الحزب المستحيل وفقه الاصطياد – 2

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يعبّر الاهتمام الشعبى بحزب الإخوان المسلمين المقترح ، وبرنامجه المطروح للمناقشة عن حالة من الأشواق الوطنية ، لحياة حرة كريمة ، تقوم على العدل والمساواة والكرامة والتقدم والأمل ، وما كثرة المناقشات ، وتقليب مواد البرنامج المذكور إلا حالة من حالات الحراك الفكرى التى شدّت كثيراً من الكتّاب ، حتى أولئك المعادين للفكرة الإسلامية وخصومها ..لتحقيق هذه الأشواق.

هذا على كل حال بشير خير ، ويدل على أن الإسلام متغلغل فى القلوب والنفوس ، حتى لدى الذين يتعيشون بالهجوم عليه وإهانته وتشويه أعلامه ودعاته ، واصطياد الجزئيات التى تصدر هنا وهناك للتشهير به وبتصوّراته ومعطياته ، إعلاميا وصحفيا وداخل المؤسسات الثقافية والأدبية .

ويظل الهجوم الساخر الذى يشنه البعض – وخاصة من اليسار المتأمرك – دليلاً من وجهة نظرى على قدرة برنامج الحزب ، مع المآخذ التى يأخذها عليه الذين طالعوه ، وأنا واحد منهم ،على التحريك ، وبث الحيوية،والنظر إلى المستقبل.

لقد كانت هنالك مفارقة ملحوظة ، وهى ضخامة البرنامج على غير العادة ، فهو يقرب من ثلاثين ومائة صفحة من القطع الكبير ، وبه ستة أبواب تسبقها مقدمة ، وتتصدره ، وتعلو صفحاته الآية الكريمة : " إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله " ( هود : 88      ) ، وهى الآية التى خاطب بها نبى الله شعيب – عليه السلام – قومه ، بعد أن واجه صعوبات كبيرة فى إقناعهم بالدعوة إلى التوحيد والتزام منهج الله ، وإعراضهم عن قبول هذا المنهج .. وهو ما يبدو اليوم قائماً لدى النخب المتغربة التى تعترض الإسلام وتخجل منه ، وترى أن النجاة فى اللحاق بالغرب وقيمه وأفكاره ، شرها وخيرها !

ضخامة البرنامج ، توحى أنها دستور ، مع لائحة شارحة ، وليست مجرد برنامج يفترض أنه يأتى على أحسن الفروض فى ربع هذا الحجم ، بحيث تكون مواده مختصرة ، وتمنح المستقبل فرصة التكيف مع مستجداته ومعطياته التى لا تتوقف عن التغير والتحول .. ولكن شاء واضعو البرنامج أن يكون مسهبا وتفصيليا ، وكأنهم أحسّوا أن هناك من يتربص بهم ، ويحاول الاصطياد والتشويش على البرنامج كله ، فراحوا يشرحون ويفصلون ويفسرون .. ويبدو أن كثرة إلحاح النخب المتغربة على أن الإخوان المسلمين ليس لديهم برنامج لحل مشكلات المجتمع ، دفع واضعى البرنامج أيضا ، إلى هذا التوسع فى البيان والتوضيح لبرنامج الحزب المستحيل .

أيا كان الأمر فإن البرنامج أخذ زمام المبادرة ، وألقى بالكرة فى ملعب النخب ، وخاصة أهل الدنيا دون الآخرة ، أن يواجهوا مقترحاً شاملاً وعريضاً لحل مشكلات الوطن والنهوض به ، وعليهم – شاءوا أم أبوا – أن يقولوا رأيهم ، ويطرحوا ما لديهم ؛ إزاء رؤية إسلامية تعانق أشواق الوطن والأمة ، وتسعى ولو من خلال التعبير النظرى ، أن تقول شيئاً قد تأخذ به الأجيال القادمة ، فى ظل استبداد قائم لا يستجيب لمنطق العقل والحوار والتوافق ، مفضلاً " النبوت " و " العضلات " و " المصادرة " ، ويغوى نخباً فقدت الرشد ببعض الفتات الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع لتؤيده وتبارك ظلمه الفاضح لشركاء الوطن والتضحيات !

يعالج الباب السادس ( النهضة الثقافية ) قضية البناء الثقافى والبرنامج الإعلامى ، وهذا الباب فى حقيقة الأمر ، هو مجال جماعة الإخوان المسلمين الأساسى ، فهى مذ وجدت ، مهمتها دعوية تثقيفية ، هدفها شرح الإسلام وتحويله إلى سلوك يلتزم به أعضاؤها ، ويمارسونه فى تعاملاتهم وأخلاقهم وإنتاجهم .

وقد أفاض هذا الباب فى الحديث عن دور الثقافة التى تعكس هوية المجتمع وقيمه ، وانطلاقاً من الهوية الإسلامية فإن الثقافة لا تعبّر عن وسيلة بناء وتنمية وتحضر ، بل تمثل حائط صد لمحاولات النيل المستمر من خصوصية الشخصية المصرية المتميزة .

كما أشار إلى أن الحضارة الإسلامية وعاءً جامع للجماعة المصرية دون إلغاء لدور المسيحية فى مرحلتها التاريخية .. وكنت أود أن يشير البرنامج إلى أن الإسلام يفرض على المسلمين الإيمان بالأديان السماوية الأخرى ، والأنبياء والمرسلين من لدن المولى عز وجل والكتب التى جاءوا بها فى صورتها الصحيحة ، بحكم أن ذلك من شروط الإيمان ، دون أن يخص المسيحية وحدها بالإشارة ، حيث كانت المسيحية فى مصر تعبيراً عن إيمان طائفة ، وليس كل الطوائف .. فمعظم المصريين قبل الإسلام كانوا وثنيين أو بغير دين ، لكن السياق العام فى مصر ، كان يتقبل كل ماهو إنسانى فى الحضارات البشرية ، ولذا تقبل المصريون جميعاً : نصارى وغيرهم الإسلام الحضارة والدين ، لأنه يعيد إليهم الكرامة والاستقلال والحرية ، بدليل أنه لم يقض على هؤلاء ولا أولاء ،بل تركهم جميعا ، وما يعتقدون . وبقى المجتمع الإسلامى فى مصر يضم غير مسلمين حتى اليوم .

وتحدث البرنامج عن ضوابط إدارة الحياة الثقافية وأهمية الثقافة فى تشكيل الفكر والوجدان ، ويبدو أن واضعى البرنامج اكتفوا بالكلام عن طبيعة أو ماهية الثقافة التى يفترض أن تسود المجتمع ، دون أن يتحدثوا عن آلية تحريك هذه الثقافة وتوصيلها إلى الجمهور .

إنهم – أى واضعى البرنامج – تعاملوا مع الواقع الثقافى من خلال آلياته القائمة وهى وزارة الثقافة ومؤسساتها ووسائطها ، وهذه الاليات القائمة من الخطورة بمكان حيث أفسدت الثقافة بصفة عامة ، وروجت لتيارات معادية للمجتمع وثقافته الإسلامية ، وأقصت التيارات المؤمنة بالثقافة الإسلامية المتفتحة والمنطلقة ، ويكفى أن تكون وسائط ونشاطات وزراة الثقافة قاصرة على مثقفى الحظيرة أو مثقفى السلطة ، واليساريين المتأمركين ، ومثقفى الارتزاق فى كل زمان ومكان .

إن إلغاء وزارة الثقافة كان ينبغى أن يكون على رأس بند إدارة الحياة الثقافية ، مع تحويل مؤسساتها إلى آليات تحفظ تراث المجتمع وتصونه ( دار الكتب والوثائق ،الآثار، الترجمة فى غطار خطة قومية ، .... ) وفى الوقت ذاته ، تنمى فكرة الجمعيات الثقافية والأدبية الأهلية التى تضم ذوى الأفكار المتشابهة ، مع دعمها بميزانية معقولة إلى جانب ما يبذله أعضاؤها ، وتترك لها حرية العمل والحركة ، وهذا يضمن عدم احتكار تيار بعينه لحركة الثقافة فى المجتمع ، أوحرمان بقية التيارات المخالفة له ، كما هو سائد الآن ، وأيضاً يضمن تطهير الحياة الثقافية من الفساد السائد الآن ، وإهدار أموال الدولة فيما لا طائل من ورائه .

قبل يوليو 1952 ، قامت الجمعيات الثقافية والعلمية بدور رائع فى إثراء الحياة الفكرية والأدبية وازدهارها ، وما زلنا نعيش بعد نصف قرن على حصاد وإنتاج هذه الجمعيات .. ونواصل بإذن الله .