أوجاع انتخابية

حسام مقلد *

[email protected]

ربما يظن كل من يستمع إلى تعليقات المسؤولين المصريين هذه الأيام، أو يتابع أخبار الانتخابات المصرية من خارج مصر عبر شاشات التلفزة، أو من خلال الصحف والإذاعات ومختلف وسائل الإعلام أن هناك درجة معقولة من الحرية والديمقراطية والحراك السياسي الحقيقي والفاعل في مصر، وأن الناخبين المصريين هم من يختارون فعلا حكامهم ومجالسهم النيابية والنقابية عبر صناديق الانتخاب في اقتراع حر مباشر!! وقد تؤكد هذا الظن صورُ الدعايات والمسيرات الانتخابية، والضجيج الإعلامي الكبير والزخم الهائل حول أهمية هذه الانتخابات الحاسمة وخطورتها الكبيرة في التمهيد لاختيار الرئيس المصري في انتخابات الرئاسة القادمة، وبالطبع سيزيد من ترسيخ هذه الصورة سخونة الأجواء الانتخابية، والجدل حول قبول الرقابة الدولية على الانتخابات من عدمه، ورفض الحكومة المصرية له باعتباره تدخلا في شؤون مصر الداخلية ومساً بالسيادة الوطنية...!!

وفي ضوء كل هذه المعطيات فقد تنطلي على الكثيرين فريةُ تَمَتُّعِ الانتخابات المصرية بقدر معقول من الحرية والنزاهة والشفافية والتنافسية، مع توقع ما قد يشوبها هنا أو هناك ـ على نطاق محدود ـ من عمليات تزوير، أو تجاوزات انتخابية، أو مضايقات من الشرطة،... وكل هذا ولا يشك يرسم صورة إيجابية زائفة للحياة السياسية في مصر، ويوهم بأن هناك منافسة حقيقية على السلطة وأن الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم يفوز عن جدارة واستحقاق في عملية انتخابية مقبولة بشكل عام رغم عدم خلوها من بعض التجاوزات، ولا شك أن مشاركة (الإخوان المسلمين) وبعض الأحزاب الأخرى قد أضفت بكل أسف نوعا من المصداقية والشرعية على هذه الانتخابات!!

لكن ما يحدث بالفعل في أرض الواقع بعيدٌ تمام البعد عن كل هذا الوهم وكل هذه التخيلات، وخير دليل على النية المبيتة لتزوير الانتخابات القادمة الخشونة الكبيرة التي تتعامل بها الشرطة وأجهزة الأمن مع المواطنين المصريين من أنصار مرشحي الإخوان المسلمين، وأنصار غيرهم من مرشحي المعارضة، ولعل ما ستسفر عنه الأيام القليلة القادمة من أحداث يزيل هذا الوهم من العقول، ويفضح كل مزاعم وجود ضمانات حقيقية تحقق نزاهة الانتخابات المرتقبة،فكل هذه الضمانات المزعومة ما هي إلا إجراءات شكلية لتضليل الشعب المصري.

إن تاريخ الانتخابات عموما في مصر سواء النيابية أو النقابية أو حتى انتخابات الاتحادات الطلابية حافل بالتزوير والخداع والتضليل، ولا تفتأ ماكينة التزوير الحكومية الجبارة تبتكر الكثير والكثير من وسائل التزوير والتزييف التي لا تُعْرَف في أية أقطار أخرى على وجه الأرض، وقد عايشتُ ورأيتُ بنفسي ـ وليس من رأى كمن سمع ـ الكثير من وقائع تزوير الانتخابات المصرية على اختلاف مستوياتها، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

1. تزوير انتخابات الاتحادات الطلابية في أغلب الجامعات المصرية (إن لم تكن كلها) ويتم ذلك مبكراً جدا في كل عام دراسي حيث تشطب أسماء الطلاب المتقدمين لانتخابات اتحاد الطلاب، ويتم تعيين طلاب بعينهم يُخْتَارُون بمعرفة أجهزة الأمن في كل كلية، وقد قضيت أربع سنوات دراسية في الجامعة لم أرَ خلالها أية انتخابات في معظم الكليات، حيث تُشْطَبُ أسماءُ الطلاب المرشحين، ويُعَيَّنُ بالتزكية اتحادُ طلاب اخْتِير من قِبَلِ الأمن وليس من قِبَلِ الطلاب...!!

2. تزوير انتخابات النقابات المهنية، وتجميد النقابات العصية منها على التزوير، أو تهميش دورها في الحياة السياسية، وقد شاهدت بنفسي في انتخابات إحدى النقابات الفرعية للمعلمين ما يلي: كان المعلمون الأفاضل يتدفقون على مقر الانتخابات، وتتم العملية الانتخابية بسلاسة ويُسْر دون أي تعكير لصفوها، وعندما رأت قواتُ الأمن أن أغلب القادمين للانتخاب هم من أنصار مرشحين غير مرغوب فيهم اخْتُلِقَ في فناء المدرسة مقر الانتخابات ـ أي بعيدا عن اللجان وعن عملية التصويت التي كانت تتم بسلاسة وانضباط ـ اخْتُلِقَ خلافٌ ما بين شخصين اثنين حدثت بينهما مشاجرة ومشادة كلامية ثم اشتباك بالأيدي، وبدلا من أن يقوم رجال الأمن بالإصلاح بين هذين الرجلين المتشاجرين، أو إبعادهما عن فناء المدرسة لعدم إعاقة سير عملية الاقتراع حدث ما يلي: صدرت الأوامر للعساكر فانهالوا بعصيهم ضربا على المعلمين والمعلمات القادمين للإدلاء بأصواتهم (واختفى الرجلان المتشاجران...!!) وتدافعت السيدات المعلمات الفضليات للنجاة من عصي رجال الأمن المركزي الأشاوس، وحاول بعض شباب المعلمين حماية المعلمات والمعلمين كبار السن بحائط بشري فانهالت على ظهورهم دون رحمة العصي الغليظة لأشاوس ومغاوير الأمن المركزي، وفي لمح البصر أطلق رجال الشرطة الغازات المسيلة للدموع وحدث هرج ومرج شديد، وألقي القبض على مجموعة من المعلمين، واقتلَعت عصا أحدِ رجال الأمن عينَ أحد المعلمين وسط هذه الفوضى!!

3. تزوير انتخابات مجلسي الشعب والشورى، وكثيرا ما يحدث ذلك مبكرا جدا حيث يمنع الناخب أصلا من وصوله إلى مقر لجنة الانتخابات، فعلى امتداد الطرق المؤدية لها تقبع كمائن رجال الأمن في ملابس مدنية، أو يقبع أنصار مرشح الحزب الوطني مدججين بكل أنواع أسلحة انتخابات من الشوم والنبابيت والعصيِّ الغليظة، والسنج والمطاوي وغيرها، وهذه الطريقة فعالة جدا في القرى والنجوع حيث يعرف الناس توجهات بعضهم البعض، فتقف هذه المكامن حائلا دون وصول الناخب لمقر لجنة الانتخاب، وهناك شيفرة خاصة بين رجال الأمن ذوي اللبس المدني وأنصار مرشحي الحزب الوطني المدججين بالعصي والنبابيت، فإذا قدِم ناخبٌ أو ناخبة معروف بعدم موالاته للحزب الوطني يُمنَع من إكمال طريقه للجنة الانتخاب، ويُنصَح بأن يعود أدراجه حفاظا على كرامته ونفسه من الإهانات والبهدلة، وإن رفض تُظهَر له العين الحمراء، فإن أصر يتم التعامل معه بالقوة فيضرب ضربا مبرحا ويُسَبُّ ويُشْتَمُ بأقذع الألفاظ، وإن حاول الدفاع عن نفسه يتم القبض عليه لأنه يثير الشغب!!

4. ومن آخر إبداعات عقلية الحزب الوطني التي يعجز عنها دهاة العالم استخدام المجرمين والساقطات كسلاح فتاك في المعركة الانتخابية، فعندما يقترب من مقر لجنة الانتخاب رجل ملتحٍ مثلا أو امرأة ترتدي خمارا أو نقابا يتعرض لهم هؤلاء السوقيون وبالتعبير المصري يشرشحونه (أو يشرشحونها) بكل الألفاظ النابية والحركات الساقطة والتحرشات الحقيرة... فلا يجد هذا الفاضل (أو هذه الفاضلة) بداً من أن يولي هارباً ويعود أدراجه توفيرا لكرامته.

5. ومن أشهر وسائل الحزب الوطني وحكومته في تزوير الانتخابات وتزوير إرادة الأمة تسويد بطاقات الانتخاب والاقتراع لصالح مرشحي الحزب الوطني، ولا يقل لي رجلٌ طيب: كيف يتم ذلك أمام مندوبي المرشحين؟ فالذي يحدث في كثير من الأحيان أن يتم استدعاء ضباط الأمن لمندوبي المرشحين( ومعهم طبعا مندوب مرشح الحزب الوطني للتمويه) خارج مكان صندوق الاقتراع، وبعد إخراجهم وإبعادهم عن الصناديق يتولى مَلْءَ بطاقاتِ الانتخاب ـ لصالح مرشح الحزب الوطني ـ عددٌ من أنصاره والموالين له (وأحيانا يتولى الأمر مرشحُ الحزب الوطني نفسه، ويجاملُه في ذلك ضباط الأمن...) وقطعا فالموظفون المكلفون بمراقبة وإتمام عملية الاقتراع يخشون بطش السلطة وجبروتها فيغمضون أعينهم إن لم يشاركوا في عمليات التزوير، ولا يسألن رجل طيب مرة أخرى: وأين المراقبون المحايدون ومنظمات المجتمع المدني؟!! فهذا الترف لا يُعرف في أغلب المدن وجميع القرى والنجوع، وحتى لو جاؤوا فسيتم خداعهم والتلاعب بهم بألف حيلة وحيلة، وسيُدْخَلُون إلى بعض اللجان المنضبطة بالفعل، حتى يتم تزوير لجان أخرى، ثم تنضبط العملية الانتخابية فيها (بعد القيام بالمطلوب طبعا...!!) ثم يُستَدْعَى إليها المراقبون من اللجان الأولى لإفساح المجال للتزوير فيها ...!!

وهكذا فالعملية الانتخابية في مصر مسرحية ومهزلة كبيرة يتم من خلالها إضفاء شرعية وهمية على السلطة الحاكمة، وأنا شخصيا لا يعنيني من يحكم مصر بقدر ما يعنيني كيف يحكم؛ فهذه الدولة العظيمة وهذا الشعب العريق يستحق مكانة أفضل من ذلك بكثير، ولن تعتلي مصر أبدا مكانتها المرموقة بين الأمم بسياسات فاشلة ومنظومة سياسية متهالكة مهترئة أوردت البلاد المهالك على مدى عقود من الزمن، لقد استقلت مصر والهند عن الاستعمار الإنجليزي في وقت متقارب، لكن أين نحن وأين الهند التي يدعمها الرئيس الأمريكي نفسه ويخطب ودها ويسعى لإعطائها مقعدا دائما في مجلس الأمن الدولي؟!! وأين نحن من: ماليزيا وكوريا الجنوبية والبرازيل؟! بل أين نحن من: قطر والكويت والإمارات؟!! إن حكومات الحزب الوطني المتعاقبة والتي تأتي بها الانتخابات المزورة أثبتت فشلها الذريع في تحقيق أية نهضة حقيقية للبلاد، ولم تصنع أي رخاء يلمسه المواطن العادي في أبسط شئون حياته اليومية، بل تفاقمت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق، وتدهور التعليم والصحة والكثير من المرافق، وتراجعت مصر كثيرا وتقزَّم دورها العربي والإقليمي في ظل سياسات الحزب الوطني الذي لا ينفك عن معايرة المصريين بزيادة عددهم، ولا ينظر للهند التي يزيد عدد سكانها عن مليار نسمة، والصين التي بلغ تعداد سكانها نحو مليار ونصف ومع ذلك أصبحت دولة عظمى!!

ولعل من المثير في أمر الانتخابات المصرية أن بعض الإحصاءات والتقديرات تشير إلى أن الإنفاق على الدعاية الانتخابية فيها يزيد عن ملياري جنيه مصري!! وفي رأيي الشخصي أن إنفاق هذا المبلغ الضخم على التعليم والبحث العلمي، أو على الصحة، أو على تشغيل الشباب العاطل عن العمل، أو... أو... كان أولى وأنفع للبلاد والعباد من إنفاقه عل هذه المهزلة الكبرى التي تحدث ضررا اجتماعيا خطيرا فضلا عن الأضرار السياسية الفادحة التي تنجم عن تزوير إرادة الأمة.

فمن الآثار السلبية والنتائج السيئة لهذه الانتخابات أنها تمزق المجتمع، وتثير الفتن والعداوات والنعرات القبلية بين الناس؛ وتشعل حرائق حقيقية في مختلف أرجاء مصر في المدن والقرى والنجوع،وتستعدي الأسر والعائلات على بعضها البعض، لأن كل طرف يريد الدفاع عن مصالحه الاقتصادية ونفوذه وهيبته الاجتماعية، وذلك عبر تحقيق الحماية السياسية من خلال مؤازرة شخص يتمتع بالحصانة البرلمانية.

وأعجب ما في الموضوع هو إصرار النخبة الحاكمة على أن هذه الانتخابات ستكون نزيهة وشفافة يفاخر بها كل مصري!! وبهذه المناسبة أسوق هذه الطرفة التي وقعت بالفعل، فقبل نحو ربع قرن قام الرئيس مبارك بزيارة ميدانية لأربعة قرى لتفقد مشاريع التنمية فيها، وكان من بينها قريتي وكنا نعلم بموعد الزيارة قبل حدوثها بعدة أشهر، حيث ازدانت القرية واتخذت أبهى حلتها، وتم الترتيب للزيارة بكل تفاصيلها، وتم اختياري ضمن الأولاد الذين سينالون شرف استقبال فخامة الرئيس بقصائد الشعر العربية والإنجليزية ( لإظهار مدى تطور التعليم في القرية) وعُطِّلَت الدارسة في مدارس القرية مدة أسبوع قبل الزيارة لاستضافة جنود الحراسة والقائمين على الإعداد للزيارة وتأمينها... وكل هذه كانت أمورا عادية ومفهومة لنا، وفي مساء اليوم التي تمت فيه الزيارة كنت أتابع نشرة أخبار التاسعة مساء فسمعت أحد المسئولين الحكوميين يقول: في زيارة مفاجئة قام الرئيس مبارك بزيارة ميدانية... وتأتي هذه الزيارة المفاجئة لمتابعة... وهذه الزيارة المفاجئة... تكررت كلمة (المفاجئة) عدة مرات فتعجبت كثيرا!! وفي اليوم التالي عدنا للمدرسة وسألت أستاذ اللغة العربية ما معنى كلمة (مفاجئة)؟ فتعجب من سؤالي..!! ولما أخبرته القصة ضحك وقال: يا بني هذه سياسة، والسياسة تعتبر الكذب لباقة وقدرة على المناورة لاكتساب أكبر قدر من المصالح، فسألت وما المصلحة في أن نقول إن زيارة الرئيس كانت مفاجئة ونحن نعلم بها قبل أشهر؟ وكيف يظن هذا المسئول أن الشعب سيصدقه ويصدق تصريحاته وقد رآه يكذب؟ فسكت الأستاذ وفهمت الجواب...!!

ولا يزال هذا المسئول موجودا في السلطة وكل انتخابات يسعدنا بطلته البهية ويؤكد على نزاهة الانتخابات وسلامة العملية الانتخابية، ووالله العظيم كلما أسمعه أتذكر كلمة (المفاجئة) ويداخلني شك عميق في صدق ما يقوله، وأدرك أن الانتخابات كانت مليئة بوقائع التزوير، وأنها بعيدة كل البعد عن النزاهة والشرعية، وقد تأكدت من ذلك مرارا من خلال ما رأيته بنفسي من عمليات تزوير واسعة... وأصبحت لا أتعجب مما أرى فنحن شعب عبقري قادر على أن يصنع من الفسيخ شربات!! ولن يعجزنا أبدا جعل الانتخابات المزورة انتخابات حرة ونزيهة، كما أن زيارات مسئولينا للمواقع الميدانية جريئة ومفاجئة، ولا عجب في ذلك (فنحن مَنْ دهن الهواء دوكو)...!! والله المستعان وعليه التكلان، ونسأله عز وجل أن يقيلنا من هذه العثرة التي طالت، والكبوة التي دامت، وأن يحفظ مصر وشعبها من كل مكروه وسوء؛ لأنها رغم كل شيء مهد الحضارة وأم الدنيا!!

       

* كاتب إسلامي مصري