الأنظمة الوراثية .. وهاجس التغيير

طراد النعيمي

على الرغم من أن الإخوان المسلمين كانوا يتعرّضون لحملة إبادة - بكل ما لهذه الكلمة من معنى - في سجون المقبور الهالك جمال عبد الناصر وعلى أعواد مشانقه، إلا أنهم كانوا يتحاشون إطلاق أحكام التكفير عليه أو على جلاديه وأذنابه، ويتصدّون فكرياً للتيار التكفيري الذي بدأ ينشأ في السجون وتحت سياط التعذيب الوحشي، من بعض الشباب غير المنتمين للإخوان، وفي هذه الفترة المظلمة أخرج مرشد الجماعة القاضي حسن الهضيبي كتابه "دُعاة لا قضاة"، والذي تعاون على كتابته عدد من قادة الإخوان بإشراف المرشد داخل السجون، ليؤكد أن منهج الجماعة دعوي لا قضائي قبل كل شيء.

في ذلك الحين.. ولأسباب سياسيةٍ بحتة، كانت الفتاوى بتكفير عبد الناصر تصدر من علماء الممالك والأنظمة الوراثية، في الظاهر لما حَلَّ بالإسلام والمسلمين من بلاء على يد الهالك عبد الناصر، وفي الباطن لأن ثورة 1952 قضت على الحكم الملكي في مصر، مُشرِّعة البابَ بذلك أمام طموح شعوبٍ تُحكم بالنظام الملكي!

هو ذات السبب الذي يدفع اليوم أنظمة ملكية وأميرية وراثية لمناهضة الديمقراطية في العالم العربي، وليس الإسلام السياسي كما تزعم، وتسعى - بكل ما أوتيت من مال عبر شراء الذمم - إلى إجهاض أيِّ تجربة ناجحة للديمقراطية والنهضة الاقتصادية في أي بلدٍ عربي، حتى لو جاءت الديمقراطية برئيس مسيحي أو يهودي أو حتى مُلحِد، فالخطورة تكمن في نجاح التجربة الانتخابية التداولية لا وصول الإسلامي، لأن هذا النجاح سيؤدي - ولو في المدى البعيد - إلى طموح شعوبها لتجربةٍ سياسيةٍ ناجحةٍ مثمرة، مغايرةٍ لأنظمة حكمها الذي تعيش في ظلها.

وهذا ما يفسّر اليوم ما يُحاك لدول الربيع العربي من معظم الأنظمة الوراثية، لإحلال الفوضى في تلك الدول، والدفع باتجاه وصول أنظمةٍ عسكرية جديدة تكون أطوع من سابقاتها لأموال النفط الخليجي، بعد أن يأست من عودة الملكيات إليها، وكذلك لكبت أحلام شعوب دول الربيع العربي بالحرية والديمقراطية والنهضة الاقتصادية، وبالتالي إرهاب شعوب الأنظمة الوراثية من الحصاد المُرّ لمثل هذه الأحلام إن هي راودتهم!

حصل هذا في مصر.. ويحصل الآن في ليبيا.. وكانت محاولة ليحصل في تونس.. وسيتم السعي - بالتأكيد - ليحصل في سورية.. وتم تفضيل الأيديولوجية الشيعية القائمة على ديكتاتورية "المعصوم" في اليمن، خوفاً من حُكم ديمقراطي تداولي!

وهو السِّرّ الخطير الذي يقف خلف الهجوم الخليجي الشرس على تركيا، ومحاولة التقليل من شأن إنجازات حكومتها المنتخبة ديمقراطياً، ومحاولة دعم تيارات مناوئة لها للدفع باتجاه انقلاب عسكري أو عصيان مدني في أفضل الحالات، تعود فيه تركيا سياسياً إلى الحكم الشمولي الاستبدادي، وتتقهقر فيه اقتصادياً عقوداً إلى الوراء، ولعرقلة مسيرة التقدم على صُعدِ الحرية والعدالة والنهضة الاقتصادية في أسوأ الحالات، إن لم يكن الانقلاب العسكري أمراً ممكناً في هذه المرحلة!

بل ويصل مستوى هاجس التغيير لدى الأنظمة الوراثية، إلى حَدِّ أن يُعدَّ مجرّدُ الإصلاح داخل كيان أحد هذه الأنظمة خطراً يتهدّد المنظومة كلها، كفتح باب انتخابات رئاسة الوزراء ومجالس الشعب والشورى، وتجاوز التعيين الذي لا ناقة للشعب فيه ولا جَمَل.

فعندما قرّر ملك المغرب الانتقال من وضع "الملكية المطلقة" إلى وضع "الملكية الدستورية"، والحدّ - بالتالي - من نفوذ العائلة المالكة في التدخل بأمور الشعب والهيمنة على ثرواته، واجه معارضة كبيرةً من تلك المنظومة، وتدفقت الأموالُ النفطية إلى خزائنه مقابل العدول عن قراره ذي التبعات الكبيرة، إلا أن الرجل آثر أن يتقي غضبة شعبه، على أن يُرضي إخوة منظومته!

خلاصة المقال:

- مَن يتّهم مَن بالتكفير اليوم؟!

- ما سرُّ الحرب على الديمقراطية من الأنظمة الوراثية والعناصر التكفيرية التي تربّت على مناهجها وأدبياتها العقدية؟!

- هل الغرب وإيران المتهمان الوحيدان في إطالة معاناة الشعوب المنتفضة؟!