أهداف الثورة بأدوات الأسد

أهداف الثورة بأدوات الأسد

سهير أومري

مما لا شك فيه أن مستقبل سوريا الذي خرجنا لأجله لا يمكن اقتصاره على زوال نظام بشار الأسد .. بل إن هذا المستقبل الذي نطمح إليه يبدأ بزواله ، ويأتي بعده طريق طويل من العمل والهدم .. الهدم لا الترميم ، إذ إن ترميم بناء آيل للسقوط لن يكون إلا إضاعة للوقت وهدراً للجهود

الهدم ابتغاء الإعمار على أساس متين لا يشوبه شيءٌ مما أوصلنا إلى واقعنا الذي كان ثمنُ تغييره مئات الألوف من الضحايا والمعتقلين والمصابين والمشردين.

لذا فإن أحد عوامل بناء المستقبل الجدير بهذه التضحيات دراسة الواقع الذي أوصلنا إلى هنا بكل ما كان فيه من سلبيات للقضاء عليها ، أو لتحويلها إلى إيجابيات...

كيف يكون ذلك؟

كلنا يعلم مافعله نظام حافظ الأسد في السيطرة على العقل الجمعي وعلى اللاواعي لدينا ليسلبنا الإرادة على التغيير ، وليقنعنا أن مجرد التفكير في التغيير كبيرةٌ من الكبائر الوطنية التي يجدر بصاحبها الاختفاء وراء الشمس إلى أمد غير معلوم ..

وهذه السيطرة لم تكن وليدة تفكير شخصي لحافظ الأسد ، بل هي حصيلة دراسات نفسية وسيكولوجية معروفة قدم لها علماء نفس واجتماع وعلى رأسهم ( غوستاف لوبون) الذي قدم في كتابه ( سيكولوجيا الجماهير ) رؤية مفصَّلة لكيفية سيطرة القادة والأفكار والمفاهيم على الجماهير ، وكيفية تمكنهم من قيادة لاوعيهم موضحاً خصائص العقل الجمعي والعوامل التي تؤثر فيه...

ومن ذلك قوله: ( عندما نريد أن ندخل الأفكار والعقائد ببطء إلى روح الجماهير فإننا نجد أن أساليب القادة تختلف فهم يلجؤون بشكل أساسي إلى الأساليب الثلاثة التالية :

أسلوب التأكيد – أسلوب التكرار – أسلوب العدوى

وهذه الأمور لا شك أن تأثيرها بطيء ولكنه دائم ) انتهى

 

يبدأ (لوبون) مع العامل الأول ، وهو ( التأكيد ) ، فيوضح سمات التأكيد المؤثر في عقول الجماهير فيقول:

(وكلما كان التأكيد قاطعاً وخالياً من كل برهان كلما فرض نفسه بشكل أكبر فالكتب الدينية والقوانين في كل العصور استخدمت دائماً أسلوب التوكيد المجرد عن كل شيء )

وهذا يعني أن التأكيد المؤثر هو عرض الفكرة بثقة على أنها (بديهية) ، وليس بطريقة (الدفاع عنها) أو إثبات جدارتها، بمعنى آخر يتجلى لنا هذا الكلام في سياسة نظام الأسد خلال أربعين عاماً من خلال تقديم نفسه على أنه الممانع والمقاوم والمتحدي ، وليس إثبات (عدم خيانته أو تبرير عدم استرجاع الجولان أو تبرير مجازره ضد الفلسطينين في لبنان) بل قدم نفسه على أنه المقاوم لكل المؤامرات الصهيوأمريكية ، والمترفع عن مواقف الدول العربية الدولية على نحو مؤكَّد لا لبس فيه ، وأنه يرتقي فوق كل طعن أو تشكيك ، بل جعل من تعظيم دوره ومكانته بداهة لا يتجرأ أحد على الاقتراب منها فضلاً عن نقضها أو الطعن عليها

ثم يشرح (لوبون) في كتابه دور " التكرار : في سيطرة القادة والطغاة على الشعوب ، ويشبِّه ذلك بدور الإعلانات التي تعتمد على تكرار العبارات والأفكار عن منتجاتها لتصبح راسخة في لاوعي الجماهير ، وليصير اسم المنتج راسخاً أيضاً وإن زال المنتج نفسه ، ( كما صار لدينا مثلاً اسم (كلينكس) علماً لكل أنواع المناديل ) ... الأمر هذا هو ما اعتمده نظام الأسد وعلى مدى أربعين عاماً في ترسيخ حكمه لنا وسيطرته علينا ، ويتجلى ذلك في:

- شعارات يرددها الطلاب في المدارس كل صباح يتم من خلالها الربط بين الوطن والقائد، وكأن القائد أحد لوازم الوطن الذي لا يبقى لنا وطن إلا به ، بشخصه تحديداً، ومن خلال شعارات يثبتون فيها الأبدية للقائد الرمز (قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد) ..

-  الكلام ذي المضمون الواحد الممجد للقائد المؤكد على خلوده المطلق كحاكم لنا ،  وامتيازنا على باقي الأمم لكونه رئيسنا ، وحقنا في الاعتزاز بمواقفه الممانعة والمقاومة ، هذا الكلام الذي كان يتكرر في الصحف والتلفاز ، وخصوصي في وقت أغلق فيه نظام الأسد البلد ، فما كان فيه إلا إعلام واحد وصوت واحد حتى استقر في لاوعي الكثيرين منا

- تعظيم شأن القائد ، وجعل الخضوع لحُكمه على أنه طاعة لله لأنه أمرنا بطاعة أولي الأمر ، ومن قبيل رضانا بحُكم مَن ولاه تعالى أمرنا ، وكأن ليس لنا من شأن أو إرادة أمام قدر الله الذي اختاره لنا ، وتجلى ذلك في تكرار هذه المعاني والتأكيد عليها في خطب المساجد وأدعية الخطباء على المنابر (اللهم وفق عبدك هذا الذي وليته (أنت) أمرنا للحكم بكتابك والسير على شريعتك إلخ)....

وبالعودة للأمر الثالث الذي تكلم عنه (لوبون) في كتابه (سيكولوجيا الجماهير) والذي من شأنه أن يسهل السيطرة على الجماهير وهو ( العدوى) ، يقول لوبون: (وعندما يُتاح لتوكيدٍ ما أن يكرَّر بما فيه الكفاية ، وأن يُكرَّر بالإجماع ، فإنه يتشكل بذلك تيار الرأي العام ،  وعندئذ تتدخَّل الآلية الجبارة للعدوى وتفعل فعلها ، فالأفكار والعواطف والانفعالات االعقائد الإيمانية تمتلك سلطة عدوى بنفس قوة وكثافة سلطة الجراثيم... ، والعدوى لا تتطلب الحضور المتزامن للأفراد في نقطة واحدة ، بل يمكن أن تنتشر على البعد بتأثير من بعض الأحداث التي توجه النفوس في نفس الاتجاه ...)

وبالتمعن في هذا الكلام نستطيع أن نفهم كيف كان السوريون يتدافعون في المدارس والجامعات للانتساب لحزب البعث العربي الاشتراكي ، وكيف كانوا يخرجون في الساحات العامة يهتفون بحياة الطاغية وخلوده ، هذه العدوى التي ظلت حتى يومنا هذا يعبر عنها بعض السوريين بحسب مدى خضوعهم السابق لهذه السيطرة

وهنا نعود لما سألناه في البداية:

كيف يمكن لهذه العوامل العوامل الثلاثة التي تمُيِّز الجماهير عامةً ، والتي طوعها نظام الأسد لفرض سيطرته وترسيخ حكمه أن تكون أداة لواقع أفضل نطمح إليه؟

الجواب: بإمكاننا تحميلها للمعاني الإيجابية، بدل ما كان يحمّلها نظام الأسد من معاني تقديس الطاغية وفرض سيطرته وحُكمه ، بإمكاننا استثمار خصائص ( التأكيد ، والتكرار ، والعدوى ) لتعزيز معنى : الحرية المسؤولة – الكرامة – الوطن – العدالة الاجتماعية – الديمقراطية ..... على نحو تستقر في اللاوعي وتصبح هي القيم العظمى التي توجه سلوك الشعب وتؤطره.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن من الضرورة بمكان أن ينبري المختصون بهذا المجال لإعداد الدراسات سواء فيما يتعلق بسيكولوجيا الجماهير ، أو تشكيل الرأي العام ، أو العقل الجمعي ، أو اللاوعي.... وغيرها.. ، فكما كنا وفقها خاضعين لقوى الباطل علينا اليوم أن نجعلها أدواتنا لتحقيق أهداف الثورة  ولرسم معالم الطريق الذي لأجله كانت بحور الدماء.