حصار الصحف

حصار الصحف

يسري الغول

[email protected]

حوصرت غزة، ومُنع إدخال كل مقومات الحياة المادية، إلى جانب منع إدخال الكتب والمجلات الأمر الذي دفع بأصحاب المكتبات لإدخال الكتب عبر الأنفاق وبتكاليف باهظة جداً في محاولة لكسر الحصار الثقافي.

ذلك الحصار لم يكن وليد حالة الانقسام بين الأشقاء في الوطن، بل بدأ منذ إنشاء دولة الكيان، حيث كانت المتابعة والمراقبة والمنع يطال العديد من الكتب والجرائد والمجلات، بالإضافة إلى ملاحقة أصحاب القلم الثوري المطالب بالحرية واعتقالهم وترويعهم، وقد كان يعلم الاحتلال بأن المعرفة تمثل أحد أهم ركائز بناء الدولة، وبناؤها لن يتم بدون مقومات نهضوية تبعث على الحياة. إلا أن المؤلم أن يصبح الوطن مشتتاً مترهلاً بفعل التناحر الثقافي بين الإخوة وكأن الذي يفرقنا هو الوطن ذاته، حتى منعت الصحف والجرائد من الطباعة أو الدخول إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، في الوقت الذي يمارس فيه الاحتلال حربه الثقافية ضد كل ما هو فلسطيني فمن سرقة الأرض إلى سرقة التراث والحضارة والإنسان.

ولقد قام شارون ذات مرة بإلقاء قصيدة للشاعر الأمريكي روبرت فروست أمام بوش الابن بعنوان (الجدار الواصل) وهي قصيدة تتحدث عن جارين قاما ببناء سور حديدي ليزع كل واحد منهم الأزهار كجسر للمحبة في رسالة مفادها أنه سيبني الجدار العازل كي تدوم المحبة بين الكيان  والأراضي الفلسطينية. فالاحتلال الذي يستثمر الأدب والثقافة والمعرفة لبناء دولته، هو ذاته الذي أوصلنا إلى حالة التناحر الثقافي لنهدم صرحنا الهلامي وكأننا حقاً نعي قدر الثقافة. وما زلت أذكر كيف أصحبت الحالة الثقافية الفلسطينية بعد الانقسام عندما صار الوطن أوطاناً متداخلة والفعاليات الثقافية مجزأة ومشتتة دون ناظم حقيقي يرعاها، الأمر الذي أخذ بالشباب إلى حالة من التيه والاغتراب الثقافي عن وطن كان أحرى بأن يصقل مهارات مفكريه ومبدعيه ورواده.

ولعلنا بحاجة إلى ضرب الأمثلة ليدرك صانعوا القرار أن بناء العقول وصقل مهارات المواطنين الفكرية والمعرفية والتوعوية هي أهم من يمكن إنجازه، نتذكر كيف كانت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي عندما تم منع تداول كتب بعينها ومنع لبس ملابس بعينها كحرب بين عمالقة يدركون مدى تأثير الثقافة على رؤية المواطنين وتأثيرهم على القرار السياسي. وعندما تقوم اليوم كوريا الجنوبية بمنع مشاهدة أي محطات إذاعية لجارتها الشمالية ثم تحاكِم من يخالفون ذلك بأقصى العقوبات فهي تدرك مدى تأثير الثقافة والإعلام على صياغة الرأي العام وبلورة الصورة الذهنية المطلوبة. وقد أردك ذلك أجدادنا عندما قاموا في الثلاثينيات بلبس الكوفية والحطة والعقال حتى لا يتعرف الانتداب على الثوار الفلسطينيين الذين كانوا يأتون من القرى البعيدة.

لذلك، فإن صناع القرار يجب أن يدركوا بأن الحالة البائسة التي وصلت إليها الأراضي الفلسطينية لا يجب أن تعود، وأن قمع الأفكار وحرية الرأي والرأي الآخر لن تستوي في ظل النهضة التكنولوجية العارمة، وفي ظل توفر وسائل الاعلام الاجتماعي التي جعلت من العالم غرفة صغيرة. وليأخذ هؤلاء عبرة من حالة السعادة الغامرة التي شعر بها المواطنون بدخول الصحف إلى شقي الوطن بعد سبع سنوات من حصار طال الأوراق والعقول أيضاً.