كبّة بالصينيّة.. لسجين رأي.. أيام زمان..

سنة 1936 أو ما حولها، ذهب عمّي الأكبر "رئيف السباعي" - المولع بالسياسة - إلى اجتماع في قناق "الزعيم حسن بيك إبراهيم باشا"، ولم يعد إلى البيت، فقد أطبقت السلطات الفرنسية على المجتمعين وساقتهم إلى السجون.

ممّا تعيه ذاكرتي وأنا ابن سبع سنين، أني صحبتُ جدّتي - ولم يصحبنا أبي اتّقاءً - إلى السجن في يومِ زيارة. وكانت الجدّة قد أعدّت لابنها كثيرا من المآكل منها كبّة بالصينيّة، ذهبت أنا إلى فرن "أواديس" بالسويقة أستدعي أجيره الذي أخذ الصينية وعاد بها مشويّة.

على الرصيف المقابل لباب السجن، ذاك الواقع بجوار مبنى البلدية يومذاك، رأت عيني كثيرا من الناس مقتعدين الأرض، وقد أتَوا مثلنا بالمآكل لذويهم سجناء الوطنيّة، وأذكر أنهم كانوا في أكثريتهم الساحقة نسوةً متجلببات بالملاءات السود متلفّعات الرؤوس بالمناديل. ولا أذكر أنّا عوملنا بأكثر من أن نلتزم الهدوء فكلٌّ سوف يدخل ويلتقي. وقد شاهدنا عمّي من وراء القضبان، فذرّفت جدّتي الدموع وأعدتْني فبكيت: عمّي، كبير العيلة، في الحبس! ولكني رأيت وجهه صارما وعيناه كعينَي صقر، وهو يهدّئ جدتي، ولا يبالي بدموعي.

لم تطل غيبة عمّي... خرج بعدها وطنيّا. وبدا أنه كان مقدَّرًا له، ولأبي، أن يكونا من كبار تجار "سوق المدينة"، يشاركهما في ذلك رجالٌ من "بيت منصور" يعملون في "خان خيري بيك". وأما الزعيم "الطبيب الدكتور حسن إبراهيم باشا قَطار أغاسي"، فإنّ هتافًا في حقّه لم يزل في سمعي منذ ثمانين عاما: «بدْنا أبونا.. حسن بيك»، فقد كان زعيما متفرّدًا، وإنّ له قصة استثنائيّة سوف أرويها لاحقا.

أتساءل: هل يستطيع أهالي سجناء الرأي، اليوم، أن يحملوا إلى ذويهم الكبّة بالصينية... أم أنهم...؟!

وسوم: العدد 723