعة ، وعدم الاعتراض على السلطان وإن فرط فى مقدرات الأمة ونهب خيرات البلاد والعباد، أما اليوم فالخطاب الإصلاحى ينادى بالعدالة فى توزيع الثروات ، وعدم السماح بالنهب والسرقات، ومحاكمة المجرمين بالعدل والقسط ، وهذا هو منطق القرآن أيضا : " قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ " الأعراف من الآية رقم 29 ، قبل الثورة كان الخطاب الدكتاتورى يرسخ لأسوأ أنواع الطبقية في تاريخ البشر، ومنها الطبقية المادية، والطبقية السياسية، أما اليوم فالخطاب الإصلاحى يسوى بين الناس جميعا فى الحقوق والواجبات، ويعمل على إذابة التمييز والتفرقة ، وهذا هو منطق القرآن الذى جاء ليقرر: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " الحجرات من الآية 10
قبل الثورة كان الخطاب الدكتاتورى يبرر الاضطهاد ويغض الطرف عن أقبية السجون والمعتقلات وما يدور فيها من ويلات ومصائب، تحت لافتة حماية أمن الدولة ، أو حماية المصلحة الوطنية العليا، أما اليوم بعد الثورة فالخطاب الإصلاحى يركز على الحرية والعدالة، ومبدأ أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، ومبدأ الشرعية وأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وهذا هو منطق القرآن ، قبل الثورة كان الخطاب الدكتاتورى يقرر مبدأ استلاب حق الأمة في اختيار السلطة، ويبرر توريث الحكم وتوريث السلطات، ويعمل على سلب حق الأمة من المراقبة والمحاسبة لحكامها، فضلا عن تقويمهم ومحاولة إصلاح شأنهم، أما الخطاب الإصلاحى اليوم فإنه يعيد فينا مقالة عمر لمن أراد أن يمارس حقه فى الإصلاح والتقويم حتى وإن كان للحكام " الحمد لله الذى وجد فى أمة محمد من يقوم عمر بحد السيف " ويؤكد على ضرورة الصرخة فى وجه كل ظالم حتى وإن أدت إلى القتل ويقر ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فيقول: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" رواه أحمد، ويقول أيضا : " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب و رجل قام إلى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله " رواه الحاكم.