كنا نظنّ أهل مكّة أدرى بشعابها
كنا نظنّ أهل مكّة أدرى بشعابها ..
فاكتشفنا العجَب!
ماجد زاهد الشيباني
منذ كنا صغاراً ، كنا نحفظ القول المأثور: أهل مكّة أدرى بشعابها ! وحين تقدّم بنا العمر قليلاً ، صرنا ندرك معناه بوضوح !
اليوم صرنا نرى عجباً من العجب ! نرى اليمني في صنعاء ، أو تعز، أو حضرموت .. يعتقد أنه أخبر بأمور الجزائر، من الجزائريين ! ونرى التونسي ، يعتقد أنه أدرى بأحوال الشام من أهلها ! ونرى الموريتاني ، يعتقد أنه أعلم بالعراق وأحواله ، من العراقيين أنفسهم! وهكذا ..
وليت الأمر وقف عند هذا الحدّ ! بل تجاوزه ، إلى ماهو أعجب منه ، بكثير، وأغرب :
لقد صار أهل كل قطر ومصر، أحرص على أيّ بلد من أهله ؛ أحرص على حاضره ومستقبله ، ومصير أجياله !
فصار :
أهل المغرب العربي ، يعلّمون أهل الخليج ، كيفية التصرّف في ظروف معينة ـ نقول: يعلّمونهم ، لا ينصحونهم مجرّد نصيحة ! ـ .
وأهل موريتانيا ، يأمرون أهل الشام ، بكيفية معينة ، في التعامل مع حكّامهم !
وسكّان جزر القمر، يصدرون قرارات لسكان السودان ، تتضمّن أساليب التفاهم مع صناع القرارات في دولتهم !
وسكاّن مقاديشو ، في الصومال ، يعلمون سكّان حلب في سورية ، وسكّان الموصل في العراق ، وسكّان تعز في اليمن .. طرق التعامل فيما بينهم وبين حكامهم ! ونؤكّد فنقول : يعلمون ، لا ينصحون مجرّد نصيحة ، أو يقترحون مجرّد اقتراح !
ومَن أصرّ على أنه أخبر بأموره وأحواله ، وظروف بلاده ، من الآخرين .. اتّهم بالجهل ، أو الحماقة ، أو الطيش ، أو التآمرعلى وطنه ، أو خيانة الأمّة بأسرها ! لأن عدم استجابته لقرارات الآخرين ، أو توجيهاتهم .. يعني أنه جاهل ، أو متآمر، يسعى إلى إضعاف الأمّة ، عبر إضعاف قطر من أقطارها !
وإذا كانت الخيانات الواضحة المكشوفة ، التي لاتقبل تأويلاً غير الخيانة .. إذا كانت هذه ، يمكن أن تكون مثار نقد أو تعليق ، من بعض الأفراد المثقفين والإعلاميين .. فإن المطروح هنا ، في هذه السطور، ليس هذا ..! بل هو ما ذكرناه ، مِن تعالم فجّ على أهل بلد ، من غير أهله ، ومن حرص سمج ، على مواطني دولة ، من غير أبناء دولتهم !
ولدى استعراض الأسباب ، التي شكّلت هذه الظاهرة الغريبة .. نجد أن أهمّ هذه الأسباب مايلي :
· غزارة الوسائل الإعلامية ، التي تنقل الأخبار بسرعة عجيبة .. فتغري كل شخص ، مهما كان بليداً ، أو ضعيف الفهم والإدراك .. بأن يجعل من نفسه حكيم عصره ، من ناحية .. والوصيّ على الأمّة بأسرها ، من ناحية أخرى ! مادام يرى مايجري في كل مدينة من مدن الأمّة ، وكل قرية من قراها !
· الفهم المسطّح القاصر، لدى بعض المهتمّين بالأمّة من منطلق ديني .. للحديث النبوي: من لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم ! فهذا الفهم ، يوحي لصاحبه ، أنه وصيّ على المسلمين ، وأن كل من يخالف رؤيته الخاصّة ، في معالجة أيّ أمر من أمور المسلمين ، في أيّ قطر من أقطارهم .. إنّما هو مجرم ، أو متآمر، أو مارق ، أو فاسق ، أو ـ في أحسن أحوله ـ جاهل !
· قضية فلسطين ، المحور الأهمّ في الفكر السياسي العربي المعاصر.. تشكّل ، في عقول بعض المهتمّين بها ، تشكيلات عجيبة غريبة .. حسب الإمكانات العقلية لكل منهم ! وعلى سبيل المثال :
كل من رفع شعاراً لمناصرة القضية الفلسطينية ، هو بطل مخلص ، ويجب على الجميع مناصرته وتأييده ، والتصفيق له ! وبالتالي : كل من عارضه ، بقول أو فعل ، من أبناء بلده ، المكتوين بنار فساده وظلمه .. هو مخرّب ، متآمر على القضية الفلسطينية .. ومِن ورائها على الأمّة العربية ، وبالضرورة ، على الأمّة الإسلامية ! وبالطبع ، يصعب على من يفكّر بهذه الطريقة المسطّحة ، أن يعمِل عقله في الشعارات التي يسمعها؛ من حيث صدقها ، وإمكانية تحقيقها ! ويصعب عليه ، من باب أولى ، أن يفكّر برافعي الشعارات ، وصفاتهم ، وأخلاقهم ، وتاريخ كل منهم ، وما قدّمه للقضية الفلسطينية من نصرة حقيقية ، وما أنزله بالقضية الفلطسينية وبأهلها ، من مآس وكوارث !
ولا يسعنا ، في ختام هذه السطور، إلاّ الرثاء لشعب سورية المسكين ! فهو أكثر الشعوب معاناة وضيقاً ، من عبقرية هؤلاء العباقرة المجّانيين ، ومن بطولة هؤلاء الأبطال المجّانيين ، الذين يرون ، من مسافات هائلة ، من وراء البحار أو الصحارى .. مالايراه شعب سورية ، من عظمة حكّامه ، أبطال الممانعة والصمود ، فرسان التحرير، الأسود البواسل !
ولله في خلقه شؤون !