ملحمة القرن أو ذات الغرضين وفيها رثاء الشهيد عبد الحميد الحاج مصطفى

أ.د. عبد العزيز الحاج مصطفى

 

الإهـداء

إلى روح الشهيد عبد الرحمن عثمان

وعبد الرحمن عثمان من ثوار الثمانينيات من قرية منغ، و كان يدرس الهندسة الزراعية في جامعة حلب، ومن الذين التحقوا بالثورة في وقت مبكر، وكان له شأن يذكر فيها.

التقيت به ذات يوم وبين يديه ما يشبه اللوحة الفنية من الكرتون، وقد رسم بداخلها ثلاث دوائر. الأولى حمراء، وهي كالإطار، وتتماهى مع الثانية وهي زرقاء واسعة الطيف، والثالثة خضراء زاهية، وكأنها تشيرإلى المستقبل المنشود في مرحلة ما بعد الثورة. ولما سألته عن هذه الدوائر، قال: إنها خريطة طريقنا. لقد حاورته فيها ـ رحمه الله ـ والذي فهمته منه أنه أراد أن يقول: بالدماء نحمي وبالدماء نبني، وبالدماء نجعل بلادنا جنَّة من الجنان.

نعم: بالكفاح من أجل الخلاص، وبالعمل الدائب وبدون انقطاع، نجعل وطننا جنة المأوى، لكل من أراد العيش فيه بسلام. فعليك السلام ياعبد الرحمن في الأولين، وعليك السلام في الآخرين، وعليك السلام إلى أن نلقاك في يوم الدين.

 

الشكر

الشكر لله الذي هدانا وأرشدنا إلى صراطه المستقيم، ولم يجعلنا من المغضوب عليهم، ولا الضالين.

والشكر لأخ لي لم تلده أمي؛ كان معي في سراء الحياة وضرائها؛ في عسري ويسري، ومنشطي ومَكْرَهي؛ صحبني في مواقفي، ولم يسلمني لعدوي، أو يخذلني، أو يظلمني، أو يهضمني، بحال من الأحوال وفي المواقف المصيرية، وقد جد جديدها، كان رجل القضية وصاحب الموقف بذلاً وتضحيةً، ومساندةً ودعماً.

والشكر لصديق صدوق انتصر لقضيتي داخلًا وخارجًا، ولم يتخلَّ عني في المواقف المصيرية كافَّة، وقد تعهدني بكل أشكال الدعم، ولا يزال كذلك.

 

الفهرس

الإهـداء. 5

الشكر. 6

المقدمة. 1

كلمة الأستاذ الدكتور عبدالحق الهواس.. 4

المدخل. 1

بين يدي الملحمة: 4

عالم الملحمة: 6

خطُّ سيرالملحمة: 7

الشهيد المثال (الفارس أبو العز) رحمه الله: 43

1)مَطْلِعُ الألفين. 50

2)يا يوم دخل الأجنبي بلادنا 52

3) ماكان مقتل يوسف.. 54

4) غورو يغير على البلاد 56

5) فإذا بنا كمَّاً 58

6) ماكان حقَّاً أن فرنسا 60

7) هو ذاك يوم الانقلاب.. 62

8) تصارع الأقران. 64

9) وتجاه ذلك. 66

10) وإذا بساحات البلاد معارك. 68

11) يومٌ لِعِملاقٍ. 70

12) وإذا الخيار مع القرار. 72

13) فاسألْ دِمَشْقَ الشَّامِ 74

14) أحبابنا 76

15) سوري.. 78

16) صرنا أحاديثَ.. 80

17) عبد الحميد 82

18) عبد الحميد 84

19) ساءلت نفسي. 86

20) قَدَرٌ بأن تفشوالشهادة بيننا 88

21) مأثورُنا عِلمٌ وفَضلٌ. 90

22) قرَّ القرار. 92

23) الليل حتماً لن يدوم 94

24) عرِّج على دار الأحبة. 96

25) وإذا الخصاص... 99

26) أين الكماة 101

27) صلَّى الإله عليهمُ 103

 

المقدمة:

الحمد لله الذي به تتمُّ الصَّلحات، والشكرله سبحانه على ما خصّنا به من ابتلاءات، وما آتانا من قرائح، وقد جعلنا حمَّالي قضيَّة وأصحاب موقف. والصلاة والسلام على من سنَّ سنته، وبلَّغ رسالته، وعلى الصحب والآل، والتابعين وتابعي التابعين، ممن هدى واجتبى من عباده المؤمنين وبعد .

فإنني قبل أن أرمي الورقة الأخيرة من هذه الملحمة، أريد أن أجيب على السؤالين التاليين. وهما لماذا ولمن كتبت هذه الملحمة؟

أولاًــ لماذا كتبت هذه الملحمة؟

كانت تحدوني الرغبة خلال السنوات التي أعقبت استشهاد عبد الحميد أن أكتب مرثاة له رحمه الله، وكانت هذه الرغبة تتسع دائرتها مع الأيام، وقد كان عبد الحميد ابن زمانه قدراً ومسؤولية، فوجب الأمرأن نتوسَّع في الملحمة حتى تغطي الأحداث الفاعلة التي كانت سبباً في جهاده واستشهاده رحمه الله تعالى. أي عممنا العمل بدلاً من أن نخصصه؛ فكانت الملحمة مرثاة لأجيال من السوريين الذين قضوا نحبهم دفاعاً عن الأرض والعرض والشرف والدين ولايزالون! وقد وسعنا ما استطعنا، وشفعنا عملنا بما يساويه من المقدمات والشروح، ومن ثم عرضناه على عددٍ من ألإخوان من أصحاب الكفاءة والخبرة، وقد كان منهم الأستاذان: الدكتور عبد الرحيم العبدالله والدكتور عبد الحق الهواس الذي تفضل فكتب مقدمة ثانية للملحمة تحدث فيها عن الأصول النظرية للأحزاب اللادينية ومنها حزب البعث العربي الإشتراكي الذي كان رديفاً سلطوياً للنظام الطائفي الذي اسهمت في صناعته جهات أجنبية عدوة في سورية العربية المسلمة. فالشكر موصول لكلا الأستاذين الفاضلين على ما أبدياه أو قدماه من إضافةٍ أو تصويب.

وقد كان من تمام العمل ما تفضل به الإخوة في رابطة العلماء بأن أتاحو الفرصة لنا بإقامة سلسلة من المحاضرات التي هي بمثابة الشروح لوقائع الملحمة وأيامها وتاريخ رجالها. فالشكر موصول أيضاً للإخوة في الرابطة إدارة وموجهين.

ثانياً ــ لمن كتبت هذه الملحمة؟

قد يكون من الصعب الإجابة على مثل هذا السؤال في وقت استوى فيه الأسود والأبيض عند كثير من الناس، وقد لاح شبح هزيمة كبرى يبسط ظله مابين المشرق والمغرب، ويلقي بثقله على سورية العربية المسلمة، فيجعل منها حمى مستباحاً لكل متكالب وطامع، وقد داهمتها غيلان الحياة من داخل وخارج، وأعملت أظافرها وأنيابها في جسدها الطاهر الشريف. فعميت المسألة وجاء دورالروابض ليشرقوا وليغربوا، وليصبحوا مسؤولين في أمة نكبتها الجراح وهدَّتها المصائب!

ومع ذلك؛ وقد كتبناها فنحن نقدمها لأربعة:

الأول ــ أخٌ لنا: شاطرنا الهم، واشترك معنا في الرأي والموقف، وتحمل معنا تكاليف وأعباء المرحلة، ولم يخذلنا أويسلمنا لضائقة. فهي له مهداة ولعلَّ الله أن ينفعه بها.

الثاني ــ عمِّيت عليه الأمور، واختلط حابلها بنابلها، فشَّرق وغرَّب وهو في حيرة من أمره؛ فلعلَّ الله أن ينفعه بها، وهو يهدي إلى سواء السبيل.

والثالث ــ أعمى مجازاً عديم البصر والبصيرة:موغل بعدوانه، وموبق بشروره، ومسترسل في غيه وضلاله. فهي في وجهه صيحة، وهي في قفاه صفعة، وهي تتأذنه بالحرب وبالموقف الصلب الذي يرضى عنه الله ورسوله، وأهل الإيمان بعامة.

والرابع ــ ناشيء وليد لما يزل يحبو في مهده؛ لم تؤهله الحياة لخوض غمارها، وآخر لما يزل في عالم الذَّر لم تلده أمه بعد. فإلى هذين أقدمها صورة لواقع عشناه، وهي تذكرة وتبصرة، ولعلها تكون النور الذي يهتدون به إلى سواء الصراط.

وختام ذلك : فإن هذه الملحمة لم تكتب من وجهة نظرٍ خاصة؛ حزبية او جهويةٍ فئويةٍ اومحليةٍ، وإنما كتبت من وجهة نظر عامة، وهي الصريخ لأمة عقها أبنائها، وغزاها اعدائها في عقر دارها وتداعت عليها الأمم؛ من شرقيةٍ وغربية تداعي الأكلة الى قصعتها، وغدت حمىٍ مستباحاً لكل طامعٍ وطالب. وأملي الكبير ان تعييها أُذن واعية وأن تأخذ طريقها إلى شرفاء الأمة واحرارها وأن تكون الصيحة التي توقظ الأمة من رقادها.

أجَلْ.. إنها صيحة في واد ان ذهبت اليوم مع الريح فستذهب غداً بالأوتاد.

وإن غداً لناظره لقريب

 

كلمة الأستاذ الدكتور عبدالحق الهواس:

نحمد الله على كل حال، وفي كل حين، ونصلي على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين

حين دفع لي أخي، وزميلي، ورفيق درب الأحلام والآمال والآلام الأستاذ الدكتور عبد العزيز الحاج مصطفى بكتابه هذا ارتسم أمامي مشهدان:

الأول: رحلة العمر التي قضيناها معاً من بغداد إلى صنعاء إلى استنبول على مدى اثنتين وأربعين سنة عجافاً أكلت كلّ تلك الأحلام والآمال، وأبقت لنا الآلام جدعة نتجرعها مرّةً في كأس الذكريات بكل تفاصيلها وثوانيها بهذا العمر الشقي.

والثاني: مئة وإحدى وسبعون سنة من سوريا المغتصبة أتت عليها بكل ما فيها.

قرأت الكتاب بشغف وروية تاركاً ألف سنة مما كتبه الأجداد، وأفتوا به عن الباطنية بشكل عام، والنصيرية بشكل خاص؛ كما جاء عند حجة الإسلام أبي حامد الغزالي (1111م) رحمه الله في كتابه فضائح الباطنية انتصاراً للخليفة العباسي المستظهر بالله في صراعه مع الفاطميين.

ووقفت عند فتوى ابن تيمية، وهي الأكثر شهرة في تكفير العلويين، وقد جاء فيها: (هؤلاء المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم).

أجل تركت هذا، لأنظر في عام 1851م صعوداً إلى يومنا هذا، وسأعرض عن المعلومات التي ذكرها المؤلف، وهي ترتقي الصدارة، ولها مكانتها العالية. ولهذا أحببت أن أضيف إليها ما يجعل المضاف إليه يكتسب من المضاف صفة الأهمية والعلو. كما أجلّت حديثي عن الأصول الأولى للصهيونية والصليبية والمجوسية في انتمائها إلى المحفل الفرعوني وأسرار الدين المصري القديم إلى الخاتمة.

عاش النصيريون في عزلة عن العالم معتصمين بجبال الساحل السوري خشية من البطش بهم، فكثير منهم من بقايا جيش إسماعيل الصفوي بعد هزيمته على يد السلطان سليم الأول رحمه الله. كان أول اتصال بهؤلاء الذين تبدو سحنتهم مختلفة في كثير منهم عن الصفات الأنتروبولوجية لسكان سوريا، ولعل هذا واحد من الأسباب الذي دفع نحوهم البعثات المسيحية الغربية التي نجحت في تنصير مجموعة منهم.

أقول كان أول اتصال بالنصيرية عام 1851م على يد الملازم الفرنسي (ولبول) وقد وصف رحلته إلى جبال النصيرية بدءاً من اللاذقية، بقوله: (( عندما انطلقت نحو الجبال لم يكن هناك شخص واحد في تلك المدينة إلا وكان مقتنعاً بأنني ذاهب إلى موت محقق؛ ذلك أنه لم يغامر أي من سكان المدينة بالذهاب إلى مناطق العلويين، فقد كانت تمثل بالنسبة إليهم أرضاً مجهولة تماماً.)) ولعل الكاتب ليون كان أول من نبه إلى اختلاف الصفات الخلقية للنصيرية عن محيطهم في كتابه (رحلة إلى جبال العلويين عام 1878م ترجمة مها أحمد) بقصد إقناع النصيرية أنهم قوم مختلف عن العرب المسلمين، وتهيئتهم لمهمة تاريخية يقررها الغرب في ربطهم بمخطط صليبي يستهدف سوريا.

أراد النصيريون أن يوجدوا تاريخاً لهم في سوريا متبعين أسلوب الصهاينة في تهويد فلسطين، فادّعوا بأن دولة الحمدانيين نصيرية، وسيف الدولة نصيري، وهي فضيحة غبية يسخر منها المشتغلون بالتوثيق التاريخي.

بعد خمس وسبعين سنة من الإرساليات الغربية نجحت أوروبا وأمريكا في احتضان النصيرية وإقناعهم بأنهم مختلفون عن الشعب السوري وهيأتهم لتنفيذ مهمات قذرة، وهكذا كانت أحلام غورو، وهو يتقدم باتجاه دمشق مخرجاً ما في جعبته لتقسيم سوريا البلد المشكل للمناطقية داخله، وغير المعبر عن مكون وطني يحظى بتاريخ منفصل وجغرافية واضحة المعالم والحدود، فهو جزء من بلاد الشام، وهذه جزء من أمة عربية مترامية الأطراف، وبلاد الشام تقطعت أوصالها ، وبقي منها مناطق ضمن مكون يطلق عليه سوريا.ومن المدهش أن يتسع هذا البلد لكل هذه المؤامرات في تقسيمه وتشكيل جيش طائفي ينفذ للمستعمر ولا يناقش، ولمَ لا فتجربة جيش محمد علي باشا أنتجت مشهداً دموياً في قيادة إلنبي له وذبح الأتراك؟ ودخول القدس، وإعلانه عن انتهاء الحروب الصليبية، وعلى الضفة الأخرى من خليج العقبة كانت الدائرة تضم إلنبي، ومناحيم وايزمن زعيم الحركة الصهيونية، وفيصل الأول أمير الغباء العربي آنذاك في يوم 5 حزيران 1917م ليوقع هذا المغفل على وثيقة تؤيد إقامة وطن قومي لشذاذ الآفاق من اليهود الصهاينة ضمن مشروع سايكس بيكو.

هذه الجيوش المصنوعة كما هي قوات الشرق التي شكلها غورو من الأقليات وسفلة أبناء السنة، هي من أنتجت سفلة الضباط، وهي التي أوصلت الطائفيين إلى الحكم وذبحت الحرية في بلادنا، أولم يكن حسني الزعيم زعيم أول انقلاب منهم، وأول ذنب لأمريكا يفتح باب الانقلابات العسكرية ومن يقرأ كتاب لعبة الأمم سيقف على تأكيد المؤلف أن السفارة الأمريكية وراء هذا الانقلاب، وكان من أوائل المهنئين له السفير الفرنسي الذي نقل إليه أول رسالة من بن غوريون تؤكد دعم دولة الصهاينة له لقاء تصفية قوى الحرية والعدالة، فكان طريق الانقلابات سالكاً حتى وصول حافظ الوحش ليمثل حلم الصهاينة في اغتصاب سوريا وتطويعها وتدميرها وتشريد شعبها، ومثّل لقاء حافظ بموشي ديان عام 1965م في مكتب طومسون بلندن محطة مهمة في تنفيذ المخطط الصهيوني لتدمير سوريا، وقد بدأ بالبلاغ 66 سيئ السمعة بتسليم الجولان للعدو الصهيوني في حرب 1967م

ولعل حرب 1948 م صورة للمسرحية المتكررة في الحروب العربية وهزائمها في خدمة قيام الكيان الصهيوني ومشاركة أنظمة سايكس بيكو، وحسب القارئ أن يدرك أن قادة هذه الجيوش ضباط إنكليز وعلى رأسهم غلوب باشا وزير الدفاع الأردني وقائد الجيش؟! وأن أداءها كان الأفضل في منع تقدم القوات الصهيونية نحو الضفة الغربية محافظة منها على خط التقسيم، ليكتشف الباحثون فيما بعد أن هذه المحافظة غايتها منع قيام دولة فلسطينية وتفويت الفرصة على الشهيد عبدالقادر الحسيني

ومن المهم أن نتحدث سريعاً عن الجانب السياسي فمثلما صنع المستعمر ضباطاً تافهين يقودون جيوشاً من الأغبياء المتخلفين على شاكلة جيش إدموند هنري هانمان، أو جيش هنري جوزيف أوجين غورو الذي احتل سوريا.

وكان هناك في الجانب السياسي مصنوعون أدخلوا جيوشاً من الأفكار السياسية الهدامة، وكان في مقدمتها الأفكار القومية، والمعروف أن القومية نشأت في أوروبا في منتصف القرن الثامن عشر تتويجاً لإرهاصات تاريخية، مثل ظهور الثقافة الفارسية خلال الفترة الساسانية في بلاد فارس، وعودة ظهور الثقافة اللاتينية في الإمبراطورية الرومانية الغربية.

والجدير بالذكر أن الأفكار القومية دفعت اليهود إلى تلفيق قومية لهم لا وجود لها على الواقع الحيوي، فبدؤوا بالهجرة إلى فلسطين منذ عام 1882م. تمهيدا لإيجاد وطن قومي لهم.

لكن القومية أخفقت في أوروبا فنبذتها شعوبها، وتخلصت منها، لكن مما يقال عنهم إنهم مفكرون عرب أخرجوا هذه الأفكار من مقابرها، وجاؤوا بها إلى الوطن العربي جاعلين من سوريا محطة أولى في أكبر سرقة تاريخية للفكر.

حمل ميشيل عفلق، وصلاح البيطار الطالبان الدارسان في السوربون الفرنسية أفكارا قومية بغية إنشاء حزب قومي عربي ينطلق من دمشق، فأسسا حركة الإحياء، ثم البعث العربي واللافت للنظر أن التسمية والفكر مسروقان من حركة الإحياء أو البعث الإيطالي، بل إن الشعار هو نفسه في البعث الإيطالي ، بل إن الشعار هو نفسه نفسه كما اختار له مؤسسه جوزيني مازيني: وحدة حرية استقلال، فتغير بالبعث العربي كما نقله عنه عفلق مع تغيير استقلال بـ (اشتراكية) وحزب مازيني انقلابي ، وكذلك حزب عفلق، وهكذا يرى القارئ تماثلاً تاماً بين الحزبين، وأن البعث العربي نفل البعث الإيطالي وادعى ولادته في 7 نيسان 1947م في دمشق في أكبر سرقة للفكر.

وإذا كان فكر البعث المازيني غريباً عن الأمة فإنه أخفق في إيطاليا ولم ينجح في مهده، فكيف يكون الأمر في بلد عربي مستعمر؟ وقد تجلى المشكل السياسي في البعث العربي من خلال الفكر القومي الذي لم يعترف بالدين الإسلامي كهوية للأمة؛ بما يشير إلى أن الناقلين عمدوا إلى نقل فكر غربي خالص؛ مما أحدث إشكالية في تنفيذ الفكر على واقع الأمة، فالفكر القومي الغربي كان نتاج حرب على الكنيسة وسلطتها وتحالفها مع السلطة السياسية على الشعب، في حين يُعدّ الدين الإسلامي المشُكّل الحقيقي للأمة، وهو هويتها ومحقق وجودها منذ إقامة أول عاصمة له بالمدينة المنورة، ومن ثمّ انتصاره على قريش والبدء بتحرير الأمة كلها. فالواقع مختلف مما شكلّ صدمة حقيقية لأبناء سوريا، فارتابوا فيه، وشككوا بأهدافه لا سيما أنهم رأوا الأقليات تُقبل عليه إقبالا يمثل الفرصة التاريخية لهم، وحقاً تحول البعث إلى بعث للأقليات ثم أصبح بعثاً نصيرياً دون منازع بعد 1970 م باغتصاب السلطة من قبل حافظ الوحش... وانتقل بعثيو القيادة القومية بعد خروجهم من السجن إلى بغداد بعد تسلم البعث للسلطة في العراق، فمر هذا البعث بعدة مراحل:

  • سيطرة الفكر القومي العلماني للبعث بتأثير ميشيل عفلق، وشلبي العيسمي، والياس فرح، وناصيف عواد ومن عام 1968م حتى عام 1980م حيث ظهرت إرهاصات عربية إسلامية داخل الحزب.
  • تخلخل البنية الفكرية للحزب بدءاً من عام 1985م أي بعد خمس سنوات من الحرب العراقية الإيرانية بتأثير الحرب، وانتقال مفكري الأخوان المسلمين الذين أثروا في تفكير الرئيس الراحل صدام حسين.
  • تطور الفكر لدى الرئيس صدام، وبدء توجهه إلى الفكر الإسلامي بعد الانتصار على إيران عام 1988م.
  • قيام الرئيس صدام حسين بأولى خطوات تحويل البعث القومي إلى بعث إسلامي بعد 1991م، فكانت الحملة الإيمانية، واستبدال مصطلحات البعث بمصطلحات إسلامية، وأن العضو بالحزب لا يُرقى إلا بحفظ القرآن الكريم، وأمر باتخاذ الحدود الشرعية في السرقة، والزنا، والشذوذ والخيانة الوطنية.

لكن قدره لم يمهله فرحل ولم يحقق حلمه بتحويل البعث إلى بعث إسلامي، ولو يحقق ذلك لكان حلم الأجيال، والمؤسف أن الأخوان المسلمين لم يكونوا على مستوى متابعة هذا المشروع التاريخي من جانبهم، فقد رأيت سلوك بعضهم في اليمن، ثم في الثورة السورية، وأداءهم في الائتلاف، وموقفهم من البعثيين الإسلاميين.

واليوم تقيم الشعوبية وسيدتها إيران حلفاً مع الصليبية والصهيونية لتدمير الأمة وعقيدتها وتقسيمها وإخضاعها للصليبية الصهيونية، وإنهاء العرب السنة ، والأمة في غيبوبة شبه تامة عما يحاك لها، وحسبي أن أشير هنا إلى أنه سبق لي في عام 2006م أن نشرت بحثاً ألقيته تباعاً في مدينة عرعر، وجدة ، والمدينة المنورة كشفت فيه عن الأصول الفرعونية لليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وأن المفكرين الأوائل القدامى من أمثال فيلون، وزرادشت، وأفلوطين، وأوري جانوس، وعبد الله بن سبأ ، فضلا عن سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وفيثاغورس وغيرهم ينتمون إلى المحفل الفرعوني، ويدينون بالدين الفرعوني المصري القديم. لكني لست بصدد شرح، لماذا لم يستجب كل الشيوخ الأفاضل لدعوتي في إعادة تصحيح مصطلحات (الغنوصية والمعرفية، والإفلاطونية الجديدة، لنسلط الضوء ساطعاً على حقيقة التشيع والحركات الباطنية في مسمياتها الإسماعلية ، والنصيرية، والدرزية ، والبهائية، ولنكشف عن حقيقة فكرها ومعتقدها وسلوكها، وأنها نتاج المحفل الفرعوني الذي تحول فيما بعد إلى المحفل الماسوني المعروف في عصرنا لنرى الأسباب وراء هذا الحلف العقدي .

أعود لأقول إن وصول حافظ الوحش إلى حكم سوريا ، وهو من يهود فارس، ويدعي أنه من الأكراد الكاكائيين ، ولا فرق بين اليهودية، والكاكائية والمجوسية الشيعية من حيث الانحراف والحقد على الإسلام ،كان وراءه جهد غربي صهيوني كبير، وأن هذا الوحش وجيشه لم يصل إلى كل ما فعله بسوريا وشعبها لولا الرعاية الكبيرة من الغرب وكيانه الصهيوني في فلسطين المغتصبة.

شعرت بالسعادة الغامرة رغم الألم الكبير المبكي للرجال، وأنا أقرأ ملحمة القرن، وسعادتي نابعة من إحساسي وقناعتي التامة أن كاتباً عربياً عرفته بإخلاصه وغيرته يتصدى لهذا العمل الكبير، ويفضح قرنا من العار على جبين الحكام الخونة الذين صنعتهم دوائر الاستعمار لينفذوا لها مخطط تدمير الأمة.

أتمنى للجيل العربي، وهو يواصل ثورته المباركة على أنظمة سايكس بيكو أن يستفيد من هذا الكتاب، ويقرأه جيداً، ويستخلص منه العبر والدروس في الحذر ومواصلة الثورة وتحصينها والمحافظة على نقائها وصفائها لتحقيق النصر الحقيقي على الاستعمار والصهيونية ومشروعها سايكس بيكو.

وأدعو الله أن يكون في ميزان حسنات مؤلفة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.

أ.د عبد الحق الهواس

مرسين في 19-2-2022م

 


المدخل:

لقد شاء الله لنا، أن يكون القرن الماضي،الذي عاشه السوريون، والذي يقع بين 1920 و2020م، القرن الأسوأ في تاريخنا القديم والحديث! ووجه السوء فيه؛ أن سورية بخاصة، والبلاد العربية بعامة، كانت تعيش حالة من البدائية والتخلف، مما جعلها محطَّ أطماع الدول الاستعمارية التي كانت في عداء مستمرمع العالم الإسلامي. يضاف إلى ذلك واقعٌ ليس أقلَّ سوءاً من كلِّ ما ذكر، وقد أصبحوا محكومين بعادات وتقاليد وآداب عامة، كلُّ ما يُقال عنها: إنها منتزعة من ذلك الواقع المتخلف، الذي لا يحكمه شرع ولا قانون! وقد نسوا تاريخهم وحضارتهم ودينهم الإسلامي الحنيف، ولذلك تجدهم في العواقب كثيراً ما يقولون: ما خفي أكبر، والقادم أعظم، ولاطاقة لنا بذلك، ولاأعرف نصف العلم!

والذي حدث بعد: أن نفذ الحلفاء ما سبق أن اتفقوا عليه في اتفاقية سايكس بيكو. فقسموا سورية الكبرى أقساماً، وجزؤوها أجزاء، وفيه دخلت سياسات غورو حيِّز التنفيذ ــ وهي صورة طبق الأصل لما جاء في ورقة هرتزل في بال ــ فقسّم سورية أولاً إلى أربعة دول على أساس مناطقي وديني. ثم لم يلبث أن عدل عنها إلى استحداث قوات المشرق الخاصة التي كانت بمثابة البلاء الأكبر الذي نزل بالسوريين. وفيها أيضا ًوضعت وعود بلفور موضع التطبيق، فاجتيحت فلسطين، ووضعت تحت الانتداب البريطاني المباشر، وذلك مقدمة لقيام الدولة الصهيونية. وفيه بدأت الأقليَّات حركتها الزاحفة تجاه مواقع السيادة في الدولة والمجتمع، وذلك بدعم مباشر من المستعمر الفرنسي بخاصة، ومن الدول الكبرى بعامة التي كانت تتبنى مشروع قيام دولة إسرائيل. وفيه وصل الطائفيُّون إلى الحكم في سورية بعد سلسلة انقلابات مجنونة، كانت بمثابة تسونامي كبير أغرق سورية بويلاته وابتلاءاته؛ وكان أولها انقلاب حسني الزعيم، وكان آخرها انقلاب الانفصال، الذي كان بمثابة الانقلاب الذي سبق الانقلاب والذي أعقبه مباشرة الانقلاب الأكبر في الثامن من آذار من سنة 1963م.

وقد شاء الله لهذا الانقلاب أن يستمرّ منذ أوائل الستينيات في القرن الماضي وإلى اليوم، وأن يكون حصاده دموعاً ودماءً وعذابات وابتلاءات ، وسجوناً ومعتقلات، أعقبها خروج كبير، وتوزع في أقطارالمعمورة.

كان ذلك في موعدين متباعدين بينهما أكثر من ثلاثين سنة. الأول في ثمانينيات القرن الماضي، وقد اشتهر في ذلك الوقت مركزا المرابطة في الأردن والعراق. فضلا عن تجمع حاشد في اليمن والخليج. والثاني بعد سنة 2011م وقد كان بمثابة سياسة نظام، دعمها ووضع خططها وأشرف على تنفيذها تجمع حليف ــ مهما قيل عنه ــ لا يخرج عن كونه، يعمل من أجل إسرائيل، وخدمة لأهدافها التوسعية في المنطقة. وقد كاد يغطي القارات الخمس، بنزوحه الواسع وبانتشاره الأوسع في العالم كله. وقد أصبح في كل بلد حالة ؛ تستوجب العظة والعبرة، ومدِّ يد العون والمساعدة، بل العمل من أجل موقف مشرف يكون به خلاص السوريين، مما أصابهم من إذلال وتشريد.

و(ملحمة القرن) أو(ذات الغرضين) وهي صيحة في وادٍ، واحدة من شعر كثير ينتصر لأمته، ويعد نفسه جنديا مجندا في معارك خلاصها. وتسميتها بـ (ملحمة القرن) يعود للسبب الرئيس الذي وضعت من أجله، وقد تناول صاحبها فيها خلال المدة الواقعة ما بين 1920م و2020م أهم الأحداث التي شهدتها سورية بأسلوب شاعري؛ فضلاًعن تعدد أغراضها، وكثرة أحداثها. وأما تسميتها بـ (ذات الغرضين) فتعود لسببين عام وخاص . فأما العام: فلكونها وطنية عامة، تتعرض للتاريخ السوري الحديث، ولمئة سنة خلت منه. وخاص لكونه يخص الشهيد البطل أبوالعز الفارس عبد الحميد الحاج مصطفى، الرجل الذي ضحَّى من أجل وطن لم يترعرع في رحابه، ولم يتنسم هواءه، أو يلتحف سماءه، أو يشرب من مائه، فتخطى كل ذلك، وجاءه وهويحمل بين جنبيه همَّ رجل قضية وصاحب موقف. فعليه السلام في الأولين وعليه السلام في الآخرين، وعليه السلام إلى يوم الدين.

 

بين يدي الملحمة:

يمكن القول أوَّلاً؛ أن كبريات الأحداث التاريخية والاجتماعية والمتغيرات بعامة، لاتقاس زمنيَّاً بالساعة والدقيقة، ولا بالأيام والشهور، وإنما قد تأتي عبر مخاض طويل، ومقدمات وعواقب طويلة ومُرَّة.

ومن أمثلة ذلك؛ القرن الملحمة، الذي يمكن أن يسمَّى القرن المؤامرة والذي كان مبدؤه مقدمات طويلة، سبقته ومهدت له وأهمها:

  • السياسة الأوربية ـ (الاستعمار الحديث):

وقد كانت مع مطلع العصر الحديث، قد آل أمرها إلى الغلبة والفوز، وقد رجحت كفتها عالمياً؛ سيما في صراعها مع الدولة العثمانية. والذي يهمنا في هذا الباب، اهتداؤها إلى الأقليات، والعزف على نغم حرية الشعوب، وتبني استقلالها، ويمكن القول: إن هذه المسالة هي القشة التي كسرت ظهر البعير، بالنسبة للدولة العثمانية وشعوبها بعامة! وقد أوقعتهم بعد في فخ الاستعمار الحديث الذي كان ظفره صليبياً مبرمجا وقائماً على المناورة والخداع، كالذي فعلوه مع الشريف حسين وقد وعدوه بملك العرب، ثمَّ كانَ مَصيرُهُ أنْ ماتَ مَنْفياً في قُبْرُص وبولده فيصل،وقد طردوه شرَّ طردة من سورية بعد أن توج ملكا عليها في 8 آذار من سنة 1920 وغادرها بعد معركة ميسلون في 28 تموز من السنة نفسها.

ولم يقتصر الأمر على الشريف حسين وولده؛ بل كانوا وما يزالون ينظرون إلى الحاكم العربي أنه مجرد بيدق، وأنَّ تحركه بيدهم كيف شاؤوا ومتى شاؤوا!

  • السياسة الصهيونية والتخطيط من أجل (دولة إسرائيل):

كان تيودور هرتزل ــ الذي يعدُّ مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة ــ مثقفاً كبيرا، وقارئاً لأبجدية السياسة المعاصرة في ذلك الوقت، وفاهماً لآلية الصراع الدائر بين المسلمين والفرنجة منذ العصور الوسطى، ولطبيعة ذلك الصراع يومئذٍ، وقد كانت الدولة العثمانية في حيرة من أمرها، بسبب الأقليات التي كانت تشكل نقطة عطالة في صراعها مع أوربا بعامة.

ولذلك؛ استطاع هرتزل في بازل، أن يقدم ورقة إلى المؤتمرين. يقول فيها: بـ"ضرورة أن تخضع منطقة الشرق الأوسط، لتقسيماتٍ على أساس عرقي وديني ومذهبي، على أن تكون السيادة فيها للدولة اليهودية". وقد لاقت دعوته هذه قبولاً عند الحلفاء الغربيين بعامة، الذين وضعوا لها البرامج والخطط، وعملوا على تنفيذها، فكان منها: اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور، وسياسة غورو والمندوبين الساميين من بعده.

ومنذ ذلك التاريخ أصبحت السياستان الغربية والصهيونية سياسة واحدة! وأصبح على سورية أن تواجه خطرا داهماً من السياستين، وقد كان ذلك وما يزال، منذ مطلع القرن العشرين وإلى اليوم بمثابة الحقيقة الواقعة. وبعدها عُدَّ من واقع الحال؛ أن تُفَكِّرَ وطنيّاً وأن تعمل لمواجهة السياستين أفضل من الطعام والشراب؛ بل هو: (فريضة من بعد الفريضة، وما نكص عنها إلا من شطح، أو جنح، أوأجرم)!

عالم الملحمة:

ليس سهلا! أن تواجه قرناً أو يزيد من الزمان: بمقالة، أو قصيدة، أو حتى عمل مسرحي معين، أوغير ذلك من الدراسات المحدودة. ذلك أن هذا القرن، الذي وصفناه بالمؤامرة، غاص بالأحداث، ويستوي فيه الأبيض والأسود، وتلتاث فيه الحقائق إلى درجة، تصبح فيه هي ونقيضها سواء! والملحمة التي كاد يكون كل بيت منها ــ من وجهة نظرنا ــ يمثل عالماً مستقلاً بذاته، تتساوى مع القرن الملحمة، الذي كاد يكون كل يوم يمر فيه، يمثل حدثاً مهما، يستوقف الباحث والمفكر، ويصلح أن يكون عنواناً لقصيد طويل.

ولما كان مايقدمه الأديب، بين يدي عمله الأدبي، بمثابة الحقائق المجردة، أو المفاتيح التي تساعد على فهم النص؛ فقد رأينا أن نقدم بين يدي نصوصنا المتتابعة، التي تغطي القرن الملحمة، والتي يبلغ عددها ستة وعشرين نصاً؛ بما يصحح ويوضح، ويزيل الإبهام، ويساعد على فهم المراد. وذلك ضمن سياق الملحمة العام.

 

خطُّ سيرالملحمة:

تحتلُّ ملحمة القرن مساحة زمنية تقدر بمئة سنة! يتخللها أحداث جسام، تمتازبالفرادة من سواها؛ كونها الأخطر، والأسوأ في التاريخين؛ القديم والحديث، والأكثرأهمية عند الإنسان المعاصر بعامة. ذلك أنها تتشابه في بداياتها ونهاياتها إلى درجة المطابقة! ففي الوقت الذي كانت فيه في بداياتها؛ تشهد ورقة هرتزل التي تتضمن تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أساس عرقي وديني ومذهبي، وهي توضع على الطاولة قصد تنفيذها، واللاعب الرئيس فيها تجمُّع الحلفاء؛ نجدها في نهاياتها وهي تشهد ورقة هرتزل وقد وضعت موضع التطبيق، واللاعب الرئيس فيها تجمُّع الحلفاء أيضاً! وقد كان غطاء للاعبين في المرحلتين، وكان يضمر شرَّاً للمنطقة كلها! ويريدها خاتمة للحروب الصليبية، بعد معركة كسرعظم مع العالم الإسلامي كله.

وهذه الرؤية الممتدة، هي التي استلهمت منها ملحمة القرن، التي جاء بناؤها على وفق ست وعشرين فقرة وزِّعت على سياقات موضوعية وفنيِّة، ومن خلال سبع محطات غطَّت الملحمة كلها. وهذه المحطات هي:

المحطة الأولى: الاحتلال ومعركة ميسلون. ولنا معها وقفتان:

الأولى مع الاحتلال- كان الاحتلال الفرنسي لسورية بمثابة تحصيل الحاصل! وذلك لسببين موجبين. الأول يتعلق بسياسة الحلفاء، وبورقة هرتزل المتفق عليها. والثاني يتعلق باتفاقية سايكس بيكو، التي عقدت بين الدولتين الحليفتين فرنسا وبريطانيا، وقد كانت سورية ولبنان من حصة فرنسا.

ومع أنَّ فيصل بن الحسين ــ وقد كان طليعة الجيوش الحليفة المتقدمة تجاه سورية من جنوبيِّها ــ استطاع أن يدخل دمشق سنة 1918م، وان يمكث فيها حاكما إلى سنة1920م، وأن يكون ملكاً عليها في الفترة من 8/3/1920م إلى 28/7/1920م، وهي فترة لاتزيد على ثلاثة أشهر ونصف الشهر! إلا أنه فوجىء بإنذارغورو وبالجيش الفرنسي وهو على وشك التحرك تجاه دمشق.

ومع أنَّ أحد بنود إنذار غورو، يطلب حل الجيش العربي، وهو مطلب ماسٌّ بسيادة الدولة الناشئة! إلا أنَّ الملك وافق عليه جملة! بل وزاد عليه؛ أنه وقد عاد إلى حمل السلاح بعض الذين سُرِّحوا من الجيش العربي، بعد أن ترامى إلى أسماعهم، تقدم الجيش الفرنسي تجاه دمشق أن أرسل أخاه زيداً على رأس مجموعة من خواص رجاله، فقتلوا منهم ثلاث مئة مقاتل. وقد كان ذلك منه بمثابة حسن النية لغورو الذي لم يقنعه كل ذلك. وما ذكره جاء نصه في رسالة أرسلها إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا يومئذٍ، وفيه يذكر صلف غورو وجبروته وعدم احترامه لجلالة الملك بالرغم من كل ما دلل عليه من مطاوعة.

الثانية معركة ميسلون- ما إن ترامت إلى أسماع أحرارسورية وشرفائها، تحرك الجيش الفرنسي تجاه دمشق، حتى خرجوا مع البطل يوسف العظمة، الذي لبى نداء الواجب الوطني، فكانت الملحمة في ميسلون، وما أشأمها من ملحمة! إذ ما كادت المعركة تبدأ، حتى أخذت النيران من خلف تحصد المقاتلين، والمستهدف الأول فيها كان البطل الشهيد يوسف العظمة رحمه الله. بينما لاذ من لاذ بالفرار وسط أجواء مأساوية رهيبة، وتقدم من القوات الفرنسية، تجاه قلب العاصمة دمشق.

ولم يكن خونة الأمة واحداً! بل نجد وعلى الهواء مباشرة مجاميع منهم ينثرون الورود والرياحين على المحتلين، وآخرون ينحون بغال غورو جانباً ويجرُّون العربة بأكتافهم احتفاء بالقادم الجديد!

المحطة الثانية غورو وسياساته:

لم يبال غورو بمواقف بعض السوريين التابعة والمخزية، سواء أكان ذلك في ميسلون، أوعلى أبواب دمشق، وقد نثروا عليه الورود، فشرع بتنفيذ سياساته التي تعد مستلة من ورقة هرتزل، وهذه السياسات تمثلت بالآتي:

  • سياسة تجزئة سورية:

جاء غورو إلى سورية، وهو يحمل معه مشروع تجزئتها وتحويلها إلى دويلات متناحرة فيما بينها. فجزَّأها إلى دويلاتٍ أربعٍ؛ اثنتان منها على أساس ديني ومذهبي، هما دولة العلويين، ودولة الدروز، واثنتان منها على أساس مناطقي هما دولة حلب ودولة دمشق. وكان قد أفرد لمتصرفية جبل لبنان وضعاً خاصاً بعد أن ألحق بها طرابلس لتصبح دولة مستقلة. إلاَّ أن مشروع الدويلات الأربع أخفق، لكون كل من هذه الدول لاتملك مقومات الدولة المستقلة.

  • سياسة إنشاء جيش المشرق:
  • النشأة: ما إن أخفق في سورية مشروع التجزئة؛ حتى كانت إدارة غورو منهمكة في وضع البدائل. وفعلاُ تفتقت قرائحهم، عن الخطة المؤامرة، التي كانت بمثابة الأفعى التي لفت عنق الشعب السوري، ولما تزل تلف وإلى اليوم، وهي تتمثل بقوات المشرق الخاصة، التي بوشر بإنشائها بأمر من الجنرال غورو سنة 1923م، وقد نص قرارالاستحداث وقتها، على أن تكون عمدتها من الأقليات، والأولوية فيها للعلويين، وألا تزيد نسبة السنة فيها على30% وفي حالات خاصة قد تصل 50%. (كوحدات الخدمات العامة). بالرغم من كون المسلمين السنة تصل نسبتهم في المجتمع السوري إلى 79%، وهي أكثرية مطلقة على وفق المعايير الاجتماعية والقانونية في العالم كله.
  • التكوين: لما كان الهدف من إنشاء جيش المشرق يتمثل في تلبية حاجة المحتلين، فقد كان البحث عن خصوصية الأكثر مطاوعة لهم مقدماً على سواه. وقد وجدوا ضالتهم في: (اللامنتمي، واللاملتزم، وفاقد القيم) وهؤلاء يندر وجودهم إلا بين العناصر الهابطة اجتماعياً من السكارى والمقامرين، ومن حملة الأفكار العدوانية والشرِّيرة، والمنبعثة اجتماعياً انبعاثاً خاطئاً؛ ممن يكون لديهم قابلية الخيانة والتآمر، وقابلة الارتهان لأمر الأجنبي والتبعية له.

وقد حرص المحتل على إدامة العلاقة مع هذه العينة من البشر، وأولاها رعايته الخاصة، حتى بعد أن غادر البلاد.

  • السلوكيات:

بديهياً جداً، والحالة هذه؛ أن ترتبط سلوكيات عناصر جيش المشرق بالمنظومة اللاأخلاقية التي تمَّ اختيارهم على أساس من منطلقاتها النظرية، وقد أصبحت بعد عرفاً متَّبعاً لدن المنتسبين كافة. وكانت مهامهم لأول أمرهم محصورة بمطاردة الوطنيين، وبالأخذ على أيديهم، وبحماية المحتل منهم. وكانت ثقافة الرتباء منهم، من منتج المدارس التبشيرية، ومن منتج المدرسة الحديثة، التي أنشأها المحتلون، وأفرغوا فيها مافي جعبتهم من معارف، قصد إذلالهم بها وجعلهم أكثر استجابة لهم.

المحطة الثالثة جيش المشرق وتحوله، وأهلية ضباطه:

(لاأدري)! وقد يشاركني في (لاأدري) الساسة السوريون جميعاً، عقب سؤال ملحاح عن الكيفية التي تحوَّل جيش المشرق الذي من مهامه: ضرب الوطنيين وتنفيذ أوامر المحتلين، إلى الجيش العربي السوري، وكيف قبل أساطين العلم والمعرفة منهم، أن يدخلوا في دائرة طاعة أولئك، وأن يعدوهم حماتهم، وأن يقبلوا أن يردد في المدارس بعامة، ومع كل صباح النشيد السوري:

حُماةَ الدِّيارِعَلَيْكُمْ سَلامْ

 

أبَتْ أنْ تَذِلَّ النُّفوسُ الكِرامْ

وهم يعلمون أن هؤلاء المسمَّون بحماة الديار ليسوا بحماة الديارـ حقيقة ـ وأنهم قد توافرت فيهم صفات ثلاث:

الصفة الأولى ـ الثبات على الحالة وعلى ماهم فيه من لاأخلاق، ومن انحطاط في القيمة، ومن سيوبة ولامبالاة؛ باستثناء الذين انبعثوا انبعاثاً خاطئاً فكانوا إلباً على مجتمعهم ووطنهم.

الصفة الثانية ــ استنساخ بعضهم: وباختصار لما كانت المدارس العسكرية تدار من قبلهم وكانت لجان المقابلات الخاصة بقبول الطلاب الذين يريدون الانتساب إلى الجيش العربي السوري، وهم منهم، يختارون أشباههم، ولذلك كانوا يكررون ذواتهم وأشخاصهم فيما يشبه الاستنساخ، أو الكارما وتكرارالمولد. وقد شهدناهم في سبعينيات القرن الماضي، في أماسيهم وهم موزعون بين مجاميع تلعب القمار، ومجاميع أخرى تعاقر الخمرة. والمضحك المبكي أن مساعد الكتيبة حسب أن القمار مما يعاقب عليه عندهم، فقدم إلى قائد الكتيبة قائمة بأسماء المقامرين، وعندما عرف القائد أنهم من المقامرين صرخ به، وهو يقول: أنا مقامر

الصفة الثالثة ــ اللاأخلاقية المسلكية: اللاأخلاقية المسلكية: وهي صفة لازمة للضباط بعامة؛ ذلك أنهم منتقون على وفق شروط المحتلِّ الفرنسي، الذي أراد لها أن تكون قاصمة لظهر الشعب السوري، وقد أصبحت تقليدأً متَّبَعاً لدى ضباطه. وبيان ذلك يمكن ملاحظته في صور منتزعة من حياة بعضهم. وذلك من خلال مواقف ثلاثة:

الموقف الأول - الدونية في الفعل: ومختصر الحكاية (أنَّ ضابطا فرنسياً زار إحدى وحدات جيش المشرق، وكان يقودها حسني الزعيم، فأراد أن يقيم للضيف حفلة سمر ليلي، فجمع الجند وطلب من أحد ضباطه أن يرقص للقائد الضيف رقصة هزَّ الخصر، ففعل. وكان ذلك الضابط الذي عقد على خصره المنديل ورقص تلك الرقصة الخليعة، هو الملازم أول سامي الحناوي، قائد الانقلاب الذي أطاح بالزعيم في 14/8/1949م!

الموقف الثاني - الكذب وعدم الوفاء: ومختصرها أنه بعد الانقلاب الفاشل الذي قام به الحزب القومي السوري في لبنان هرب رئيس الحزب أنطون سعادة إلى سورية. وكان يرأسها يومئذٍ حسني الزعيم، وهو من الأعضاء البارزين في الحزب القومي السوري. فاستقبله استقبالاً لائقاً وأنزله في دارالضيافة؛ ثمَّ أعطاه مسدسه الشخصي، وقال له: خذ شرفي! وبعد مدة فوجىء أنطون سعادة بدعوته إلى القصر الجمهوري، وبقائد الدرك اللبناني وقد جاء من أجل تسلمه، وبالزعيم يقول له: الشباب سيعاملونك معاملة حسنة. فما كان من أنطون سعادة، إلا أن نزع المسدس من حزامه، وقذفه إليه. وهو يقول له: خذ شَرِفَك) قال له ذلك، ثم سيق إلى لبنان، فأعدم فوراً.

الموقف الثالث - معاقرة الخمرة ولعب القمار: جاءت على لسانه قبيل إعدامه. وكان في منتصف ليل 14/8/1949م ــ وهو ليل الانقلاب ــ أخرج من بيته من قبل قوة عسكرية خاصة مكلفة باعتقاله من قبل الرجل الذي رقص له رقصة هز الخصر قبل سنين! وعلى يمين الطريق أنزل من العربة العسكرية التي كانت تقله، ثم أوقف أمام مجموعة منهم قصد إطلاق النار عليه.فصرخ بهم قائلاً: أتأتمرون بأمر هؤلاء وهم سكارى ومقامرون؟! قال لهم ذلك، وأكثر ما عرف به: الخمر والقمار. وهاتان الصفتان كانتا من لوازم الطالب المستجد، الذي يريد الانتساب إلى جيش المشرق.

المحطة الرابعة الاستقلال المزيف:

الاستقلال المزيف أو الاستعمار المقنع! وجهان لعملة واحدة؛. أوتعبيران مختلفان لفظاً ومتفقان معنى. فقد أثبتت الأحداث بعد الاستقلال المزعوم سنة 1946م أن المدة التي أعقبت هذا التاريخ كانت امتداداً لما قبله، وذلك لما أعقبتها من أحداث كانت أشدَّ إيلاماً من سابقتها، وقد مهدت بعد لسيطرة الطائفيين على الحكم في 8/3/1963م. ولا أحد يعرف إلى اليوم، ما اشتملت عليه وثيقة الاستقلال من بنود متفق عليها، مع ما في هذه البنود من المحرج، وغير المصرح به، وهوالذي جعل جيش المشرق يلعب بسورية هذه المدة المديدة بكل أساليب الغدر والخيانة والتآمر، دون أن تلقى محتجاً واحداً من هذه القوات، يرفع صوته عاليا؛ محتجاً على تصرفات ذلك الجيش، وعلى خساسته ودونيته، وما هو عليها من تصرُّفات، بعضها يعدُّ مُلْحِقاً للعار، كتصرفات الشراباتي إبان حرب 1948م مع إسرائيل، وقد كان يومئذٍ وزيراً للدفاع، ومنها تصرفات زعماء الانقلابات من بعد؛ حسني الزعيم، وسامي الحناوي، وأديب الشيشكلي، والضباط الذين قادوا الانقلاب ضد الشيشكلي، والذين دخلوا في مشروع الوحدة مع عبد الناصر، والذين اختلفوا معه، وصولاً إلى العقيد عبدالكريم النحلاوي الخائب والخاسر؛ المتآمرالذي ختم صفحة تآمره بعبد الكريم زهرالدين، ليكون زعيما لسورية في مرحلة ما بعد الوحدة! في 28/9/من سنة 1961م.

وعبد الكريم زهرالدين، وهو ضابط سوري برتبة لواء، كان اختياره ليكون قائداً للانفصاليين مهزلة إن لم يكن خطة مدبرة أعدت في ليل، كما كان اختياره قبل ذلك ليكون ضابطاً في جيش المشرق مهزلة أيضاً! إن لم يكن خطة أو بعضاً من خطة أعدت في ليل.

المهزلة الأولى:

تتمثل هذه المهزلة باختياره ليكون ضابطاً في جيش المشرق، بالرغم من عدم أهليته لذلك. إذ كان تحصيله الدراسي لايؤهله لأن يكون أحد المنتسبين إلى الكلية العسكرية، فتطوع جندياً فيها، وكان الذي حصل أن زارت إحدى السيدات الفرنسيات الكلية العسكرية في حمص، ورأت فيها عبد الكريم، فدخلت على مدير الكلية وخاطبته بقولها: إن عبد الكريم زهر الدين مات أبوه وهو يخدم بباب (كرابيه) وكرابيه هوالمندوب السامي الفرنسي الذي جاء بعد غورو ثم زكته له بعد أن أشادت بسابقة أبيه، وبما له من خدمات، فوعدها بأن يكون أحد منتسبي الدفعة القادمة. وفعلاً كان عبد الكريم زهرالدن أحد منتسبي دفعة سنة1939م.

المهزلة الثانية:

تتمثل هذه المهزلة باختياره رئيساً؛ لما أسموه في حينه، بـ (المجلس الوطني لقيادة الثورة). ومختصر المسألة: أن عبد الكريم زهرالدين صباح يوم الانقلاب في 28/9/1961م، ذهب إلى أركان الجيش، ولما لم يكن ضابطاً معيَّناً فيها، فاستوقفه أحد الحراس واحتجزه الى جانب حائط،، وفجأة مرَّ به أحد الضباط، فنهر الحارس، واصطحبه إلى داخل الأركان. وكان الضباط المتآمرون ـ وقتها ـ في حيص بيص من أمرهم، أيهم يكون الزعيم القائد؟ وباسم من تعلن الثورة؟ فكان النحلاوي هو الذي قطع قول كلِّ خطيب لقد أجاب باسم عبد الكريم زهرالدين. وفعلاً أصبح عبد الكريم زهر الدين رئيس المجلس العسكري الحاكم لسورية ما بعد الاقلاب!

وقيل ما قيل عن قوات جيش المشرق في سورية، في مرحلتي ما قبل الاستقلال وما بعده، والتي حافظت على خصائصها عبر تاريخ طويل من الصراع، واستطاعت أن تكون وفية لسيدها الأجنبي، في كل ما عهده إليها من مهام.

المحطة الخامسة الحزبية والأحزاب:

"الحزبية" من حيث المعنى العام إحدى الظواهر الصحية، التي أفادت منها المجتمعات الحديثة، من أجل إيصال الأصلح والأقوى إلى الحكم. وشذَّ عن هذه القاعدة المجتمعات البدائية والمتخلفة، ومنتزعة القرار، التي تحكم من قبل الأجنبي، أو التي سيطرت الأقلية على الأكثرية فيها، كالذي يحدث في سورية اليوم، وقد عدَّ حزب البعث فيها، قائداً للدولة والمجتمع، على وفق المادة الثامنة من الدستور، وبذلك أقصي الآخر عن مراكز صنع القرار وسيق المعارضون إلى السجون والمعتقلات كما يساق القتلة والجناة، وانفردت الأقلية بحكم الأكثرية وبفعل ما تراه مناسباً، دون أن تقيم وزناً لأحد؛ سوى الإملاءات الأجنبية التي تعدها ضامنة للنظام وتعمل من أجل إدامته.

أما (الأحزاب) مجتمعة؛ فقيل ما قيل عنها، فهي أصل بلاء السوريين، وسرُّ ما ابتلوا به من نكبات أو مصائب، منذ مطلع العصر الحديث وإلى اليوم!

ذلك أن العصر الحديث نفسه؛ يعرَّف بأنه عصر الاستعمار، وهو اللاعب الرئيس في السياسة الدولية بعامة، وفي سياسة العالم الإسلامي بخاصة! وقد عدت امتداداً للحروب الصليبية، التي عدُّوها مستمرة و من دون توقف!

وقد كان على سورية أن تتحمل القسط الأكبر والأخطر من هذه السياسة. وكانت تجزئتها وشرذمتها، والتحكم بقراراتها وبأنشطتها بعض من تلك السياسة! ومنها السياسة الحزبية، التي تزامن ظهورها مع مطلع العصر الحديث، وكان أخطرها تلك التي كان ميلادها في عصر الاستعمار! وأخطر الخطير فيها الأحزاب الثلاثة: (الشيوعي السوري) و (الحزب القومي السوري الاجتماعي) و(حزب البعث العربي الاشتراكي) و وجه الخطورة فيها؛ أن دعاتها الأوائل كانوا من أبناء الأقليات وبعضهم لم يكونوا عرباً ولا مسلمين؛ بل ولم يكونوا سوريين!

فـ (الحزب الشيوعي) وهو أقدمها، كان مع الحزب الشيوعي اللبناني حزباً واحداً، ويعود تاريخ تأسيسه إلى سنة 1924م وقد ضمت لجنته المركزية لأول أمره كلاً من: (يوسف يزبك و فؤاد الشمالي و أرتين مادويان و هيكازون و بوياجيان، وهما أرمنيان، ثم قدم آكوب بتلا من فلسطين، وهو يهودي روسي وانتخب أمينا عاما للحزب). أما في دمشق فقد تأسست أول خلية له سنة 1925م وكانت برئاسة شاتيلا، ثم انضم خالد بكداش إلى رئاسة الحزب سنة 1930م. وهكذا نجد أن قائمة المؤسسين لأول أمرهم خلت من العنصر العربي المسلم.

و(الحزب القومي السوري الاجتماعي) وهو حزب علماني، يؤمن بفكرة (الهلال الخصيب) أو ما يسمى بـ (سورية الكبرى) حزب أنشأه المواطن اللبناني أنطون سعادة سنة 1932م، وهو حزب يتنكر للعروبة والإسلام، ولايقيم وزناً للتاريخ الإسلامي، وللحضارة الإسلامية لذلك كان معادياً، وقد وجد فيه الاستعمار ضالته، إن لم يكن قام بإيحاء منه! كما وجد فيه ضباط جيش المشرق مبتغاهم، ومنهم على سبيل المثال: حسني الزعيم وأديب الشيشكلي. ومنذ تأسيسه عُدَّ حزباً جانحاً بالنسبة للأكثرية؛ أما الأقليات فركبت مركبه، وكانت حاضنته الاجتماعية؛ ولاسيما العلويون فقد انخرطوا في صفوفه بكثرة، وكان لهم شأن يذكر حتى أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من حكم سورية؛ إلا أنهم بعد تورطهم بقتل العقيد عدنان المالكي الدمشقي السني فقدوا هذه المكانة، ووقتها كادت تلاحق الطائفة كلها. فتحوَّلت وربما بالتوجيه إلى البعث العربي الإشتراكي.

و(البعث) حزب أنشىء في أثناء الحكم الفرنسي. وقد أعلن إنشاؤه في دمشق سنة 1942م، من قبل ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار. وقد كان عفلق والبيطار أنشآ الخلية الأولى للبعث في باريس عندما كانا طالبين في جامعة السوربون. ويتنازع قصب السبق بأصل الفكرة اثنان. الأول مسيحيٌّ وهو ميشيل عفلق، الذي يعده البعث العراقي الرفيق المؤسس. والثاني زكي الأرسوزي، ويعده البعث السوري صاحب الفكرة الأولى وهو علوي حاقد على الإسلام والمسلمين، وفي إحدى خطبه المشهورة على مدرج جامعة دمشق، بعد أن وصل الطائفيون إلى الحكم، اتهم الإسلام بأنه أذلَّ العربي بأن جعله يمرِّغ جبهته في التراب، والمقصود بذلك سجوده في أثناء الصلاة!

و بعد اتحاده مع الحزب الإشتراكي الذي أنشأه أكرم الحوراني في أوائل الخمسينات أصبح اسم الحزب البعث العربي الإشتراكي. وللحوراني يد لاتنسى عند العلويين، وقد كان الداعم الرئيس لهم ويؤثر عنه قوله لشبابهم: (متى أرى النجوم تتلألأ على الأكتاف؟) ويقصد بها أن يصبحوا ضباطاً! وأكرم الحوراني، من أبناء مدينة حماة التي عدت مأساة العصر بسبب ما ارتكب فيها من مجازر على أيدي أصحاب النجوم المتلآلئة!

أمَّا (حزب الوطن) و(حزب الشعب) فهما من حيث الأصل، بعض من الكتلة الوطنية، التي أنشأها المرحوم إبراهيم هنانو سنة 1928م، لغرض مقاومة الاحتلال الفرنسي، وقد أدت دوراً مشرفاً في ذلك الوقت، ثم لم تلبث بعدها أن انقسمت على نفسها انقساماً مناطقيأً، أدى إلى ضعفها وانحلالها، مما أتاح لأنصار الفكرالفئوي والأقلي، من المرتبطين بالأجنبي، أن يؤدوا دورهم، وأن يوصلوا سورية إلى ماهي عليه اليوم، من كوارث ونكبات.

وقيل ما قيل عن حزبي الوطن والشعب؛ فهما نتيجة بدهية لسياسة غورو، وقد أقام قبلها دولتي دمشق وحلب على أساس مناطقي، فحذا حذوها رجال الكتلة الوطنية، فكانت المصيبة الكبرى، بأن انشغل الحزبان بمناطقيتهما، ثم جرت ذيولها المناطقية بعامة، إلى المناطق السورية الأخرى، وإلى الأحزاب والجماعات، و الأشخاص والشخصيات؛ إذا أدى ذلك إلى الرعونة المناطقية، وإلى الشرذمة في الرأي والفكر والموقف.

وكل ما حدث في سورية منذ ستينييات القرن الماضي وإلى اليوم، هو بعض من التطبيقات المسلكية لما جاء في ورقة هرتزل، وفي سياسات الحلفاء، وقد أخذ عنها السوريون الشرذمة، التي كانت بالنسبة لهم قاصمة للظهر، وقد أصبحوا مشردين في مشارق الأرض ومغاربها، وأفرسهم هو ذلك الذي يحصل على خيمة آمنة في سورية البلد، أويعبرالحدود إلى بلد آخر.

المحطة السادسة، المواجهات وقيم التحدي:

كان لانتصار الثورة البلشفية في روسيا، ولقيام دولة الاتحاد السوفيتي، ولإصدار البيان الشيوعي، الذي صدروه بالنداء المشهور: "يا عمّال العالم، اتّحدوا! ليس لديكم ما تخسروه سوى أغلالكم، وأمامكم العالم كله لتكسبوه" أثره الكبير في المستوى الدولي، ولاسيما بعد أن أعلنوا من خلاله مشروع الأممية العالمية فكان لذلك أثره الكبير في مد أصداء البيان إلى خارج الاتحاد السوفيتي، وقد ترددت أصداؤه وذاع صيته في العالم كله.

فكان من نتائج ذلك: حرب الكوريتين؛ كوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية، في خمسينيات القرن الماضي، وتبعها مباشرة: المسألة الكوبية، وحرب فيتنام، ولاوس وكمبوديا، وذلك في أواخر الخمسينيات، وفي أثناء الستينيات، وأخيراً حرب أفغانستان، التي امتدت آثارها إلى العالم الإسلامي كله، ومنه المنطقة العربية التي تفاعلت مع الحدث وتجاوبت معه.

وفي خطٍّ موازٍ، وعلى صعيدٍ شعبيٍّ؛ نشطت التكونات الحزبية المتجاوبة مع البيان الشيوعي، وكذا المتناغمة معه، فظهر في سورية، وبوقت متقارب جدا: الحزب الشيوعي السوري، والحزب القومي السوري الاجتماعي، وحزب البعث العربي الإشتراكي. والأحزاب الثلاثة تشترك بخاصيتين:

الخاصية الأولى ــ اللادينية: فالحزب الشيوعي ينطلق من مقولة (لا إله في السماء والحياة مادة) والحزبان الأخيران؛ كل منهما يعلن بصراحة: (أنه حزب علماني لاديني.) والأحزاب الثلاثة منذ نشوئها تعلن عن تحديها للقيم الحضارية الإسلامية، وتصفها بالرجعية، وتثير جدلا عريضاً معها.

الخاصية الثانية ــ الأقلية: والمعروف أنَّ الأحزاب الثلاثة كان تأسيسها على أيدي أبناء الأقليات. وكان من مؤسسي الحزب الشيوعي: هيكازون وبوياجيان وهما أرمنيان، وآكوب بتلا وهو يهودي، وخالد بكداش وهو كردي لاديني. وكان مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي، وكان مؤسس القومي السوري أنطون سعادة. وبسبب من ذلك كانت حاضنة الأحزاب الثلاثة الأقليات، التي كانت ترتب أمورها مع الأجنبي، وتثير تحدياً لاحدود له ضد الشعب الذي وجد نفسه في خانة المعتدى عليه وبشكلٍ دائمٍ.

وكنتيجة طبيعية ــ ولابد للفعل من ردِّ فعل ــ كان رد الفعل الشعبي قوياً جداً. فنشط المشايخ والعلماء وطلاب العلم والمثقفون الإسلاميُّون بعامة، من أجل التصدي لذلك، وقد كان صدى ذلك واسعاً؛ فأسس في حمص الرابطة الدينية سنة 1934م، وأسس في حلب دار الأرقم سنة1935م، وأسس في دمشق جمعية الشبان المسلمين سنة 1937م، وأسس في حماة جمعية الإخوان المسلمين سنة1939م، وأسس في ديرالزور جمعية الأنصار سنة 1941م، وفي سنة 1945م، تداعت هذه الجمعيات مجتمعة إلى لقاء لها في حلب، نتج عنه الاتفاق على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين.

كان ذلك قبيل ما يسمى بالاستقلال بسنة واحدة! وكانت سورية الوطن وقتها؛ بنسيجها الفسيفسائي، أشبه بلوحة تشكيلية، صنعتها يد شلَّاء مرتعشة! فهي دالة ومعبرة ‘عن واقع منتظر، كل مافيه محزن، ومؤلم، ومخيف.

وكان ماكان من ذلك؛ ما إن غادر آخر جندي فرنسي الأرض السورية، حتى كان الصراع من أجل السلطة والسيادة قد بدأ! وكان أقطابه لأول الأمر ثلاثة:

الأرستقراطيون: من رجال المال والأعمال، وعمدتهم، وهم يديرون دفة الصراع حزبا الوطن والشعب.

اللادينيون: الذين انسلخوا عن الدين وتنكروا له، وكانوا حربا عليه وعمدتهم الشيوعيون والقوميون السوريون.

الجيش والقوات المسلحة: وكان قد طفح فيه الخبث، وغلب غثه على سمينه، وقد ركب مركبه ضباط جيش المشرق، ممن رباهم المستعمر على عينه، واصطنعهم لنفسه.

وبهؤلاء وهؤلاء بدأ الصراع، وكان طليعته ضباط جيش المشرق، ولم يتوان، فكان أول انقلاب له انقلاب حسني الزعيم، ثم كرت الانقلابات، ومع كرورها؛ انضاف البعثيون إلى قائمة الصراع، فحمي وطيسها، وكرت الانقلابات والصراعات، فسقط ثلاثة من كبار رموزها: محمد ناصر قائد الطيران، وهو علوي، وكان متَّهماً بانقلاب تسانده فيه القوات البريطانية الموجودة في الأردن، وعدنان المالكي، وهوضابط دمشقي سني من ضباط القيادة والأركان، وهو مقرب من البعثيين، وقد قتل تخوُّفاً من القوميين السوريين أن يكون رجل المرحلة، وغسان جديد، وهو علوي، ومن القوميين السوريين، والرأس المدبر لمقتل عدنان المالكي وقد قتله البعثيون ثأراً لعدنان.

ولم يتوقف الصراع عند هؤلاء وهؤلاء، بل كانوا وكأنهم على ميعاد؛ مع المثقف المسلم، الذي برز إلى الميدان بعد طول غياب! متسلحاً بالعلوم والمعارف والآداب العامة، التي يحتاجها رجل المرحلة، المنتمي والملتزم. فخاض معهم سجال المعارك وأشرسها، وكان الصراع لأول عهده في الساحات العامة، والشوارع الرئيسة، وبالعصي والحجارة.

لكنه بعد أن وصل الطائفيون إلى الحكم انتقل إلى المواجهة الدامية. وكان الذي حدث في حماة سنة 1964م، أن كتب على السبورة طالب بعثي: (لاحكم إلا للبعث) فهرع آخرإلى السبورة وكتب عليها:(لاحكم إلا للإسلام) فجنَّ النظام يومئذٍ، وقد كان حديث عهد بالسلطة فحرك الدبابات والمدفعية تجاه حماة، وكانت وقتها تأتمر بأمر(حافظ الأسد وصلاح جديد) وهما (علويان) و(سليم حاطوم وحمد عبيد) وهما (درزيان) و(عبد الكريم الجندي) وهو(اسماعيلي) وبسرعة أفرغوا ما بداخلهم من الأحقاد؛ فقصفوا جامع (السلطان) ودكوا (المئذنة) على وجه التحديد. وباختصار: دوهمت المدينة بشراسة! فأحسَّ أمين الحافظ وقد كان يومئذٍ رئيساً للجمهورية بفداحة المسألة، وبأنَّ الطائفيين سيفرغون على المدينة أحقادهم الجبلية، فأسرع إلى المدينة، ونحاهم جانباً، وسوَّى المشكلة مع شيخ حماة يومئذٍ محمد الحامد رحمه الله.

وبعدها خرج مروان حديد وأصحابه من السجن ، بعد أن اعتقلوهم داخل جامع السلطان. وكانت قد تكونت لدى مروان وأصحابه مجموعة من الأفكار. منها:

  • أنهم يمتهنون بحريتهم وكرامتهم.
  • وأنهم يحال بينهم وبين فرص العيش الكريم.
  • وأن من يسمون حكومة أو نظاما مجموعة من اللصوص والخونة والمتآمرين الذين سطوا في ليل على خيارات أمة ومقدرات شعب، ثم أخذوا يسومونهم بخساً وذلك خلافاً للمعايير الوطنية والقومية والدينية، وحتى الإنسانية العامة لدن الشعوب الحية كافة.
  • وأنَّ عاداتهم وتقاليدهم وآدابهم، وما فطروا عليه من خلق ودين جميعه معتدى عليه، ومهدد بالزوال.

ولذلك قرروا أن يكونوا طليعة قومهم في مواجهة ذلك النظام المجرم، وفعلاً أسموا أنفسهم (طليعة).

إحدى عشرة سنة عجافاً مرت، منذ سنة 1964م إلى سنة 1975م، والنظام يتمادى في ممارساته القمعية والتعسُّفية ضد شعبه، ومروان وأصحابه ينشطون في مواجهة تلك الممارسات؛ بالمباديء والقيم، المشفوعة بأدلتها العلمية، وجراء ذلك كانوا يضيقون ذرعاً بهم ويترصدونهم بأطقم المخابرات التي لاتكاد تفارقهم في ليل أو نهار.

مرحلة الثمانينيات:

في 30 حزيران من سنة1975م، فوجىء أصحاب مروان، بمجموعات من المخابرات الجوية، تنقض على مروان وتعتقله؛ فكان ذلك إيذاناً ببدء ثورة الثمانينيات ضد النظام القائم في دمشق.وكان مبدؤها شباب طليعيون من آل العلواني، ثم تعدتهم لتصبح حموية واسعة النطاق، ثم لم تلبث أن انتقلت إلى حلب، التي تجاوبت هي وأريافها معها تجاوباً واسعاً هز أركان النظام.

وأخيراً بانتقالها إلى دمشق ودير الزور واللاذقية، أصبحت بمثابة الثورة الوطنية.

لقد حاول حافظ أولاً مواجهتها بالقوات الأمنية فأخفق، فأضاف إليها الكتائب الحزبية و شبيبة الثورة فأخفق، ثم أتبعهم بالكتائب العمالية فأخفق أيضاً. ثم أمر القوات المحمولة جواً بتمشيط الأرياف، بحثاً عن السلاح، وعن الذين حامت حولهم شبهات أمنية. وقد أتبع ذلك بإضافة قوائم مطلوبي الإخوان إلى قوائم مطلوبي الطليعة، وكثر الترويج من قبل إعلام النظام بأنَّ الثورة إخوانية، فزاد ذلك في رصيد الإخوان الشعبي، وزاد في ضراوة الثورة. وقد تسبب ذلك بتلاحم مقاتلي الإخوان مع مقاتلي الطليعة حتى بدوا وكأنهم جسد واحد. وزاد في قوتها موقف علماء المسلمين منها، ودعمهم لها. بل وأكثرهم كان داعماً لها، ومنظراً ومخططاً، وتبعهم كثيرٌ من المعلمين والمثقفين والأدباء والمفكرين.

فوضحت بذلك الثورة، وأحقيتها، وأهليتها بما هي مُقْدِمة عليه. وزاد في قوتها تلاحم منظمات المجتمع المدني معها، ومنها نقابات الأطباء والمهندسين والمحامين، وقد اتفق الجميع على أمورٍ ثلاثة:

الأمر الأول ـ إدانة الالنظام، وتحميله تبعة ما يجري في سورية.

الأمرالثاني ـ إقالة رئيس الجمهورية، وحل مجلس الشعب، والدعوة إلى انتخابات عامة برقابة عربية ودولية.

الأمرالثالث ـ إعادة هيكلة الجيش والقوات المسلحة. وذلك بإخراجه من شرنقة الطائفية، وجعله جيشا يمثل السوريين جميعاً، ولا يستثني مكوناً واحداً من المكونات السورية، التي يتكون منها الشعب السوري.

وإزاء ذلك كانت ردود الأفعال، من قبل النظام، وداعميه، ومؤيديه، غاضبة وصارخة، وكأنها الهزة الأرضية، التي ضربت أعماق أعماقهم.

وأما النظام فإنه حرَّك القوات المسلحة تجاه شعب ثار، وأمة قررت أن تختار طريقها، بمحض إرادتها، وبالاعتماد على طاقات أبنائها. فكان عليه أولاً أن يحرف مسارها وقرارها، بنزعه الثوب القومي الذي كان يرتديه، وباستبداله بآخر فارسي الصنعة والوجهة قد غزلت خيوطه في طهران وقم. وقد فعل. وكان عليه ثانياً أن يأخذ أبناءها على حد سكين. فكانت مجازره المتلاحقة والتي منها على سبيل المثال وليس الحصر: مجازر الجسر، وسرمدا، وكنصفرة، والمشارقة، وسوق الأحد، وأكبرها مجزرة حماة التي راح ضحيَّتها أربعون ألف شهيد. (ولمزيد من الآطلاع كتاب حماة مأساة العصر، الذي طُبِع وَوُزِّع على نطاق واسع). وقد كان يؤازره في جرائمه قوى الشر مجتمعة، من محليين، وإقليميين ودوليين مما حتَّم غلبته، وهيَّأ له الفرصة لجرائم أكبر وأوسع وأشد خطراً على السوريين بخاصة، وعلى العرب والمسلمين بعامة. وقد كان نتيجة ذلك:

  • تضييق الخناق على المقاتلين، وقتل أكثرهم، وإرغام البقية المتبقية منهم على الخروج، إلى مركزي المرابطة في الأردن والعراق.
  • اعتقال المؤيدين والمتعاطفين ودعاة التغيير بعامة، وإخضاعهم للقانون رقم49 الذي يقضي بإعدام المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين. وقد ذكر الصحفي نزار نيُّوف، وهو علوي شيوعي، وكان من نزلاء سجن تدمر، وأفرج عنه في 22/6/2001م، ذكر: أن النظام أعدم في سجن تدمر أكثر من تسعة عشر ألفاً من المحسوبين على الإسلاميين، ومن دعاة التغيير. وهذا أدَّى بدوره:
  • إلى خروج كبير من البلاد، وتوزع في أقطار المعمورة، تخلُّصاً من النظام وجرائمه المستمرة، وبحثاًعن مكانٍ آمنٍ تحت الشمس.

النظام ما بعد الثمانينيات:

كانت أحداث الثمانينيات وأواخر السبعينيات، قد تمخضت عن أهم حدثين في تاريخ المواجهات بعامة:

الحدث الأول: تمثل بانتقال الثوار إلى بغداد وعمان بشكل رئيس، وإقامة فيهما مركزي مرابطة. ومنهما بدأت تحركاتهم الثورية، التي تهدف إلى القضاء على النظام واقتلاعه من جذوره.

الحدث الثاني: تمثل بتوسيع دائرة المواجهات؛ لتغطي القطاعات الشعبية المختلفة، فاتُّفِق برعاية عراقية على إقامة (التحالف الوطني لتحرير سورية) الذي تمت هيكلته بأمانة عامة، وبمكتب إعلامي ضمَّ في عضويته كلاً من: أمين الحافظ (رئيس جمهورية سابق)، ومحمد الجراح ( زعيم التيار الناصري وقائد انقلاب 18 تموز/ يوليو الفاشل) وشبلي العيسمي ( الشخصية الثالثة في الحزب وترتيبه بعد الرئيس صدام وميشيل عفلق، ووزير سابق) وشريف الراس ( وهواشتراكي علماني، وأديب وكاتب روائي) ونسيم سفرجلاني ( وهووزير سابق) وباسيل بجك (وهومحام حلبيٍّ) وحمود الشوفي (وهومندوب سورية في الإمم المتحدة) ويقابل هؤلاء ثلاثة من الإسلاميين: الأستاذ عبدالله الطنطاوي (وهويرأس المكتب الإعلامي للإخوان ) والأستاذ محمد أحمد ديِّن والأستاذ عبد العزيز الحاج مصطفى.وكلاهما: (كاتب ومحرر ومسؤول في الإذاعة الموجهة). وقد انضم للمكتب السياسي والأمانة العامة للتحالف أعضاء بارزون من أمثال: أحمد سليمان الأحمد ( وهوعلوي وزعيم في الطائفة و شاعر كبير) والعميد الهواش ( وهومن العلويين).

وكانت الغاية من هذه الفسيفساء، أن يكون الحراك الثوري واسع الطيف، وأن يؤدي إلى الغلبة على النظام وأجندته وتحشُّداته.

لكنهم باؤوا بالفشل في كل مأ أمَّلوه؛ ذلك أن الثورية تحتاج إلى عقيدة ثورية، وهؤلاء قد يتفقون على كل شيء، إلا على العقيدة الثورية. فلا! وفي ذلك يكمن الفشل.

أما حافظ أسد فإنه كان بعد خروج الإخوان، وقيام التحالف الوطني لتحريرسورية، وتشغيل الإذاعة الموجهة، وبدء العمليات العسكرية تجاه الداخل السوري، أسير هموم ثلاثة:

الهمُّ الأول ـ يتمثل بمواجهة الداخل والخارج معاً: ومن أجل ذلك أنشأ سبعة عشرمركزاً أمنيَّاً، وجيشاً ضارباً، وتترس بداعمين دوليين وإقليميين ومحلّيين، له ولطائفته ولنظامه!

الهم الثاني ـ ويتمثَّل بالصراع على الساطة وتصفية الخصوم: وكان همه الأكبر بأخيه رفعت، وبالشركاء المنافسين، من يسمَّون بالعليين (علي حيدر قائد الوحدات الخاصة) وعلي أصلان (رئيس الأركان) وعلي دوبا (رئيس المخابرات) وعلي حماد (رئيس التنظيم والإدارة) وآخرين منهم، وقد أنشبوا لأول أمرهم صراعاً مع رفعت أسد، فقال قائل منهم لحافظ أسد: سيدي أنت بالنسبة لنا إله، أمَّا أخوك فلا شيء! وهذه عقيدتهم! ومع أنه بدأ بأخيه أولاً ثم ثنَّى بالعليين، إلا أنه دفع ولده باسل ثمناً لذلك الصراع المرير.

الهم الثالث ـ همُّ التوريث: وقاصمة الظهرـ كما يقولون ـ أنه في منتصف كانون الثاني/يناير، من سنة 1994م التقى مع الرئيس الأمريكي جورج بوش، وأخذ موافقته بتولية باسل ابنه بدلا منه، وكان قد أعده لمثل هذه المسؤولية، فعاد إلى دمشق والغبطة تملأ جوفه. ليفاجأ بباسل وهو مسجى في تابوت. وسبحان الحي الذي لايموت.

ومع ذلك تابع قضية التوريث، فنقل العهدة إلى بشار. ومع أن بشار أقرب إلى المافون(أي: المعتوه) منه إلى العاقل، لكنه لحساسية المسألة، وضعه في دائرة التأهيل، وتابع إعداده، ليكون بعده رئيساً للجمهورية، وكأنَّ سورية مملكة له ولأبنائه من بعده!

ولاية بشارالأسد:

وفي العاشرمن حزيران/ يونيو من سنة 2000م، وفيما كان حافظ في مكتبه في رئاسة الجمهورية، وبعد مكالمة له مع إلياس الهراوي رئيس جمهورية لبنان، أدركته المنية، وخرَّ ميتاً. وانتهى بموته تسلط حاكم جائر، سطا على السلطة في ليل، ولم ينته حكمه إلا بعد أن ورَّط أسرته وأهله وطائفته بجرائم وجرائر لاتُعَفِّيها السنون.

وما إن ذاع أمر موته، وتأكدت منه الزمرة المكلفة بترتيبات التوريث، حتى سارعت إلى دعوة البرلمان للاجتماع، وخلال دقائق قليلة؛ انتزعت منه قراراً بأنَّ عمر رئيس الجمهورية أربع وثلاثون سنة! وبذلك أصبج بشار مؤهلاً ليخلف أباه، بالطرق القانونية التي تؤدي إلى ذلك المنصب!

وفعلاً؛ بعد موت حافظ الأسد، وبعد إعلان مجلس النواب، أن الحد الأدنى لعمر رئيس الجمهورية أربع وثلاثون سنة، وهو عمر بشار في ذلك الوقت، اجتمعت القيادة، وأعلنت بأغلبية ساحقة، وفي اليوم الذي توفّي فيه حافظ، في 10/6/2000م، أن بشار حافظ أسد أصبح رئيساً للجمهورية. ثم أتبعت ذلك بتعيينه قائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة، وأميناً قطرياً لحزب البعث!

بشار والمخاض الصعب:

ورث بشار بعد موت أبيه تركة ثقيلة لاتقوم بها فطاحل الرجال! وكان أمامه ثلاثة ملفَّات:

الملفُّ الأول ـ الجيش والقوات المسلحة:

لم يكن أمر الجيش بالسهل! فالضابط الذي أمضى أربعين سنة، في قيادة الفرقة الأولى عسكرياً، حتى هرم ــ وإبراهيم صافي نموذجاً ــ لم يكن من السهل السيطرة عليه. فهو أولاً: جعل الجيش مزرعةً له ولأسرته من الدرجة الأولى والثانية والثالثة والرابعة. وهو ثانياً: زرع من الموالين والأنصار من يغضب له حين يغضب، وهذه ثالثة الأثافي كما يقولون! وما يقال عن إبراهيم صافي، يقال عن غيره، وهؤلاء إنْ لم يكونوا بالألوف فهم بالمئات، وهذه الظاهرة هي التي أدت إلى التكتلات والشلل ومراكز القوى، وإلى وجود المغامرين والمتآمرين بعامة. وإذا أضفنا إلى هذه الظاهرة طائفية الجيش، نكون أمام وضع كارثي لعبت به الأهواء والعلل، وهذا مالا تحمد عقباه، وقد حصل! وتطبيقاته جاءت بعد 15/3/ من سنة 2011م!

الملف الثاني ـ الفساد العام:

كان الفساد بصورته الراهنة قد بدأ يأخذ طريقه إلى القطاعين الرسمي والشعبي منذ وصول الطائفيين إلى الحكم في8/3/ من سنة 1963م. ذلك أنهم عدّوها مغنماً! وتلك هي علة الحكومات الشللية بعامة. وللفائدة، ومن دائرة الشللية: أن أحدهم وهومن دولة مجاورة لسورية، جمع أهل قريته في صعيدٍ واحد، ثم قال لهم: أنا صرت رئيساً للجمهورية، والذي لايغتني في مدة رئاستي، سوف أرميه بالرصاص بيدي في ساحة القرية! وهذه علة الحكومات العصابية والشللية والطائفية، التي تتمثل بأقلية تريد أن تستعلي على أكثرية! وهذه هي مصيبة المنطقة الشرق أوسطية كلها. وقد وجدت فيها الدول العدوة ضالتها! والنظام السوري الذي نشأ بعد انقلاب الثامن من آذار كان ديدنه الفساد، ومنه الكسب غير المشروع. وقد حاول حافظ أن يخفي طرفاً من الفساد، فأصدر سنة 1977م القرار رقم (60) الذي يتضمن استحداث لجنة لمكافحة الكسب غير المشروع، و عين أحمد دياب، وهو نائب في البرلمان، ومقرّباً منه رئيساً لها، إلا أنها كانت مجرّد تقليعة نظام، ويدندن بها حسب الحاجة، ولتخويف غير المرغوب بهم من الأتباع. وعندما جاء بشار، كان الفساد قد استشرى، وزاد الطين بلَّة، أنْ أرخى له العنان، فكانت ظاهرة رامي مخلوف ابن خال السيد الرئيس، الذي استحوذ على ما يساوي ميزانية سورية، وكان حوله عدد من القطط المسمنة الطامحين إلى المليارديرية من أقصر طريق! مما عجَّل بالثورة عليه في سنة2011م

الملف الثالث ــ العلاقات العامة:

تُعدُّ العلاقات العامة، أهمُّ ما واجه بشارالأسد، منذ توليه رئاسة الجمهورية وإلى اليوم. ذلك أنه يلزمه صفتان:

الصفة! الأولى ــ تتمثل بأحقية صاحب الحق: إذ إنه يعلم حقيقة أنه لا حق له فيما هو فيه؛ سواء من حيث العمر، أو من حيث الأحقية المطلقة! كأن يكون رئيساً للجمهورية، أو ممثلاً لشعب يعده بعضاً من القاذورات، وهو حرب على أكثريته المطلقة؛ بل على شعبه بالكامل!

الصفة الثانية ــ تتمثل بشخصية المهيوب الموهوب في موقعه: وكلاً من الصفتين غير متوافرتين لديه. وقد لاحظنا كيف كان يركض خلف الرئيس بوتين، وكان قد جاء زائراً، وهو يريد أن يكلمه وأحد الضباط يدفعه عنه. وقد شعرنا بانتقاص بالقدر، ممن يزعم أنه رئيس لسورية وهو على هذه الحالة من الضعة. ولذلك كانت علاقاته مضطربة وخاسرة. وسبب اضطرابها وخسارتها يعود لأسلوبه بالتعامل

فأما علاقاته الداخلية: فقد ترك السراق تسرح وتمرح في سورية من دون رقيب! وقدم الولاء على غيره، ولذلك نشط الوصوليون والانتهازيون، وتقدم المحتالون والمخادعون، فآل المآل إلى الانهيار الاجتماعي الذي كانت عليه سورية خلال حكم بشارالأسد.

وأما علاقاته الخارجية: فقد كانت على مَثَلِ الشعبيين(ارتماء بالأحضان) فقد ارتمى بحضن إيران، وإيران ما أدراك ماهي؟! نار حامية. وارتمى بحضن بوتين، وبوتين أشد ضراوة وأكثرخبثاً، من سابقه.

وباختصاركانت علاقاته وسياساته كلها خائبة. لقد استلمها وهي عامرة، وتركها وهي غامرة، تتجاوب في كل فجٍّ منها الأحداث الجسام، ويتوزعها الطغام واللئام. ولايزيد على أن يقول: تخلصنا من القاذورات ( يقصد المسلمين السنة) وسنبني مجتمعاً متجانساً ( يقصد ممن لفَّ لِفه ووقف في صفه من القتلة والمجرمين).

الثورة ضد النظام ومبرراتها:

في المثل الشعبي: (لانار بلا وقود) وفي المقابل في العرف الثوري: (لا ثورة بلا ثوار). وهذا يعني: أنَّ بين النار والثورة قرابة. ووجه القرابة: أنه مثلما: (عندما تندلع النار تأكل الأخضر واليابس، كذلك الثورة عندما تندلع تأكل الأخضر واليابس).

وعند السادة المفسرين بعض من ذلك. ففي تفسير ابن كثير ت774هـ صورة من ذلك. فقد أتى في أثناء تفسيره (حم عسق من سورة الشورى) على ذكر ما جرى في العراق سنة 1958م ومابعدها فقال في مطلع تفسير السورة: " فإذا أذن الله تبارك وتعالى بزوال ملكهم، وانقطاع دولتهم ومدتهم، بعث على إحداهما ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت" وفي الخبر تشبيه ما جرى بالنار. وتتابع الأحداث في العراق، وإلى سنة 2003م، وما بعدها تؤكد أن ما جرى كان قدراً من الله سبحانه وتعالى.

وما جرى في سورية، وهو يتزامن مع ما جرى في العراق، يؤكد أن ذلك ضرب من الابتلاء المحض، الذي يبتلى به البشر، وذلك على وفق السنن الربانية، التي أراد الله بها أن تكون مجس اختبار للناس كافة.

وسورية منذ مطلع القرن العشرين وإلى اليوم، كانت عرضة لاختلالات كثيرة، وهذه الاختلالات كانت واقعاً لفساد عامٍ. ولأخطاءٍ جرميةٍ، ولضررٍ لاحقٍ بالوطن والمواطنين معاً، وعند أهل العلم دل على ابتلاءاتٍ كبيرة، وهذه الابتلاءات تمثلت بالقضايا الآتية:

  • قضية الولاء:

كان ذلك مع مطلع القرن العشرين، وقد والوا الأجنبي، ودخلوا في طاعته، وقاتلوا معه الدولة العثمانية التي كانوا جزءاً منها. ولم يقيموا وزناً للنهي عن ذلك، أوالحذر منه، وهو بعض مما نهى دينهم عنه. بل عندما تحرك الجيش الفرنسي باتجاه دمشق كان منهم من سدد نيرانه على يوسف العظمة وأصحابه وأرداه قتيلاً هو وبعض أركان قيادته. وكان منهم من نثر الرياحين على غورو، ومن نحى البغال التي تجر عربته، وجرها بأكتافه إلى قلب دمشق! كل ذلك ترحيباً بالمخلص من حكم العثمانيين! الحليف الجنرال غورو! بل وزاد الطين بلة؛ أنه عندما أصدر أمره باستحداث جيش المشرق، لبى كثير منهم أمره، وبعض هذا الكثير، كان يقول: فرنسا أبي وأمي! وأبوه وأمه هذان، هما اللذان زرعا في أوساطه ثقافة الأقلية الطائفية، التي جعلته ضيفاً غير مرغوب فيه، في العالم كله!

  • قضية المسؤولية:

التطلع إلى المسؤولية، والعمل من أجلها، والتصارع عليها والتدافع والتعارك، فيه ضرر كبيرٌ.ووجه الضرر فيه أنه يكون دائماً مركب الوصوليين الانتهازيين، والمخادعين والمحتالين، من الذين إذا قيل لهم اتقوا الله، أخذتهم العزَّة بالإثم! يضعون شخصانيتهم أمام أعينهم، ولا يبالون بعد ذلك، كان ماكان من نتائج! ماداموا إلى الوصول أقرب منه إلى عدمه. والمصيبة تكمن في ذلك! فأية مسؤولية تجشمها المسؤولون السوريّون منذ غزت الجيوش الأجنبية بلادنا سنة 1916م، وبالتحديد يوم أطلق الشريف حسين من قصره في مكة أول رصاصة تجاه الثكنة العسكريَّة التركية، وقد كانت بمثابة الإيعاز ببدء المعركة. وأية مسؤولية بعدها؟! وقد كرت المسؤوليات ولم تتوقف! وقد تولاها أصحاب الذمم الوسيعة، التي تأكل الجمل وما حمل!

ولواستعرضنا السيرة الذاتية، لحاملي المسؤولية؛ من رؤساء جمهورية، ورؤساء حكوماتٍ، ووزراءٍ، وبرلمانيّين، وقياداتٍ عليا ووسطى ودنيا، وحشد من المحسوبين؛ ممن عارك عليها أو من أجلها، وذلك في سورية كلها، على الأصعدة الرسمية والحزبية والاجتماعية منذ سنة1920م، وإلى سنة 2020م، لتبين لنا حجم الكارثة، من قائمة المسؤولين الكبار والصغار، ممن تعاقبوا على المسؤولية، خلال قرن من الزمان، ولأدركنا أن هؤلاء جميعاً، يتحملون مسؤولية ماحدث، على أيدي من والوهم وناصروهم، وكانوا لهم أعواناً وأتباعاً، وجروا بفلكهم إلى حيث يجرون.

  • قضية الانتماء:

الانتماء له علاقة بأصل الخلق. ففي الكتاب العزيز، قوله تعالى: "وما من دابَّةٍ في الأرض، ولا طائرٍ يطيرُ بجناحيه، إلا أممٌ أمثالكم". وهذه خصوصية الخلق، والأمم تتمايز فيما بينها تمايزاً له علاقةٌ بما فطرها الله عليه من خصائص؛ من حيث نشأتها، وتكاثرها، وطرق حياتها. ويتفرد الإنسان بينها جميعاً، بما كرَّمه الله به من صفات، فجعله اجتماعيّا، وحفظ تكاثره. وفي القرآن: " وكذلك جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوأ". وبأصل الفطرة يكون التمايز والتعارف صاحبين، ولايفترقان إلا بنشاز في التصور أو السلوك، وعندها يتدهدى الإنسان من علِّيين الفطرة إلى سافلين النشاز. فيصبح عدائياً في علاقاته، تستهويه الجريمة، ويستسصرخه الخصام، وكأنهما ولدا معاً وفي رحم واحد!

وفي عالمنا الشرق أوسطي، أو فلنقل في سورية بخاصة مثال صارخ للنشاز الآثم الذي تستثيره الجريمة، ويستهويه الخصام، فينجرف في التيار، غير هياب ولا وجل! وقد أصبح ظنّ السوءِ مقدما، والقتل مسوغاً، وطرد الناس من بيوتهم، أوهدمها على رؤوسهم نهاية المطاف لجدل العلاقة بينهم وبين الآخر المسكين من شعبهم!

وبصراحة الكلمة: كان ما يجري في سورية خلال مئة سنة التي مضت تطبيقاً مسلكياً جادأً لما أراده غورو أو رسمه أوخططه أو أمر به من قبل! وبذلك انعدم الوازع الوطني والقومي والديني، وقد استعاضوا عنه بالأقلية الطائفية وبالشعوبية الفارسية وبألوهية بشار فكان ذلك دافعاً للجريمة ومسوغاً لها.

أما المساكين من أهل السنة ــ ونأسف للتخصيص ــ فالذين عدموا انتماءهم منهم استهلكوا كما تستهلك الأحذية، ولا يزالون يستهلكون، ومن دون توقف!

  • قضية الالتزام:

الالتزام: يُعَرَّفُ بأنه الوفاء بالتبعات، ويعرّف بأنه الصدق في المواقف، ويعرف بأنه الأمانة في العُهَدِ، ويعرَّف بأنه الإخلاص بالعمل، وفي كل ذلك يؤدي الملتزم ما التزم به من تبعات أو عُهَدٍ، وما أوكل إليه من عمل، وما وقف من مواقف، بشرفٍ ونزاهة، وبمنتهى الجد والمثابرة، وبعيداً عن المستجدات، التي قد تعوِّق أو تُعَرْقِل. ونقيض ذلك اللاملتزم، المقطوع العهد والعلاقة، وقد يُعَرَّفُ بالمنبت الذي يُقال عنه: إنه لاأرْضاً قطع ولاظَهْراً أبقى! وفي كل الأحوال يمثِّل عاهة تحدث نكتة في النسيج الاجتماعي، وإذا أتبعت هذه النكتة، بأخرى وأخرى وأخرى ،تصبح ظاهرة، وهذه لاتلبث أن تعمَّ، فتصبح بمثابة الوباء الذي يعمُّ الوطن جميعاً، فيسهل على المغامر والمتآمر أن يرتع فيه، وأن يحقق فيه مآربه، دون أن يحتجَّ عليه محتجٌّ أوينهض في وجهه ناهض!

و(الوطن السوري) وهو بعض من المنطقة الشرق أوسطية، أو من العالم العربي السيِّئ الواقع والسمعة، والذي أصبح رمزاً للتخلف، وهوجزءٌ منه؛ تعرَّض منذ سنة 1920م إلى سنة 2020م لأسوأ ظاهرة في تاريخه القديم والحديث! وقد عقَّه الأبناء، وخذله الأشقاء والأصدقاء، ولم يفلح الغيارى من أبنائه بالدفاع عنه! وقد كان ينتقل من سيِّئ إلى أسوأ منذ مأساة ميسلون، واستقبال غورو المشين، واستحداث جيش المشرق، والأمورلا تبشر بخير أبداً! ورغم انبعاث ما يسمَّى بالثورة السورية الكبرى، وفي مقدِّمتها ثورة هنانو وما تبعها من تأسيس الكتلة الوطنية، التي تحملت تبعات النضال ضد الفرنسيين، وقد كان دورها مشرّفاً؛ إلا أن ذلك لم يجدها فتيلاً! ثم أعقبها انكسار مريع لم تنهض منه إلى اليوم! فبعدها؛ وهذا هو الواقع! انشقت الكتلة الوطنية، وتحولت إلى حزبين لاوطنيين هما: حزب الوطن وحزب الشعب، اللذين يتجسّد فيهما جشع الارستقراطية المتعالية حتى على نفسها، ثم أعقبها انكسار في الوطنية بعامة! ونشاز في النضال الوطني، وشرذمة غيرمنتهية نتج عنها:

  • رجعيون وتقدميون. ويقصد بالرجعيين الإسلاميين، وبالتقدّميين العلمانيين اللادينيين الذين كانوا يكنون عدم احترامٍ للإسلاميين ويحاولون حرمانهم من حقوقهم، والحيلولة دونهم ودون فرص العيش الكريم في الوطن الذي يعيشون فيه.
  • واشتراكيون ورأسماليون إمبرياليون: ويقصد بالاشتراكيين الانقلابيين على المجتمع بالثورة الاشتراكية. وبالرأسماليين الإمبرياليين طبقة الأرستقراطيين التي تكتنز غنى فاحشاً، وتدين بالتبعية والولاء للأجنبي بعامة.
  • ووحدويّون وانفصاليون: وهذان الصنفان من المشرذمين أنتجتهم ظروف الوحدة والانفصال مع الشقيقة مصر ما بين1961م و1963م.
  • ويمينيون ويساريون. وقد أنتجتهما ظروف حزب البعث بعد الانقلاب على أمين الحافظ وإقصاء التيار القومي سنة 1966م.
  • وقِطْرِيون وقوميون: ويقصد بالقطريين تجمع الطائفيين الذين وصلوا إلى السلطة بعد الانقلاب على الحافظ، وبالقوميين الجناح السني، في الحزب والدولة.
  • وصلاحيّون وحافظيون. وينسب الصلاحيون إلى صلاح جديد، والحافظيّون إلى حافظ أسد وكانوا بعد الانقلاب على أمين الحافظ سنة 1966م، وتنحية ما يسمّى بالقيادة القومية، قد توزعوا الأدوار فيما بينهم ؛ فأصبح صلاح جديد الأمين العامَّ المساعد لحزب البعث، وحافظ أسد وزيرا ًللدفاع. وفي 16/11/سنة 1970م، قاد حافظ أسد عبر ما يُسَمَّى بالحركة التصحيحية انقلاباً ضد صلاح جديد، ومن معه من قيادات رسمية وحزبية وأودعهم السجن. وكان صلاح جديد ــ صادقاً كاذباً ــ قد تخذ من الآشتراكية العلمية منهجاً ومن حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، في الوقت الذي انشغل حافظ بالجيش والقوات المسحة، فتمت له الغلبة، والقفز إلى رئاسة الجمهورية.وقد كانت هذه الحركة بالنسبة للطائفة نهاية مرحلة وبداية أخرى. ومما يذكرأن تجار دمشق أمّلوا خيراً بالنظام الجديد فأقاموا وليمة لرفعت الأسد في حي الميدان في دمشق كلفتها في ذلك الوقت مليون ليرة سورية وفيها ألقى رفعت كلمة بشرهم فيها بالاقتصاد الحر والمفتوح، فالتقت على الطاولة فرحتان:فرحة العلويين برئاسة الجمهورية، وقد كانت من خصوصية الأكثرية السنية.وفرحة الداعين إلى الوليمة من أحفاد بغال غورو وأنسبائهم وأقربائهم، ممن أسال لعابهم وعود رفعت الخلبية وقد كانوا بئس طليعة قوم بسبب علاقتهم بذلك السارق الكبير. وقد كانت تعني وليمتهم له مباركتهم برئاسة الجمهورية.
  • وأكثرية وأقلية: والممقصود بالأكثرية السنة الذين تبلغ نسبتهم الاجتماعية 79%. والأقلية التي تبلغ نسبتها 21%. وهي مكونة من العلويين والدروز والإسماعيليين ومعهم المسيحيون والأرمن واليهود.

ومن هذا الإحصاء الدقيق، لحركة الانشطار الأفقي والعمودي، الذي طال العمل الوطني كله، يتبين لنا حجم الدمار الذي طال الوطن والمواطن، والذي تسبب بأعنف ثورتين في التاريخ السوري الحديث:

  • ثورة الثمانينيات. (1975ــ1985م) وقد امتدت بها الأحداث إلى ما بعد ذلك. بل عُدَّت بمثابة الثورة المستمرة، وذلك بسبب الانكسارات الوطنية، التي كانت عميقة وصارخة.
  • ثورة الشعب السوري، التي كان مبدؤها في 15/3/2011م. ولاتزال مستمرة، وقد نتج عن الثورتين:
  • عدد من الشهداء، الذين قضى أكثرهم نحبه؛ رمياً بالرصاص كما حدث لشهداء مجزرة تدمر سنة1980م، أو على أعواد المشانق بعد محاكمات صورية في السجون والمعتقلات، أوفي مجازر عامة، كما حدث في الثمانينيات، وبعد 2011م وقد زاد عدد الشهداء على مليون، ومازالت المعركة مستمرة والشهداء إلى مزيد!
  • عدد من المعتقلين الذين اختطفهم شبيحة النظام. وأكثرهم لاقى حتفه على يد الزبانية، والمتبقين قد يقدر بالمليون معتقل أو يزيدون!
  • عدد من المهاجرين الذين (الآن) يقدرون بالملايين، وبعضهم امتدت هجرته لأكثرمن أربعين سنةً كـ (كاتب هذه الأحرف) وقد تنقل بين سورية والعراق واليمن وتركيا، وقد آلى على نفسه ألا يعود إلى الوطن إلا وقد تحرر من براثن الطغاة.و بعضهم ارتقى شهيداً ــ بعد أن غادر وطنه طفلاً وعاد إليه كهلاً ــ وهو في الأربعين من العمر، ومثله أبو العز الفارس، عبد الحميد الحاج مصطفى (الشهيد المثال في ملحمة القرن) رحمه الله.

 

الشهيد المثال (الفارس أبو العز) رحمه الله:

سبع سنواتٍ مضت، على استشهاد أبي العزالفارس، ونحن نقدم رجلاً ونؤخر أخرى! ملتاعين لفقده، ومحتارين من بعده، وقد طالت المدة! أن نكتب عنه ما نعرف، وفي ذلك ذكرى وعبرة؟ أم نوكل ذلك للشعر، وهو مركب المحزونين؟

وشاء الله؛ أن تطلَّ علينا ملحمة القرن، وهي عالم من ذكرياتٍ ومشاعرٍ، ومن ألمٍ وحسرة وقلقٍ وحيرة، لما كان أوحدث!

وأبوالعز الفارس في ذكراه؛ بعضٌ من هذا الذي كان أوحدث، وما كان أو حدث ــ قل أوكَثُرَ ــ أزمة السوري المعاصر، الذي توزع مصيره بين شهيدٍ أو أسيرٍأوشريدٍ؛ يبحث له عن مكانٍ آمنٍ تحت الشمس!

أبوالعز الفارس:

هو عبد الحميد بن عبد العزيزالحاج مصطفى. والعز نسبة إلى ولده عبد العزيز، وقد تكنى به. والحاج مصطفى هوالجد الرابع لأبي العز، وجده الأول محمد الحاج مصطفى لقبه (الأغا) وبه عُرٍفَ أبناؤه من بعده. أما جده الثاني، عبد الحميد الحاج مصطفى، فلقبه (أبوسليم). وهو من مقاتلي الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وممن خاضوا معارك (شناق قلعة) التي دارت رحاها بين الدولة العثمانية واليونان. وقد عاد من الحرب معوّقاً بعد إصابته، فقضى حياته قعيد فراشه.

ولد أبوالعز عبد الحميد الحاج مصطفى في قرية (منغ) التي تتبع إدارياً منطقة أعزاز ـ حلب، في31/8/ من سنة 1974م، لأب كان مديرا لمدرسة القرية، وأحد الذين نذروا أنفسهم من أجل قضيتهم. فخرج من سورية وهو في السابعة والثلاثين ونيِّفٍ من العمر، وتنقل بين سورية والعراق واليمن، وأخيراً حط رحاله في تركيا ولايزال فيها. وأما أمه فلحقت أباه بعد سنة من خروجه، وكانت معه على وعثائها وضرَّائها ولاتزال كذلك.

أما طفولة عبد الحميد، فقد كانت حلوة نضرة، وكان يودِّع عاماً ويستقبل آخر، وليس فيها ما يعكر، إلا أن ثورة الثمانينات، التي كانت قد بدأت مع مطلع سنة 1975م، قد أخذت تتسرب إلى نفسه، وكذلك الاغتراب، وقد أخذ من نفسه كل مأخذ وقد كان له مواقف تدلُّ على شخصيته نذكر منها على سبيل المثال

  • الموقف الدال على ذكائه المبكر:

في سنة 1978م عين في مدرسة منغ معلِّمتان علويتان، هما زينة إبراهيم من الحميدي قرب طرطوس، وسحر عمران من برج صافيتا، وكانتا مع حجم الخدمات التي كانت تقدم لهما،؛ تكنان في داخلهما هاجسا أمنياً، يقربهما من طبيعة رجل الأمن.

وفي ذات يوم استغلت سحر حضور عبد الحميد عبد العزيز الطفل ابن الأربع سنوات ونيّفٍ فأخذته إليها، وأرادت أن تقتنص أباه بمعلومات تحصل عليها منه! فبالغت في إكرامه؛ لقد رحبت به أولاً، ثم أخذته بحضنها، وداعبته ولاعبته، وأعطته شيئاً من الحلوى، ثم قالت له: عبدو حبيبي أنتم ما حزبكم؟ ــ وكان يدلَّع بعبدوـ فأجابها: نحن بعثيَّة. فغضبت عليه، وأنزلته من فوق رجلها، وقالت له بأسلوب زاجر: اذهب إلى أمك. فلم يذهب إلى أمه، وإنما ذهب إلى أبيه، وقال له: بابا ذهبت إلى المدرسة، فأخذتني المعلمة سحر، وأجلستني على رجلها، ثمَّ أعطتني حلوى، ثمّ قالت لي: عبدو ما حزبكم؟ فقلت لها: نحن بعثية. ثم أتبع: بابا ألسنا نحن بعثية في المدرسة وإخواناً في البيت؟ قال ذلك ولم يكن صراحة لُقِنَ شيئاً منه!

  • الموقف الدال على شهامته واستعداده الفطري للتضحية:

لم تطل طفولة عبد الحميد في قرية منغ، بل ارتحل مع أمه التي لحقت بأبيه إلى العراق، وهو في الثامنة من العمر، وقد شاء الله له، أن يمكث فيه ثلاث عشرة سنة ونيِّفاً. وخلال هذه المدة الطويلة، كانت له محطاتٌ ومواقفٌ تذكر، وقد دلل فيها على شهامة وشجاعة نادرتين، ومنه أدب الصحبة، والاستعداد للتضحية! ومختصر واحدة منها: أنه كان مع زميل له يسيران على جانب الطريق الذي كان يمرُّ قريباً من الحي الذي يسكن فيه ــ حيِّ الاقتصاديين ــ ويتقاطع مع طريق المطار، الذي يخضع لحراسة أمنية مشددة، ومن الموافقات أنه كان إلى جانب الطريق نار تشتعل بقوة، وفجأة تتوقف قبالتهما سيارة عسكرية، وبعد تحقيق سريع، تأخذ السيارة صاحب عبد الحميد، بعد اتهامه بإشعال النار، إلى مقر الأمن الخاص!

كان الحدث بالنسبة لعبد الحميد ابن السبع عشرة سنةً مفاجئاً! لماذا يؤخذ زميله إلى الأمن الخاص؟ وما علاقته بالنار؟ وما النتيجة؟ والأمن الخاص الداخل إليه مفقودٌ! والخارج منه مولود! هذه الأسئلة وغيرها جالت في خاطره، وفجأةً يستقلُّ سيارة إلى بوابة الأمن الخاص في الجادرية، ويطلب مقابلة الضابط.

لم يتمهل الضابط، وقد كان الأمر بالنسبة له مفاجئاً، وقد كان من طبيعة المكان ألا يقصده أصحاب الحاجات، وفجأةً وجد نفسه أمام عبد الحميد وجهاً لوجه!

  • ماذا تريد؟
  • سيارة الأمن، أخذت صاحبي بتهمة إشعال النار على جانب الطريق.
  • وأنت لماذا جئت؟
  • نحن لم نشعل النار
  • والمقصود؟
  • أريد أن تطلقوا صاحبي. إنه لم يشعل النار.

عند هذه. أراد الضابط أن يتحقق من شخصه، فطلب هويته، فلمَّا عرف أنه سوريٌّ، قال له: أنت سوريٌّ وهذا عراقيٌّ! قالها متعجّباً بصيغة السؤال؟ فأجابه رحمه الله: نحن إخْوَانٌ. فامتلأت نفس الضابط إعجاباً بالفتى عبد الحميد، فقال له: تذهب إلى بيتك وهو يلحق بك فوراً. وفعلا ماكاد يصل إلى بيته حتى كان صاحبه خلفه، وفور دخول الفتى العراقي، قال لأبي عبد الحميد: عمي لو لم يلحق بي عبد الحميد، لمكثت في سجن الأمن بضعة شهور. فأجابه أبو عبد الحميد أنتما أخوان.

  • المواقف الدالُّ على بطولته:

ودَّع عبد الحميد العراق، خلف أبيه، الذي عيّن متعاقداً مع جامعة ذمار في اليمن، ليكون طالباً في كلية التربية منها، في قسم اللغةالعربية. وبعد تخرُّجه عُيِّنَ متعاقداً في محافظة إب، في مدرسة الدليل الثانوية منها، فاشتهر فيها؛ بمسلكيته وبتدريسه.

كانت المدرسة تحفل بجنسيات عدة من المدرسين ــ وهذه هي حال التعليم في اليمن يومئذٍ ــ وأكثرهم عدداً العراقيون، الذين ــ كما قال أحدهم ــ يشغلهم معرفة موضع دفن رأس (الحسين عليه السلام)عن معرفة رأس الرجاء الصالح في جنوبي أفريقيا ــ وكان رأي الأستاذ عبد الحميد أن هذه فتنة، ولها تأثيرها السلبي، والطلاب أمانة في أعناق معلميهم. وقد ثارت ثائرته عندما وجدهم يستخِفُّون بالخليفة الراشد عثمان، وبأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهم، فوقعت الواقعة بينهم، وانقض عليه أربعةً منهم كالذئاب الكاسرة يريدون قتله. ويفاجئون ــ وعلى ذمة من زكاه على الساحة السورية أنه يعدل ألفأ ــ يصرخ بهم بصوته المرعب وينقض عليهم انقضاض الأسد الهصور، فيهرب الجمع منه باستثناء واحدٍ منهم تُرِكَ مضرّجأً بدمائه في باحة المدرسة. وفي المخفر عندما سأله الضابط لماذا ضربته؟ أجابه بوضوح، وبشجاعة صاحب الموقف، لأنه سبَّ الشيخين؛ أبابكرٍ وعمر رضي الله عنهما.

  • المواقف الدالة على صدقه وأمانته وقد تحول إلى (رجل الموقف):

كانت إطلالة الربيع العربي لعبد الحميد كأنها الميقات! فقد تزوج وأنجب أربعة أولاد، هم على التوالي: عبدالعزيز ومحمد وخالد وأحمد. وأنهى الماجستير على رسالته الموسومة ب(المستدرك على معاني القرآن وإعرابه بين الفارسي والزجاج) وفيما كان يستعدُّ للدكتوراة، أحرق العزيزي نفسه في تونس، وفرَّ ابن علي مذعوراً وتبعه القذافي وقد طالته حراب الثائرين، ولهج بخبر الربيع العربي الثواروالخبار، من أعداء وأصدقاء.عند هذه ضبَّ عبد الحميد أوراقه وأوقف مشاريعه الشخصية وأعلنها مدوية: (لادكتوراة قبل النصر). ولم يتوقف بعدها!

نشط أولاً في (الدعم الثوري ــ إغاثة وجمع تبرعاتٍ) وحين حمي وطيسها،غادر اليمن إلى سورية فلحق بثوارها في قرية منغ، وخاض غمارها في معارك المطار، في مسقط رأسه وحيث ملاعب طفولته، في منغ شرارة الشمال، كما عرَّفها الثُّوار أنفسهم، ثم انتقل إلى حلب، فعيِّن فيها من قبل الفصائل الثورية، مسؤول أمن الشيخ نجار(المنطقة الصناعية) فكان له فيها مواقف تذكر؛ فهو أولاً تحرّز من السرق واللصوص، الذين كان كثيرٌمنهم يندس بين الفصائل بتوجيه أمني من مخابرات النظام، فكانوا يكبرون على الحاجة ثلاثًاً ثم يحللونها. لقد انتبه لهذه الظاهرة فأحدث للسرق واللصوص سجناً خاصاً احتجز فيه أكثر من خمس مئة متَّهمٍ. كما أنه تحرَّز من مزالقهم، ومن سطوة المال، الذي كان يسيل لعاب السرق، فاتخذ من الأمانة والعفة والنزاهة حصناً له. لقد كان رده على أحد أصحاب المعامل، وقد عرض عليه أن يعطيه إحدى سياراته الحديثة: (عمي تسلم لك سيارتك، أنا أخدمك بعيوني). وكان رأيه: (أن مقاتل الثوار في قبولهم الهدايا واستحواذهم على أموال الآخرين).

لم تدم مهمته في الشيخ نجار، وقد كان يفضِّل الميدان على سواه، فعاد إلى ميادين حلب، فكان له فيها صولات وجولات، وأشهرها تلك التي وقعت في المخابرات الجوية، وقد كان من العناصر التي اقتحمت المبنى، وتمكنت من السيطرة شبه الكاملة عليه. وبعد المعركة أرسل إلى أبيه في اليمن يقول له:

(يا والدي لقد دخلنا الجوية بعد تفجيرها ولما صرنا في داخلها، وقد كدنا نحكم سيطرتنا عليها، جاءنا الأمر بالانسحاب، فرفضنا فقطعوا عنا الذخيرة، ثم رفضنا أيضاً فقطعوا عنا الغذاء، مما اضطرنا إلى الانسحاب منها!

كانت معركة الجوية بمثابة المعركة قبل الأخيرة بالنسبة له.فبعدها مباشرة، عُيِّنَ قائد عمليات قاطع النيرب وكرم الطرَّاب. وبعدها على ما يبدو دخل في دائرة المتابعة، من قبل مخابرات النظام، الذين استطاعوا أن يرصدوا تحركه بدقة عن طريق عملائهم، ممن تقرَّبوا منه والتصقوا به فأصابوا منه مقتلاً، في الساعة الخامسة وأربعين دقيقة، من عصر يوم الجمعة، في 20/6/ من سنة 2014م.


 

  • مَطْلِعُ الألفين

لقد كان مطلع القرن العشرين كارثياً! لشعب لا يزيد عدد سكانه على المليونين إلا قليلاً، وقد تأذنه أعداؤه بحربٍ حقيرة وشريرة، وبكل مافي الشرِّ من خُبثٍ ولُؤم واحتيال. وزاد الطين بِلَّة، أن المؤتمرالصهيوني الذي عقد في بازل في سويسرا سنة1897م، استهدف سورية وشعبها مباشرة. ومن واقع تلك الأيام العجاف، التي كانت حبلى بكلِّ أصناف الشرِّ، التي استلهمت من واقعها المرّ، هذه الملحمة.

يامَطْلِعَ الألْفَينِ والعِشْرينا

 
 

كَرَّتْ علَينا العادياتُ مئينا

تَتَرى رَزايانا، وبعدُ كُرورُها

 
 

زادَ الرَّزايا و البلاياْ فينا

لله مُؤتَمَرٌ تآمَرَ جَمْعُهُ

 
 

يوماً تَآمُرَعُصْبَةٍ باغينا

فيه ارْتَأوْا أنْ نُسْتَباحَ وَنَنْتَهي

 
 

وَنَصيرَ مَغْنَمَةً لِمُغْتَنِمينا

حتى إذا دارتْ رَحاها وانْبَرى

 
 

الأعْداءُ لِلأعْداءِ مُقْتَتِلينا

تَخِذوكَ بعْضَ خَصاصِهِم يا مُسْلِمُ

 
 

وَتَفَنَّنوا في الخَصْمِ مُجْتَمِعينا

قد أَضرموا النّيرانَ في بُلْدانِنا

 
 

وَبِحِقْدِهُمْ زادوا الضِّرامَ عَليْنا

لم يُنْصِفوا أو يعْرِفوا حقاً ولم

 
 

يَتَوَرَّعوا عن فِعلِ موتورينا

تَـتْرى جرائِمُهُمْ وَيَتْرى حِقْدُهُم

 
 

وَبِكُلِّ أشْكالِ الأذى جاؤونا

قد كانَ منهم وهْوَ يُتْرَعو حِقدُهُ

 
 

مِنْ فِعْلِ جُرَّامٍ ومِنْ جانينا

     

**      **        **

 

  • يا يوم دخل الأجنبي بلادنا

(يوم الاحتلال) كان مخيباً لآمال أولئك الذين أملوا خيراً بصداقة ثعبان! ولأولئك الذين دسوا رؤوسهم في الرمال، دون أن يحسبوا عواقب ذلك! فدهمهم جهاراً وفي وضح النهار، وأعمل فيهم سكينه، وعدهم من بعض غنائمه. ذلك هوالمحتلُّ الفرنسي الذي دخل سورية وبين يديه مشروع دمارها، ليس كما حدث سنة 1920م، وإنم كما حدث ويحدث سنة 2020م، وما قبلها وما بعدها بكل تأكيد!

يايومَ داسَ الأجنبيُّ تُرابَنا

 
 

ما كانَ حَقاً مُنْصِفاً وأمينا

بل كانَ مأساةً ومَحْضَ جَريمَةٍ

 
 

وبه سُلِبْنا عِزَّنا وَخُزينا

مِنْ عَهْدِ (غُورو) والسِّياسةُ خطَّةٌ

 
 

خطَّت لِنَكْبَتِنا وقَتْلِ بنينا

خَطَّتْ لِشِقْوَتِنا بِفِعْلٍ آثِمٍ

 
 

واسْتَمْرأتْ دَمَنا وما يؤذينا

في( بالَ ) إذ قالوا بِتَمْزيقِ الحِمى

 
 

وَإثارةِ النَّعَراتِ والنَّعِرينا

هُمْ أوْغَلوا في حِقْدِهِم وَعِدائِهِم

 
 

وبِكُلِّ أشْكالِ الأذى جاؤونا

نَبَشوا تِراتِ الغابِرينَ وصَيَّروا

 
 

دُمَنَ الغُلاةِ مناهجَ الغالينا

شَرْعاً وقانوناً ومُعْتَقَداً لنا

 
 

غًصْباً وبالإرغام مُعْتَسِفينا

هم أحْدثوا مابيننا حَدَثاً لهُم

 
 

دقُّوا به في قلبنا إسْفينا

ما بين فُرْسانِ الحِمى وحُماتِهِ

 
 

وبهِمَّةٍ ما بين من خانُونا

     

 

3) ماكان مقتل يوسف

ما كانت (المؤامرة) لتمرَّ من دون خيانة ومن دون جريمة ومن دون تآمُر. من قبل من تساوى أمام أعينهم الأبيض والأسود، أو الظلمات والنور! الذين وجد فيهم الأجنبي ضالته، فاستعملهم، وقدمهم، وأسبغ عليهم من فضلاته وفتاته. ثم يوم الملحمة كانت المأثمة! بأن سدد الرصاص إلى صدر يوسف العظمة أولاً!

ما كان مَقْتَلُ يُوسُفٍ وصِحابِهِ

 
 

حَدَثاً يَمُرُّ ولا يَزيدُ شُجونا

بل كانَ مَقْتَلُهُ الجِراحَ مُمِضَّةً

 
 

ومصائباً لمَّا تَزلْ تُبْكينا

وخِيانةً قد لَطَّختْ أحْداثُها

 
 

بالعاروجهاً أسْوَداً تنينا

أُسْدٌ بِمُعْتَرَكٍ تَثورُ حَميَّةً

 
 

وتَوَدُّ رَدَّ جَحافِلِ الغازينا

وجَحافِلٌ تَتْرى طَلائِعُ حِقْدَها

 
 

مِنْ خانَةِ الأحْقادِ مُنْبَعَثينا

   
   

أجْنادُغُورو تَنْتَخي لِجَريمَةِ

 
 

وَيَؤزُّها الحِقْدُ الدَّفينُ عَلَيْنا

هُوَ ذاكَ فينا مُصْلِتاً سيف الأذى

 
 

يَقْتاتُ من دَمِنا ويولِغُ فِينا

من حَوْلِهِ سودُ الوُجوهِ تَحوطُهُ

 
 

وبساحِنا الإجرام مُزْدرِعِينا

جُرْمٌ تَكادُ لهُ السَّماءُ تَشَقَّقُ

 
 

وَتُزَلْزَلُ الدُنْيا على الجانينا

فَبِقَتْلِهِ دَخَلَ الغُزاةُ بِلادَنا

 
 

وَبِقَتْلِهِ عمَّ البلا ودُهِينا

وَبِقَتْلِهِ لَفَّتْ حبالُ جَريمَةٍ

 
 

أعْناقَنا وبِفِعْلِ مَوْتورينا

كادوا لِيوسُفَ وانْبَرَوْا لِرِجالِهِ

 
 

قَتْلاً وقد كانوا الألَدّ َضَغينأً

         

 

4) غورو يغير على البلاد

كان من سياسة غورو، إنشاء ما يسمَّى بجيشِ (المشرق). وإذا كان من طبيعة منشئي الجيوش، أن يبحثوا عن صفوة الصفوة، فإن غورو قد رسم لجيش المشرق، أن تبحث اللجان المختصّة، عن (النطيحة والمتردية وما أكل السبع) ممن عدموا ولاءهم وانتماءهم، وقبلوا أن يكونوا أجناداً مجندة، لغزاة مغيرين؛ كل همهم قتل شعبهم!

(غورو) يَغيرُ على البلادِ بِخُطَّةٍ

 
 

قد خَطَّطَ الجانون والباغونا

تَدْعو إلى لَمِّ الشَّواذِ ومنْ هُمُ

 
 

شُذَّاذُ آفاقٍ ومُنْحَرِفونا

وتُجَمِّعُ الفجَّارَ والدُّعَّأرَمن

 
 

أعْرابِ أوطانٍ وَمُجْتَلَبينا

وإذا بِهِم جَيْشاً يُجَيَّشُ في الحِمى

 
 

يَعْتامُ بالجانينا والباغينا

وإذا بِهِمْ إلْباً علينا مُطْلَقاً

 
 

وبِأمْرِهِ قد جَرَّعونا الهونا

   

وبأمْرِهِ صاروا الجُنودَ وعلَّقُوا

 
 

رُّتَب الفخارِ ومُكِّنوا تَمْكيناً

وبأمره هم قَتَّلوا الأبناء في

 
 

سُوح النِّضالِ وروَّعوا الأهْلينا

وبِأمْرِهِ زَرَعوا لهُم في أرْضِنا

 
 

زَرْعاً مِنَ الباغينَ والجانينا

مِمَنْ يقومُ بِأمْرِهِم؛ خَدَّامَهُم

 
 

ودعِيَّهُم والحاقِدَ المَلْعونا

       

 

5) فإذا بنا كمَّاً

إذا أردت أن تدَمِّر أمة، وهي تمرُّ بظروفٍ تاريخية صعبة! كأن تُغزى في عقر دارها؛ فأشع بينها الشخصانية الشللية، والقبلية المناطقية، ونبِّهْها إلى الرأي والرأي الآخر، واجعل الحزبية وسيلتها المستعان بها، إلى كل ما تتطلَّع إليه من أهداف. وعند ذلك سيكون الفشل حليفها، وسيتهضمها الأضعف منها شأناً وقدراً، ولن تفلح أبداً.

فإذا بِنا كَمَّاً يُبَعْثِرُهُ الهوى

 
 

وتَجَمُّعَا لايَسْتَقيمُ مَهيناً

كلٌ على لَيْلاهُ يَنْدُبُ حَظَّهُ

 
 

وَيَبيتُ تَشْغَلُهُ الهُمومُ حَزينا

يَدْعو يَقولُ يُريدُ يَزْعُمُ أنهُ

 
 

وبِزَعْمِهِ وَبِقَوْلِهِ مَفْتونا

وإذا بِأحْزابٍ تَطِلُّ بِرأسِها

 
 

وبِألْفِ ألفِ مَصيبَةٍ تُدْهينا

وإذا بِأعْلامِ الرِّجالِ بَيادِقٌ

 
 

مَصْفوفَةٌ قد وَظَّف الباغونا

وإذا بساحاتِ النِّضالِ مَعارِكٌ

 
 

ما بينَ مُتَّهَمٍ ومُتَّهَمِينا

وإذا قَضايانا وَخالِصُ أمْرِنا

 
 

ما بينَ كَذَّابٍ وكَذَّابينا

وإذا بِنا نَهْبَ المَصائبِ جُمْلَةً

 
 

ما بينَ نَهَّابٍ ونَهَّابينا

كُلٌّ على ما كانَ يَنْدُبُ حَظَّهُ

 
 

وَحُظوظُهُمْ حِكْراً على الجانينا

       

 

6) ماكان حقَّاً أن فرنسا

من المسائل السرية التي لم يبح بها أحد (مسألة الاستقلال). ذلك أنه كان استقلالاً مشروطاً بشروط أربع:

أولاها ـ أن ينتقل جيش المشرق بمراتبه وأفراده، إلى عهدة الدولة السورية.

ثانيها ـ تكون رئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس الوزراء، من خصوصيَّة السنة.

ثالثها ـ الحكم في سورية ما بعد الاستقلال برلماني، ولا يسمح للرجعية بالوصول إلى الحكم.

رابعها ـ تستمر سورية بالتزاماتها وتعهداتها، ولا تخرج عن دائرة ما اتفق عليه. والملاحظ أنَّ ما بين الاستقلال سنة1946م وبين وصول حافظ أسد إلى رئاسةالجمهورية سنة 1971م مدة خمس وعشرين سنة وقد وجدنا على صفحته في النت: انه جاء ليتمَّ المشروع الفرنسي!

وهذه الشروط مجتمعة تحققت في سورية خلال ربع قرن من الزمان. وكان الله في عون قاصري النظر!

ما كان حَقَّاً أنْ فَرَنْسا غادَرتْ

 
 

أوأنَّ مَوْطِننا استقلَّ يَقِينا

   

بل كانَ ميقاتاً لِمَوْلِدِ طُغْمَةٍ

 
 

وعِصابةٍ مِنْ مَعْشَرٍ طاغينَا

مِمَّنْ تَعَلَّقَ حَبْلُهُمْ بالأجْنَبي

 
 

وبِحُضْنِهِ رُغْمَ الخَلاصِ رُمينا

أفعى تُطِلُّ وجائحاتٌ ضرُّها

 
 

وضِرارُها قد شاعَ في الأهْلينا

فَهْوَ اخْتِلافٌ وهْوَ رأيٌ فاسِدٌ

 
 

وهْوَ اتِّباعُ المُعْتَدينَ عليْنا

من شرَّقوا أو غَرَّبوا في أمرِهِم

 
 

وخيارُهُم أبَداً مع الباغينا

سَبْعٌ وَعَشْرٌقد خَلَوْنَ وبعْدُ في

 
 

حَيْصٍ وَبَيْصٍ والبَغِيُّ دَعِينا

أحزابُ ماعَرَفَتْ تُجاهاً واحداً

 
 

أبَداً وما كان الطَّريقُ مُبينا

حتى تأذَّننا العَدُوُّ بَفِعْلِهِ

 
 

وبِفِعْلِهِ زادَ البَليَّة فينا

       

 

7) هو ذاك يوم الانقلاب

الانقلاب من حيث المصطلح: التغيير المفاجئ للسلطة بالقوة المسلحة. ويكون مركب الوصوليين والانتهازيين، والمغامرين والمتآمرين، والحاطبين في ليل، والمغرر بهم من الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد يكون الطريق إلى التغيير، بالرغم من كل ما يكتنفه من مخاطر. وهؤلاء جميعا لايخرجون عن خانة الانقلاب؛ بل ويقاتلون ويموتون من أجل أهدافهم، وانقلاب البعث الطائفي لا يخرج عن هذه الشرنقة.

هُوْذاكَ يومُ الانْقِلابِ وماجَرى

 
 

في صُبْحِ يومِ الانْقِلابِ مُهينا

قد كانَ مِيلاداً لِبَعْثِ رَذيلَة

 
 

وتَجَمُّعاً لِرذائِلِ الطاغينا

وَلِفِكْرَةٍ عَمِلَ الطُّغاةُ لِبَعْثِها

 
 

وَلِنَشْرِها ما بينَ ظَهْرانينا

وَلِبَعْثِ جيلٍ أهَّلوهُ لِحَمْلِها

 
 

وَلِحَمْلِها هُمْ لَقَّنوا تَلْقينا

وِإذا بنا في مَهْمَهٍ من فِعْلِهِمْ

 
 

نَشْقى ولانَرْقى ومُنْخَذِلينا

وَلِمَعْشَرِ الباغين والطاغينَ

 
 

الكُلُّ صِرْنا اليَومَ مُتَّبِعينا

حُكْمَ الأذلينَ الذين اسْتَنْسَروا

 
 

وَبَغَوا بجائحَة الزمانِ عَلَينا

مِمَنْ بِفِعْلَتِهِم ومَحْضِ عدا ئهِم

 
 

قد جَّرعونا الصَّابَ مِنْ غِسْلِينا

إذْ مَكَّنُوا ما بَيْننا مأجورَهُم

 
 

وَدَعِيَّهُمْ وّالأشْرَسَ التِّنِّينا

فإذا به العُدْوانُ يُفْرِغُ حِقْدَهُ

 
 

وبِحِقْدِهِ كَرَّ البَلاءِ عَلَيْنا

في كُلِّ بيتٍ رِنَّةٌ ومَصِيبةٌ

 
 

قد روَّعتْ مُسْتَضعَفاً مِسْكينا

وبِكُلِّ دارٍ مُشْكِلٌ لا ينْتَهي

 
 

وجَريمةٌ قد قُنِّنَتْ تَقْنِينا

         

 

8) تصارع الأقران

الصراع في سورية بعامة؛ مركب ركبه الشطار من الساسة في سورية ما بعد الاستقلال! وهوالذي أدَّى بعد إلى ما حلَّ في سورية من دمار. وذلك بسبب قصر نظرهم، وثقافتهم الوافدة وقد أعمتهم، عن حقيقتين:

الحقيقة الأولى ـ حقيقة الإسلام، الذي يعد مشروعاً ربانيا، أريد به صلاح البشرية جمعاء، وهو محفوظ من الله سبحانه.

الحقيقة الثانية ـ تتمثل بالتجديف ضد الدين، وبالإلحاد وبالعلمانية المعادية للدين. وهذه الأفكارمجتمعة، وهي أشبه بالسبة! وقد أريد بها تفكيك المجتمع المسلم، وإضعافه، وجعله غير قادر حتى على الدفاع عن نفسه، تجاه الأزمات المستجدة، التي قد تعصف به مستقبلاً.

وقد عد نشوء الأحزاب العلمانية التي اتخذت من عدائها للدين أسلوباً لها في الحياة، ومركباً من أجل تحقيق أهدافها السياسية والاجتماعية. وقد وجد فيها البعث ضالته وقد كان ستاراً للمشروع الطائفي، الذي جاء حافظ أسد من أجل إتمامه. وبالأحزاب التي قصرت رؤاها الحزبية عما يجب أن تفعله تجاه سورية الوطن والشعب. وجعلت جهودها مضافة إلى جهود اللادينيين، التي تصبُّ في خانة الطائفية وتعمل من أجلها!

وتَصارُعُ الأقرانِ فيما بينَهُم

 
 

أفضى إلى نصْرِالعدوعلَينا

لِسِيادةِ الطَّاغوتِ وهْوَجَريمَةٌ

 
 

وَسِيادةِ الجُرَّامِ مُجْتَمِعينا

وَتُجاهَهُ قد كانَ حَقاً واجِباً

 
 

ألَّانَدينَ لِطُغْمَةٍ باغينا

ألَّا نَدينَ لِقُرْمُطيٍّ حاقِدٍ

 
 

وَلِمُفْسِدٍ في طَبْعِهِ مأفونا

وَلِجارِمٍ وَرِثَ الجَريمَةَ كابِراً

 
 

عَنْ كابِرٍ خَلَفاً لِجُرَّامينا

ولِخائنٍ قد خانَ قَوْمَهُ أوَّلاً

 
 

ماعَفَّ عن بَخْسٍ بها وثَمينا

من باعَ ما اسْتَثْنى وَفَرَّطَ جائراً

 
 

ثُمَّ ادَّعى حَقَّ البُنُوَّةِ فينا

ما إبنُ شَعْبٍ من يَخونُ ويَدَّعي

 
 

وَهُوَ الكَذوبُ ويَقْتُلُ الأهْلينا

     

 

9) وتجاه ذلك

وتجاه الصراعات الحزبية والاجتماعية، والفساد وقد استشرى، وقد كان سياسة نظام! والخيانات وقد التصقت برأس النظام بعد بيعه الجولان! وكذا الطائفية وقد أصبحت معلنة في عهده، والشمس لاتخفى بغربال! وتجاه ذلك كله؛ كان لابد من المواجهة ، ومن قيم التحدي أن تبرز إلى الميدان؛ فكانت الثورة ، وكانت فعالياتها ورؤاها الممتدة، مع بداية سنة 1975م ولاتزال إلى اليوم، وستستمرما شاء الله لها أن تستمر وحتى النصر والتحرير إن شاء الله.

وَتُجاهَ ذلك كان مَوْقِفُ عِزَّةٍ

 
 

أنْ نَرْفُضَ الإجرامَ مُجْتَمِعينا

وَنَثورَ ضِدَّ البَعْثِ ضِدَّ رَذيلَةٍ

 
 

ضِدَّ الجُناةِ المُفْتَرينَ عَلَينا

ويَكونَ مَوْقِفُنا الصَّريحُ موثَّقاً

 
 

ومُوَضَّحاً في نَهْجِهِ ومُبينا

وَنَقولَها للهِ للتَّاريخِ لِلدُّ

 
 

نْيا ولِلْأبْناءِ مُجْتَمِعينا

   

لابعثَ إلاّ إذا ابتَعثنا أُمَّةً

 
 

عربيَّةَ الأنسابِ أصلَحَ دِينا

لاعَفْلَقٌ فيها يُجَدِّفُ جارِماً

 
 

أبداً ولا بَعْثيُّ (أرسوزينا)

تَعْنو لخالِقها وليسَ لغيره

 
 

وتَوَدُّ في عرْض الحَيا تَمْكينا

نهْجاَ على سنن الهدايةِ واضحاً

 
 

وعلى تُراثِ الخالدين أمينا

     

 

10) وإذا بساحات البلاد معارك

مثَّلت المواجهات قيم التحدي، بين النظام الذي تكشَّف تكشُّفاً صارخاً، فانفضَّ عنه مؤيدوه بالجملة، وبين النخب المثقفة من فرسان الإخوان؛ وقد كانوا طليعة، فآذنوه بالعمل الثوري، الذي كان بمثابة بداية النهاية لذلك النظام الخبيث. وما جرى بعد 2011م يؤكِّد ذلك.

وإذا بساحاتِ البلادِ مَعارِكٌ

 
 

وَمَلاحِمٌ ما بين مُخْتَلِفينا

ابْنٌ يُؤذِّنُ لِلْحَياةِ بِطُهْرِهِ

 
 

وَيُثَوِّرُ الدُّنيا على الباغينا

ورِعاعُ تَخْتَصِرُ الحَياةَ لِلُقْمَةٍ

 
 

وَتُوَاجِهُ الأحْرارَ مُجْتَمَعينا

وإذا بِسَيْلٍ من دِماءٍ جارِفٍ

 
 

وَصراخِ مُحْتَجِّينَ مُلْتاعِينا

وَإذا الأنامُ بِقِضِّهِ وقَضيضِهِ

 
 

نَصَّارُ أعْداءِ الحَياةِ عَلَيْنا

   

وإذا السُّجونُ مَسارِحٌ مَفْتوحَةٌ

 
 

لِمَشانِقٍ تَضْرى ومَشْنوقينا

وإذا سَوادُ القَوْمِ بينَ بَراثِنٍ

 
 

وَضَغائِنٍ وَفَسادِ بَعْثِيِّينا

وَإذا الدِّماءُ مِزاجُها آهاتُهُم

 
 

وصُراخُ مُضْطَهَدين مُعْتَقَلينا

     

 

11) يومٌ لِعِملاقٍ

كان حصاد الثمانين كبيراً ومثيراً، وقد أفضى إلى نتائج مذهلة. فهو من ناحية عمَّق الشرخ بين النظام والشعب الذي يحكمه بالخديعة والمكر، وبين النخب المثقفة، التي أصبحت قيم التحدي عندها واجبة ومقدسة، وحتمية الإدامة، حتى نهاية ذلك النظام المجرم. وقد عدت ثورتها حقاً واجباً.

يومٌ لِعِمْلاقٍ تَجَشَّم أمرَهُ

 
 

في مَوطِنٍ قد أورثوه الهونا

بِفَسادِهِم وَعُتُوِّهِم وَبِبَأسِهِمْ

 
 

وَبِأمْرِ من كانَ الألدَّ ضَغينا

مَنْ سَلَّموهُ ذِمامَهُم فَأساءَ في

 
 

حِفْظِ الذِّمامِ وخانَ مُؤْتَمِنينا

لَيْلٌ مِنَ الآثامِ جَرَّ ذُيولَهُ

 
 

وجَرائِمٌ عَمَّتْ وعيشاٌ دونا

فَكَأنَّهُ الطَّاعُونُ حَلَّ بِساحِنا

 
 

فأصابَ مُهْجَتنا وأدْمى العَينا

   

عُشْرونَ كَرَّتْ والجِراحُ مُمِضَّةٌ

 
 

وَدَمُ الأحِبَّةِ لايَزالُ سَخينا

حتّى إذا أخْنى وجاءَ تَبيعُهُ

 
 

بشارُ أوْرَثَنا العذابَ الهونا

من خطَّ بالبَرْميلِ خَطَّ إبادةٍ

 
 

وَرَوَّعَ المُسْتَضْعَفَ المِسكينا

مِحَنٌ تُعَرْبدُ والحياةُ ملاحِمٌ

 
 

ومصائبٌ تترى وكَرُّ سِنينا

عُشْرٌتَمُرُّ ولانزالُ بِمَهْمَهٍ

 
 

وحَصادُنا بَلْوى تُصَبُّ علينا

     

 

12) وإذا الخيار مع القرار

لم يكن خيار الثورة الكبرى في 2011م خيار نخب مثقفة أوقياداتٍ مسؤولة تتحمل مسؤولية خيارها وقرارها؛ وإنما كان بمثابة هَبَّةٍ كُبرى لشعبٍ آثر أن يثور، وكان طرفا النقيض في الخياروالقرار

(طِفلٌ كتب بأُصبعه على الجدار: ارحل) و (رجل أمن مجنون قطع أصبع ذلك الطفل)! وقوى دولية متسترة وراء أكاذيب مضللة، لعبت بمشاعر طرفي النقيض، فكانت الملحمة.

وإذا الخَيارُ مع القرارلِشَعْبِنا

 
 

بالثَّورةِ الكُبْرى على الباغينا

وإذا بِفُرْسانِ الحِمى وكُماتِهِ

 
 

الكُلُّ في المَيْدانِ مُنْطَلِقينا

الكُلُّ يَنْشُدُ في الحَياةِ خَلاصَهُ

 
 

من آفَةٍ أفْعى ومن تِنْنينا

وَالْكُلُّ ما بالى بِمَضِّ جِراحِهِ

 
 

أو خافَ عاقِبةَ لِمُعْتَقِبينا

وإذا سِجالُ مَعارِكٍ ومَلاحِمٍ

 
 

والثَّورَةُ الكُبْرى لِمَظْلومينا

وإذا الدِّماءُ الزَّاكِياتِ بِطُهْرِها

 
 

شُعلاً على دَرْبِ الكِفاحِ مُبينا

وإذا بِبَشّارٍ يُلَمْلِمُ سِرْبَهُ

 
 

وجُنودَهُ مِنْ مَعْشَرٍ باغينا

وإذا بِسورِيَّا المَهِيضِ جَناحُها

 
 

ساحاً لِأفَّاقينَ مُجْتَلَبينا

مِمَنْ تَيَبَّسَتِ المَشاعِرُ عِنْدَهُم

 
 

وَاستأسدوا كالضارياتِ علينا

وكأنَّهم من قَوْمِ ياجوجٍ ومأ

 
 

جوجٍ إذا جاوؤا ومن تَتَرينا

مِنْ أمَّةٍ جِنْكيزُ رصَّنَ صفَّها

 
 

وَبها أشاعَ ثَقافَةَ الجانينا

         

 

13) فاسألْ دِمَشْقَ الشَّامِ

من الأمور التي تكشَّفت بعد2011م ؛ أنه كان يتربَّص بالفعل الثوري، الذي توافرت له مُّبَرِّراتُه وأسبابه، فِعل لا أخلاقيٌ، يتسلَّح بالجريمة، ويعد العدة لتغيير ديموغرافيٍّ واسع؛ بالتخريب والتدميروالقتل والإرهاب، من أجل تهجير المواطنين، وإرغامهم على الخروج من أوطانهم، واستبدالهم باّخرين، مع تهيئة أسباب ذلك؛ من قبل الجهات المعنية، التي رسمت سيناريو ذلك وهيَّأت له مستلزماته!

 

فاسألْ دِمَشْقَ الشامِ واسْأل حِمْصَها

 
 

واسألْ حماةَ الجرحِ بعد سِنينا

واسْألْ بها الشَّهْباءَ وهْيَ عَصِيَّةٌ

 
 

كيفَ اسْتَباحَتْ عُصْبةُ الجانينا

يُنْبئك عنهم شاهِدٌ من أهلِها

 
 

صِرْفَ العَدالةِ واضِحاً ومُبينا

عمَّا دهانا مِنْ جَرائمِ حِقْدِهِم

 
 

مِنْ فِعْلِ مَن خانواالحِمى والدينَا

   

منْ فِعْلِ مَنْ سَرَقوا دُموعَ َعُيُونِنا

 
 

وتَمَرَّسوا بالقَتْلِ مُحْتَرِفينا

مِنْ فِعْلِ مَنْ خَذَلوا وكانوا مَوْقِفا

 
 

لايَسْتَقيمُ وقد أساء إلينا

مِنْ فِعْلِ مَنْ كانوا ظَهيراً جائراً

 
 

لِلْمُعْتَدينَ وطُغْمةِ الباغينا

من دَنَّسوا الأرضَ الطَّهورَ وعَكَّروا

 
 

الماءَالزُّلالَ ورَوَّعوا الأهْلينا

من كانَ مَحْضَ خَيارِهِمْ وَقَرارِهِم

 
 

أنْ نَهْجُرَ الأوطانَ مُجْتَمِعينا

       

 

14) أحبابنا

وبسبب من ذلك الفعل الذي يتربص بالسوريين شراً، والذي توافرت له مقوماته الداخلية والخارجيَّة، كانت الملحمة التي حكت لحماً على وَضَمِ، والوضم هي الدفَّة التي يفرم عليها اللحم. أي: أن الإنسان السوريَّ أصبح بين مطرقة وسندان!

وبسبب من ذلك؛ أصبح السوريون موزعين في مشارق الأرض ومغاربها، توزُّعاً يشبه في شكله ولونه ألوان قوس قُزَحٍ، والذي يؤمل منه أن يكون ماطراً. ولو بعد حين.

أحْبابُنا صارتْ مَوَاطِنُ عَيشِهِمْ

 
 

تَمْتَدُّ مِنْ صَنْعا إلى بَرْلينا

تَمْتَدُّ مِنْ حَلَبٍ إلى كندا إلى

 
 

واشُنْطُنٍ ويُروْا بِأرْجَنْتِينا

وَإذا يَشُطُّ بنا المَزارُ تراهُمُ

 
 

مِنْ بَعْدُ في مُوسْكُو وفي بِكِينا

أفلاذُ أكْبادِ الحياةِ تَبَعْثَروا

 
 

في العالَمِينَ تَبَعْثُراً مَجْنوناً

هُمْ هَجَّروهُم يا أخانا عُنْوَةً

 
 

بالعَسْفِ والإرهابِ مُجْتَمِعينا

كم صارَ منهم في البلاد مُشَرَّداً

 
 

أو صارفي لُجِّ البحارِ دَفينا

أوصارَ مَهَضومَ الحُقوقِ مُضيَّعاً

 
 

في العالمين مُرَوَّعاً وَمَهينا

تَبْكي عَليْهِ كُرومُهُ وزُروعُهُ

 
 

والدارُ تَبكي ناسَها الغالينا

صارت مَشاعاً للبُغاة فأعرَسوا

 
 

فيها وزادهُمُ الدَّعِيْ تَمْكينا

هَضْماً لِسوريين سَلْبَ حُقوقِهَم

 
 

وفناءَهُم قد خَطَّطوهُ يَقينا

         

 

15) سوري

عندما أراد فرعون أن يقتِّل بني إسرائيل، وأن يستعبدهم، أرسل لهم الله موسى مخلِّصاً ومحرّراً، وعندما طال على العرب ليل الجاهلية، وقد أصبح عدد أصنامهم الموقرين والمقدرين والموضوعين على ظهرالكعبة 360 صنماً، بعث الله سبحانه محمداً هادياً ومرشدا. والسوريون اليوم، وقد هُضِموا وأوذوا وأخرجوا من ديارهم بغيرحقٍ، لاشك أنهم داخلون في دائرة العناية الربانية، وأنَّ الله سينتقم لهم من ظالميهم فهو المنتقم الجبار سبحانه، وهو على كل شيء قدير.

سوري وما أدْراك َماالسوري إذا

 
 

ما أصبَحَ المَهْضُومَ والمَغْبونا

ليْثٌ تُهُضِّمَ في العَرينِ فَثارَفي

 
 

أُبَهِ الشَّهادةِ لايَخافُ مَنُونا

هُوَ ذاكَ في نيويوركَ يَحْمِلُ هَمَّهُ

 
 

قِيَماً وفي لندنْ وفي برلينا

فهْوَ الإباءُ المَحْضُ رَمْزُ وُجودِهِ

 
 

لا زال يَنْشُدُ في الحَيا تمكينا

   

مِعْطاءُ، فارْقُبْهُ تَجِدْهُ سيِّداً

 
 

في العالمينَ مُقَدَّماً ومَصونا

مِيقاتُهُ لَهَجَتْ بِهِ سَنَنُ الفدا

 
 

غَلْباءُ توشِكُ أنْ تِبينَ يَقينا

ما ماتَ مُنْتَجَبٌ واِبْنُ قَضيَّةٍ

 
 

حَمَّالُها أبداً مَداً وسِنينا

إنْ قِيلَ: يوماً ماتَ. قُلْ: كَذَبَ الدَّعي

 
 

ما ماتَ مَنْ تَخِذَ القَضِيَّةَ ديْنا

     

 

16) صرنا أحاديثَ

ليس أصعب من أن يخذلك من تحبُّ، ومن أنت وإياه على طريقٍ واحِدة، ومن تجمعك وإياه رحم ماسة، ومن أنت وإياه إلى مصيرٍ واحدٍ، ثم يعفي على كل ذلك بخبطة رجل واحدة. فتلاقي منه ما لا يلاقي العدو من عدوه. ويبقى هو المسؤول ودون أن يخطر بباله أنه هو السؤال إن لم يكن من العباد فإنه من رب العباد الذي هوالرقيب على عباده وهوعلى كل شيءٍ قدير.

صِرنا أحاديثاً وصِرنا قِصَّةً

 
 

تُرْوى وصارحَديثُنا يُبْكينا

نغْفو على آهٍ ونُصْبِحُ مِثْلما

 
 

نَغْفو وبالآهاتِ مَذْبوحِينا

من فِعْلِ من خانواالبِلادَ وأسلَموا

 
 

فيها أُمُورَهُمُ إلى الطَّاغينا

من فِعْلِ من نكَثوا العُهودَ ولم يَفوا

 
 

حَقَّاً. وقد زرعوا الخَيَابَةَ فينا

من فِعْلِ من سَرقوا دُموعَ العَيْنِ من

 
 

أجفاننا وَصَفاقَةً خانونا

   

من حَكَّموا أهْواءَهُم في أمْرِنا

 
 

وبِأمْرِهِم نَحْوَ الرَّدى ساقونا

من فِعْلِ من كانوا ظَهيراً لِلعدى

 
 

أعْوانَهُ عَلَناً ومُسْتَخْفينا

من فِعْلِ حاكِمِنا الظَّلومِ وجُرْمِهِ

 
 

وفَسادِهِ وفَساد جُرَّامِينا

طَفَحَ الأذى حتَّى اسْتَفاضَ وأغْرَق

 
 

الدُّنيا بما فيها على السُّورينا

حتَّى أصاب القَلْبَ منَّا والنُّهى

 
 

وطَغا فرَوَّع يافِعاً وجَنينا

         

 

17) عبد الحميد

عندما عقد عبد الحميد العزم على السفر إلى سورية، والالتحاق بثوارها، جاءني مستأذناً، فقلت له: والأربعة؛ أقصد أولاده. فقال: تركتنا سبعة. ثم قلت له: والدكتوراة، وكنا مقبلين على التسجيل، فقال: بعد النصر إن شاء الله. عندها قلت له: أذنت لك. وفقك الله.

وفي المساء احتشد عنده جمع من الشباب وأقاموا له عرساً وداعياً، وأكثرهم يسأل أن يكون أول اللاحقين به.

 

عبد الحميد وكان اِبنَ زمانِهِ

 
 

شَهْماً أبِيَّاً صادقا وأمِينا

ابناً لأُمٍّ أرْضَعَتْهُ لِبانَها

 
 

صِرْفاً طَهوراً زاكياً وثَمينا

وَأبٍ تَعَهَّدَ زَرْعَهُ وغِراسَهُ

 
 

بالصالِحاتِ وزادَها تمْكينا

لمَّا أطَلَّ على الشَّآمِ رَبيعُها

 
 

وَتَفَجَّرتْ آهاتُ مُضْطَهَدِينا

   

لبَّى النِّداء إلى الكَرامةِ فارساً

 
 

وبِهِمَّةٍ خاضَ الغِمارَ فَطِينا

شَهِدَتْ لهُ الأقْرانُ أنهُ سَيِّدٌ

 
 

لَيْثٌ أبيٌّ لا يَهابُ مَنُونا

لمّا تَأذَّنهُ العَدُوُّبطَلْقَةٍ

 
 

وأصاب منه مقتلاً. ودهيناْ

قُلنا: سنبقى الأوفياءَ لِعَهْدِهِ

 
 

وعلى الطريق لِعَهْدِهِ باقينا

     

 

18) عبد الحميد

قبل أن يرتقي شهيداً بيومين، وبالتحديد بعد صلاة فجر الخميس، أخذتني إغفاءة، وفيما أنا في غفوتي بدا لي وكأنه خارج من البيت، فناديته: عبدالحميد. فأجابني بصوت خفيض جداً بنعم ممدودة. قلت: ادخل. فأجاب: أخاف. قلت: ممن؟ فأجاب: من أمي وإيمان أخشى أن يقتلوني ـ وكان قد تزوج إيمان قبل شهر ـ فداخلتني القناعة باستشهاده، لقوله تعالى:" ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ، بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون" فهو في حياة، ويخشى أن تعيده أمه وزوجته إلى الحياة الدنيا!

لقداستيقظت وأنا قلق عليه، وكنت أتابع أخباره ساعة فساعة يومي الخميس والجمعة، وفي ليلة السبت، في الثانية عشرة ليلاً اتصل بي محمد من ألمانيا ليبلغني خبر استشهاده!

عبْدُ الحَمِيدِ وآهُهُ مَغْروسةٌ

 
 

في القَلبِ تَفْري قَلْبَنا سِكِّينا

أمسى مُداسَ القَبْرِ مَهْضوَم المُنى

 
 

وبَنوهُ أمسى يُتْمُهُم يُبكينا

أمْسَوْا بِأكنافِ السَّعيدَةِ جُرْحُهُمْ

 
 

لمَّا يزَلْ يُدْمي القُلُوبَ سَخِينا

   

زُغْبُ الحَواصِل في حَضانةِ أُمِّهِم

 
 

وَأبوهُمُ تَحْتَ التُّرابِ دَفِينا

(سِيناءُ) قامَتْ بالرِّعايَةِ وَحْدَها

 
 

نِعْمَ الحَصَانُ وَفيَّةً وأمينا

و(مُحَمَّدٌ) وهْوَ الإخاءُ مُجَسَّدٌ

 
 

ماكان َيوماً بالعطاءِ ضَنينا

أوفى وزاد على الوفاءِ بِأنَّه

 
 

لازال دون العالمين ضَمينا

نِعْمَ الأخُ المَيمونُ يحفَظُ ربُّنا

 
 

ويَزيدُهُ في أمْرِهِ تَمْكِينا

     

 

19) ساءلت نفسي

ليس أقسى من ألم النَّفس، ولا أشدَّ منه وجعا! ذلك أنه يصيب الجسد كله بالأرق والقلق، وبالألم الممضِّ، بالرغم من عدم وجود العوامل المرضية، التي تؤدِّي إلى الألم. وإذا تعدت ذلك إلى الذهن والفكر والوجدان، كانت أشد إيلاماً من كل ما ذكر. ولذلك عندما يسأل الإنسان نفسه في الملمات، يكون قد عرَّض نفسه لماهو أقسى وأدهى وأمر!

ساءلْتُ دَمْعي كم يسيلُ وآهتي

 
 

يا رَبُّ كم تبقى؟ وكم تُؤْسينا؟

فأجابني دَمْعي بأنه دائمٌ

 
 

مادام بي آه ودُمْتُ حزينا

مادام بي ذِكرى تُؤَرِّقُ مُهْجَتي

 
 

وهوى بِعُظْمِ مُصابه يُشْجِينا

مادام بي شَوْقٌ إلى لُقيانِهِ

 
 

بعَد الفِراقِ وقد غدونا فيهِ مُفْتَرِقينا

مادُمْتُ مُغْتَرِباً بِدُنْيايا التي

 
 

قد أثْقَلَتْها آهُ مُغْتَرِبينا

   

بعدَ السُّؤالِ تَكُرُّ أسْئلة وما

 
 

زالتْ تَكُرُّ وَبَعْضُها يُدْمينا

عن ذاكَ من أفشى وكان طَليعةً

 
 

أوخانَ أو مَدَّ الجُسورَإلينا

من قَطَّعَ الرَّحِمَ اليَتيمَ وجاء َفي

 
 

أُبَهِ ادِّعاءاتٍ تَعُزُّ عَلَيْنا

يَبْقى الجوابُ الحُرُّ قَيْدَ تَوَجُّسٍ

 
 

واللهُ يَنْصُرُنا على عادينا

       

 

20) قَدَرٌ بأن تفشوالشهادة بيننا

عند أهل الدين الفوز بالقرب من الله سبحانه، وليس بالبعد عنه. وعند أهل الدين أيضاً إذا أحب الله عبداً ابتلاه. لذا أن تفشو الشهادة بيننا اليوم، فذلك قدرنا الذي خصنا به الله. وإليه نسعى، وله نستعد، وإياه نسأل، أن يحوطنا بالهداية والرحمة، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يشملنا بالحفظ والصون.

قَدَرٌبأن تفشو الشهادةُ بيننا

 
 

ولها نَذَرْنا أنْفُساً وبنينا

مِنْ أجْلِ خَصْمِ الظَّالمينَ ودَحْضِهِمْ

 
 

واللهُ جَلَّ جَلالُهُ يَحْمينا

وضَحَتْ مَعالِمُنا وبانَ طَريقُنا

 
 

وتَرَسَّخَتْ سُننُ الهِدايَة فينا

حَبِرٌ وأسْتاذٌ وشَيْخُ قَضِيَّة

 
 

لَبَّوا نِداء الأهْلِ مُجْتَمِعينا

لَبَّوْا نَداءَ الثائرين وأقسموا

 
 

ألاَّيُوالوا المعشر الطَّاغينا

   

خطُّ الهدى ألا نذِلَّ لظالِمٍ

 
 

أو أنَّ نهجَ الظُلْمِ يفشو فينا

وإذا يُحادُ عن الطريقِ لعلَّةٍ

 
 

ألفَيتنا للحقِّ مُتَّجهينا

حُشْدٌ نُؤذِّنُ للصلاحِ أعِزَّةٌ

 
 

ماضرنا نَقدٌ لمُنْتَقِدينا

     

 

21) مأثورُنا عِلمٌ وفَضلٌ

أن نسير على خطٍّ من التقوى، وأن نتلمَّس الصلاح والفضل، والهدى والتقى في أقوالنا وأفعالنا كلها، فتلك هي معالم الهداية الربانية التي خصَّ الله بها الصَّالحين من عباده. وذلك هو الطريق الذي عاهدنا الله سبحانه، أن نلتزم به، وأن نسير عليه.

مَأثورُنا عِلْمٌ وفَضْلٌ مِعْ تُقى

 
 

والصَّالِحاتُ تَزِيدُنا تَمْكِينا

نَقْفو تُراثَ الصَّالحينَ ونَهْجَهُم

 
 

ونَدينُ بالحُسْنى مع الحَسَنينا

هَجْرُ المَعاصي ياأخانا (سِلْفَةٌ)

 
 

أمْرٌ يُقَدَّمُ كُلَّ أمْرٍ فينا

وصَلاحُنا مِفْتاحُ كُلِّ فَضيلَةٍ

 
 

عُرْبُونُ نَصْرٍ ثابتاً مَضْمونا

سُنَنٌ لنا باتَتْ تُلَوِّحُ كالصِّوى

 
 

للسَّالِكينَ النَّاصِرينَ الدِّينا

ميراثُ أحْمَدَ للأنامِ حَضارة

 
 

وثَقافَةٌ وَوِفاقُ مُتَّفِقينا

ماحادَ عنْ سُنَنِ النُّبُوَّةِ عاقِلٌ

 
 

من أُمَّةِ الإسْلامِ مُجْتَمِعينا

مَشْروعُ رَبِّ العالَمينَ ونَهْجُهُ

 
 

وبِهِ صَلاحُ العالَمينَ يَقينا

     

 

22) قرَّ القرار

عندما تتسع الابتلاءات لتشمل أمة بكاملها أو وطناً بكامله، أوشعباً بكامله، تكون المسؤولية مسؤلية أمَّة، والقرار قرار شعبٍ، ولا يتخلف عنه إلا من أضلَّ الله، وأعمى بصره وبصيرته عن الصراط المستقيم، الذي أرادنا الله سبحانه أن نسير عليه.

قَرَّالقَرارُ بأنَّ أمَّتَنا التي

 
 

أرْبَتْ على المِلْيارِ عَدَّ بنينا

سَتَظَلُّ تَدْفَعُ بالشَّبابِ إلى وغى

 
 

وتَظَلُّ تَأذَنُ بالكِفاحِ سنينا

حتى يسودَ العَدْل بعد تَمَرُّدِ

 
 

ويُزاحَ طُغْيانُ الجُناةِ علينا

ونَعُودَ في رَكْبِ الحَضارةِ شامِخاً

 
 

فيها مُحَيَّانا وتُزْهِرَ فينا

قِيَمُ الرُّجولةِ والبُطولَةِ والفِدا

 
 

وَيَعودَ إخْصابُ الحَياةِ إلَيْنا

في مَأمَنٍ من كَيْدِ غِيلانِ الحِمى

 
 

أعْدائنا القاصين والدَّانينا

مِمَنْ يُريدُ مُشيرُهُمْ وأميرُهُم

 
 

طَمْسَ المعالم والهِدايةِ فينا

تَتَلَمَّسُ الزَّلاتِ فينا عينُهُ

 
 

ألَّا نَكونَ إلى الطَّريقِ هُدينا

     

 

23) الليل حتماً لن يدوم

في القرآن قاعدتان فقهيَّتان تنحوان نحو التفسيرالمادي للتاريخ. الأولى تتمثَّل بقوله تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" وبها تسقط نظرية شعب الله المختار، وإلى الأبد، وتضع الناس جميعاً على قدم المساواة. والثانية تتمثَّل بقوله تعالى: "ولكل أمَّةٍ أجل". أي أن قيامها وسقوطها محددان بأجل يوم معلوم. وقد شاء الله سبحانه وتعالى، أن يربط قيام الدول وسقوطها بصلاحها وفسادها. وإذا أخذنا عينة لذلك الدولة الطائفية في سورية اليوم ووقفنا على مظاهر الفساد العامة والخاصة في هذه الدولة، أدركنا وبالقرينة الدالة أنها داخلة في دائرة العقاب الرباني، وقد أصبحت جرائمها لآتُحصى، ومنها السرقة والسلب والنَّهب والعدوان على الناس. ولذلك نقول لإخواننا السوريين: إنَّ الليل حتما لن يدوم وستشرق شمس يوم الخلاص الجميل، وعلى أيدي الأبناء البررة إن شاء الله.

الليلُ حَتْماً لن يَدومَ وإنَّنا

 
 

من واقع الآلامِ مُبْتَعَثيناَ

جئنا نؤذنُ بالخَلاص وجُرْحُنا

 
 

قد زادَنا في أمْرِنا تَمكينا

لَبَّى النِّداءَ إلى الجهادِ مُجاهدٌ

 
 

وأخٌ على عهدِالجهاد أمينا

   

قد كانَ مَبْعِثُهُ الطَّريقَ إلى المُنى

 
 

لِخَلاصِنا مِنْ حُكْمِ مُضْطَهِدِينا

الفَرحةُ الكُبْرى بِمَهْلِكِ حاكِمٍ

 
 

طاغٍ بَغَى وَبِنَصْرِ مَحْكومينا

مِنْ أُمَّةِ اللهِ الذين اسْتُضْعِفوا

 
 

وَتَحَمَّلوا فيها أذى المؤذينا

فَجْرٌ تَألَّقَ بالهُداة فَحَيْهلا

 
 

إنْ قيلَ آذَنَ بالبُزوغِ عَلَيْنا

أعْراسُ نَصْرٍقادمِ آياتُهُ

 
 

تَحْكي لنا مِيقاتَ مُنْتَصِرينا

     

 

24) عرِّج على دار الأحبة

ليس أصعب من الذِّكرى، ولا أشدَّ منها إيلاماً للنفس! فمن سَلَّة الذِّكريات استلَّ العرب كثيراً من المعاني الطيِّبة. ومنها: الحنين، ومن الحنين استلَّ القدامى ظاهرة البكاء على الأطلال، والوقوف عليها.

وظاهرة الحنين، كانت ولاتزال لها علاقاتها الواشجة مع الإنسان بعامة.

وفي أيلول من سنة 2014م، عندما زرت منغ بعد أربع وثلاثين سنة ونيِّفٍ ــ ومنغ عروس الشمال وشرارة الثورة، وقد قدمت أكثر من خمسمائة شهيد من أفلاذ أكبادها، ومنهم الفارس عبد الحميد رحمه الله ــ زرت أولاً مقبرتها، ثم عرجت على داري أخوي عبد الرحيم وعبد الحي وقد بدتا كأطلال خربة فعلت بهما براميل بشار وقنابله فعلتها، وأخيراً زرت داري، وقد كستها يد البلى حلتها؛ فكنت أمامها العربي الذي بكى آله ووقف على أطلاله، وراح يسأل عن الأهل والأحبة، فإذا هم مبعثرين وموزعين بين داخلٍ و خارج، وحيث طلعت الشمس هرباً من بشار وجنوده وأعوانه واللائطين به.

عَرِّجْ على نَزْلِ الأحِبّةَ صاحبي

 
 

خَلْفَ الحُدودِ نُوَاسِيَ المِسْكينا

   

مَنْ لاذَ بالأعْتابِ يَنْشُدُ بُلْغَةً

 
 

وبلاغهم أن لا تَجيءَ إليَنا

قَذَفَتْهُ جائحَةُ الليالي عُنْوَةً

 
 

عَبْرَ التُّخُومِ مُرَوَّعاً ومَهينا

فإذا بِمَنْ تَخِذوا العُروبَةَ مَعْلَماً

 
 

وَلِأُمَّةِ العُرْبِ الكِرامِ نُمينا

في أمْرِهِم وَبِقَوْلِهِم وَبِفِعْلِهِم

 
 

إلْباً يُجَرِّعُهُ العذابَ الهونا

إنْ يسْتَطِعْ ماءَ السَّما لم يُسْقِهِ

 
 

والرِّيحَ يَحْجُبْهُ ولا يُعْطَوْنا

حَقَّ المبيتِ، وقد يبيتُ بِقَفْرةٍ

 
 

تُسْفي عليه الذَّارياتُ شُجونا

يَلْتاعُ من فِعْلٍ خَسيسٍ مَذْهَباً

 
 

وأصالةً وتَصَرُّفاً مَأفونا

كَمْ مِثْلُهُ في أرضِ ربِّكَ صاحبي

 
 

قد جُرِّعُوأ الويلاتِ مُعْتَسَفينا

قالوا له والجُرْمُ يَقْرَعُ نابَهُ

 
 

غَضَباً عليه، تَصَرُّفاً مجنونا

لَسْتَ المُقِيمَ ولَسْتَ مِنْ أهْلْ الحِمى

 
 

فَعَلامَ أنْتَ إلى الحِمى تأتينا

طالوه بالقانونِ ثمَّ تَمادَتِ

 
 

الأحقادُ حتَّى أصْبَحَتْ قانُونأ

جَعَلوهُ سِلْعَةَ تاجِرٍمِنْ أجْلِها

 
 

قَرَعُوا الطُّبولَ وعَرْبَنوا العُرْبونا

ساموهُ بالبَخْسِ الرَّخِيصِ وألَّبوا

 
 

مِنْ حَوْلِهِ الدَّاعِينَ والعادينا

فإذا بِه قَيْدَ الشَّتاتِ مُوَّزَعٌ

 
 

في أرضِ رَبّكَ يا صَديقُ مَهينا

       

 

25) وإذا الخصاص

نحن نَقولُ الربيعُ العربي، والغريب والقريب يقولان الربيع العربي، وقد تسلحنا من أجل ذلك بعدالة قضيتنا، وبإيماننا الذي لا يتزعزع من أجل تحمل تبعات ذلك. وخلف الأكمة كما يقال ــ والعالم العربي عقد انفرطت حباته ــ من تأبّط شرَّاً ليسلبنا خصاصنا، وليمزق شملنا، وليدمر أهلنا، وليجعلنا مشتتين في الأرض، وكلّ ذلك خدمة للكيان الصهيوني، ولأرباب المصالح ممن يقفون خلف الكيان!

وإذا الخَصاصُ خَصاصُنا في عُهْدَةِ

 
 

الجانين والعادِين والباغينا

ممنْ يُقالُ بأنَّهم إخْوانُنا

 
 

وصِحابُنا والمعْشَرُالأهْلونا

مِمَنْ يَضُمُّهُمُ إلينا مَحْتَدٌ

 
 

وإليه دون العالمينَ نُمينا

جاؤوكَ يا ابنَ الشَّامِ جِيئة فاجرٍ

 
 

تَخَذَ العَمالَةَ في المواقفِ ديناً

عَقَدوا بِحَبْلِ الأجنبيِّ حبالَهُمْ

 
 

وبِأمْرِهِ قد جرَّعوكَ الهُونا

حَسَبوكَ إقْطاعاً لهم فَتَفَنّنوا

 
 

في القَطْعِ والإيذاءِ مُجْتَمِعينا

لم يَتْرُكوا وَصْلاً وفَصْلاً أوحِمَىً

 
 

إلَّااسْتُبيح ولم يُرأعُوْا فِينا

رَحِماً ولاحَقاً وكانواعُصْبَةً

 
 

دَكَّتْ مَعاقِلَ في الحِمى وحُصونا

اُنْظُرْ تَرَ الأقْوَام َ كيف تَجَمَّعوا

 
 

مُتَحالِفين وكيف هم جاؤنا

قد دَمَّروا الشَّهباءَ والحَدْباءَ في

 
 

وَضَحِ النَّهارِوقَتَّلوا الأهلينا

ثُمَّ ادَّعَوْا حَقاً لهم في قَتْلِنا

 
 

مِنْ أجْلِهِ تَتْرى الزُّحوفُ علينا

فَتَوَزَّعونا مِثْلَما قالتْ لهم

 
 

صُهْيونُ وَيْ للقَوْمِ مِنْ صُهْيونا

       

 

26) أين الكماة

من البديهي جداً؛ عندما تقع الواقعة، وتزلزل الأرض زلزالها، وتغزا البلاد، ويصبح وجود أهلها في خطر أن يرفع بيرق الجهاد عالياً، وأن يدعى الكماة وأجناد الحمى إلى ميادينها لخوض معارك العزَّة والكرامة؛ صيانة للعرض ودفاعاً عن الأرض، وحفظاً للأمة واستقلالها.

والحالة هذه؛ يصبح الخروج عليك يا منتمٍ فَرْضَ عين. والقادر على الخروج ولا يخرج آثمٌ قلبه. واسألوا أهل الذِّكر إن كنتم لا تعلمون.

أيْنَ الكُماةُ وأين أجْنادُ الحِمى الـ

 
 

أبْناءُ مِمَنْ يُنْسَبونَ إلَيْنا

أينَ البَوَاسِلُ يا (عُروبةُ) كَبِّري

 
 

بل أينَ يا(إسْلامُ) زَخْمُ بَنينا

أينَ الأباةُ السَّائرون على هُدى

 
 

العاملونَ المُهْتَدونَ يَقينا

إنِّي لألمَحُ زَخْمَهُم وزُحُوفَهُم

 
 

عَبْرَ البَعيدِ الكُلَّ مُنْطَلِقينا

   

الفَجْرُ آتٍ ياأمَيْمَةُ فاشْهَدي

 
 

عُرْسَ انْتِصارٍ كالْوِضاءِ مُبينا

قد لاح في قَسَماتِ أجْنادِ الحِمى

 
 

الغُرِّالميامين الذين هُدِينا

مَنْ هُمْ بيارِقُ عِزِّنا في أرْضِنا

 
 

والرَّدُ والإقدامُ إنْ عُودِينا

الحامِلونَ الهَمَّ في أعناقِهِم

 
 

والذّائدونَ النَّاصِرونَ الدِّينا

     

 

27) صلَّى الإله عليهمُ

الكلام به عودٌ على بدء؛ وهو دعاء خالصٌ لمن حملوا تبعاتها ذات يوم، وقد أوفَوا بما عاهدوا الله عليه، ولمن يتحملونه اليوم صابرين محتسبين، ولمن ينتظرون بفارغ الصبر، أن تتاح لهم فرصة المشاركة في معارك الجهاد المقدس على ثرى الوطن الحبيب، ولآخرين قادمين بعدُ، وهم لمَّا يزالوا في ضمير الغيب، واللهَ نسأل أن يكون ميلادهم مقدساً ومظفّراً، وأن يكتب على أيديهم النصر والتحرير. إن شاء. إنه هو السميع العليم.

 

صلَّى ألإلهُ عليهِمُ ووقاهُمُ

 
 

شَرَّ اللئامِ ومُكِّنوا تَمْكِينا

وأصارَ عِزَّتَنا وغاية أمْرِنا

 
 

لله ما دُمْنا بها وحُيِينا

ولكانا من كَيْدِ الجُناةِ خَلاصُنا

 
 

ومن النَّوازِلِ في الحَياةِ وُقينا

وعلى الصِّراطِ المُسْتَقيمِ جَماعةً

 
 

سِرْنا مَعاً وصَلاحُنا حادينا

   

قَدَرٌ يُؤذِّنُ لِلْفَلاحِ وغايَةٌ

 
 

تَسْمو وإقْدامٌ يُؤصَّلُ فينا

وحَياةُ عِزٍّ نَبْتَغيها حُرَّةً

 
 

وحِمىً عَزيزاً عامِراً ومصونا

هذي وأيْمُ اللهِ غايةُ أُمْرِنا

 
 

وَمُرادُنا وهي التي تُرْضينا

هُوَ ذَاكَ مَبْدانا ومُنْعَرَجُ اللِقا

 
 

يا مُنْتَهى الألفينِ والعِشْرينا

     

كربوك، في الذكرى السابعة لاستشهاد الفارس المنسي عبد الحميد الحاج مصطفى، وكان قد ارتقى شهيداً في الساعة الخامسة وأربعين دقيقة، من عصر يوم الجمعة في: 20/6/ 2014م. رحمه الله تعالى.

كربوك :21/6/ 2021م

ملحوظة:

ولم يتوقف بعدها التمحيص والتحقيق والحذف والإضافة، وقد بلغ عدد فقراتها سبعاً وعشرين فقرة، وعدد أبياتها (253) بيتاً. وقد يزاد عليها.

ووصيتي:

بأن توزّع هذه الملحمة بعد طباعتها مجاناً، وأن تُنَزَّل على شبكة الانترنت، وأن ترسل لطالبها كان من كان ومن دون تحفُّظ.

وسوم: العدد 979