يمكن أن نختلف.. ونعمل سوية ....

عقاب يحيى

حين كنا نتناقش على مدار السنوات حول خصائص العمل التياري، واختلافه عن العمل الحزبي : العقائدي، ونظام المركزية فيه..كانت الخصيصة الركيزة في الفروق هي إمكانية تعايش أفكار مختلفة، ومتباينة ضمن إطار واحد دون خوف من سيف التصنيف، والاتهام، والانشقاق.. والحروب البينية التي طالما أنهكت جلّ الأحزاب العقائدية وأورثتها عديد العاهات بتحول كثيرها إلى حالة استبدادية يقوم الشخص الواحد ـ الأبدي ـ بكل الصلاحيات، أو إلى وضع تحنيطي عاجز عن التجدد.. والتطور، والتطوير...

وكتبنا مبكراً، ونحن نغادر مواقع حزبية، وحزبوية سابقة، عن أهمية ولادة تيارات عريضة تجمع داخلها اتجاهات واسعة لمجاميع فكرية وسياسية تلتقي في المشتركات العامة..كأن تكون قومية ضمن مروحة واسعة، أو طنية وديمقراطية، وليبرالية، أو إسلامية مختلطة ببعض غير الإسلاميين، والتحديات الواقعية التي تواجه هذه الأفكار وهي تنتقل من النظري إلى شيء من التجسيد..

كنت، وما زلت مقتنعاً أن المستقبل لمثل تلك الاتجاهات السياسية العريضة، وان تكريس الديمقراطية في بلادنا سيحمل معه ولادة اتجاهات كبرى ستعرف، بعد حالة الفوران، نوعاً من الاستقرار في عدد من التشكيلات التي تعبّر عن الاتجاهات الرئيسة في المجتمع.. والتي يمكن أن تدور حولها تشكيلات واحزاب صغيرة تمثل شيئاً من المكونات السياسية والعقيدية وغيرها..

*******

الثورة السورية.. فتحت المجال للتفكير بنقل تلك الأفكار إلى الواقع، فكانت الكتلة الوطنية الديمقراطية السورية، بالنسبة لمجموع الأخوات والأخوة المؤسسين المؤمنين بتلك الأفكار.. هي الحصيلةالتي تبلورت معالمها، ثم أرسيت وثائقها النظرية والسياسية، ونظامها الداخلي لتصبح كياناً يطمح للمساهمة بدور ما في مسار الثورة وتطوراتها..

لأقل والتجربة ما زالت غضّة.. اننا كنا في حالة من التناقض المركّب.. بين جذور معظمنا الحزبية في مدارسنا القديمة وعوامل شدّها القوي نحو ما اعتدنا عليه، وبين طموحاتنا في التجديد والتجسيد المتناسب مع متغيراتنا.. ولا شكّ أن هذه الحالة الاختلاطية أوقعتنا بعديد التناقضات، وافقدتنا عديد الأعضاء والقدرات، وعرّضتنا لذات الأمراض السابقة في ضيق الصدر والأفق على الرأي المعارض، وسهولة التصنيف السلبي عندما يكون مخالفا لآراء البعض، ناهيك عن طبيعة النقاشات التي تدور في فلك أقنومي معهود وعدنا انفسنا مراراً بأننا ضده، وقد تجاوزناه ..

ـ من جهة أخرى.. فإن تطورات الثورة السورية وما عرفته من مناقلات درامية، ومن غوص إجباري، فعام في العمل المسلح، وقلقلة الأمل بالانتصار السريع، وتعقد الأوضاع في عموم المجالات، والتفاوتات القاسية في موقع المخارج.. بين حالات التراكب لكل من النضالين السلمي ـ المدني والمسلح(بتقدّم موقع العمل المسلح في مراحل مهمة، ثم تراجعه..بتباين ايضاً) وبين من يشطب تماماً على كل أنواع العمل المسلح ويعتبره عاهة الثورة وأهم أسباب "خطفها"، أو " حرفها"، أو ابتعادها عن أهدافها...ثم انتشاء الحلول السياسية وعروضها المفروضة من "المجتمع الدولي" وكأنها البديل، أو الخيار الإجباري الوحيد............

     هذه التطورات.. وما شهدته من فصول، ومراهنات على التدخل الخارجي، أو الحسم القريب، او الوعود الخلبية.. كلها أدّت إلى مزيد اضطراب القناعات، وإلى توليد مناخات لتفاعلات مختلفة.. تترك آثارها في عموم التشكيلات السياسية.. ومنها الكتلة الوطنية الديمقراطية السورية .

ـ وكماجميع السوريين المؤمنين بالثورة، وببلادهم موحدة.. فإن جميع القوى المعارضة، وقوى الثورة الشبابية.. انطلقت من العمل السلمي طريقاً لانتزاع الحريات العامة.. كحق طبيعي، ورغم اشتداد الرهان على العمل المسلح : نتاج ردّ الفعل على ممارسات نظام الطغمة.. ظلّ الحل السياسي "المشرّف"، أي المؤدي للهدف : إنهاء نظام الفساد والاستبداد والقتل والفئوية، وإقامة النظام الديمقراطي.. مطلباً شبه إجماعي كرسته جل قوى المعارضة والثورة في مؤتمر القاهرة للمعارضة ووثائقه ، خاصة وثيقة العهد ـ تموز 2012، ثم ما حصل من تراجع لأسباب متداخلة ...أخذت الكفة ترجح لصالح النظام، في حين تغولت قوى التشدد وهي تفوش على سطح العمل المسلح محاولة الإمساك بخناقه، وعبره : احتكار الثورة لصالح منطوقها، ووعيها...

ـ لوحة تطورات الحالة السورية.. وانسداد جميع الآفاق، بما فيها الحلول السياسية، على الأقل في زمن راهن.. ترخي بثقلها على جميع السوريين المعنيين بالثورة، وتتفتق عبر اجتهادات وآراء مختلفة.. يبدو عديدها متناقضاً، وقابلاً للخوض في التصنيف والانقسام.. والحروب الكلامية في الصف المحسوب على الثورة.. والكتلة ليست بمنأى، أو منجى عن ذلك.. لقد خسرت بعض أطرها المهمة نتيجة الخلاف على أوهام التدخل الخارجي وطريقة التعامل مع صراخ أمريكي لم يك حقيقياً، وكان مرتبطاً بتحقيق هدف وضع اليد على السلاح الكيماوي..

واليوم أيضاً.. ومع انتقادات متزايدة لواقع العمل العسكري. لميادين حياة"المناطق المحررة"، لانسداد الأفق على حل عسكري حاسم، للتأكد من عدم وجود دعم عسكري خارجي يؤدى إلى النتيجة المرجوة... مع كل التوصيف لواقع القوى المسيطرة على العمل العسكري.. تنفتح الشهية أكثر فأكثر للخوض في مبادرات سياسية.. يصل بعضها إلى اقتراحات تفاوضية دون شروط مع النظام القاتل.. بما فيه رأسه...الأمر الذي يعني مزيد النزيف الذي لا طائل منه.. لأن الواقع يؤكد أننا في مواجهة طغمة ترفض أي حلول سياسية من شأنها الانتقال إلى وضع ديمقراطي.. إلا إذا أجبرت على ذلك، وان عوامل الإجبار ترتبط بميزان قوى داخلي لا يبدو انه مسموح بالإخلال به لصالح الثورة، أو بضغط دولي حقيقي وفعلي.. وهو امر غير واضح للآن..

ـ الخلافات التي يمكن أن تنشأ في القراءة، والاجتهاد، والموقف.. وإن كانت حقيقية.. لكنها يجب أن تتفاعل داخل الإطار الواحد، وألا تمنع من البقاء المشترك.. حتى لو كانت هناك أغلبية واضحة ترى أن المخرج الوحيد يمر عبر حل تفاوضي، او وطني، او ما شابه..وأن علينا ان نتعلم قبول رأي الآخر، والاعتراض عليه بكل شفافية ومصداقية، وصولاً إلى حد تجميد النشاط..إن كان ذلك سبيلاً وحيداً..