ولا يرى إلا خيالاً مني....

ترى ما الذي فعلته كسلا حتى تتعرض إلى سياط من القاش تلهب ظهرها وهي طفلته الحبيبة التي نشأت بين أحضانه صغيرة ثم كبرت بين يديه إلى أن صارت حسناء تسر الناظرين، ترى ما الذي فعلته المدينة التي قال عنها توفيق صالح جبريل قبل أكثر من نصف قرن (كسلا أشرقت بها شمس وجدي)، وقال عنها شاعرها الدكتور الراحل جرتلي (لو أنني خيرت أن أمشي على بساط من ذهب على أن أترك كسلا لاخترت أن أمشي على بساط من الأشوالك وأنا على أرضها) ، وبما أنني من أبناء هذه المدينة ليس أمامي إلا أن أسأل الله أن يلطف بها وبأهلها من أصحاب الوجوه البيضاء وأن يجعل من القاش أباً حنوناً على وديانها كما كان في سالف الأيام.

٭ من منا لا يعرف الموسيقار بشير عباس، من منا لا يعرف أوتاراً إذا عزف عليها تحول الحزن في الدواخل إلى نهر من الموسيقى؟ من منا لم يشعر أنه جالس أمام كوخ عند البحر وهو يصغى لمقطوعة موسيقية وقع عليها بريشته الخضراء؟ ومن منا ينكر لهذا الموسيقار أنه صنع من البلابل أسطورة فنية لن تتكرر، أحبائي الأعزاء ليس هناك ماهو أقسى من الحكم على مبدع تعلمت منه الأحزان أن تغرد أن نمر به مرور العابرين كأنه لم يغزل لنا من نور عينيه وطناً من الموسيقى.

٭ قلت للفنان الراحل محمد وردي لقد علمت أن ابنتك الحبيبة (جوليا) لديها صوت جميل لا يقل عن صوتك جمالاً فلما لا تسمح لها بالغناء ؟ فقال لي إن صوت المرأة الأم هو الأجمل من صوت المرأة الفنانة وإن المرأة لم تخلق إلا لتربية أطفالها فقط ، لتجعل منم رجالاً يتجولون بين أوطانهم شموساً ،وواصل قائلا : إن ضجة المسارح وأضواء الكاميرات قد تصنع سداً لا يرى بين المرأة وأطفالها مما يجعلهم في حالة حرمان صامت من عناقها، وأضاف أنه يحترم المرأة الفنانة إلا أن المرأة الأم هي الأكثر جمالاً في رأيه لأنها توزع أيامها بين عيون صغارها.

٭ أكثر من عشرين عاماً مضت على رحيل والدي عليه الرحمة وأنا حتى هذه اللحظة ما زلت أعاني من هذا الفقد ، بل فشلت تماماً في استمالة لحظة واحدة تمنحني بعضاً من الفرح ، كل هذا يعود إلى أن أبي ارتحل وأنا هناك في هجرة سوداء أعلنت أمامي قيودها العصية أنها لن تسمح لي بالسفر لإلقاء نظرة أخيرة على وجهه الطيب، وكثيراً ما تخيلته يبحث عن وجهي بين كل الوجوه ليراني من بين المودعين ولا يرى إلا خيالاً مني.. أقولها نصيحة لإخواني من المغتربين عليهم أن يتخلوا عن اغترابهم وأن يعودوا لآبائهم قبل أن يصيبهم ما أصابني من فقد لم أتمكن من اجتيازه حتى هذه اللحظة ولو بلمحة من نسيان مؤقت.

٭ عشرون عاماً وأنا أتمنى أن أسمع أغنية سودانية واحدة من خلال أثير إذاعة عربية واحدة.. عشرون عاماً وأنا انتظر أن أسمع أغنية لوردي أو لكابلي أو أي نغمة سودانية الملامح في تلك الإذاعات دون جدوى.. أما إذاعاتنا الخاصة فإنها لكثرة ما تقدمه لنا من أغانٍ عربية وأجنبية، دخيلة المعاني كادت أن تقضي على هويتنا السودانية إلى حد أضحت فيه العروس تزف إلى عريسها على ايقاعات الزفة العربية والرقصات الأفريقية والأنغام (الما هيا) بدلاً من أغنيات (العديل والزين) و(يا عديلة يا بيضا) ، ترى على من تقع مسؤولية هذه الهجمات الثقافية الدخيلة على مجتمعنا والتي ترفع كرتاً أحمر لهويتنا السودانية.

هدية البستان

أقطع علشانك ألف بحر

لا بخشى رياح لا بخشى مطر

يا جيت بي ريدتك راجع أنا

يا جات الريح شايلاني خبر

وسوم: العدد 685