لا تضيع هذه الفرصة يا شعب سوريا

يا شعب سوريا:

لا تضيع هذه الفرصة كما ضيعت غيرها!

طارق أبو جابر

 لا بد لكل ثورة شعبية من عوامل وإرهاصات ، وفي مقدمة ذلك : الظلم الاجتماعي ، وكبت الحريات ، والقمع ،واستئثار فئة أو فئات قليلة أو أسر، بالمقدرات والثروات والسلطات .. مما يعبئ النفوس بالغضب ، ويهيئها للثورة عندما تأتي الفرصة . وسنة الحياة – غالبا - ما تقضي وتعطي الإنسان في حيزه ، والشعب في حيزه ، فرصة أو أكثر في الحياة ، وعلى مختلف الأصعدة والمستويات ، فإذا ما أحسن الإنسان أو الشعب استغلال هذه الفرصة ، فإنه يحقق أحلامه وآماله وطموحاته .. بعد هذه المقدمة أنتقل للحديث عن الفرصة أو الفرص التاريخية التي لاحت لشعب سوريا للخروج من حياة الذل والقمع والاستعباد ، إلى الحياة الحرة العزيزة الكريمة ، وضيعها ! على حين اقتنصها شعبا تونس ومصر بمهارة وشجاعة ورباطة جأش ، وحققا ما عجز غيرهما عن تحقيقه ، وهاهي شعوب في دول عربية أخرى تتحفز لتصنع مستقبلها بأيديها ، وتنهي عهود الاستبداد والاستعباد .. وإنني أرى أن أهم العوامل التي عبأت هذين الشعبين ، وتعبئ الشعوب الأخرى ضد أنظمة الحكم المستبدة ، هو الشعور بان هذه الأنظمة متجهة نحو توريث الحكم بكل ما ينطوي عليه من فساد وظلم وقمع ، وتجاهل لإرادة الشعوب ، وتوقها إلى الحرية والعدل والكرامة ، ووجدت هذه الشعوب بسائر أحزابها واتجهاتها في هذا الاستبداد الطاغي المزيد من المهانة والاستخفاف والتجبر ، فانتفضت الشعوب كالسيل الهادر في وجه الطغيان ، وحقق بعضها الانتصار المشهود ، وبعضها ماض في طريق النضال ..

 ولقد ضيع شعب سورية فرصة تاريخية ثمينة للثورة ، عندما امتهنه النظام ، وقام بتعديل الدستور، وتوريث الحكم ، وكانت المهانة أعظم وأشد ، عندما وسد الأمر لشخص لا يملك مؤهلات الحكم ، حسب الدستور، الذي يحدد السن القانونية لمن يتولى قيادة الشعب ، فورط سوريا في مشاكل وقضايا وعداوات وخصومات وأحلاف .. يدفع الشعب المسحوق ضريبتها من لقمة عيشه وعرق جبينه ، وصار الشعب بحاجة إلى من يتصدق علىيه من ماله المسلوب ، وحقه المنهوب.

 أجل، لقد ضيع شعب سورية هذه الفرصة المواتية للانتفاضة على النظام وإسقاطه ، وتأسيس نظام ديمقراطي حر، يصون الكرامة والحرية والحقوق لجميع الشعب ، وينهي هذه الفترة من الحكم التي مزقت المجتمع ، وزرعت بين أبنائه العداوة والبغضاء والإحن ، ولو فعل لكان حقق الريادة في التحرر من الاستبداد ، وهي مكانة تليق بشعب سورية المجيد ،وهي فرصة ، لأن توريث الحكم في دولة جمهورية ، لا يثير حفيظة سائر الشعب فحسب ، وإنما يثير حفيظة أطراف في النظام نفسه ؛ يرون أنه كان يجب أن تتاح لهم الفرصة ، لأنهم الأحق والأجدر بالحكم ، لما لهم من خبرة وتجربة ، ومواقع متقدمة في السلطة ، وما قدموا من خدمات من أجل تثبيت أركان النظام ، وإذا بهم يجدون أنفسهم بين يدي غلام ليس له في هذا الأمر حق سوى أنه ابن رئيس الجمهورية ! وإنني أرى أن نجاح ثورتي تونس ومصر ، ما كان ليحصل لولا أنهما وجدتا تعاطفا من بعض أركان النظام ، الذين شعروا بوطأة الظلم والاستبداد والاستعباد ، ووجدوا أن توريث الحكم هو في حقيقة الأمر صفعة لهم ، وتنكر لمكانتهم ودورهم في إرساء قواعد النظام .

 ولقد خدع شعب سوريا الكريم الطيب نفسه ، وانطلت عليه الخدعة ، عندما صدق أن ابن الاستبداد والديكتاتورية الشرعي ، سيعطيه حرية وكرامة ، ويقيم عدلا ، لأن ذلك يمكن أن يصدق على أي طرف في النظام سوى (الابن)،الذي لا يملك إلا أن يكون الحارس للنهج ، المحافظ على الموروث ، مهما كان هذا النهج وهذا الموروث مثقلا بالطغيان والإجرام .. ولقد انخدع حكماء الشعب ورواد النضال ، وتقاعسوا عن اغتنام تلك اللحظة ، وصدّق بعضهم عندما سمع أن الديكتاتور الصغير ذكره بالاسم ، ووعد بأن يلتقي به ، ويعالج قضايا الشعب العالقة معه .. حتى إذا تمكن من أمره ، تملص ليس من وعوده فحسب ، وإنما من القسم الذي أداه أمام الجمع ، وإذا به ديكتاتور ابن ديكتاتور ، ومستبد ابن مستبد ، وطاغية ابن طاغية .. لأنه لا يمكن له إلا أن يكون كذلك ، وإلا : لماذا جاؤوا به ؟

وهاهي الآن فرصة تاريخية جديدة تلوح أمام الشعب السوري ، وربما ينتظر الشعب بعدها طويلا طويلا، حتى تأتي فرصة أخرى .. فإذا ما صدقت تسريبات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ، وطال الاتهام بجريمة اغتيال الحريري شخصيات من رؤوس النظام ، وصار بعض أركانه مطلوبا للعدالة الدولية ، ومحاصرا ، ومعاقبا ، لأن النظام لن يسلم رؤوس نظامه ، فإنها ستكون الفرصة التاريخية ، وسيجد الشعب التعاطف والتأييد والتعاون من أطراف في السلطة نفسها، لإسقاط هذا النظام الظالم المستبد ، وحتى لو كان نظاما صالحا ، فإنه يتحتم إسقاطه عندما يتهم بارتكاب جرائم ؛ لأن على المخطئ أن يدفع هو ، ومن حسابه، جزاء خطيئته وتهوره ونزواته ، لا أن يكون الغنم للنظام والغرم على الشعب ، لاسيما أن النفوس باتت مشحونة بتأثير نجاح ثورتي شعبي تونس ومصر ، وشعوب أخرى على الطريق ، وشعب سوريا الرائد في النضال من أجل الحرية ، وفي سائر الميادين ، يجد نفسه قد تأخر عن الركب ، و يشعر أن عليه أن يعوض ما فات . والحذر من أن يخدع النظام الشعب مرة أخرى ؛ فيجعله يفوت هذه الفرصة ، كما فوت غيرها ، وتنطلي خدعة جديدة عليه ، وعلى حكمائه ومناضليه ، وإن ما سمعنا من توجيه رسالة للنظام من جانب الأستاذ عصام العطار، حفظه الله ، الذي ناله ما ناله من بطش النظام ، حين أبعد عن الوطن منذ نحو خمسين عاما ، وحين امتدت اليد الآثمة ، واغتالت زوجته البريئة الطاهرة بنان الطنطاوي ، رحمها الله ، وتجاوز معاناته والظلم والإجرام الذي وقع عليه حرصا على سوريا وشعبها ومستقبلها ، ومد اليد للنظام للتعاون على التغيير، في فرصة تاريخية للخروج بالبلد إلى بر الأمان ، فإن ما يثير القلق ، ويتطلب الحذر، هو أن يستغل النظام هذه الفرصة المخلصة للخروج من الحفرة التي هو فيها ، ثم يتنكر لوعوده ، لأنه نظام ماكر مخادع ، لا يمكن الوثوق به ، ومع التقدير لكل جهد يثمر حرية وعدلا وأمنا ، ويجنب وطننا الحبيب الخراب والدمار .. فإننا نؤكد على الحذر في التعامل مع هذا النظام ، الذي أتوقع أن يظهر استجابة ماكرة للدعوة المخلصة التي وجهت له من مربي الأجيال الأستاذ العطار، لكي يتجاوز هذه المرحلة ، ثم يعود إلى سابق عهده .. فالحذر من وعوده ، والحذر من ألاعيبه ، والحرص على توفير الضمان لكل خطوة ، وإنجاز المطالب الملحة فورا، فالطوفان قادم لا ريب، ومن جرب المجرب ، كان عقله مخربا – كما يقال ، والله الموفق والمعين!