حقيقة ما يجري في قطاع غزة

تحسين أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون . النحل 112

لا يتمثل دين الله بتنظيم أو حزب أو حركة ، ولا بأي شكل من أشكال الأجسام الإسلامية القائمة اليوم على مستوى العالم ، بحيث إذا حدث إخفاق أو خلل ما ، سرعان ما أن يلصق بهذا الدين الحنيف ، فالإسلام في جوهره وروحه هو إخلاص العبودية في كل شيء لله رب العالمين .

 ولعل النظر في هذا الموضوع من زاوية اللعنة والغضب ، يدفع المخلصين من الناس إلى التوبة مع الله والرجوع إليه ، أكثر منها في حالة النظر إلى ما يحدث في غزة ، على أنه تمحيص وابتلاء واختبار وزلزلة ، فربما يدفعهم ذلك إلى الاتكال والتراخي ، ثم إن لكل ظاهرة دلائلها وعلاماتها ، فللعنة والغضب مؤشرات أعاذنا الله جميعا منها ، وللابتلاء والتمحيص مؤشرات أيضا وقانا الله منها .

ولا يفهم القارئ الكريم أنني أرسخ مفهوم اللعنة والغضب ، أو أنني أدعو الناس إلى التنفير من رحمته والعياذ بالله تعالى ، بل إنني أدعو وأؤكد على ضرورة عقد محكمة الضمير الذاتية ، والمثول أمامها معترفين بذنوبنا  ومحاسبين أنفسنا ، مصداقا لقول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم :(( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا )) منكسرين إلى مولانا ربنا الحق ، متضرعين إليه ، متجردين من كل حول وقوة من دون الله ، لا نتكل إلا عليه ، ولا نلتجيء إلا إليه ، ولا مفر ولا مهرب ولا ملجأ لنا من دونه إلا إليه ، هذا إن استشعرنا عظمة هذه المعاني في قلوبنا ؛ حتى يستقيم سلوكنا فتستقيم من بعده حركة الحياة ، ثم تنسجم مع ناموس الكون انسجام المسبحين العابدين الحامدين الشاكرين في ترتيب رباني مهيب وعجيب ، هذا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

في قطاع غزة يُصب العذاب على الناص صباً ، من فوق رؤوسهم ومن أمامهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وشمائلهم ، ومن كل حدب وصوب ، وكأن الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، ولا يظن أحد أنني هنا أبالغ أو أضخم الأمور ، فمن كانت يده في الماء ليست كمن كانت يده في النار ، ومن يتعرض للضرب ليس كالذي يعدّه ، وما على الذي يظن ذلك إلا أن يخرج على الأقل ويمشي في شوارع غزة ثم ينظر مدققا ومتأملا أحوال العباد والبلاد .

حصار من القريب والبعيد ومن العدو والصديق أطبق على كل شيء ، حتى قارورة الغاز التي كانت تأينا إلى بيوتنا وكنا نتدلل على الموزعين دلالاً ، صرنا محرومين منها إلا بصعوبة ، والموت ينشره العدو في كل مكان ، إضافة إلى الغلاء الفاحش والفقر الشديد ، وغياب فرص العمل ، وإغلاق المصانع ، والمشكلات الأسرية والمجتمعية والقبلية ، والنفاق الاجتماعي ، والكراهية منتشرة ، والغش واضح وحلف اليمين الكاذب ، واحتكار البضائع وبيعها استغلالا وظلما وعدوانا بأسعارها المضاعفة ، والتوجس والشك من الآخر، والرحمة كادت أن تتلاشي إلا من بعض مظاهرها الهامشية ، ومن ظلم في الميراث ومن خداع في التعامل مع الناس ، وقطع للرحم ، واعتداء على حق الجار وجفاء في العلاقات ، والواسطة المتفشية بكثرة ، وما أكثر الذين يقفون للصلاة في الصف الأول من المسجد ، ومساجدنا يؤمها عدد كبير من المصلين في الصلوات الخمس ، ومع ذلك كله فقد ضاقت الحياة بالناس وضاق الناس بالحياة ، حتى سمعت بأذني من العشرات دعوات اليأس ، فمنهم من يدعو ويطلب من ربه أن تقوم الساعة ، أو تغرق غزة في البحر، أو تدمر إسرائيل كل قطاع غزة ، أو يأتي زلزال فلا يبقي ولا يذر ، وأعتقد أن ذلك كثيرا ما نسمعه من الناس ، والذي لا يسمع مثل تلك الدعوات هو فقط الذي يتعامل مع الشريحة المنتفعة والمستفيدة من هذا الوضع ، ولا ينزل إلى الشارع ليتحسس مشاعر وآلام الناس .

نتلو كتاب ربنا آناء الليل وأطراف النهار ، ونجتهد في صيام وصلاة النافلة ، ونسينا روح المعاني من وراء قول الحق سبحانه : (( وافعلوا الخير لعلكم ترحمون )) ، الجار مخاصم لجاره ، والأخ مقاطع أخاه ، والرحم تشتكي إلى الله القطيعة ، فلا محبة ولا وئام ولا امن ولا أمان ، مع أننا نعرف أن الله يخاطبنا قائلا : (( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)) . فصلت آية:34

ما الذي يمنع المرء أن يبتسم في وجه أخيه ؟ وكيف يكون مؤمنا وجاره لا يأمن بوائقه ، وهو يصلي الأوقات الخمس جماعة في المسجد ، أو كيف يكون مؤمنا وجاره جائعا ؟

زرت أسرة من الأسر التي تسترها الجدران فقط ، وسألت أحد أطفالها ماذا أكلتم اليوم ؟ فأجاب خبزا مفتوتا في الشاي ، قلت له وبالأمس فأجاب نفس الإجابة ثم سألت ثانيا وثالثا وكانت الإجابة نفسها ، ألوف من الأسر هكذا تعيش في قطاع غزة ، فكيف يبيت المؤمن وجارة جائعا يا طلاب النصر والتحرير ؟

جميع مناسباتنا الاجتماعية لا تتفق مع تعاليم ديننا – إلا من رحم ربي – ( وقليل ما هم ) أفراحنا نسينا الله فيها ، وأحزاننا وجنائزنا بعيدة عن تعاليم ديننا .

 وما الذي يحجب المرء عن الكلمة الطيبة ؟ لقد سمعنا كثيرا عن دعوة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم لنا معلما ومرشدا ومربيا : أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلُّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا جنة ربكم بسلام .... وابتسامتك في وجه أخيك صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة .

إنها الأخلاق والتي من خلالها يتم بناء النظم الاجتماعية والسياسية ، والاقتصادية والعسكرية والسياسة ، ومن خلالها ينطلق الدعاة في دعوتهم إلى الله عز وجل ، بعيدا كل البعد عن أي انتماء يكون لغير الله سبحانه ، وإلا أصاب انتماءه نوعا من أنواع الشرك في عدم إخلاص العبودية لله وحده سبحانه ، فمن اعتمد على عقله فقد ضل ، ومن اعتمد على ماله فقد قل ، ومن اعتمد على جاهه فقد ذل ، ومن اعتمد على الله وحده سبحانه لا شريك له ، فلا ضل ولا قل ولا ذل ، ومن توكل عليه حق التوكل فقد كفاه هم وشر كل شيء (( أليس الله بكاف عبده )) سبحانه .

ويدخل في ذلك من اعتمد على حزبه أو تنظيمه أو قبيلته أو علمه أو مهنته أو شيء من تلك الحجب التي تطفئ أنوار القلوب .

ألم يقل الحق سبحانه : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا . النساء 141

عندما تتحقق شروط الإيمان فلا يمكن أن يجعل الله للكافرين علينا سبيلا ، وما دام الأمر كذلك ، فلنبدأ من الآن في البحث عن الخلل ، وفي تقييم سلوكنا لعل الله يرحمنا ، فيجعلنا أهلا لنصره الذي هو من عنده سبحانه ، ولنعلم أننا معْرضون على الله وأنه سائلنا عن الفتيل والقطمير .

لقد ربى الحبيب صلى الله عليه وسلم صحابته على أخلاق النبوة ونزلت بحقهم آيات نتلوها إلى يوم القيامة :

وانزل الحق لنا منهاجا ، وأمرنا بإتباعه حياة لنا ، وجعلنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .

· عن أبي هريرة رضي الله عنه  :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :
 
لا تحاسدوا ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم اخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يكذبه ، ولا يحقره _ التقوى ههنا _ويشير إلى صدره ثلاث مرات ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه.

وقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم :

· تراحموا ترحموا .

· والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه  .

·  ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ضننتُ أنه سيورِّثه .

· أعطِ الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه .

· وينهى عن تكليف الخدم ما لا يطيقون أو يشق عليهم ، قال رسول الله r

لا تُكلِّفوهم ما لا يطيقون ، وإذا كلَّفتموهم فأعينوهم  .

· ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا .

· إن من إجلال الله إجلال ذات الشيبة المسلم .

مئات من القواعد السلوكية التي تحدد علاقتنا بكل العالم والوجود من حولنا ، علاقة أساسها الحب والمودة ، والتراحم والصدق ، والأمانة والإخلاص ، والكرم والوفاء ، ولا يزيغ عنها إلا هالك .

فإن تخلقنا بذلك تحقق بنا قوله سبحانه :

عندئذ : (( انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين )) يوسف آية 90

وعندئذ : ((واصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين )) هود آية 115

هذه قوانين السماء التي يجعلنا الله من خلالها قادة للشعوب وسادة الأمم إن اتقينا ، أو أن يكون البديل هو أن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا .

فهل نحن في لعنة وغضب أعاذنا الله من ذلك كله أم في ابتلاء وقانا الله منه ؟

حسبنا الله وكفى ليس وراء الله مرمى ولا منتهى.