مقـدمة الطبعة الثانية

يسعدني أن أضع بين يدي القارئ الكريم، الطبعة الثانية من كتابي «عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعراً وإنساناً» بعد أن أعدت النظر فيه طويلاً، مستفيداً من ملاحظات متنوعة، بعضها من مراجعتي الشخصية لما كتبت، وبعضها من حصولي على مواد جديدة للشاعر وأخرى عنه، وبعضها مما قاله أو كتبه عدد من أهل العلم والفضل وجدت من واجبي أن أشكرهم شكراً جزيلاً، وهم:

❊ أستاذ الأجيال، الأديب العلامة الموسوعي، الشيخ الجليل علي الطنطاوي رحمه الله، الذي أثنى على الكتاب ثناء كبيراً، ووصفه بأنه مدهش وممتاز ومنصف، ووصف لغته بأنها عالية.

❊ الأخ النبيل الأستاذ عبد العزيز السالم الذي قرأ الكتاب قراءة دقيقة، وكتب عنه ست حلقات في جريدة الرياض الغراء، وفي كتابته متابعة واستقصاء، وفيها ملاحظات عامة وأخرى جزئية، بل إن فيها رصداً لأخطاء طباعية وغير طباعية، وهي مما لا يكاد ينتبه إليها القارئ، وقد فاتتني وفاتت سواي، ومع ذلك استوقفته فنبه إليها وحدد مواقعها، فله الشكر الجزيل مرتين، مرة لما فعل، والأخرى لأنه فعل ذلك وهو مشغول جداً بأعباء عمله المتنوعة والمهمة والكثيرة.

❊ الأخ الكريم الأستاذ الدكتور محمد علي الهاشمي الذي قرأ الكتاب قراءة دقيقة، وزودني بملاحظاته المشكورة، التي يظهر فيها حرصه ودقته وإتقانه، وهي صفات معروفة عنه في حياته وكتابته على السواء.

❊ الأستاذ الدكتور يوسف عز الدين الذي كتب في الأربعاء ــ وهو ملحق أسبوعي تصدره جريدة المدينة ــ مقالاً جميلاً علق فيه على ما كتبه الأستاذ السالم، وهو مقال فيه ذوق وأدب وثناء، وأفكار نافعة، أرجو أن أستفيد منها.

❊ الأخ الكريم الأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، الذي قرأ الكتاب وكتب عنه مقالة جميلة، ضافية ودقيقة، أعانه عليها حســه الأدبي، ومعرفته بالكتاب منذ أن كان فكرة تقدم للجامعة، ثم رسالة تجاز منها، ثم عملاً منشوراً بين أيدي الناس، فضلاً عن الصلة الطويلة بينه وبيني، وهي صلة وثقى شدت عراها أخوة ومودة، وتقارب كبير في الفكر والثقافة والطباع.

❊ ❊ ❊

أشرت في مقدمة الطبعة الأولى إلى أن أصل هذا الكتاب هو رسالة علمية تناولت الجانب الفني عند عمر أبو ريشة، وقد أضفت إليه طائفة من الموضوعات يوم خرج من حيز الجامعة إلى حيز النشر، لكني وجدت أن هذه الإشارة مجملة ولابد من شيء من التفصيل.

أصل هذا الكتاب هو رسالة تقدمت بها إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة عين شمس، للحصول على درجة الدكتوراه، وعنوانها هو: «عمر أبو ريشة - دراسة فنية»، وقد نوقشت الرسالة مساء يوم الأربعاء 7/12/1414هـ ــ 18/5/1994م، ونالت درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الثانية. وقد أشرف عليها الدكتور يحيى عبد الدايم رحمه الله، وشاركه في مناقشتها الأستاذان الدكتوران إبراهيم عبد الرحمن، وأحمد مرسي.

أما موضوعات هذا الأصل فهي: الوحدة العضوية ــ الصورة الشعرية ــ الموسيقى الشعرية ــ لغة الشعر ــ الرمز الشعري ــ تبديل وتعديل ــ القصة الشعرية ــ الملحمة الشعرية ــ المسرح الشعري.

وكان هذا الأصل موزعاً على بابين وعدد من الفصول، لكني حين طبعته كتاباً للناس ألغيت هذا التوزيع، وجعلته موضوعات متوالية، كل موضوع يحمل عنوانه المذكور دون أن تسبقه كلمة «فصل» أو كلمة «باب» فقد وجدت ذلك أيسر على القارئ وأسهل، لأنه يتيح له أن يستمر في قراءة الكتاب دون أن تشغله تقسيمات فنية تتــــوزع عليها موضوعاتـــه، وأياً كان الأمر فإن هذا التغيير لم يجر على منهج الدراسة ومادتها ونتائجها، كما أنني حذفت من هذا الأصل بعض المواد التي بدت لي مغرقة في التخصص، مما لا يهم القارئ العادي، بل ربما أدى به إلى الملل.

أما الإضافة فهي الموضوعات التالية: صورة كلية ــ مسيرة الحياة ــ في رحاب فيصل ــ إباء وكبرياء ــ مواقف جريئة ــ مبالغات وادعاءات ــ شعره الوطني ــ شعره الإسلامي.

هذا وإن موضوع «مبالغات وادعاءات» يأتي إضافة جديدة في هذه الطبعة الثانية، ولقد كان لها جذور في الطبعة الأولى، لكنها أخذت مداها الآن.

وقد جعلت المواد المضافة تسبق الأصل لأنها بمنزلة تمهيد شامل تعرف بالشاعر وحياته، وتعين على فهم شعره.

ولقد تعاملت مع مناهج الدراسة الأدبية بمرونة وانفتاح في الحدود التي رأيتها تخدم البحث، ولكن همي الأكبر كان هو استنطاق النصوص، والغوص فيها، واستجلاء أبعادها، واكتشاف غوامضها، وإدراك مراميها، وإعادة النظر فيها، مؤملاً أن تكون دراستي هذه لشعر عمر أبو ريشة «دراسة نصية» بالدرجة الأولى وعساي نجحت.

هذا وأود أن أشير إلى أن الشاعر كان يلتزم الواو في اسم عائلته أينما وقعت لأنها شهرة ثابتة له، وقد وجدت عدداً من الكتاب يفعل ذلك، ففعلت مثلهم ومثله. أما النصوص التي أنقلها عن هذا الكاتب أو ذاك فأورد اسم الشاعر فيها كما كتبه صاحب النص.

وعسى أن يفسح الله في العمر، ويبارك في الوقت والجهد والهمة لنلتقي في طبعة ثالثة تكون خيراً من أختيها السابقتين.

اللهم لك الحمد على ما أعنت ويسرت، فمنك العون، وعليك الاعتماد، وإليك المآب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

حيدر الغدير

الرياض - 1426هـ/ 2005م

---------------------------------------

مقـدمـــة الطبعة الأولى

عمر أبو ريشة شاعر كبير، بدا لي بعد أن سمعته ينشد شعره، وبعد أن عكفت على هذا الشعر، وبعد أن تتبعت أخباره، أنه رجل عاشق للمجد، تغلغل عشقه للمجد في أعماقه وسيطر عليه ووجه الكثير من مواقفه طيلة عمره شاعراً وإنساناً.

عشق المجد لأمته فأراد لهــا العــزة والظفر، وعشق المجد لوطنه فأراد له الحرية والاستقــلال، وعشق المجد لشعره فبذل فيه جهداً كبيراً وتطلع فيه إلى أعلى المراتب وبالغ في شأنه كثيراً، وعشق المجد لنفسه فأراد لها المكانة العليا وحرص على مصاحبة المشاهير والعلية من الساسة والأدباء والوجهاء والأعيان، وأدرك من ذلك حظاً طيباً كان يبالغ فيـــه. ومن هنــا جاءت تسمية هذا الكتاب التي أرجو أن تكون موفقة.

أصل هذا الكتاب رسالة علمية تناولت الجانب الفني عند الشاعر، ولكني حين عزمت على طباعته كتاباً للناس أجريت فيه بعض التعديل، وأضفت إليه مواد تتناول حياة الشاعر ونفسيته ومواقفه، وموضوعات شعره، وطائفة من أخباره، لذلك يجد القارئ فرقاً واضحاً بين الأصل الذي تحكمه التقاليد العلمية المقررة وبين الإضافة التي لاتلتزم بذلك.

ومن الله جل جلاله العون، وعليه الاعتماد، وإليه المآب، وله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.

الحج تجرّدٌ لله تعالى، وتلبيةٌ لندائه، وطاعةٌ لأمره، وتصفيةٌ للنفس، وتزكية للروح، وتطهير للوجدان، وعزم صادق على الخضوع لله تعالى، والحرص على مرضاته، وتجنّبِ كلِّ ما يسخطه في بقيةِ أيام العمر، وهو أيضاً تجاوبٌ مع طبيعةِ الأمة المسلمة من حيث هي كيانٌ واحد، يَدِينُ بعقيدةٍ واحدة، إنه التحامُ المؤمنِ جزءاً لا يتجزأ في صفوفِ أمةِ التوحيد، خيرِ أمة أخرجت للناس.

وفي الحج يتحدُ النشيد الإيماني، والهتاف الرباني، ينساب من أفواهِ المؤمنين، ويتدفق في ضمائرهم وسرائرهم، صادقاً صافياً في عذوبةٍ وحنان، وشوقٍ وإخبات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

وفي الحج صورٌ متحركة حية، ترسمُ ملامحَ الأمةِ المسلمة، وتعطيها أصولَ الحركة مع الوحدة، فالكلُّ هناك يطوف حول البيت من جميع جهاته، لكنهم مع تفرقهم حول البيت العتيق مُتَّصِلون متلاحمون، وكذلك يجب أن يكونوا مهما طافوا في جميع أنحاء الدنيا، تعاوناً ومحبة، وتناصراً ومودة، وتضامناً وأخوّة، تماماً كما وصفهم الرسول الكريم ﷺ حين شبّههم بالجسد الواحد.

والكلُّ يسعى ولكنْ في حدودٍ لو تجاوزها لأخطأ، وكذلك السعيُ في الحياة، حيث على المسلم أن يسعى في دروبها مكافحاً صابراً لكنْ ضمنَ الحدودِ التي رسمتها له الشريعة الغراء.

والكل يقف في عرفات في جمعٍ لا مثيل له في أمةٍ من الأمم قط، قلوبُهم مشدودة إلى خالقهم، وألسنتُهم تردد ذكره وتلهج بشكره، ورجاؤهم في الله وحده، ودموعهم الغزيرة تتساقط خوفاً وطمعاً، فيشعر الواحد منهم بالرحمةِ الإلهية تفيض عليه، ويشعرون جميعاً أن سعادَتهم الحقيقية هي في أن يعيشوا مع الله عز وجل، ويحكموا بقرآنه، ويسلموا قيادَهم إليه في كلِّ شؤونهم ليعطيَهم ما يَصْبون إليه، ويحققُ لهم ما يؤملون، وكذلك الأمر بعدَ الحج، يجبُ أن تكونَ الأمةُ المسلمة على ما عاشت عليه وعاهدت ربَّها عليه يومَ عرفات.

ومئات الألوف يرمون الجمار، يقذفون بها الشيطان، ويقذفون بها ما في أنفسِهم من إغراءاتِه ونَزَغاته وهَمَزاته، ليفرغوا بعدَ ذلك للراحةِ والطمأنينة وشكر الله تعالى، ولو أن المسلمين تزاحموا على حربِ أعدائهم كما يتزاحمون على رَمْيِ الجمار، لصفُّوا حسابهم مع هؤلاء الأعداء، وهزموهم بإذن الله، وعاشوا أعزاءَ كراماً في حللِ النصرِ البهيجةِ المشرقة، والحريةِ الغالية، والكرامةِ الأبيةِ الشمّاء.

وهناك، في رحاب مكة المكرمة، والمدينة المنورة وأرض الحجاز، تاريخُ الأمةِ الإسلامية في أولى أيامها المباركة، تحكيه الأبنيةُ والمشاهد، وترويه البقاع والمدافن، وتنطق به الأرض الكريمة الطيبة، فما أجملَ أن يملأَ المسلمُ عينَه من أول بيتٍ وُضِع للناس لعبادة الله تعالى وحده!.. وما أجملَ أن يتذكر الخليلَ إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وهم يرفعان القواعدَ من بيتِ الله جل شأنه، ويسألانه أن يمتدَّ أثرُهما حتى يتسلمَ أمرَ الرسالةِ نبيٌّ أميٌّ كريم يتلو على الناسِ آياته، ويزكّيهم، ويعلمهم الكتابَ والحكمة وينقذهم من الضلال ويخرجهم من الظلمات إلى النور!..

وإنها لمعانٍ نبيلةٌ نبيلة، ومشاعرُ ساميةٌ متألقة تلك التي تفيض على الإنسان وهو يتذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقودُ ابنَه ليذبحَه طاعةً لأمر الله تبارك وتعالى بعد أن جرى بينهما حوارٌ عظيم مؤمن يشهدُ بعظمةِ الإيمان، وصدقِ التفويض، والشجاعة البالغةِ عندَ الأبِ والولد على السواء: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات:102).

وحين يهمُّ الأبُ بذبح الولد يكون النداء: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (الصافات:104).. فلقد صَدَقَ إبراهيمُ مع خالقه عز وجل، ولم تأخذْهُ الشفقةُ على ابنِه في تنفيذِ أمرِ رَبِّه الكريم. لقد ظهر الصدق، وانكشفت الطاعة وإن لم يتمَّ الذبح.

ولعل هاتيك المشاعر السامية، والمعاني النبيلة، تتدفق في نفسِ الحاج وهو يذبح لله تعالى في حَجِّه، مؤدياً بنجاح اختبارَ صدق الإيمان والتقوى فيما يفعل: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْۚ} (الحج:37)، المعنى العميقُ واحد، المشاعرُ السامية هيَ هي، وإنِ اختلفَ الذبيحُ هنا وهناك، وإن تَمَّ ذبحٌ ها هنا، ولم يتمَّ ذبحٌ هناك.

والعبر في الحج كثيرةٌ كثيرة، والعظات بالغة، والدروس ساطعة كالشمس، والأملُ النهائيُّ من الرحلةِ المباركِ غُدُوُّها ورَواحُها، ووعيُ دروسِها وعبرِها أن يعود الحجيج، ورحمةُ اللهِ تعالى تحفُّهم، والبركةُ تتنزلُ عليهم، يعودون بحياةٍ جديدة، وعزمٍ جديد، وإيمانٍ جديد، وتوبةٍ نصوح، كأنهم وُلِدوا من يومهم، يعودون لمواصلةِ مسيرةِ الحياة على الطريقِ السويّ، طريقِ الهداية والاستقامة.

أَسْعِدْ بها من رحلة!.. وأَسْعِدْ بهم من مرتحلين!.. وهنيئاً لهم في الذهاب، وبُشرى لهم في الإياب!.

*****

حمداً لله تعالى على عظيم نعمائه، وسابغ كرمه وجوده، حمداً له على عطائه الكبير العظيم الذي لا تخطئ أن تلمس آثاره المباركة هنا وهناك في كل ما تقابل، ولا تخطئ أن تلمسها بادئ ذي بدء في نعمة الإسلام التي أكرمنا بها جل شأنه، هذه النعمة التي لا مثيل لها قط، هي أعظم ما يفوز به المرء، وأثمن ما يستمسك به ويحرص عليه.

ومن أعظم صور هذه النعمة، فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، ليجدد الحاج العزم على طاعة خالقه، والانقياد لمنهجه، والدعوة لرسالته، وليؤوب منها وهو يشعر بصدق وعمق أنه نقي الصفحة، مغفور الذنب، مقبول التوبة، بعد أن أدّى حق الله عز وجل، وبعد أن أناب وأطاع، وبعد أن قام بكل لوازم رحلة الحج الهادية المباركة.

الحج هو الرحلة الفاصلة بين عهدين، عهد مضى وانقضى يرجو المسلم أن يكون الله تعالى قد غفر له فيه ما فرّط وقصّر، وعهد جديد يستقبله المسلم، وهو على أمل عظيم ورجاء كبير أن يكون فيه بعيداً عن كل شر، مسارعاً إلى كل خير، متمسكاً بالإسلام، داعياً إليه، حاملاً شعلة هدايته المباركة النيّرة للعالمين.

والحج رحلة فاصلة حقاً، فإن المسلم عليه أن يدع الضلال العقلي، والجدل العقيم، والتذبذب بين الإيمان والشك، وما يشبه ذلك أو يقرب منه أو يمتُّ إليه بسبب، عليه أن يدع هذا كله، ويتخلى عنه عند الميقات حيث مكان الإحرام للدخول في شعائر الرحلة المباركة الفاصلة، ومع خلعه للثوب المشدود بالخيوط، عليه أن يخلع أثواب الأخطاء والآثام، والقصور والإساءات، ويخلع ثياب الرذائل الفكرية والنفسية والروحية والجسدية والأخلاقية المشدودة بخيوط الأرض إلى عالم ينأى عن منهج الله تعالى وهديه، ودربه اللاحب المستقيم.

عليه إذ يخلع ثيابه التي اعتادها عند الميقات؛ أن يخلع أوزار الشك، ودعوة الباطل، والمذاهب الوضعيّة، الجاهلة القاصرة التي يضعها بشر جاهلون قاصرون، يريدون منها أن تكون بديلاً عن منهج الله تعالى الكامل الصحيح الذي لا يأتيه الباطل بحال من الأحوال.

عند الميقات يجب أن تكون بداية الفصل بين عهدين، عهدٍ يُوَدَّعُ، وعهدٍ يُسْتَقْبَل، وعند الميقات يجب أن يتحدد الاتجاه الجديد لمسيرة المسلم، لقد كانت الحياة موزعة بين الأرض والسماء، بين الارتفاع والهبوط، بين دواعي السمو وجواذب الطين، بين إيثار الآخرة والانكباب على الدنيا، بين طاعة الرحمن واتباع الشيطان، ولكنِ الآن، ومن عند الميقات يجب أن يتقد العزم في فؤاد المسلم أن يجعل حياته كلها للخير والطاعة والإيمان، فلا مجال إلا للارتفاع، ولا طريق إلا لليقين، ولا تفضيل إلا للآخرة، ولا طاعة إلا لله عز وجل.

لا رفث ولا فسوق ولا جدال بدءاً من الميقات حيث أول مشاعر الرحلة الفاصلة المباركة، فكل ما كان يشوب إيمان المسلم وسلوكه يجب أن ينتهي، يجب أن يخلعه المسلم كما يخلع ثيابه عند الميقات، وإلّا فإن رحلة التيه والجدل، والذبذبة والضياع، والمفاسد والآثام ستظل مسيطرة عليه.

إن الميقات هو المكان الفاصل بين رحلتين: رحلة يلبس فيها ما يشاء ويفعل ما يريد ما لم يكن حراماً، ورحلة يتقيد فيها بلوازم الإحرام وضوابطه، وهو أيضاً الزمان الفاصل بين رحلتين: رحلة الغربة والتيه والتقصير، ورحلة الهداية والحقيقة واليقين، رحلة المعصية ورحلة الطاعة، رحلة الإفلات ورحلة الإخبات.

الطاعة والعزة، والانقياد والخضوع، والعبادة والتوجه، والحاكمية والألوهية، منذ الآن حيث يلبس المسلم لباس الإحرام، ومن هذا المكان في الميقات المعلوم، هي لله عز وجل، ولله وحده. كل المناهج إلا منهج الله باطلة، وكل الدروب -إلا دربه- تيه وضلال، وكل الدعوات -إلا دعوته- فساد وضياع، وكل الأحزاب -إلا حزبه- تجمع فاسد يقوده الشيطان، وكل الكتب -إلا قرآنه- وهمٌ وهباء.

من عند الميقات زماناً ومكاناً يجب أن يستقر في خلد المسلم أن انقياده التام بعد اليوم لله، ولله تعالى وحده، في الضمير والقلب والجسد، في الفكر والعاطفة والعقل، في القوانين والأنظمة والشرائع، في السياسة والحكم والاقتصاد، في كل شأن من شؤون الحياة فردياً كان أو جماعياً.

فدين الله تعالى شامل متكامل، وهو يرسم منهج الحياة في كل شيء، فهو مصحف وسيف كما أنه دستور وقانون، وهو دين ودولة كما أنه سياسة واقتصاد، وهو عبادة في المسجد كما أنه تشريع للحكم، وعلى الحاج أن يتمحض ويتجرد لله عز وجل، الذي أكرمنا بهذا الدين الشامل الكامل، ويجعل ولاءه له وحده، دون الأهل ودون المال، ودون الجاه والمنصب، ودون الغرائز جميعاً، والأرضيات جميعاً، ويمكّن هذا الولاء ويقويه، برحلة الحج الهادية المباركة السعيدة.

يصل الحجاج إلى الديار المقدسة عرايا من كل الروابط إلا رابطة الدين التي هي الأعلى. ذلك أن رابطة الدين، رابطة قناعة عقلية قلبية، يختار المرء فيها موقفه، أما بقية الروابط فهي تقوم على اهتمامات أدنى لا اختيار فيها للمرء ولا اقتناع، عرايا من كل لباس إلا من ثوب بسيط غير مخيط لا يميز فرداً عن فرد، ولا جنساً عن جنس، ذلك أن الفوارق جميعاً سقطت في الحج، وذلك أن القادمين يجمعهم أمر واحد، هو هذا الدين الذي آمنوا به ومنحوه محبتهم وولاءهم.

وإذن ففي هذا المؤتمر الجامع لك أن تقول: إن عقيدة الإسلام هي وحدها العقيدة، ونَسَبه هو وحده النسب، وصبغته هي وحدها الصبغة.

ومن المقرر أن الإسلام لا يعرف نسباً، ولا يمجّد طبقة، ولا يقدّس لوناً أو لغة أو منفعة، مما تقدسه الجاهليات، وتمجده وتجمع الناس عليه، الناس عنده أمة واحدة سواسية كأسنان المشط؛ لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، والخلق عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله. وهكذا يتضح في الحج معنى المساواة الذي جاء به الإسلام وأيده وأكده أشد الوضوح، ومعنى الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة، ولا يفرقها جنس، ولا تفرقها لغة، ولا تفرقها عصبية، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعاً.

ويمضي موكب الحجيج الطهور في الأرض الطهور، يتنقل في أرجائها ليعمّق الولاء للدين والاعتزاز بالإسلام، والفخار بالانتماء إلى أمة محمد ﷺ.. يمضي هنا وهناك، فتراه في الأراضي المباركة فتفرح به وتسعد.

تراه في عرفة متذكراً خطبة الرسول الكريم ﷺ على صعيدها الطيب، فيستشعر بذلك أملاً كريماً، ويجدد عهداً عظيماً، وهو أن يجدد شباب الأمة الإسلامية، وجهادها المبارك على الطريق الذي حدده لها انتماؤها للإسلام، رجاءَ أن تنهض هذه الأمة لهداية البشرية من جديد، وتنقذ الإنسانية من ليل شقائها الطويل وجاهليتها العاتية، وقيادتها الغربية الضالة التي قادتها صوب الشقاء.

إن من أعظم ما يعود به الحجيج إلى بلدانهم هو تقوية إيمانهم، وجعل ولائهم كله للإسلام وحده، وعزمهم على الجهاد من أجله حتى تعلو رايته وتسود، فيسعدون بذلك أنفسهم وذويهم وأمتهم والإنسانية جمعاء.

ما معنى أن يتكاثر الحجاج في هذه الأيام العصيبة التي يتعرض فيها المسلمون لأشد النكبات!؟

معناه أن المسلمين من حيث يشعرون أو لا يشعرون، يُهْرَعُون إلى مكمنِ قوتهم، ويتذكرون.. يتذكرون أن مكة المكرمة هي قلب العالم الإسلامي، ورمز وحدته وقوته وتجمعه. ويتذكرون أن اجتماعهم فيها ينبغي أن يقوي فيهم روابط الأخوّة، وأواصر المحبة والتعاون والتناصر، ليتجاوزوا كل العقبات أمامهم، ويبدؤوا عهداً جديداً من النصر والغلبة والظفر، وقيادة العالم وهدايته. ويتذكرون كذلك أنه من المدينة المنورة، مدينة رسول الله ﷺ، مَأرِزِ الإيمان، وملاذه وحماه، انطلقت دولةُ العقيدة والفكرة، دولة العدل والنور، دولة الهداية والفضيلة، دولة الشهادة على الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

انطلقت هذه الدولة من بين جاهلية عاتية، مظلمة متخلفة، وتحديات كبيرة ضخمة، وأعداء في غاية القسوة والمكر والحقد، يحيطون بها من كل جانب، كما يحيط بنا الأعداء اليوم من كل جانب، انطلقت شابةً جَلْدَةً فتيّة، شجاعةً طموحةً أبيّة، يتقد فيه العزم، ويتدفق فيها الرجاء، وتعظم فيها الهمة، وتستوطن فيها البطولة، ويقوى فيها الأمل أن تقضي على ليل الجاهلية، وتدك عروش الطواغيت المُعادين لدين الله ومنهجه، الصّادِّين عن دربه، المحاربين مَنْ آمن به. انطلقت كالنسر ينقض، كالليث يتنزّى، كالسهم يُصْمي، كالعُقاب تدوِّم، فإذا بها في أقلَّ من نصف قرن من الزمان تصل كتائبها المظفرة المنصورة، إلى الصين شرقاً، والأندلس غرباً، وإلى جنوب فرنسا شمالاً، ووسط أفريقيا جنوباً.

المسلمون اليوم يحدوهم الأمل العريض أن ينطلقوا من غبار التخلف وحواجز الفرقة، وليل الجاهلية، وقسوة التحديات، وينجوا من ذلك كله وما يشابهه، كما انطلق المسلمون الأوائل ونجوا مما كانوا يواجهون، ويأملون أن ينتصروا كما انتصر أسلافهم من قبل، ويبنوا المجتمع المسلم كما بناه أجدادهم، ويقيموا دولة الإسلام كما أقامها الجيل الأول، وهم في أملهم العريض هذا يعرفون أن سر نجاحهم هو في الإيمان، لذلك يحملهم هذا الإيمان على تصرفات شتى؛ من بينها أن يأتوا إلى الحج، وها هم يأتون، وها هم يتزايدون. ولعل في زيادتهم هذه مؤشراً لا يخطئ إلى الدرب الذي بدؤوا يسلكون، والنهج الذي أخذوا إليه يفيئون.

المزيد من المقالات...