في مسألة بقاء الأسد

مأزق حقيقي تعيشه قوى الثورة والمعارضة في سورية مع استحكام فِكرة بقاء الأسد بشكل أو بآخر خلال المرحلة الانتقالية، وربما بعدها، ومع اتساع مروحة الدول التي تقبل بالفكرة، بما فيها تلك التي يفترض أنها (صديقة) أو (حليفة) كتركيا، وقد استمعنا إلى نائب رئيس الوزراء التركي، محمد شميشك، في منتدى دافوس قبيل مؤتمر أستانا ببضعة أيام، حين قال: “الحقائق على الأرض تغيرت كثيرًا ومن ثَمّ؛ لم يعد بوسع تركيا أن تصر على تسوية بدون الأسد، هذا غير واقعي”.

لقد بذل حلف النظام الفاعل والمؤثر (روسيا وإيران) جهدًا كبيرًا لتسويق فكرة بقاء الأسد، ساعده في ذلك انتصاراته الميدانية من جانب، وتخلي الآخرين من جانب آخر. وها هم الروس يضمِّنون مشروع الدستور الذي قدموه لوفد المعارضة في أستانا أحكامًا تُعطي الأسد حق إكمال فترته الرئاسية الحالية، والترشح مجددا لفترتين أخريين. وها نحن الآن نجد أنفسنا أمام رجحان هذا الاحتمال المخيف، وستحاول الأسطر التالية الإضاءة على بعض جوانبه وأبعاده، وتفنيد بعض الأسس التي يقوم عليها.

بقاء الأسد ومحاربة الإرهاب:

داعش وغيرها من التنظيمات السلفية الجهادية المقاتلة في سورية هي، بدون خلاف على ما أعتقد، من قدم للأسد ونظامه فرصة البقاء، وجعل الآخرين في الخارج يفضلونه على بديل محتمل فائق الوحشية، يتخذهم أعداء له، ويضعهم على رأس أهدافه. ولولا ظهور هذه التنظيمات، وبالطريقة الرهيبة التي عبرت بها عن نفسها، لما كان بالإمكان تخيل أن هناك من يمكنه، علناً على الأقل، دعم بقاء مستبد قاتل من طراز الأسد.

منطقيًا، ومصلحيًا، لا يمكننا أن نتوقع من الأسد الذي فعل ما فعله من مساهمة في إطلاق هذه التنظيمات وتمكينها واستثمارها، أن يعمل الآن على القضاء عليها، ويقوض، من ثَمّ؛، مسوغ بقائه، اللهم إلا إذا اطمأن إلى بقائه بدونها، أو تحولت إلى سبب يهدد بقاءه. لذلك فإن فكرة إبقاء الأسد لإشراكه في محاربة الإرهاب فكرة متهافتة تختزن ما تختزن من قصر النظر لدى البعض، وسوء النوايا لدى البعض الآخر، والسيناريو الأكيد في هذه الحال هو أن الأسد سيستخدم كل مواهبه في التضليل والخداع؛ لمنع انتصار تلك الحرب، وبقاء خطر تلك التنظيمات قائمًا.

يمكننا الإشارة من جانب آخر إلى أن فكرة بقاء الأسد ستمنع فئات كثيرة من المجتمع السوري من التعاون في محاربة التنظيمات الإرهابية. بينما سيحدث العكس، وسينخرط الجميع بحماسة في محاربة تلك التنظيمات إذا أُبعد الأسد وطغمته، أو إذا كانت هذه المحاربة ستفضي إلى رحيلهم.

لا تستقيم محاربة الإرهاب بتعاون الأسد، ولا بوجوده، ولا تستقيم دون توصيفه والتعامل معه بوصفه إرهابيًا أولًا ومصدرًا رئيسًا لكل هذا الإرهاب الذي تعج به البلاد.

بقاء الأسد بصلاحيات محدودة:

كما أنه لا يمكن تخيل الأسد محاربًا للإرهاب، ومدمرًا لمبررات وجوده ذاتها، كذلك لا يمكن تخيله بصلاحيات محدودة، وبوجود أصحاب صلاحية ونفوذ آخرين يقررون في شؤون الدولة بمعزل عنه. ولا يمكن بشكل خاص تخيله بدون سيطرة على الجيش وأجهزة الأمن، فهذا بالنسبة له يعني النهاية. فنظام الأسد نظام مغلق، غير قابل لأي تعديل أو مشاركة أو إصلاح، وهو يعمل بمبدأ “إما كل شيء أو لا شيء” والذي يشبه المبدأ العدمي الآخر “الأسد أو نحرق البلد” ومن يعتقد بغير ذلك فهو بعيد عن الواقع، ولا يعرف شيئًا عن هذا النظام. والسيناريو الأكيد هنا، أقصد في حال إبقائه بصلاحيات محدودة أو ناقصة، أنه أيضًا سيستخدم كل مواهبه في تخريب كل شيء لإبقاء سيطرته على كل مراكز السلطة والقوة.

بقاء الأسد وبناء الدولة:

سيقضي بقاء الأسد على فرصة بناء الدولة الوطنية الحديثة التي يحلم بها السوريون، حيث سيحكم البلاد بالطريقة الوحيدة التي يفهمها، أي بالحديد والنار، وبمزيد من الوحشية والعنف هذه المرة، وسيُحكم قبضته الأمنية على الناس، وسيحول نصف المجتمع إلى مخبرين وشبيحة، ونصفه الآخر إلى متهمين ومطاردين، وسيستمر بإدارته السامة للتنوع السوري، وتخريب كل حظوظ التعايش الصحي بين فئات السوريين.

يمكننا في هذه الفقرة الإشارة إلى مسألة مهمة أخرى، هي عودة المهجرين، خاصة من فئات الشباب المؤهلين الذين ستكون لعودتهم أهمية استثنائية لبناء سورية ونهوضها مجددًا بعد هذا الخراب العام. لكن بقاء الأسد سيشكل عاملًا حاسمًا في قرارهم بعدم العودة، فمع الأسد هناك الخوف من الانتقام والقمع وحكم المخابرات، ومع الأسد هناك المافيا والعصابات التي تتحكم بمصادر الثروة ومفاتيح الاقتصاد، ومع الأسد هناك مستقبل غامض محفوف بالمخاطر…

لا يعني هذا أن عودتهم مضمونة برحيل الأسد، فللعودة حساباتها المعقدة، لكن وجود الأسد سبب كاف لاستبعاد فكرة العودة.

بقاء الأسد وفكرة العدالة الانتقالية:

يقوض بقاء الأسد فكرة العدالة الانتقالية من أساسها، سواء كان بقاؤه قصيرًا أو طويلًا، وسواء بقي بصلاحيات بروتوكولية أم كاملة. فعندما يصبح المجرم الأكبر خارج المساءلة، فإن جميع المجرمين الآخرين يصبحون خارج المساءلة، بعيدين عن يد العدالة، ما يعني التضحية بفكرة ومبدأ العدالة الانتقالية، وهذا أمر بمنتهى الخطورة في حالتنا السورية، وهو كفيل لوحده بالقضاء على فرص الخروج من نفق الاحتراب الداخلي والانتقام وتصفية الحسابات. فالعدالة الانتقالية شرط أكثر من لازم وضروري لتهدئة النفوس وتفريغ حمولة الأحقاد الهائلة التي زرعتها ورعتها ممارسات النظام وحربه المجنونة ضد شعبه، وما استدعته من ردات فعل من جنسها.

بقاء الأسد ومسألة السيادة:

سيكون الأسد في حال بقائه على درجة كبيرة من الضعف والهشاشة بسبب خساراته الفادحة خلال السنوات الست الأخيرة، وانكشاف ماهيته أمام الجميع. وسيحكم شعبًا معاديًا، كان هو سبب مأساته وتعاسته. لذلك لا بد له من الاعتماد على دعم حلفاء خارجيين والاستقواء بهم، ولا بد أن يكون الارتهان لهؤلاء الحلفاء، هو الثمن الذي سيدفع مقابل هذا الدعم، وستُسدد فواتيرهم من حساب الوطن ومن خيراته وحقوق أبنائه، وعلى حساب سيادته واستقلال قراره. ويبدو أن الأسد لا يتوفر على حد أدنى من الأخلاق والوطنية يمنعه من هذه المقايضة، وهذا ما أثبتته سنوات الثورة، فهو مستعد، دون حرج، للتفريط بمسألة السيادة وحقوق الوطن والمواطنين حتى آخرها، إذ لا شيء أهم من البقاء في الحكم. وعمليا، كلنا يعرف أن من يحكم البلاد الآن هم الروس والإيرانيين، وكلنا شاهدنا لقاءه المذل مع وزير الدفاع الروسي في مطار حميميم، إذ جرى استدعاؤه لتلك المقابلة دون إعلامه بمن سيلتقي. وكلنا رأى قاسم سليماني يصول ويجول في البلاد آمرًا ناهيًا، وكلنا قرأ وسمع عن المعاهدات الست التي أبرمها رئيس وزراء النظام السوري مع الإيرانيين، حيث قُدّمَت لهم الأراضي والامتيازات بدون حساب. وكلنا يرى بلاده محتلة من الجيوش والمجرمين والإرهابيين وشذاذ الآفاق، ويرى طائرات العالم تجوب سماءها مخلفة وراءها الدمار والويلات… ولا بأس بكل ذلك بالنسبة لرئيس لا يرى في السيادة أبعد من بقائه في الكرسي.

بغض النظر عن البعد الأخلاقي لبقاء الأسد، حيث نُثَبِّتُ طاغية قتل وشرد شعبه ودمر بلاده. وبغض النظر عن البعد القانوني ومسألة الحق والعدالة، حيث نثبت مجرمًا لا يليق به إلا حبل المشنقة. بغض النظر عن كل ذلك، فإن بقاء الأسد سيُبقي سورية تحت الأرض وخارج التاريخ، لأنها ستكون بالضرورة “سورية الأسد” دولة على شاكلة طغمتها الحاكمة، تديرها المافيا والمخابرات ووطاويط الظلام، وسيبقى بناء الدولة الوطنية الحديثة حلما بعيد المنال.

نقول أخيرًا، إن بقاء الأسد سيكون شاهدًا على عالَم متوحش، انتكس إلى مرحلة البربرية، وانقلب على كل القيم والمبادئ التي راكمتها البشرية عبر تاريخها.

*كاتب وحقوقي سوري، ناشط سياسي، رئيس الأمانة العامة لحزب الجمهورية.

وسوم: العدد 707