المرجعية الدينية ومسؤولية بناء الدولة

محسن المطراوي

ما قامت به الأحزاب الإسلامية في العراق بعد الاحتلال جعل من بناء النظام الثيوقراطي في العراق حلماً بعيد المنال, كما أن التوجهات العالمية بعد أحداث سبتمبر وطريقة  التعاطي الإعلامي مع المتشددين دينيا أسهمت كثيراً في انحسار فرصة بناء الدولة الدينية في العراق .

فقد كانت الأحزاب الدينية  جزءاً من الجهد الدولي لاحتلال العراق وتدميره، رغم المبررات التي ساقتها لتبرير مواقفها في إنقاذ الشعب العراقي من الظلم والحصار والدكتاتورية .

ولان التوجه العام في العراق دينياً، فقد التفت الجماهير حول هذه الأحزاب لاعتبارات طائفية، وقد دفعت الأحداث إلى انقسام البيت العراقي إلى معسكر شيعي وآخر سني، ولم يقف الأمر عند ذلك بل دفعت الأجندات الحزبية والأجنبية إلى الاقتتال بين هذه المعسكرات، وفشلت هذه الأحزاب في تسويق برامجها لأنها كانت جزءاً من الاحتراب وليست جزءاً من الحل وإنهاء الأزمة، وأصبح المواطن أمام خيارين، إما التخندق للطائفة لضمان الحياة , أو الخروج عن الطائفة ليقع فريسة للاحتراب وتصفية الحسابات. وبعد أن تسيدت هذه الأحزاب واستلمت السلطة لم يبق شيء يربطها في الدين سوى بقايا من شعارات، وتاريخ قديم لا يقوى على بعث الروح في هذه الأحزاب مع ضغط الإغراءات المادية ,وزاد في مسخها الفساد الكبير الذي ضرب بأطنابه كل مفاصل الدولة .

وبعد إن جاءت الانتخابات وأقرت القائمة المفتوحة اعتمدت هذه الأحزاب على مرشحين من خارج أحزابها، هم واجهات اجتماعية في مناطقهم، كان دورهم جمع الأصوات للقائمة الحزبية، مما أسهم في فوزها مرة أخرى  في غياب المنافس الوطني، حيث لم يكن في الجنوب من قوة سياسية مؤهلة للفوز بما اختارت من شخصيات سوى المجلس الأعلى والتيار الصدري وحزب الدعوة، وهي في جميعها أحزاب إسلامية .

إن هذا الواقع ألقى بظلاله على هيبة المؤسسة الدينية في العراق التي لم تتدخل لكبح جماح هذه الأحزاب وقطع الطريق عليها في استخدام الدين كمطية لتأمين مصالحها .

وهذه المؤسسة لم تتدخل لمساءلة الحكومة التي تحكم باسمها عن مئات المليارات من الدولارات التي أهدرت دون أن يقدم شئ للمواطن .

وهذه المؤسسة لم تتدخل للمطالبة بالكهرباء وتحسين الخدمات ودعم البطاقة التموينية والمشاركة في هموم المواطن .

وفي الوقت الذي كانت تستحق الثناء لابتعادها عن العملية السياسية نرى أنها تستحق الثناء أكثر بعد أن تتبرأ هذه المؤسسة من الحكومة، وتبرئ الدين من أفعالها، وهذا العمل سيعيد الهيبة إلى المرجعية، كما أن دعم المرجعية لحكومة علمانية تحترم الدين سيكون السبيل الوحيد لتامين مستقبل المرجعية وضمان استقلالية سلطانها، ذلك إن الأحزاب الدينية تسعى لان تكون بديلاً عن سلطة المرجعية، وهي في حالة تنافس لما تمتلكه من إمكانيات ومغريات في صرف الأنظار عن سلطة المرجعية .

ولعل هذا يذكرنا بما حصل في تركيا بعد انهيار الخلافة العثمانية ونمو التيارات العلمانية، وكيف بدأت المؤسسة الدينية تدعو من على منابر الجمعة إلى انتخاب الشخص العلماني، بعد أن أساء رجال الدين للعمل السياسي فأساؤوا للإسلام .

لقد نجحت المراهنة الوطنية على وحدة البلاد بعد أن فشلت الطائفية، وعادت الوطنية سيدةً تتربع على عرش بناء الدولة في العراق ليس طعناً في المنهج الإسلامي وإنما طعناً في من يتقدم الصفوف لتبني هذا النهج، ذلك لان الدولة الإسلامية في عهد الرسول والخلفاء الراشدين من بعده والتابعين كانت مضرب مثل لما قدمته للإنسانية وللتراث السياسي في بناء هيكلية إدارة الدولة .

ولكي لا نسيء لهذا الإرث التاريخي، فإننا نتطلع إلى موقف مسؤول من المرجعية لتبني موقف مسؤول من موضوع تشكيل الحكومة يحافظ على موقعها بالبقاء على مسافة واحدة من الجميع، ويعزز دورها المسؤول في حماية الوطن والمواطن من الفتن، ويعكس فهم الدين للمتغيرات التاريخية والاستيعاب الكامل لمفاهيم الديمقراطية وبناء الدولة الحديثة .