ملامح تأثير الثّورة المصرية على المشهد الإعلامي
ملامح تأثير الثّورة المصرية
على المشهد الإعلامي
صلاح حميدة
تعتبر مصر من أعرق الدّول العربية في مجال الصّحافة والاعلام المكتوب والمرئي والمسموع، كما خرّجت مصر مئات المفكرين والاعلاميين العرب في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عندما كانت قبلة العرب بكافة فئاتهم.
قوّة وأصالة الإعلام المصري في تلك الفترة جعلته مارداً يرعب الدّول العربية الحليفة لقوى الاستعمار الدّولي، حتى إنّ أحد المحامين العرب الذين عاشوا تلك الفترة في دولة حليفة للقوى الغربية قال: - " كنت أختبىء في فراشي وأتغطّى لأستمع للإذاعة المصرية خوفاً من مخابرات ذلك البلد العربي".
كان الاعلام المصري الحر الذي يلامس آمال وطموحات المواطن العربي محل ترحيب شعبي، ومحل ملاحقة من قبل جلاوزة الأنظمة العربية التي كانت توصم بالرّجعية في ذلك الوقت. أمّا بعد أن وقّع النّظام المصري اتفاقية كامب ديفيد ودخل الحظيرة الأمريكية الإسرائيلية، فقد تراجع الإعلام المصري في أدائه بشكل مأساوي، وأصبح إعلاماً محنّطاً وبوقاً للأنظمة التّابعة، لا ينطق إلا بما تريده زمرة فاسدين من تابعي الغرب الاستعماري والدولة العبرية، وبالتالي فقد هذا الإعلام - بالرغم من عراقته- بريقه لدى الشّعوب العربية ، فضلاً عن الشعب المصري نفسه.
عندما انطلقت الثورة المصرية ( ثورة الخامس والعشرين من كانون الثّاني /يناير) ظهرت كل مساوىء هذا الإعلام للمشاهدين والمتابعين، وانحطّ أداؤه لدرجة السّوقية والكذب والتّدليس والخداع والتّلفيق ورمي النّاس في أخلاقهم ووطنيّتهم وأمانتهم ودرجة فهمهم وتقديرهم للأمور، بل وصل الحد للتحريض على قتل وحرق المحتجّين ضد النّظام.
انتصار الثورة المصرية شكّل معضلة للقائمين على وسائل الإعلام الرّسمية، فقامت بتغيير جلدها بين ليلة وضحاها، بل قام العديد من رموز الإعلام الرّخيص بالاعتذار علانية للجمهور، وهاجموا النّظام السابق، وأخذوا ينشرون كل ما يقال عن رموزه بدون تمحيص ولا تدقيق، بمبالغة لا تتوافق مع المهنية، وهذا يدلل على أنّ هؤلاء يعملون بطريقة تبحث فقط عن رغيف الخبز ولا يهمها ماذا تقول، حتى إنّ بعض الوسائل الإعلامية التي تحترم نفسها توقفت لهنيهة وقالت: المتهم بريء حتى تثبت إدانته وأوقفت نشر الاتهامات الجزافية، أمّا بعض الوسائل والرّموز الإعلامية الرّسمية الأخرى، فقد بدأت بتملّق المجلس العسكري القابض على السّلطة الآن في مصر، وهذا يكشف عن حالة نفسية تصيب العبيد عادةً، فهم يأنفون العيش بحرية وترك عبادة الأصنام على اختلاف أنواعها، فما إن يتم تحطيم صنمهم المعبود حتى يقوموا بالبحث عن صنم جديد يتزلّفون إليه أملاً بالعطايا والمزايا، ممعنين في تبنّي ثقافة الإرتزاق، وقد ظهر بعضهم وهو يتملّق المجلس العسكري بعد أن ذكر في الاعلام بأنّه مرشّح لتولّي منصب وزير الإعلام، فهؤلاء مثل الحرباء يبدلون جلودهم حسب المصلحة، وهؤلاء من أخطر النّاس على الثّورات ومن أكبر مفسديها.
وضع الإعلام الرسمي المصري كل إمكانياته لإجهاض الثورة وتفريق النّاس من حولها، مستخدماً في سبيل ذلك كل مافي جعبته من عهر إعلامي رخيص، كما قام النّظام بقطع خدمات الرسائل النّصية والهاتفية وخدمات الإنترنت وحجب مواقع التواصل الاجتماعي، ومنع بث قناة الجزيرة الفضائية والجزيرة مباشر عبر قمر نايل سات، وشوّش على بثّها عبر القمر عرب سات، ولكن هذا الأسلوب دفع المصريين إلى البحث عن " الجزيرة" على أقمار وتردّدات أخرى، ومتابعة قنوات فضائية غير تلك الرّسمية بعد أن فقد ثقته بها، وبعد أن لم يعد احتكار الفضاء الإعلامي موجوداً منذ الثورة التكنولوجية العالمية.
محاولات العزل والتهريج الإعلامي الدّاخلي دفعت المصريين لاستحداث وسائلهم الإعلامية الخاصة، فلجأوا إلى الإعلام البدائي، وذهبوا إلى استخدام الإعلام عبر رسوم الكاريكاتير و كتابة الشّعارات على الجدران وعلى الدّبابات العسكرية، ورفع اليافطات وصور الشّهداء واستخدام مكبرات الصوت عبر السيارات والمساجد، وتوزيع البيانات على النّاس، وعبر الاتصال بالفضائيات للتّبليغ عن فعاليات و أحداث وقعت وأخرى ستقع. هذه الوسيلة الإعلامية البدائية الممارسة، كان لها كبير الأثر، حيث كانت منتشرة في الأراضي الفلسطينية في انتفاضة الحجارة عام 1987م، عندما كانت تعاني من قلة المتابعة والتّغطية الإعلامية، وحرص محتكري الوسائل الإعلامية المحدودة في تلك الفترة على التعتيم -قدر الامكان- على الأحداث الميدانية في فلسطين لمنع تأثيرها على الشّعوب العربية، و حتى تخبو الثورة الفلسطينية ويتراجع الثوار، ولكن في انتفاضة الأقصى عام 2000م كان الوضع مغايراً، فلم يكن الاهتمام بهذه الوسيلة الإعلامية الثورية يحظى باهتمام كبير من قبل قيادة الثورة الفلسطينية، لأنّ الثورة التكنولوجية وفّرت لهم إمكانيات التواصل مع أكبر قدر من الجمهور وفي أقصر وقت، مما دفع عدداً من الفصائل الفلسطينية - فيما بعد- لتأسيس فضائيات ومواقع إلكترونية ووسائل إعلامية مختلفة خاصّة بها، لتبيان وجهة نظرها ونشر أفكارها بعيداً عن توازنات وحسابات وسائل الإعلام المختلفة.
ولكن ما يميز هذا الأسلوب الإعلامي للثورة المصرية هو تنوعه وكثرته ومزجه بين السياسة والطرافة، وبالتالي صبغه المصريون بصبغة خاصة، قد لا نجد لها مثيلاً في حالات كثيرة أخرى، وبالرّغم من قصر زمن الثورة المصرية المعاصرة، فهذا الطّراز من الإعلام الثوري بحاجة لتوثيق ودراسة مستفيضة من قبل الدّارسين والباحثين في علم الاجتماع السّياسي.
تصدّرت قناة الجزيرة الفضائية المشهد الإعلامي المصري والعربي عبر تغطيتها لما يدور في مصر على مدار الساعة تحت عنوان " مصر تتحّدث عن نفسها" هذه التّغطية المحترفة للجزيرة جعلت منها عدوّاً شرساً للنّظام المصري، فشنّ عليها هجوماً إعلامياً كبيراً، ومارس ضدّها وضدّ من يقفون خلفها حرب تشويه كبيرة، في حين كانت الجزيرة تنقل ما لا يعرضه غيرها، بل كانت تحرص في بداية الأحداث على استضافة من يتكلمون بوجهة نظر الحكومة المصرية السّابقة.
الإعلامية المصرية نوّارة نجم قالت في لقاء مع الجزيرة: " إذا غضب الله على شخص، سلّط عليه عقله"... هذه الحالة هي التي وقع فيها النّظام الرّسمي المصري ورموزه، فقرروا في خطوة "انتحارية" مقاطعة قناة الجزيرة والاستمرار في شنّ الحرب -متعددة الوسائل- ضدّها، فانقلبت عليهم هذه السياسة بأن دفعوا الجمهور المصري لمتابعة قناة الجزيرة والبحث عنها، بل دفعوه للدّفاع عنها، لأنّ النّظام المصري وإعلامه مجروح بالنّسبة لغالبية المصريين، وبالتالي فكل من يهاجمه هؤلاء فهو بالتّأكيد سيكون مقبولاً لعموم النّاس، وظهر هذا في هتاف الجماهير المصرية أمام التلفزيون المصري " الجزيرة فين... الكدابين أهم".
كما أنّ هذه السياسة الحمقاء دفعت "الجزيرة" لتكون منصّة لأصحاب رأي الثّورة، مخيّرة ومجبرة في نفس الوقت، وأصبحت شريكةً في معركة الحرّية التي خاضها الشّعب المصري بدماء أبنائه وعبر أثيرها، فأعطى النّظام كامل مساحة التّغطية الإخبارية لخصومه وانسحب من المشهد الإعلامي لأكبر شبكة إعلامية عربية، بل قام فوق ذلك باستعدائها.
مما سبق يظهر أنّ الثّورة المصريّة أثّرت على شبكة الجزيرة الإعلامية لتكون أكثر ميلاً لتبنّي التّغيير، ولتتخلى عن حياديتها في ظل هذه المعركة المصيرية في تاريخ العرب، ولتكون رفيقتهم في الدّخول في مرحلة "الرّبيع العربي" عبر تبنّيها الإعلامي لهم، وهذا يعدّ تحوّلاّ جذرياً لطريقة عمل وتغطية شبكة الجزيرة للحدث الثوري العربي، الذي لا مجال فيه للحيادية بين الحرية والاستبداد، ويردّ هذا الفضل لتأثير الثّورة المصرية على المشهد الإعلامي.
انحياز الجزيرة هذا صاحبه تأثير كبير إيجابي لصالح الثورة المصرية على وسائل إعلام عربية وعالمية معادية للخط الثوري العربي، وممالئة للأنظمة الرّجعية الظّلامية العربية، فقد أنشئت أغلب تلك الفضائيات، لتكون أداةً لمقارعة الجزيرة الفضائية وللحدّ من تأثيرها على الجمهور العربي، ولتضييق عدد متابعيها بتوسيع المشهد الفضائي ليشمل كمّاً كبيراً من الجزر الإعلامية، ولكن كل تلك الفضائيات فشلت في أداء المهمّة الموكلة إليها، حتى إنّ بعضها عانى من مشاكل كثيرة كادت تؤدّي إلى إغلاقها في الفترة السّابقة، فسعت تلك الفضائيات لاستقطاب الكثير من مذيعي ومقدّمي برامج الجزيرة الفضائية، وسعت إلى تقليد الأداء الإعلامي للجزيرة بنكهة سلطوية للأنظمة الظّلامية العربية، ولكن هذا لم ينفع أيضاً.
ولكن عندما بدأت الثورة المصرية وحمي وطيسها، لجأت تلك الفضائيات لتقليد "الجزيرة" الفضائية بعرض الرأي والرأي الآخر، وكانت تعمل على قاعدة "دس السّم في العسل" بتقديم تغطية مشوّهة للمشاهد العربي والغربي على حد سواء، ولكن سارت الأمور بطريقة كانت في مجملها لصالح الثّورة المصرية، فقد استخدم النّظام السّابق " البلطجيّة" لمهاجمة المتظاهرين، ولأنّ هؤلاء الرعاع كانوا مشحونين ضدّ قناة "الجزيرة" التي تنقل ما يجري في الشّارع، فقد تخيّل هؤلاء البلهاء أنّ كل صحفي وكل وسيلة إعلامية هي معادية بالضرورة للنّظام الحاكم، فقاموا بحملة شرسة من الاعتداءات الجسدية واللفظية وحتى الاعتداء بالاغتصاب على مراسلة قناة تلفزيونية أمريكية(cbs) فأدى تصرف هؤلاء لانقلاب سريع وجذري في المشهد الإعلامي الدّولي بشكل لم يكن في حسبان من أطلق هؤلاء " البلطجية" فأحسن هؤلاء خدمة الثّورة والثّوار، فيما كانوا يعتقدون أنّهم يحاربونهم، وتجنّد كل الإعلام لصالح الثورة المصرية بشكل يكاد يكون كاملاً.
"راحت السّكرة وجاءت الفكرة"..... بعد أن أفاقت تلك الفضائيات المعادية من سكرة ردّ أذى "بلطجية" النّظام المصري عن مراسليها كانت الثورة المصرية قد تجاوزت المرحلة الحرجة ونالت زخماً عالمياً لا سابق له، حتى أجبر من دعموا النّظام المصري على الخروج والتّعنّي بالثورة المصرية وكأنّهم من قادتها؟. فقامت تلك الفضائيات بالتراجع خطوات إلى الخلف في حجم ونوع تغطيتها للمشهد المصري، بل تسعى حالياً للبحث عن كل نقيصة و كل ما يبثّ الفرقة والتناحر والإحباط بين المصريين والعرب وتسلّط الأضواء عليه.
شعرت إدارات تلك الفضائيات بالمأزق الذي وقعت فيه، فنار الثورة بدأت بالانتشار في أغلب البلدان العربية، وأحس من أنشأوا تلك الفضائيات أنّ الأمور في العالم العربي تتجه لحالة يفقدون فيها سيطرتهم على الأوضاع هناك، بل بدأ بعض مقدمي برامج تلك الفضائيات يتمرّدون على الخط التحريري العام لها، فمقدم برامج شهير في فضائية عربية، تجرّأ لانتقاد تلك الفضائية على ما اعتبره تغطيتها المتحيّزة للشّان المصري، وطالبها باتّخاذ نفس الخط في التّغطية للشّان الدّاخلي في الدّولة الخليجية الكبرى التي تدعمها مالياً وتوجّه سياستها التحريرية، بالرّغم من أنّ تلك الفضائية تعتبر بوقاً للأنظمة العربية وحلفائها في الغرب وفي الدولة العبرية، وهي معادية للحركات الثورية في العالم العربي، مما دفع إدارة القناة لإقالته وخفض وتيرة تغطيتها للشّأن المصري بصورة ملحوظة.
لمصر ولثورتها خواص كثيرة لا يمكن حصرها حالياً، وستتجلي تلك الخواص تباعاً من قبل الكثيرين، بل سنشاهد أثر هذه الثورة ونجاحاتها التّراكمية على الصّعد المحلية والاقليمية والعالمية، بطريقة ستعكس الوجه والمعدن الحقيقي لهذا الشّعب العطيم.