السلام المفقود وحقيقة الوهن
د. علاء الدين شماع
سُعار ما بعد أنابوليس لن يخفيه رماد الحلحلة الظاهر وهو يُواري جمراته الكبار الملتهبة و نحن على السفا فيد ,وذلك لما تحمله هذه المرحلة من إسقاطات سياسية و مفاعيل جمة مفتوحة على كل الاحتمالات , فبعد سياسية فض المسارات التفاوضية بين العرب و إسرائيل , والتي كرستها أوسلو, باتت المنفعة الوطنية واحدة من أهم استراتيجيات التفاوض البراغماتي العربي , وهذا ما كرسته أنابوليس , ذلك أن تناقض مصالح الأطراف العربية من الذهاب إلى المؤتمر,أظهر قيماً نفعية آنية لا تحمل بعد نظر لواقع حال الأمة في تغيرها النوعي الملموس ,والذي أهمل مفاعيل نجاح المقاومة العربية في ضرب المخططات المرسومة ضد منطقتنا ,بدءاً من ساح العراق و منه وفيه دوماً , إلى حرب تموز 2006 ,امتداداً إلى غزة , هذا التغير النوعي الذي سينعكس مستقبلاً في حالة شرخ مواقف متنامية من الصدام بين الحكومات العربية و شعوبها , و آلياته تبدو واضحة في تأصيل نهج المقاومة للمشروع الصهيو أميركي واستمرار المقاطعة و رفض التطبيع.إذ أن قصر الأمر من الجانب العربي على تبريرات الحضور إلى أنابوليس , وكل حسب الجهة التي يمسك بتلابيب أذيالها , جعل عرب التطبيع أعلى صوتاً بعد المؤتمر الذي أسقط عنهم صفة الاعتدال .
و السؤال الكبير: ما قيمة التفاهمات التي صدرت عن أنابوليس بعد التراجعات الإسرائيلية الأميركية السريعة على المسار الفلسطيني ؟! ولعل الإجابة عنه تكمن في توصيف الوهن الذي أصاب الجميع وبلا استثناء .
ذلك أن الوهن الذي أصاب الأميركي في المنطقة, وهو يستعد للانتخابات الرئاسية الأميركية انعكس من خلال سياسة الأبواب المواربة , كي تدلف منها سوريا إلى المؤتمر , والذي قابله وهن آخر على الجانب الإسرائيلي تمثل في سياسة القلوب المنكسرة و التي تتطلب تنازلات عن أرض على المسارين السوري و الفلسطيني و هذا كثير بالنسبة لقلب أولمرت الضعيف
و هو ما يدعو إلى استدرار الشفقة و العطف . هاتان السياستان كان مخرجهما الوحيد اللعب على الوقت , وتخريجة مؤتمر السلام وفرة لهما ما يصبوان إليه و أكثر .
ظهر هذا من خلال التراجعات التي أخذت تتوالى بعد المؤتمر على الجانب الإسرائيلي ,ضمن جملة من التكتيكات ومنها عدم التعهد بتقديم أي شيء
والتلاعب بالمسارات التفاوضية على كلا الجانبين السوري و الفلسطيني و هي حالة قائمة في الأساس و الصهيوني لاعب ماهر في تسويف العهود و تمييع الالتزامات , أمام فقدان المرجعيات القانونية و الأخلاقية و الطرف الثالث النزيه , وكلها شروط تعمل على حفز المسار التفاوضي و تؤمن له الزخم اللازم في الاستمرارية و النجاح . فالاستيطان المستمر حول القدس و المجازر اليومية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني تدلل على هذا النكوص و أكثر.
ولعل الحقيقة الوحيدة التي بلورتها اجتماعات أنابوليس, كانت في القيمة المضافة من ضرورة موضوعية مطلوبة بذاتها لإزالة إشكالية الهوية الملتبسة لدولة إسرائيل و شرعنة تاريخ وجودها من خلال استغلال فرصة غير مسبوقة للحضور العربي في المؤتمر, ذلك أن حقيقة الوجود الطارئ للكيان الصهيوني في المنطقة يلزمها بين الفينة و الأخرى قولبة مفاهيم تدحض الشك الوجودي الذي تقابل به من الداخل و الخارج على حد سواء و التي تدعم من لازمة الوجود القومي اليهودي تارة و لازمة الدولة الدينية تارة أخرى على تناقضهما المفاهيمي و القيمي, ضمن حالة طارئة في الأساس, فبعد مفهوم الدولة اليهودية وطناً قومياً لليهود و التي عملت عليه الصهيونية ستون عاماً ,ظهر ضرورة العمل على تكريس يهودية الدولة و التي تعمل عليه الآن قوى التطرف اليميني الدينية و هذا ما أباحته أنابوليس علناً وبدعم أميركي .
ذلك أن فوبيا الديموغرافيا لا تلطف من هواجسها غير اليهودية في تهويماتها التوراتية ولعل إسرائيل الأبارتيدية في تطورها إلى غيتو ديني ومن وراء جدر يمثل انضغاطاً شاقولياً لا يحتمل أن يضم بين جنباته غير الأخيار من مكونات الشعب اليهودي و الذي أخذ التطرف الديني يتنامى في صفوفه , يقابله انكماش أفقي في لجم اللاوعي الصهيوني بالحلم في إسرائيل الكبرى ,والذي يتطلب عاملاً بشرياً يرفده وهو ما باتت تحس بخلل فقده .
إن طرح يهودية الدولة قد لا يمثل عائقاً أخلاقياً أمام ما يفرضه تناقض الصورة التي تظهر عليها إسرائيل للمجتمع الدولي كدولة ديمقراطية ,بما يمثله هذا الطرح من مساس لحقيقة مدعاة أصلاً, و ليست الديمقراطية الدفاعية إلا تهويمة أخرى ترد بها اسرائيل حقوق عرب 48 أمام العالم و دفاعهم عن حق المواطنة ضمن دولة إسرائيل كدولة لكل مواطنيها , إن واحدة من أهم انجازات أنابوليس تكاد أن تكون و فقط سلام التهويد , بما يتبعه من تهجير قسري لعرب 48 و كفرض متتم إلغاء حق عودة اللاجئين الفلسطينيين, تمهيداً لقيام دولة يهودية خالصة.
و بوش عندما يؤكد أن بلاده ستحافظ على التزامها بأمن إسرائيل كدولة عبرية ووطن للشعب اليهودي , يعمل على إزالة قلق وجودي و هواجس تستوطن الوجدان الجمعي اليهودي في إسرائيل خلال الآونة الأخيرة , و هي إشارة سيتلقفها الجميع بصورة مزاودة بضغط من اللوبي الإسرائيلي في أمريكا في جعلها ضمن برامج المرشحين الانتخابية بدءاً بالجمهوريين و مروراً بالديمقراطيين و إدخالها عاملاً مرجحاً في سباق انتخابات البيت الأبيض المحمومة . وما يليها من تصويت في الكونغرس لتصبح قانوناً ملزماً لكل الإدارات الأميركية القادمة.
إن التكتيكات المرحلية التي تراهن عليها إسرائيل و التي ستستمر حتى نهاية عام 2008 يجب أن يواجهها العرب من خلال جملة من المواقف السياسية المحددة والواضحة و التي تتلخص في اللجوء إلى المجتمع الدولي لممارسة ضغوطاته في عدم قبول تأجيل أي استحقاق يتوجب على الإسرائيلي و عدم ترك الأمور للظروف التي قد تمكنها لاحقاً في التملص من أي التزام .
و لعل اجتماع الخماسية العربية المزمع يقطع شكاً طال ,ويمهد لعهد جديد من التنسيق العربي المطلوب في هذه المرحلة بالذات, والذي سينعكس انفراجاً على خط أزمة الانشقاق الفلسطيني , ويجمع الأخوة , و تكون الحلحلة قد عمت المنطقة حتى غزة التي استثنيت منه حتى الآن . وتكون الحقيقة المقاومة عاملاً وازناً في أية استحقاقات مقبلة . و هل الصورة على هذا القدر من التفاؤل ؟!... أم هو شك يقبل القسمة على أكثر من احتمال أبعدها التفاؤل بسلام مع الإسرائيلي يرد الحقوق العربية .