عن اقتتال فصائل المعارضة السورية المسلحة

الحياة:

تتعدد الأسباب وتتضافر في تفسير المعارك المتكررة بين أهم فصائل المعارضة السورية المسلحة، وآخرها تجدد القتال العنيف في الغوطة الشرقية بين جيش الإسلام من جهة وفيلق الرحمن وهيئة تحرير الشام من جهة أخرى، مصحوباً باتهامات تخوينية وتهديدات تصفوية، عداكم عن تصاعد موجة الاغتيالات ضد قيادات تنتمي الى هذا الفصيل أو ذاك، وجديدها، اغتيال أحمد الحريري، رئيس المجلس المحلي لبصر الحرير وقائد فصيل عامود حوران مع ثلاثة من رفاقه، ثم اغتيال الشيخ حمزة المظلوم العضو المخضرم في لجنة تسيّر أمور حي برزة الدمشقي، وأهم تلك الأسباب:

أولاً، الاختلافات العقائدية والسياسية بين هذه الفصائل، فأكثريتها باتت ذات توجه ديني يحكمها إصرار على فرض النموذج والشريعة الإسلاميين بالبلاد، بينما تحسب البقية على الجيش الحر أو قوات سورية الديموقراطية، وهما لا يزالان يعلنان التزامهما بمبادئ الثورة وشعارات الحرية والكرامة، وما يعزز تلك الاختلافات تعارض مواقف هذه الفصائل من «جبهة النصرة»، أو «هيئة فتح الشام» اليوم، بين مؤيد للتعاون والتنسيق معها، وبين مهادن لها في حدود تفهم دورها ضد النظام، وبين مناهض لها وأعلن الحرب عليها انسجاماً مع الموقف الإقليمي والدولي.

والأنكى تنامي أعداد المجاهدين الأجانب المنفصلين عن الهموم الوطنية، والذين لم يكتفوا بالمشاركة في القتال، بل شكل بعضهم كتائبه الخاصة، أو تبوأت رموزهم مناصب قيادية في الكتائب القائمة.

ثانياً، زاد الطين بلة لدى الفصائل التي تحمل راية الإسلام، إذا استثنينا تنظيم داعش، تباين، وأحياناً تعارض، مرجعياتها الشرعية، في ظل غياب هيئة قضائية تحكيمية تحوز ثقة الجميع وتتولى إدارة النزاعات وضبطها، وطبعاً، حين يتصدر الفقهاء المشهد ويغرون الناس بالاقتتال ضد المختلفين معهم، ويسوغون منطق القهر والغلبة، ويشجعون الفصيل المؤمن باجتهاداتهم، كي يرى في نفسه المشروع الواجب فرضه على الجميع، يمكن أن نفهم سبب تحول السجال الفقهي إلى معارك دموية لا رحمة فيها، توازي أو تتجاوز في كثير من الأحيان أولوية قتال النظام، وتالياً سبب مسارعة مختلف الفصائل لتأسيس إماراتها أو سلطاتها الذاتية المدعمة بمكاتب سياسية وأمنية وإدارية وقضائية، وأيضاً دوافع تفسير الصراع المزمن في الغوطة الشرقية مثلاً، على أنه صراع بين السلفية التقليدية لفيلق الرحمن وبين السلفية الحركية لجيش الإسلام، كذا!. ولا يغير هذه الحقيقة الركون أحياناً لما سمي محاكم شرعية لتخميد النزاعات، كمحاولة لتغطية الاقتتال على النفوذ بعباءة الدفاع عن الشرع البريء من أفكار هؤلاء المتقاتلين واجتهادات فقهائهم.

ثالثاً، أفضى طول أمد الصراع إلى تبلور زعامات للفصائل بات لها مصلحة في الدفاع عن نفوذها وامتيازاتها، يحدوها شيوع ثقافة أرستها عقود من الاستبداد عززت الغلو والتطرف وروح التفرد والأنانية والاستئثار، ما يفسر استسهال هدر دم البشر في محاولات التنافس المحموم على توسيع النفوذ، أو بحثاً عن موارد من نفط وآثار وغاز كمصادر للتمويل وشراء السلاح، وأيضاً للسيطرة على المناطق الإستراتيجية كالمنافذ الحدودية وغيرها، والأهم اجتماعهم على ابتزاز الناس ومصادرة ممتلكاتهم والاستئثار إرهاباً، بما يقدم لهم من مساعدات ومعونات عربية ودولية، ويكفي أن نذكر هنا بظواهر إطلاق النار على تجمعات احتجاجية طالبت بتوزيع عادل للمعونات أو بوقف الاقتتال البيني، وآخرها تظاهرة مدينة عربين، التي سقط فيها العشرات من القتلى والجرحى، من دون أن ننسى تصاعد عمليات التضييق على الناشطين والإعلاميين المستقلين واعتقال أو تغييب بعضهم، وأبرزهم رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي.

رابعاً، يعزز الخلافات ويسعر الصراع ضعف دور المعارضة السياسية وعجزها المزمن عن نيل ثقة أهم تلك الفصائل العسكرية، ربطاً بتبادل تحميل المسؤوليات عن بعض الهزائم التي حصلت، سقوط حلب مثالاً، ثم اختلاف الخيارات السياسية بين هذه الفصائل، إن لجهة تعارض مواقفها من التعاطي مع المفاوضات ومشاريع التسوية السياسية، وإن لجهة تفرد فصائل معينة في تسويغ الهدن وعمليات التهجير القسري من أرياف دمشق وحمص، من دون أن تعبأ بما يسببه ذلك على منحى الصراع العام.

خامساً، أدت الوعود الغربية بتسليح الجيش الحر إلى تأجيج صراع كتائبه مع الفصائل الأخرى، كونها اشترطت ضرورة فرض سيطرته الكاملة على مناطق تواجده، والحرص على عدم وصول السلاح النوعي إلى أيادي المتشددين الاسلامويين، مثلما أدى تباين المصالح والأهداف بين القوى الإقليمية المعنية بالصراع السوري إلى تصاعد حدة الاحتقان والاقتتال بين الفصائل المسلحة التي ترتبط بهذا الطرف الإقليمي أو ذاك وتتلقى التمويل منه، من دون أن نغفل مصلحة النظام السوري ودوره في تعزيز ذاك الاقتتال، إن موضوعياً، عبر ما يشكله تشديد الحصار من ضغط وتوتير واحتقان داخل المناطق المحاصرة، وإن عبر استمالة بعض الكتائب ودعمها وتشجيعها على مواجهة الآخرين، وإن عبر اغتيال رموز الاعتدال والتوافق لتمكين المتطرفين وقليلي الخبرة من السيطرة والتحكم بقرارات تلك الفصائل.

والحال، قد يذهب البعض إلى القول «فخار يكسر بعضه» في الموقف من تواتر المعارك الداخلية بين فصائل سورية مسلحة لم تعد تمت للثورة وشعاراتها بأية صلة، لكن ثمة تداعيات سلبية عديدة لهذه المعارك على المشهد السوري المعقد أساساً، يأتي في مقدمها، إضعاف الحاضنة الاجتماعية للتغيير وتعميق مشكلاتها وما تكابده، وهي التي تعاني الأمرين من حرب النظام وشدة الحصار المفروض عليها، الأمر الذي يزيد في إنهاك هيئات العمل المدني والاغاثي وتشتيت المعارضة السياسية، فضلاً عن تقويض جهود التسوية ومنح النظام وحلفائه فرصة أكبر لتسويغ عنفهم والمضي قدماً في طريق الحسم العسكري، والأهم أن هذا النوع من الاقتتال من شأنه أن يؤدي إلى انحسار الثقة الشعبية والدولية بمستقبل سوري واعد وتالياً بفرصة تبلور بديل وطني مقنع يفتح باب الأمل لخلاص السوريين من محنتهم.

وسوم: العدد 720