الفقه الإسلامي (المرحلة التجريبية)

إن تكامل الخارطة الكلية لشمولية الإسلام النظرية المتخصصة، يؤدي إلى هداية العمل والتطبيق، تماماً كما يتضح البناء في مخيلة المهندس، ثم في خرائطه، قبل تنفيذه على ارض الواقع.

إن وجود نظريات إسلامية (أنظمة فهم أو مناهج فهم) في النفس البشرية، والاجتماع والتاريخ البشري، والتربية والاقتصاد والسياسة والأدب، سوف يعطينا صورة كاملة عن سياسة المجتمعات من خلال ما تعطينا هذه النظريات عن السلوك الجماعي، في التاريخ وتعهده من الناحية التربوية، وعن المال والتملك وعلاقته بحياة الإنسان، وصورة عن إدارة شؤون هذا الإنسان كمجتمع وفرد، وصورة عن الأدب وأثره في بناء وجدان الجماعة المسلمة، وحيث تقوم كل نظرية بهداية العمل المتخصص في مجالها. وهكذا تتعاون هذه النظريات وتتشابك في علائقها لتشكل الصورة الشمولية المفصلة للإسلام تحت مظلة العقيدة والمحاور الثابتة، لتسهل انتقال عقلية المسلم من الشمولية العقيدية إلى التطبيق الشمولي في الواقع اليومي، وعندها تخرج المؤسسات المشرفة على بناء المثال الإسلامي الحي في حياة الناس، وما دام الهدف من النظرية العلمية هو تفصيل العمل الذي يهدي التطبيق ويُبَصِّرُه، فالأصل أَنْ يبتعد المسلم عن التأمل الذي لا يهدف إلى العمل، لان التأمل المترف لذاته ليس من طبع ديننا.

وبهذا تكون النظرية مرشداً للتطبيق، تحمينا من الضلال والانحراف والأخطاء المكلفة، التي تضيع الجهود هباءً، وقد يدلنا التطبيق على خلل وقع في النظرية العلمية فنصحح النظرية من خلال التطبيق، ويهتدي التطبيق بالنظرية العلمية، وكلاهما يؤثر في الآخر ويصحح من مساره، ويكشف جدواه، وعلى ضوء ذلك إما أن يتم التصحيح في النظرية، وذلك بتحسين مفهومها من علم التفسير والسيرة، أو يهتدي التطبيق بالنظرية العلمية فيؤكد صحتها، أو يكشف العجز في جوانب منها فيدفعنا نحو فهم أفضل لمقاصد القرآن الكريم والسنة الشريفة، وبهذا نتعلم الكتاب والحكمة، كما وعدنا الله سبحانه وتعالى في كتابه " ويعلمهم الكتاب والحكمة..."

إن النزول إلى الواقع بنظرية إسلامية مستمدة من تفسير العلماء للقرآن والسنة، من اجل التطبيق، يلزمه عناصر مهمة أساسية لمثل هذا الهدف هي:

1- النظرية الإسلامية الواضحة المستخرجة من الإسلام نفسه في موضوع محدد.

2- فهم الواقع الذي ستنزل فيه هذه النظرية وعناصر هذا الواقع.

3- المؤسسة المشرفة على التطبيق: وتتكون مما يلي: النظرية، الأهداف، المراحل الغايات، الوسائل، الخطة، الزمن المحدد.

- كادر من فقهاء التنفيذ، يجمعون بين إلى منها فقه النظريات وفقه الواقع، وفقه التنزيل على الواقع.

- كادر من فقهاء المتابعة وظيفته ضبط الفهم النظري والتجريبي والمؤسسي في الواقع، وتصويب الأخطاء بعد حصرها وتحديدها.

- تكرار التجربة والتوسع فيها، للتأكد من صحتها وصحة نتائجها، من اجل تعميمها.

إنّ الهدف من هذه المرحلة هو نقل الإسلام من المراحل السابقة، مراحل التصور الذهني العقيدي النظري، إلى الواقع التطبيقي، من خلال مؤسسات مسؤولة عن التجربة وتنفيذها، ونقدها وتصحيحها حتى نصل إلى أعلى مراتب التطبيق، وتكون النتيجة في الحصول على تجربة ناجحة، وفقه مستخرج من خلال المعاناة، وتصحيح يضبط صحة التجربة ويحافظ على نقاء الغايات والأساليب، من خلال الحصاد والثمر الذي تم التوصل إليه في مؤسسات تربوية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية، وتصل في النهاية إلى:

- إثبات الشمولية عملياً في الواقع

- تطوير النظرية في اتجاه العمق

- تطوير التطبيق والعمل

- تطوير الواقع في اتجاه الأهداف والغايات

وبهذا نصل إلى مرحلة صحة النظرية في الفهم وصحة التطبيق في الواقع، والوصول إلى المرحلة الأخيرة، الشمولية العلمية (العلوم الإسلامية).

سور القرآن أربع عشرة ومئة، تَسمَّتْ كُلٌّ منها بكلمة واحدة، على منهج الإيجاز العربي في التسمية بما يُيسر المعاملة، إلا سورة "آل عِمْران" التي تَسمَّتْ باسمين متضايفين، من حيث كان مشغلتَها آلُ عمران لا عمران، وإن انتسبوا إليه. وعلى رغم علاقة معاني هذه الأسماء كلها برسائل نصوص سورها الأربع عشرة والمئة، تعددت علاقات مبانيها بنصوصها، على النحو الآتي:

1) أسماء غائبة المباني، وهي ثلاثة (2.63%): الفاتحة، والأنبياء، والإخلاص، لا ذكر لألفاظها في نصوص هذه السور.

2) أسماء واردة المباني، وهي أحد عشر (9.64%): الإسراء، والسجدة، والمجادلة، والممتحنة، والطلاق، والتحريم، والتكوير، والانفطار، والانشقاق، والشرح، والزلزلة- مذكورة الألفاظ في نصوص سورها، على أنحاء تصريفية غير التي هي عليها.

3) أسماء حاضرة المباني دون "أل"، وهي أحد عشر (9.64%): الزمر، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والفتح، والصف، والعلق، والهمزة، والنصر، والمسد- مذكورة الألفاظ في نصوص سورها، من غير "أل" المقترنة بها.

4) أسماء حاضرة المباني، وهي التسعة والثمانون الباقية (78.07%)، المذكورة ألفاظها في نصوص سورها، وليس أدل على مراعاة حضورها فيها من حكاية لفظ "المؤمنون" الذي هو مضاف إليه في عبارة "سورة المؤمنون"، على ما هو في هذا الجزء من سورته "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"، ولفظ "المنافقون" الذي هو مضاف إليه في عبارة "سورة المنافقون"، على ما هو في هذا الجزء من سورته "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ"، ولفظ "المطففين" الذي هو نائب فاعل في قول السيوطي في "أسرار ترتيب القرآن": "أُخِّرَتِ المطففين"، على ما هو عليه في هذا الجزء من سورته "وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ"!

لقد اتضح أن منهج القرآن الكريم في التسمية على أصل دلالة مادة "س، م، و"، التي منها الاسم والتسمية -وهو المنهج العربي المبين- إنما هو أن يَرفع للتمييز السورةَ المرادة، باسمٍ مأخوذ من نصها، مثلما كان العربي يسمي قصيدته بجزء من نصها ولاسيما أول مطلعها، وفي ذلك ما يُرجِّح في كلمة "سورةٍ" نطقَها معتلة غيرَ مهموزةٍ ودلالتَها على المنزلة العالية.

ولقد سوَّت التسمية في الاستعمال بين الكلم التي تَسَمَّتْ بها سور القرآن كلها جميعا؛ إذ قد صار بكلٍّ منها تميُّزُ السورة من غيرها وتميُّزُ غيرها منها، فأما أبنيتها اللغوية فبينها اختلاف تصنيفي كبير؛ إذ تنقسم على خمسة أصناف كبيرة: اسم (78)، ووصف (29)، ومُبْهَم (4)، وفعل (2)، واسمان (1). ومن داخله انقسم الاسمُ على ثلاثة أصناف صغيرة: عَين (43)، ومعنى (25)، وعلَم (10)- والوصف على خمسة أصناف صغيرة: اسم فاعل (20)، واسم مفعول (4)، وصيغة مبالغة (3)، وصفة مشبهة (1)، واسم تفضيل (1). ومن داخله انقسم العَينُ على أربعة أصناف صُغرى: مفرد (28)، وجمع (9)، واسم جمع (4)، واسم جنس جمعي (2)- واسم الفاعل على صنفين أصغرين: مفرد (11)، وجمع (9)، واسم المفعول على صنفين أصغرين: مفرد (2)، وجمع (2)، ذلك كله على التفصيل المرتَّب الآتي:

1) اسم (78):

o عين (43):

§ مفرد (28): البقرة، والحجر، والكهف، والعنكبوت، والمائدة، والرعد، والنور، والزخرف، والدخان، والطور، والنجم، والقمر، والحديد، والجمعة، والقلم، والإنسان، والفجر، والبلد، والشمس، والليل، والضحى، والتين، والعلق، والعصر، والفيل، والماعون، والمسد، والفلق.

§ جمع (9): الأنعام، والأعراف، والأنفال، والأحزاب، والزمر، والأحقاف، والمعارج، والحجرات، والبروج.

§ اسم جمع (4): النساء، والروم، والجن، والناس.

§ اسم جنس جمعي (2): النحل، والنمل.

o معنى (25): التوبة، والإسراء، والحج، والفرقان، والقصص، والسجدة، والشورى، والفتح، والحشر، والصف، والتغابن، والطلاق، والتحريم، والملك، والقيامة، والنبأ، والتكوير، والانفطار، والانشقاق، والشرح، والقدر، والزلزلة، والتكاثر، والنصر، والإخلاص.

o علَم (10): يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، ومريم، ولقمان، وسبأ، ومحمد، ونوح، وقريش.

2) وصف (29):

o اسم فاعل (20):

§ مفرد (11): الفاتحة، وفاطر، وغافر، والجاثية، والواقعة، والحاقة، والمزمل، والمدثر، والطارق، والغاشية، والقارعة.

§ جمع (9): الشعراء، والمؤمنون، والصافات، والذاريات، والمنافقون، والنازعات، والمطففين، والعاديات، والكافرون.

o اسم مفعول (4):

§ مفرد (2): المجادلة، والممتحنة.

§ جمع (2): الأنبياء، والمرسلات.

o صيغة مبالغة (3): الرحمن، والبينة، والهمزة.

o صفة مشبهة (1): الكوثر.

o اسم تفضيل (1): الأعلى.

3) مُبْهَم (4): طه، ويس، وص، وق.

4) فعل (2): فصلت، وعبس.

5) اسمان (1): آل عمران.

لقد اتضح أن منهج القرآن الكريم الأغلب في الكلمة التي يختارها من نص السورة ليسميها بها، أن تكون اسما أي كلمة ذات مدلول مفرد -ولاسيما الجسم المَعِين- يَخلُص للتسمية عملُه، لا وصفا أو فعلا ذَوَيْ مدلولَيْنِ مُرَكَّبَيْنِ، ولا مُبْهَمًا غير ذي مدلول واضح- وأنه إن خالف ذلك الوجه الأغلب خالَفَه لِنُكْتَةٍ بلاغية لطيفة، تستحق التَّنْقير عنها!

من آثار ظاهرة النص القصيرِ العَفْويّةُ الاستِسهاليّةُ، أي أن يجدَه متلقّوه كأنه تَغَفَّلَ صاحبَه أو تَغافَلَ له صاحبُه؛ فخرج عنه بزفيره وكأن لم يفكر فيه، أو لم يشأ أن يفكر فيه- حتى إنهم ربما تَحرَّجوا من أن يقولوا مثله، ولكنهم لا يلبثون أن يتعلقوا به ويرددوه ترديد الأناشيد!

هذا نص قصير يعبر عن رحابة الإقبال على الحياة، بخمس عشرة كلمة، في ست جمل، على ثلاثة أبيات:

تَنَادَيْنَا دَنَانِيرُ وَدَانَتْنَا دَنَانِيرُ

هَلُمِّي فَعَلَى الْهِمَّةِ نُورٌ وَتَبَاشِيرُ

تَبَاشِيرٌ تَبَاشِيرُ دَنَا نُورٌ دَنَا نُورُ

أما أبيات هذا النص القصير الثلاثة، فهَزجيّة الأوزان المجزوءة الصحيحة الأعاريض والأضرب، رائيّة القوافي المضمومة المردفة بياء المد أو واوه الموصولة بالواو.

1      تَنَادَيْنَا= ددن دن دن، مفاعيلن، سالمة،

2      دَنَانِيرُ= ددن دن دن، مفاعيلن، سالمة،

3      وَدَانَتْنَا= ددن دن دن، مفاعيلن، سالمة،

4      دَنَانِيرُ= ددن دن دن، مفاعيلن، سالمة، والقافية: نِيرُ.

5      هَلُمِّي فَـ= ددن دن د، مفاعيل، مكفوفة،

6      ـعَلَى الْهِمَّـ= ددن دن د، مفاعيل، مكفوفة،

7      ـةِ نُورٌ وَ= ددن دن د، مفاعيل، مكفوفة،

8      تَبَاشِيرُ= ددن دن دن، مفاعيلن، سالمة، والقافية: شِيرُ.

9      تَبَاشِيرٌ= ددن دن دن، مفاعيلن، سالمة،

10    تَبَاشِيرُ= ددن دن دن، مفاعيلن، سالمة،

11    دَنَا نُورٌ= ددن دن دن، مفاعيلن، سالمة،

12    دَنَا نُورُ= ددن دن دن، مفاعيلن، سالمة، القافية: نُورُ.

تتحرك هذه الأبيات القصار مثلما يتمايل المنشد في حلقة الذكر غائبا في نفسه عن نفسه حاضرا عن نفسه في نفسه، تساعدها خفة وزن الهزج وتقطيع الكلمات على التفعيلات وتكرار الأصوات. وبين حركتَيْ أولها وآخرها المتطابقتين تشذُّ حركة الثالث مسرعةً بكَفِّ تفعيلاته (مزاحفتها بحذف نون مفاعيلن)، إلى تَخييل معنى الاستعجال المراد بالبيت، واتهام ما اتهمْنا به صاحبَها من الغفلة!

وأما جمل هذا النص القصير الست -ومتوسط كلمات الواحدة منها "2.5"- فقد تَنَمَّطَتْ كلٌّ منها بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي:

1      تَنَادَيْنَا دَنَانِيرُ= ماض وضمير متكلمين،

2      وَدَانَتْنَا دَنَانِيرُ= ماض ونكرة،

3      هَلُمِّي= أمر وضمير مخاطبة،

4      فَعَلَى الْهِمَّةِ نُورٌ وَتَبَاشِيرُ تَبَاشِيرٌ تَبَاشِيرُ= جار ومجرور ونكرة،

5      دَنَا نُورٌ= ماض ونكرة،

6      دَنَا نُورُ ماض ونكرة.

لقد طبعت النصَّ غلبةُ نمط "ماض ونكرة" –وساعدها التكرار الظاهر- بطابع "الذَّهاب في الذاهبين"، الذي حدثنا عنه القشيري في قوله: "حُكِيَ أَنَّ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ بَعَثَ إِنْسَانًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَبِي يَزِيدَ -أي البسطامي- لِيَنْقُلَ إِلَيْهِ صِفَةَ أَبِي يَزِيدَ، فَلَمَّا جَاءَ الرَّجُلُ إِلَى بِسْطَامَ سَأَلَ عَنْ دَارِ أَبِي يَزِيدَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَه أَبُو يَزِيدَ: مَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَبَا يَزِيدَ. فَقَالَ: مَنْ أَبُو يَزِيدَ؟ وَأَيْنَ أَبُو يَزِيدَ؟ أَنَا فِي طَلَبِ أَبِي يَزِيدَ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ، وَقَالَ: هَذَا مَجْنُونٌ. وَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى ذِي النُّونِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا شَهِدَهُ؛ فَبَكَى ذُو النُّونِ، وَقَالَ: أَخِي أَبُو يَزِيدَ ذَهَبَ فِي الذَّاهِبِينَ إِلَى اللهِ"؛ إذ كلُّ فعل ٍوكلُّ فاعلٍ شيءٌ مِن أشياءَ تَتوالدُ لتَتفاقدَ، وتَتفاقدُ لتَتوالدَ!

مدارات ثقافية

clip_image002_54e22.jpg

للشعر تصورات يطلقها الشاعر في حدود تأثيراته الوجدانية التي من الممكن أن تكون مباشرة من خلال المواقف التي يمر بها يومياً ، وتترك أنطباعاً خاصاً له أثر في حياته الشخصية من خلال التاريخ الشخصي الذي مر بأحداث كثيرة بعضها مؤلم وبعضها فَرِح ، أو تاريخ عام يشترك فيه مع المجتمع وابنائه في افراحهم واحزانهم ، في مسراتهم ونكباتهم ، أو تكون القضية متخيلة كون الشعر يستند الى بعض الصور المتخيلة التي تدعم القصيدة من خارج الواقع المعاش وتكون جماليتها مختلفة تماماً كون الشاعر قد قدمها وأطلقها في أفق ألا توقع لدى المتذوق الذي لا يمكن أن يتفهمها الا في سياق أشتغالاتها الواقعية في بعض الاحيان ، أو ما يتخيله في ذاكرته التي تتفق ،أو تختلف في المعنى مع الشاعر . لذلك فإن مجالات العمل على جلب التصورات الداعمة للقصيدة كثيرة ومجالاتها متعددة ومتنوعة ، وهنا قد يتخذ الشاعر في الربط بين ما هو متصور وبين ما هو وجداني من رحم الواقع ، وبين ما عام وبين ما هو خاص في أنتاج صور شعرية يتحسسها في ضوء صور تشكل في ذاته معاناة كبيرة تجاه التاريخ الوطني ،أو الانساني الذي يمكن أن يضيع أمامه تاركاً في ذات الوقت حكايات مجهولة لا يمكن أن تشير اليها ، أو تدونها وقائع . فالمجهول قد يكون شيء قادم مخفي ، أو قد يكون ماض أختفى مع أصحابه الذين كان لهم أثر في عاطفة الأحبة الذين يتوقون لمعرفة ما كان لهم، أو أين تركوا ما يمكن أن يكونوا حاضرين فيه ، باعتبارهم عاطفة قد أصبحت مجهولة الهوية وقد طواها الزمن في مكانات شتى لا يبوح بها هذا الزمن ، ومن هنا يأتي لغز الحياة ،كمثل جندي مجهول لا يمكن أن تتكوّن صورته في ظل الصور الكثيرة في الأذهان المبعثرة ، وهنا تكمن المغامرة الشعرية في أنتاج تصورات عن المفقود الكلي من الجزئيات المبعثرة ، وسيبقى المعنى ويختفي الملمح في ضوء الكلي المرمز لذلك المفقود ، على اعتبار " إن النمط العام ، الذي أرغب بالتأكيد عليه ، هو ذلك التصور عن الحياة ، أو الطبيعة ، كما لو كانت لغزاً لتركيب الصور. إننا نتمدّد وسط هذه القطع المتناثرة من اللغز . ولابدّ أن ثمة طريقة لتجميع هذه القطع مع بعضها البعض (...) أياً كانت الطريقة التي تفضل بها تصوره هو من حيث المبدأ قادر على جمع وتركيب كافة القطع المختلفة في شكل واحد متناسق، وأي أحد يتمكن فعل ذلك سيعرف ما هو العالم "(1) في تصوراته الكلية التي تختفي فيه الجزئيات التي تشبه عمل الجندي المجهول في تضحياته لصالح الكلي ، هي بطولة فردية مخفية لا يعرفها سوى الجندي المجهول والشاعر الذي يتصورها في لحظة التضحية التي تُذكر مع أسمه فقط كلما ذُكر صاحبها، وتبقى لحظة احتجاج ضد كل من أراد تصدر الأشياء في جهوزيتها دون أن يقدم شيء في تكوينها ، فهذا الاحتجاج الذي يطلقه الشاعر ضد بطولات زائفة للحاضرين ، هو احتجاج بصوت الجنود المجهولين، فهو تاريخ يتوازى مع كل نُصب العالم التي وضعت في قلوب العواصم المتحاربة. هذا الاحتجاج الذي يقارب صوت (ويليام بليك) الذي أطلقه سابقاً يحاكي فيه موضوع التضحية بالروح الانسانية لصالح الذين لا يستحقونها ، أي " ما رغب فيه (بليك) ، مثل كل المتصوفة ، هو نوع من أستعادة السيطرة على الجانب الروحي والذي تجمّد نتيجة للانحلال البشري والأفعال الفاسدة لقتلة الروح الإنسانية (...) :

وبكى أطفالهم وبنوا

أضرحة في أماكن مقفرة ،

ووضعوا قوانين متعلقة ، وسموها

شرائع الله الأبدية "(2)

        في هذا السياق تشتغل تصورات الشاعر (عبدالحسين بريسم) في مجموعته الشعرية التي أخذت عنوانها من قصيدته الموسومة ( تاريخ الجنود المجهولين ) وهي من طباعة (دار الصواف ) في العراق محافظة بابل ، سنة 2018 . إذ حاول الشاعر في هذه المجموعة الشعرية  أن يكون مدوّن جيد للاحتجاج الذي يتضح في بعض عنوانات قصائده ومنها (تاريخ الجنود المجهولين ، أستدرجهم ولا تطع ، انتخابات الشهداء ، جثث طافية على نهر الفرات ) وغيرها من القصائد الأخرى في هذه المجموعة التي تصل الى (21) قصيدة . إذا عمل الشاعر على رصد حقبة تاريخية يطلق عليها (تاريخ الجنود المجهولين) ، يحاول أن يدونها بسياقه الشعري ، ويذكر فيها الحرب التي أخذت الجنود حطب لها . فالوطن حروبه كثيرة منذ بداية إعلان الدولة والى الآن مروراً بالسبعينات والثمانينات والتسعينات وحتى بداية القرن الجديد ، ولكل حرب نشيد يميزها عن غيرها من الحروب ، إذ يتجه ببوصلة الجندي المجهول الى أربعة اتجاهات يصور فيها الوطن، وفي أربعة من الفترات العجاف التي يبدأ زمنها الأول في شماله في فترة السبعينيات من القرن الماضي :

" في سبعينيات القرن الماضي

كانت بوصلة الحرب

تشير شمالاً

تأخذ الجنود حطباً

لدفء الجبال

وتعزف موسيقا عسكرية

أناشيدهم جماجم

مازالت أغاني الجنود

حنيناً عاطلاً

صدى لصوت مضى

أنا جندي عربي

بندقيتي في فمي"(3)

      بندقيتي في فمي هو الصوت الذي أطلقه في رفض ما أراده أصحاب الحرب بأسم الوطن والوحدة ، فهذا الصوت المدوّن للرفض يتكرر في أتجاه أخر وهو شرق الوطن وحرب الثمان سنوات في صورة ثانية ، وصرخة أخرى لجندي مجهول في الشرق :

" وفي ثمانينياته

ولت وجهها الحرب

نحو الشرق

سنوات تنزف رجالاً

وملحاً

جنود البوابة الشرقية "(4)

      جنود البوابة الشرقية الذين عاد منهم من عاد ،وقتل (مجهولاً) منهم من قتل ، ليستريح في غيابة الزمن الذي شمل الكثير من أبناء الوطن الذين شكلوا مع غيرهم الاتجاه الثالث من المجهول ، ولكن هذه المرة في الجنوب لتقطع معهم رؤوس النخيل أيضاً ، من بعد ما كان يميز الوطن في سواد أرضه ، أصبح نخيله بلا هوية أيضاً :

" نحو الجنوب

لتقطع رؤوس النخيل

وينمو رصاص الجنود

زرعوا قمصانهم العسكرية

على الطرقات

فما نما إلا العويل على خارطة الوطن"(5)

     خارطة الوطن التي تتنظر اتجاهها الرابع حتى يكتمل تاريخ الجنود المجهولين ، فغرب الوطن هو المكان الذي ذهبوا اليه ، وأنشدوا كل أناشيد التضحية في الألفية الجديدة :

" في الألفية الثالثة

استمرت الحرب

اشتعالاً في غرب الوطن

تتوالد حروباً وصبية تائهين

تأشيرات موت مجاني

وعصبية قاتلة

يا للغرابة

أهذا وطن"(6)

    (يا للغرابة أهذا وطن) ، هذه الخاتمة في القصيدة ، وهذا التساؤل الذي تركه لنا الشاعر، وكأنه يردد صوت ألاف الجنود المجهولين عبر تاريخ تضحياتهم الطويل ، وعبر (نُصبهم) التي غطت بأثارها أمكنة الوطن وتاريخه واتجاهاته الأربعة . وبهذا التساؤل في القصيدة صور الجندي المجهول مصير الوطن ، وثبت تساؤل أدانة عن صورته التي تلاشت لصالح العصبية القاتلة وأصحابها .  

الهوامش

1.    ايزايا برلين : جذور الرومانتيكية ، نقله الى العربية : سعود السويدا ، الكويت : جداول للنشر والتوزيع ، 2012، ص62.

2.    المصدر نفسه ، ص107.

3.    عبدالحسين بريسم : تاريخ الجنود المجهولين ، بابل : دار الصواف ،2018 ، ص14.

4.    المصدر نفسه ، ص14،ص15.

5.    نفسه ، ص15،ص16.

6.    نفسه ، ص16.

clip_image002_d9f59.jpg

clip_image004_cea76.jpg

د. عبود التميمي

تسعى هذه (المقالة) إلى الوقوف عند عتبات رواية (أدركَها النسيان) التي أصدرتها الروائية الأردنيّة (سناء شعلان) في العام 2018 عن دار أمواج للطباعة ، والنشر ، والتوزيع في عمّان، وقد وصفتها الروائية  بأنّها  انتصار للذّاكرة الإنسانيّة حيث يقبع الدّرس البشريّ بكلّ تفاصيله القبيحة ، والجميلة في الحياة ، لكنّ النّصر والبقاء يكون حليف الحقّ ، والحقيقة مهما طغت الأكاذيب على التّفاصيل، فهي رواية نقد سياسيّ ، واجتماعيّ، وأخلاقي ،  فضلا عن أنّها رواية (عتبات نصيّة) لما تشتمل على شفرات تحظى بقيمة تشكيليّة، وسرديّة عالية أسهمت في رسم صورة المسرود، وتوجيه القراءة نحو فهم عميق  لطبيعة الإشكاليّة  في مجتمع الرواية .

أولى عتبات الرواية :(الغلاف) الذي  يُعدّ (أيقونة) تحيل على مضمون ، وتعمل على تسريع الدخول إلى القراءة ، فهي تمتلك شكلا بصريّا يمكن الاهتداء  إلى علاماته اللسانيّة التي تنفتح على جملة عتبات  هي : العنوان ، والأيقونة ، واسم المؤلف ، واسم الدار الناشرة...كان غلاف الرواية قد أشبع باللون الصحراويّ المائل إلى الصفرة ليذكّر بماضي الشخصيّتين (الضحّاك) و(بهاء) اللذين عاشا طفولتهما الأولى في صحراء اليتم والفاقة، وفي أعلى جانبه الأيمن برزت كلمة (رواية) محيلة على مرجعيّة أجناسيّة لها موقعها اليوم في الكتابة السرديّة وتلقيها، وتحتها مباشرة ظهر عنوان الرواية (أدركَها النسيانُ) بحجم كبير أسود اللون دال على الحزن والموت، وهو ينفتح على تركيبيّة  نحويّة مؤدّاها تقدم المفعول به (الهاء) التي تعود على (البطلة) على الفاعل في لعبة التقديم والتأخير التي تحيل على ادراك للنسيان عجيب ! ، وللعنوان وظائف أربع  تمكّن منها النقد السيميائيّ  هي : التعيين: أي تعيين اسم الكتاب الذي به سيشتهر و يُتداول، والوصف : أي تحديد مضمون الكتاب، والإغراء: أي إغراء القارئ باقتناء الكتاب، والإيحاء: أي التلميح بالقيمة الإيحائيّة للكتاب التي تسهم في تقبله ، وهذه الوظائف تبدو واضحة في عنوان الرواية  الذي ينتمي دلاليّا إلى عدم الاستذكار الذي  يتهاون في استرجاع الذكرى ، أو المناسبة فيدعها تتهاوى  بين غياهب الضياع ، والفقد، والبؤس.

وإذا كان النسيانُ معلوم الدلالة عند المتلقي فإن ضمير الهاء في العنوان يحيله على امرأة يسكت العنوان عن تحديد اسمها  بسبب إيجازه ، وافتقاره إلى التوضيح ليترك أمر تفصيله إلى المتن الذي أخبرنا أنّها (بهاء) مريضة بالسرطان ، وقد آن لها أن ترتاح في مرحلة من عمرها الأخير ، وأن يدركها نسيان الماضي ، في ظلّ حضور مكثّف للحبيب ، ويظهر العنوان ثانية في أقصى اليسار من أسفل الصفحة الثانية للغلاف الداخلي ليكون  سيّد النقش في الصفحة كلّها ، تاركا للروائيّة في قابل الأيام تسجيل إهداء الرواية لمن تشاء على بياض الصفحة الواسع ، وللقارئ أن يجد الغلاف الأخير للرواية مشتملا على صورة الروائيّة ، وهي ساهمة في أمر ما.

أمّا أيقونة الغلاف فقد توسّطت المساحة الكائنة بين العنوان، واسم الروائيّة ، وهي تشتمل على صورة منزل أوربيّ محاط بالثلج ،وأشجار كثيفة يستدل المتلقي فيما بعد أنّه منزل (الضحّاك) في منفاه الجميل ، وللمتلقي أن يوازن بين اللونين : الصحراوي ، والثلجي ليدرك مقدار المفارقة .

ما بين العنوان الرئيس ، والثاني تتسّوط صفحة (المعلومات) مشيرة بعناية ببليوغرافيّة إلى رقم الطبعة،  وتأريخها، واسم الروائيّة ، ودار النشر ، ورقم الإيداع ، والرقم المعياري الدولي ، والمواصفات الأجناسيّة للكتاب ، فضلا عن تحديد مسؤوليّة  المؤلّفة ، وحقوق الناشر ، وإيميل دار النشر مصحوبا بأيقونة الدار.

أخذ عنوان الرواية موقع الصدارة في أعلى  الغلاف الثالث الداخلي ، وتحته  عنوان مواز آخر(حكاية امرأة أنقذها النسيان من التذكّر)،والعنوان الموازي له  سمة  شارحة مهمتها تفسير العنوان الرئيس ، والإحالة  على نوعه النثري، لكنّه في رواية (سناء شعلان) جاء ملتبس الدلالة في لحظة تلقيه الأولى ، فالعنوان الأول يحيلُ على ادراك النسيان فحسب ، وفي العنوان الموازي تتصدّر النص كلمة (حكاية) لتشير إلى قصّة تقليديّة ، أو محكي مشهور يتم نقلُه شفاها ، والحكاية  هنا تتّسع لأن تكون رواية امرأة انقذها النسيان من التذكّر، فالعنوانان يحيلان على تسويغ النسيان الذي كان نعمة الحال لبهاء .

في صفحة (المقتبس) الذي هو عتبةٌ موجزةٌ مستعارةٌ من خارج المتن دالّةٌ على قصده ، كانت الروائية قد شكّلتها من ثلاثة نصوص أخذتها من ملحمة (مزامير العشاق في دنيا الأشواق) هي: (من عشق حجّة على من لم يعشق ، ومن تألم حجّة على من لم يتألم) و(عندما تحترق الأوطان يصبح العشق محرما) و(إنّه اليتم في كل مكان)، هذه الاقتباسات يمكن تفكيكها بحسب الوصف الآتي : يشير متن الرواية في ص201 إلى أن (مزامير العشاق...) كتابٌ ملحميٌّ من سبعة أجزاء ألّفه الضحّاك ، وهذا يعني أنّ المقتبسات من ابداع الروائيّة ، ولم تكن مستعارة ، وأنّها وصفت على لسان الساردة على أنّها (نجوم الأوريغامي)، وقد استعارتها من فنون يابانيّة  تعتمد طي الورق الملون ، والكتابة على ظهره لصناعة البهجة ، وأن هذه (الأوريغاميّات) تستفتح بها الروائية فصول الرواية أيضا ، ومنها ما كان جزءا من متنها ؟ ولكن  للتذكير بصورة الألم ، والبؤس الذي يواجه الحياة.

عتبة إهداء الرواية كانت قد وُجّهت إلى الأديب العراقي المغترب (عباس داخل حسن) بتوصيف أفضى إلى أنّه مصلوبٌ تحت سماء القطب مثل نجمة الفينييق ، كناية عن غربته ، فهو بحسب الإهداء : دافئٌ في زمن الصقيع، اسطوريٌّ على الرغم من مواجعه، مخلصٌ للتذكّر ، يرسم دفئا على الصمت البارد...، لاشكّ في أنّ هذا الإهداء قيّمٌ ببعده الجماليّ ذي المظهر التقابليّ الذي يتحكم بالصفة وضدها، فضلا عن أنّه إهداءٌ شخصيٌّ بوظيفة إشاريّة تتعلّق بطريقة الإتصال بالمهدى إليه ، كاشفا عن أهميّته، وطبيعة التواصل معه ، لكنّ هذه العتبة بدلالتها الإحاليّة سرعان ما تتغاير في المتن ص201لتكون إهداء خاصّا من (الضحّاك) إلى حبيبته في صدر الجزء الأول من الملحمة في مفارقة يوجبها السرد الحديث.

بعد عتبة الإهداء تواجه المتلقي عتبة أخرى : بياض صفحة تتوسطها عبارة (إنني أراكَ) فهذا السواد في بياضه المكثّف نطقٌ صامتٌ  عن حال الضحّاك ، ثم تتوالى سلسلة فصول الرواية التي لم تنصّ (الروائيّة) على أنّها فصول ، فهي بافتتاحيّاتها الاقتباسيّة (الأورتغانيّة) كانت بمنزلة الفصول إلى متن الرواية ، والفصول كلّها بعنوانات دالّة على النسيان، وقد بلغت ثلاثين (نسيانا: فصلا) ، لتُختتم الرواية بعتبة (ما بعد النهاية) مؤكّدة خلوّها  من نهاية تقليديّة ، فقد قدّر لمتنها أن يكون مفتوحا على تأويلات شتى، بدليل نهوض عتبة (البداية) في الصفحة الأخيرة من الرواية بتكرار لازمة (إنني أراكِ) التي كان مكانها الاستهلال مع تغاير في شكل الخطاب بوصفها  نطقا صامتا عن حال بهاء ، وهذا يعطي فكرة عن دوران المتن حول نفسه في حركة سرد مؤسطرة تنتهي فيها الأحداث في نقطة ما ، ثمّ تعود  في شكل دائريّ يسترعي الانتباه والتلقي.

المزيد من المقالات...