clip_image002_a31f7.jpg

clip_image003_7d134.jpg

"هيّا نشترِ شاعراً" رواية قصيرة "نوفيلا" للكاتب البرتغالي أفونسو كروش، ومن ترجمة المترجم التونسي عبد الجليل العربي. تقع الرواية في أقل من (70) صفحة، وإن كان عدد صفحات الطبعة الصادرة عن دار مسكلياني في تونس تمتد إلى (79) صفحة، وإذا ما استثنينا الصفحات الأولى من الكتاب والعنوان الأخير غير الروائي "ما يشبه الخاتمة" الذي يشرح فيه المؤلف صراع المال والثقافة في العصر الحاضر، ومنها الشعر، إذ تقوم الحياة الحديثة على المادة في كل شيء كما تبين الرواية، حتى الشخصيات هي نسب مئوية وأرقام وحروف، كأنها مركبات كيماوية، دقيقة التكوين، وكل ما يستهلكه أو ينتجه مقدر بتلك النسب.

تكثر في الرواية العناوين، ولا يمتدّ العنوان الأكبر مساحة لأكثر من صفحة وبضعة أسطر فقط، باستثناء العنوان الأخير "ما يشبه الخاتمة" الذي جاء في سبع صفحات (70-76). تقصّ الأحداث طفلة لا تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، وهناك الأب، والأم والأخ، والشاعر الذي اشترته الفتاة. وما عدا ذلك فالشخصيات نسب وحروف ومركبات مشفّرة، ليس لها أسماء أو صفات أو ملامح.

يبدو للوهلة الأولى أن الكاتب يسخر من الشاعر، فهو عديم الفائدة في ظل الأوضاع المعاصرة، تعد الأسرة له مكانا هامشيا ليسكن فيه، مساحة لا تتعدى المترين ونصف تحت الدرج، ويفصل بين مكان عيش الأسرة وهذا المكان المخصّص للشاعر درج طويل، كأن ذلك إيحاء بالفرق بين الشاعر الحالم، وهذه الأسرة المادية التي كل شيء عندها بثمن وبمقدار كذلك.

يعامل الأب والأخ والزميلات الشاعر بشيء من الجفاء والقسوة والتندر، وتطال السخرية الفتاة أيضا كونها هي صاحبة فكرة شراء الشاعر، وانتقلت إليها عدوى حب الشعر، وصار يتسلل إلى لسانها ومنطقها بعض الجمل الشعرية ما أوقعها في موقف محرجة تندرية. يمثّل هؤلاء الأشخاص، عدا الفتاة، الفكرة الاقتصادية وتركيز اهتمامها على الجوانب المادية فقط.

إن الانطلاق من فكرة "الشراء" لشاعر تحمل أكثر من بعد تهكمي، فقد تساوى الشاعر مع القطط والكلاب في إمكانية الشراء، والخضوع للعرض والطلب، حتى عندما تتخلى الفتاة عن الشاعر مرغمة تضع الأسرة الشاعر في السيارة وتذهب به بعيدا لتتركه تحت شجرة. هذا المشهد بالذات مشهد تكرر في حياة الأسر الريفية في فلسطين في القرن الماضي، ولعله ما زال موجودا في بعض المناطق، فكلما استأنس بتلك الأسر كلبٌ أو قطّ، حملت تلك الأسر ذلك الحيوان ورمته بعيدا عن مكان سكنها. يعامل الشاعر في الرواية كأنه "قط" أو "كلب" يزيد أعباء الأسرة المادية بعد تدهور أحوالها الاقتصادية وتراجع أرباح مصنع الأب. هذا المنطق نفسه هو ما دفع كثيراً من الأسر الغربية للأسف في ظل "الحجر الصحي المنزلي" الحالي بفعل الإجراءات الاحترازية من فايروس كورونا إلى التخلي عن حيواناتهم الأليفة، وخاصة الكلاب والقطط، فهامت في الشوارع والأزقة، فتولد من ذلك التصرف مشاكل بيئية وربما أكثر من بيئية، سلوك يكشف بالتأكيد الأنانية المفرطة للإنسان المعاصر.

إن صورة الشعراء في هذه الرواية ليست حسنة في مظهرها، بل تبعث على الشفقة والاستهزاء، وظهر الشاعر في سلوكه منفصلا عن الواقع تماما، وكأنه مُكلّف فقط بردم الهوة بين أحلام الناس وواقعهم، ما يعني أنه يعيّشهم في الوهم، فما معنى النافذة على الجدار؟ وهل هي تفتح نافذة على البحر؟ وهل رسم قطعة اللحم بطبق السبغيتي يغني عن اللحم نفسه؟ إن شيئا من الوهم يسوّقه الشعراء في جملهم وسلوكياتهم أيضا. هذا خطاب مستدعى من الرواية كذلك، وهو محلّ مساءلة وتمحيص.

ولكن هل يعقل أن يسخر روائيّ من الشعراء بهذه الطريقة؟ ثمة أمر آخر إذاً من وراء كل ذلك. لقد عمّق الكاتب الهوة ما بين الثقافة بوصفها حاجة ضرورية ولكنها غير ملموسة، وبين الحاجات المادية الملموسة وخاصة الطعام، وأفرد الروائي لبيان هذه المسألة الفصل الأخير الذي أطلق عليه عنوان "ما يشبه الخاتمة" فلا داعي لأعيد ما قاله، وقد بينت مضمونه فيما سبق.

عدا هذه المسألة التي شرحها الروائي من خلال الأوضاع الاقتصادية في بلاده، ثمة أمور أخرى مهمة في هذه الرواية تكشف عن أهمية وجود "الشعر" في حياة الناس وأنه لا بد منه، فلم ينقذ الأب من إفلاسه سوى بيت شعر من هذا الشاعر، والأخ الذي كان ينظر إلى الشاعر بازدراء واضح حقق بعض المكاسب من ذلك البيت الذي كتبه له على ورقة وأعطاه إياها، وعدا تأثيره الواضح في الطفلة الساردة كما أشرت آنفا، فقد ساهم في تحقيق الثورة، ثورة الأم على الأب، فتقوم بطرده خارج المنزل، وتمتنع عن صنع الطعام لابنتها فبإمكانها أن تصنعه هي، كل ذلك التغير في شخصية الأم كان بفعل كثير من الجمل التي كانت تسمعها من الشاعر نفسه، لقد جعلها "الشعر" تلتفت إلى ذاتها، وشكلها، وتهتم بنفسها. ومن الملاحظ أن الأثر الأكبر للشاعر كان بعد طرده من البيت، كأن الكاتب يريد أن يؤكد فكرة الشعر وليس الشاعر، فقد كان الأثر بعد ذلك لكلمات الشاعر، وليس بشخصه هو، لذلك فإنه، كالشخصيات الأخرى، حضر باهتا وبلا ملامح تسترعي الانتباه، أو تدعو إلى التركيز عليها. وبهذا استطاعت الرواية أن تنحو منحى التجريد مع احتفاظها بعنصر التشويق ودون الوقوع في شرك التنظير المنفّر.

لعلّ قراءة العنوان مرة أخرى بعد إتمام الرواية، سيصبح له في النفس مدلولٌ آخر، فلم تعد تحمل معنى التهكم والسخرية من الشعر والشعراء، بل أصبحت تعني "هيا نشترِ شاعرا" معنى إيجابيا، بعيدا عن معنى "الامتلاك" بالمفهوم الرأسماليّ، بل بمعنى الاهتمام والحرص على وجوده، كما في معنى المثل الشعبي الفلسطيني "اللي ما إله كبير بيشتري له كبير"، دلالة على أن الحياة لا تستقيم بغير الشاعر، أو بغير الثقافة التي جُعل الشاعر دليلا عليها، ويحمل رمزيتها، وبذلك يكتسب الشاعر منزلة عليا في سلم القيم الثقافية المجتمعية والفردية على السواء.

كل ذلك يؤدي إلى أن الثقافة عموما هي حاجة مهمة للتطور البشري وللتوازن العاطفي والسلوكي، وهي النتيجة التي أكدتها الأبحاث التي استند إليها الروائي في "ما يشبه الخاتمة"، وعرض شيئاً منها.

وعلى صعيد آخر كشفت الرواية عن مأزق آخر للثقافة في ظل الحياة الاستهلاكية الرأسمالية التي تغرق فيها المجتمعات، فالثقافة أول ما يتم الاستغناء عنه في مثل هذه الظروف، مثلما حدث مع طرد الشاعر. فلم تشكل أولوية في ذهن صانع القرار، وإنما دائما تندرج الثقافة في باب الترفيه والتسلية، وإن تعارضت ثقافة مع رأس مال، لا بد من أن تكون الضحية هي الثقافة. هذا أمر ليس مقتصرا على نظام دون آخر، بل هو سمة عامة تجدها في النظام الرأسمالي، كما في النظام الشيوعي، كما هي في النظام الإسلامي.

واستطرادا في موضوع الثقافة وعلاقتها بالأنظمة الرأسمالية، وخروجا قليلا عن موضوع الرواية، فإن الرأسمالية في المجمل لا تحترم التراث الثقافي ولا الثقافة، فهي مستعدة للتخلي عنها بالكثير من اللامبالاة، بل ربما وظفت الثقافة والمثقفين لمصالحها السياسية، كما حصل مع مجلة شعر اللبنانية وعلاقتها بالمخابرات الأمريكية، بل ورعاية المخابرات الأمريكية لكثير من الأنشطة الثقافية في بعض دول المعسكر الشرقي أيام الاتحاد السوفياتي، وأدخلت الثقافة في سياق الحرب الباردة، وقد أفاض في الحديث عن هذه القضية (ف. س. سوندرز) في كتابه "الحرب الباردة الثقافية". ربما لم تظهر هذه الفكرة في الرواية بشكل واضح، ولكن يمكن استدعاؤها أيضا إذا أراد المرء توسيع دائرة البحث فيما وراء الفكرة الأعمق من الرواية.

جاءت هذه "النوفيلا" رواية فكرة بامتياز، وقد اعتمد الروائي على تقنية التجزيء المتعدد للبنية الروائية، ومرّر أفكاره بين العناوين بسلاسة كبيرة، ولم يكن للأحداث والشخصيات أهمية كبيرة في السرد، وإنما جاءت كل العناصر لتخدم فكرة أهمية الثقافة في حياة المجتمعات، وقد عزّز كل تلك الأفكار في العنوان الأخير "ما يشبه الخاتمة"، إذ يصبح ما كُتب تحت هذا العنوان جزءا أصيلا من بنية الرواية، وربما من أجل ذلك أطلق عليه هذا العنوان المخاتل "ما يشبه الخاتمة"، حيث شرح الكاتب الفكرة وعممها ولم يقصرها على الشاعر، بل أدخل في الحديث الثقافة عموماً، فمثّل الشاعر استعارة لفكرة الرواية ليس أكثر.

لم يمنع هذا التعميم الشامل لكل جوانب الثقافة من أن يستشهد الروائي في هذه الرواية بشعر شعراء كبار أشار إليهم في آخر صفحة، وبلغ عددهم أربعة عشر شاعرا كان من بينهم ت. س. إليوت، وييتس، ووالت ويتمان، وقد جاء هذا الاستشهاد إما ظاهرا، مقتبسا جملا كاملة من أشعارهم، وإما أن يكون لهؤلاء الشعراء وشعرهم حضور بين السطور، فيقول الكاتب في آخر ما خطّه في روايته: "ولكن، إن انتبهنا، يمكن أن نتفاجأ بهم يتطلعون إلينا بين كلمات هذا الكتاب".

إنها رواية الاحتفاء بالشعر والشاعر وبالثقافة عموما وانتصار لتلك القيم، في مقابل قيم المادة والمال، فهلّا اشترى كلّ واحدٍ منا شاعرا، يتخذه دليلا لحياته ليجعل للحياة متعة وفائدة كذلك؟

اتفقت البشرية على قياس عنصر الزمان من خلال حركة الشروق والغروب بالنسبة للشمس، أو حركة القمر وأطواره بالنسبة للقمر (التقويم الشمسي، والتقويم القمري) ثم تعارفت على تقسيم اليوم إلى ساعات، والساعات إلى دقائق، والدقائق إلى ثوان، وجمعت الأيام ثلاثين يوماً لتصبح شهراً، وجمعت الاثني عشر شهراً لتصبح سنة، قال تعالى:

(إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض) (التوبة 36).

فلو أنك طلبت من صديق لك أن يقابلك في الساعة كذا، لما وجد أي مشقة في فهم عنصر الزمان الذي تريد، لأن عنصر الزمان الخارجي متعارف عليه بين البشر بكل وضوح ودقة، ولكن الشيء الذي يثير الارتباك ويربك الأفهام، هو قيمة الزمن عند النفس البشرية في الأفراد والجماعات، إذ لا يكاد يتفق الكثير من الناس على قيمة الزمن ليس من ناحية الأهمية في استغلاله، ولكن من ناحية إدراكه ومروره وشعورهم به واستقبالهم له وتفاعلهم معه.

فقد تمر الدقائق التي تراها كأنها دهور طويلة عند نفس خائفة مرتبكة، وقد تمر الليالي كأنها دقائق أو لحظات عند نفس سعيدة مسرورة.

وإذا حاولنا أن نتتبع مرور الزمان على النفس البشرية وكيفية استقبالها له، وإدراكها لقيمته، وجدنا العجب العجاب في هذا الجانب من كثرة المواقف وتعددها وتباينها.

هذا شاعر العرب في الجاهلية (امرؤ القيس) يرى الليل ثابت النجوم ثقيل الظل، لأن حالته النفسية رسمت له الليل بهذه الصورة القاتمة عند إنسان قلق تأكله الهموم:

وليل كموج البحر أرخى سدوله      علي بأنـواع الهموم ليبتلي

فيالك مـن ليـل كـأن نجومه      بكل مغار الفتل شُدَّتْ بيذبل

بينما نرى شاعراً يصور الزمان الطويل ليلة دخوله على عروسه، كأنه لحظات ضئيلة لم يصح منها إلا بهجوم كهجوم الحرس:

حين تم النوم مع حلو اللمى     هجم الصبح هجوم الحرس

ويطالعنا أبو العلاء المعري بصورة أخرى لمرور الزمن مريرة كسواد الليل:

ليلتي هذه عروس من الزنج     عليـها قـلائـد مـن جمان

هرب النوم عـن فؤادي فيها     هرب الأمن عن فؤاد الجبان

ويجمع ابن زيدون الصورتين معاً، فيساعدنا على إدراك الحقيقة الكاملة، وهي أن الإنسان يرى الزمان من خلال حالته النفسية، فعلى قدر سعادته وسروره يرى السنوات الطويلة تمر خفيفة كلمح البصر، أما إذا ضاقت نفسه بالحياة ذرعاً، فإنه يراها بمنظار آخر ثقيلة الظل بطيئة المرور:

إن يطل ليلي بعدك فلكم    بت أشكو قصر الليل معك

ويورد القرآن الكريم لنا رؤية النفس البشرية للدنيا في قوله تعالى:

(حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) (التوبة 118).

والسبب في ذلك أن النفس البشرية تدرك الدنيا من حولها إدراكاً "مصلحياً" مرتبطاً بهواها ورغبتها في الإشباع، فإن شبعت هدأت، وإن حرمت سخطت، وضاقت بالزمان والمكان.

فالأرض الواسعة رغم سعتها ورحابتها، تراها النفس ضيقة خانقة الضيق، في حال الأزمات وأوقات الشدائد والخوف، ولعل السبب في ذلك يعود إلى ابتعاد النفس عن إدراك حقائق الحياة الموضوعية بحياد منقطع عن الإشباع وتحقيق الأطماع، فالحياة من حولنا لا هي ضيقة ولا هي واسعة، ولكن يلزمها أن ندرك حقائقها كما هي، وليس كما ترى وترغب الأنفس، ولو تابعنا هذه النفس بشيء من التربية لتغيرت نظرتها للحياة، وأدركتها بحكمة واسعة كما يدركها العاقلون. قال الشاعر:

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها   ولكن أخلاق الرجال تضيق

ويقول آخر:

والذي نفسه بغير جمال    لا يرى في الوجود شيئاً جميلا

أما آن للنفس البشرية أن تدرك قول الله تعالى:

(ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الرعد 68).

لأن الإيمان هو المخلص الوحيد لها من عذابها وهلعها، وهو الدافع لها نحو الأمن والطمأنينة، بعد أن تدرك أنه لابد من التسليم لخالق هذا الكون، كما سلمت بقية الكائنات، وأنها مهما خدعت ذاتها بالهموم والمطامع والبحث عن السعادة الكاذبة في غير منهج الله، فلن تصل للسعادة إلا بأن تسلم، بأنه لا ضرر ولا نفع إلا بإذن الله سبحانه، وإذا عرفت أن الكون هو ملك الله، وأن جميع المخلوقات عباد الله، وبأنه لا يجري شيء في هذا الكون إلا بعلمه، عندها يطمئن الإنسان، ويأنس بهذا الكون ويذهب عنه الخوف والهلع، وما علينا إلا أن نتذكر قول القاضي عياض:

(عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين

وإياك وطريق الباطل ولا تعجب لكثرة الهالكين).

هذه الطريق هي الوحيدة القادرة على رفع اليأس والشكوى من الزمان والخوف والقلق من نفس الإنسان، ليحمل المشاعر الإيجابية الصحيحة تجاه الحياة والأحداث.

صحيح أن الشاعر يرى الحياة من خلال الذات والنسبية بشكل عام، ولكن الشاعر المسلم تتهذب ذاته ونسبيته، من خلال الخضوع لمنهج الحق، فيرى الحياة بفراسة المؤمن الذي يرى بنور الله. جعلنا الله من أصحاب النفوس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية.

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )

clip_image002_73934.jpg

لا يحمل وصف ديوان ما بأنه "كلاسيكي" أي دلالة إيجابية أو سلبية، إنّما يشير وبحياد مطلق إلى ذلك المذهب الفني الذي استند عليه الشاعر ليكتب ما أراد كتابته، ولكل شاعر الحق في اختياره المذهب الذي يريده.

إن هذه المقدمة لا تمثل "احترازا" نقديا استباقيا تجاه ديوان "سدرة المشتهى"[1] للشاعر والروائي إياد شماسنة، وإنما محاولة تأسيس أفق خاصّ لتلقي قصائد الديوان، فتتم محاكمته بناء على مذهبه، ومن التعسف معاملة الديوان بأفق بعيد عن تلك الكلاسيكية التي تجسدت في قصائده، بدءا من العنوان وانتهاء بالصنعة الكلية للكتاب بوصفه ديوان شعر، مرورا بكل قصيدة على حدة.

تتضح الكلاسيكية منذ البداية في عنوان الديوان "سدرة المشتهى"[2]، ودون الدخول في تفاصيل العناوين وأهميتها في النقد البنيوي، يلاحظ القارئ استناد العنونة على محاكاة النص الديني، إذ يحيل إلى التعبير القرآني "سدرة المنتهى"[3]، ولكن هذا العنوان لا يحيل القارئ إلى أي شيء داخل الديوان، ولا تنمو حوله أية فكرة أو قصيدة، بل ربما لاحظ القارئ فصلا بين الديوان وعنوانه، كأن هذه الرأس "العنوان" لجسد آخر غير جسدها. لعل ما حدا شماسنة وهو يستقر على العنوان هو بحثه عن الإدهاش في إيجاد عنوان مغرٍ، وهذا حق للكاتب، بل مسعى حميد له، ولكن دون أن ينسى أنه لا بد من علاقة بين العنوان والديوان، وإلا كانت مجرد دهشة أولى تتلاشى تدريجيا كلما أبحر القارئ في نصوص الديوان.

تقودني هذه الفكرة إلى الإشارة إلى العنونة الكلاسيكية في النص الديني نفسه، وعنونة الكتب التراثية، فإذا ما كانت هناك علاقة ما بين النص وعنوانه في تلك الكتب، تجد أن عنوان "سدرة المشتهى" يبحث له عن متكأ فلا يجد أفضل من غلاف الديوان فحسب، ليظل وحيدا، لم ينحلّ بصورة أو بأخرى داخل الديوان، فلا رؤيا تحكمه، ولا فلسفة واضحة تؤطّره.

وما يزيد من غربة العنوان القصائد ذاتها، إذ إنها- بعيدا عن جودتها أو رداءتها بحد ذاتها- لا تشكّل وحدة رؤيا لدى الشاعر في الديوان، بل هي قصائد مجمّعة، قيلت في أزمان متباعدة، وظروف متباينة، ليصبح الديوان عبارة عن "مَجْمَع قصائد"، وليس ديوانا بالمعنى الذي يجب أن يكون عليه ديوان الشعر.

لقد سبق وناقشت هذه المسألة مرتين، مرة عندما طرحت سؤالَ "هل تفكر بإصدار ديوان شعر"[4]، والمرّة الثانية عندما تعرّضت بالدراسة والكتابة عن ديوان الشاعرة نائلة أبو طاحون "على ضفاف الأيّام"[5]، ثمة ما هو متشابه هنا أيضا، وملخص القول ما قاله الشاعر الفرنسي (جان- بيير روك): "ديوان الشّعر لا يجب أن يكون مثلا محشرا لنصوص متنافرة في الشّكل والمضمون ومتفاوتة في زمن النّظم، ديوان الشّعر هو شهادة حيّة على تجربة بعينها في حياة الشّاعر، وكذا ثمرة ما بلغه وعيه الفكريّ والجماليّ من تطوّر وليس أبدا تجميعا عشوائيّا لقصائد عثر عليها الشّاعر بالصّدفة في ملفّاته القديمة أو سبق أن نشرها متفرّقة في المجلّات أو استعادها من صديقات وأصدقاء كان قد أهداها لهم في مناسبات أعياد ميلادهم"[6].

لقد جعل الشاعر إياد شماسنة من الشكل الكلاسيكي الجامعَ الوحيد لتلك النصوص بين دفتي الكتاب الذي سيصبح ديوان شعر تحت عنوان "سدرة المشتهى"، لقد أطّر تلك القصائد النمط الكلاسيكي للقصيدة الشعرية العربية، وهي قصيدة الشطرين، تلك القصائد التي تسير وفق النظام العروضي للخليل بن أحمد الفراهيدي، لكن الشاعر آثر أن ينثر الأبيات على جسد الصفحات لتبدو للناظر وكأنها "شعر حرّ"، وهي في حقيقتها أبيات منتظمة في قصائد موزونة، ذات شطرين بقافية واحدة لكل قصيدة.

هل يحقّ لأحد أن يسأل الشاعر لم فعلت ذلك؟ هل فكر الشاعر في مراوغة القارئ عبر هذه الخدعة في تشتيت نظام البيت الشعري؟ هل فكّر الشاعر مثلا بالاعتداء على الشكل الفني للبيت وتقطيعه بهذا الشكل، كأنه نوع انتقام من كلاسيكية البيت القديمة وتجاوزها؟ وهل رأى الشاعر أيضا أنه بهذه الطريقة قد كسر الطوق الكلاسيكي وتحرّر منه؟ هل ظن الشاعر، وهنا ربما من سوء الظن وبعض الظن إثم بالتأكيد، أن الشاعر قد استغبا القارئ فيما فعل؟ ولكن لماذا لا أفكر بالمسألة بطريقة مغايرة من قبيل: ربما مشكلة تقنية دفعت الشاعر إلى التعامل مع الأبيات بهذه الطريقة؛ إذ إن ترتيب الأبيات بشكلها الكلاسيكي (عمودية ذات شطرين) فيه بعض الصعوبة، فمن رقن تلك القصائد على الحاسوب اختار الأسهل، إذ لو كتبت بشكلها الكلاسيكي المعهود دون التنسيق المطلوب لبدت قصائد غير جميلة في الشكل، ربما كان ذلك دافعا مهما لاختيار هذا المخرج مراعاة للناحية الجمالية.

ولكن ألا يمكن أن تحمل هذه الطريقة رسالة فنية؟ وهذا من باب حسن الظن الذي ربما كان بعضه إثماً أيضا، فالشعر هو شعر، سواء أكان مكتوبا بطريقة كلاسيكية أم بطريقة مراوغة، فالمعوّل عليه هو عناصر الشعر الفنية ومحتواه، وذلك الإكسير الغامض الذي يجعل الشعر شعرا.

لقد قلت إن هذا من حسن الظن، وحسن الظن كسوء الظن أيضا بعضه إثم إن لم يكن كله إثما. فكيف ذلك؟

إن قراءة فاحصة للقصائد تبين أن هذه القصائد ظلت كلاسيكية في مرجعياتها الفكرية، وفي تناصاتها الدينية والتاريخية والأدبية، ولم ألحظ تطويرا للفكرة التي تناصّ معها الشاعر، وظلت كلاسيكية كذلك في لغتها التي تمتح من معجم اللغة الشعرية القديمة، فظهرت ألفاظ: السيف والمرسوم والخيول والصعاليك وجمر الغضا والجحفل والمرجفون، وغيرها.

إن هذه الكلاسيكية لتبدو واضحة إذ تستدعي تلك النصوص الشعرية أصوات الشعراء السابقين، ومحاكاة باردة لأشعارهم وقصائدهم، وكأنها تعيد إنتاج النص السابق، فلم تدخل في حالة من الاشتباك المعرفي مع ذلك التاريخ الممجد في القصائد، فظل الشاعر أسير تلك القناعات الرابضة في بطون الكتب الدينية والتاريخية والأدبية، ولم يغادرها ليناقش على نورها أو نارها مشاكل اللحظة الراهنة، وإن حاول أن يوجد علاقة مع الواقع المعيش أحياناً إلا أن تلك العلاقة غدت خجولة، رجعيّة، لترتبط كل المسائل بتلك الرؤى القديمة، فتكشف تلك القصائد عن أفكار الشاعر ومعتقداته الدينية والسياسية، فلم يتحرر من ذلك التاريخ الذي أرجع القارئ إليه.

كما أعادت تلك القصائد القارئ إلى كلاسيكيات الإيقاع للقصيدة القديمة، تلك الإيقاعات الناشئة عن الألفاظ التراثية والقافية المعجمية القوية، وبناء الجملة الشعرية، فثمة قصائد عربية قديمة تسكن في "سدرة المشتهى" منذ العصر الجاهلي وحتى العصر المملوكي والبيئة الأندلسية، وربما أيضا حضرت بعض أصوات شعراء العصر الحديث من الكلاسيكيين الجدد، عدا ما يعتري تلك القصائد من عيوب الشعر الكلاسيكي كغياب الوحدة العضوية في بعض القصائد، واعتمدت بدلا من ذلك على "وحدة البيت"، فلا رابط بين أبيات بعض تلك القصائد سوى الوزن والقافية، وتلك اللغة التي أشرت إلى بعض ملامحها.

ثمة مشكلة حقيقية أخرى في هذا الديوان، حيث استند الشاعر في بنائه بعضا من قصائده وقوافيه على مقولة "الضرورات الشعرية" القديمة، هذه المقولة التي تحرر منها الشاعر المعاصر، إلا إن شعراء الكلاسيكية الجديدة لا بد من يركنوا إليها إذا ما أصاب القصيدة خلل ما. لقد وقع الشاعر في العديد من الأخطاء، ولست أقصد بطبيعة الحال أخطاء الضبط التي تقع سهوا، وإنما تلك الأخطاء النحوية التي يرتكبها الشاعر قصدا من أجل استقامة الوزن، وكانت مبثوثة في ثنايا قصائد متعددة.

لقد عزز الشاعر كلاسيكيته في اجتراح الحكمة، وهي إحدى مميزات النص الشعري القديم، وخاصة عند الشعراء الفحول، وتعيد هذه الحكمة إلى الأذهان صورة الشاعر التقليدية، إذ كان حكيما رائيا، يقينيا، عكس القصائد الحديثة للشعراء المعاصرين، فلا تبحث عن الحكمة ولا عن اليقين، بينما قصائد "سدرة المشتهى" تستند إلى يقينية المعنى والمعرفة، فكانت تنتهي بالحكمة بدل أن تنتهي يقلق السؤال أو دهشة الذهول في البحث عن مجهول، تطارده القصائد المعاصرة غالبا.

لقد ساهم هذا العامل مع عوامل أخرى أشرت إليها سابقا في خفوت الصورة الشعرية في الديوان، فغابت الصورة الشعرية اللافتة للنظر، فانغماس تلك القصائد في كلاسيكيتها حرم الشاعر من بناء صوره الشعرية المغايرة لغيره، وبالتالي خلّق شعرية خاصّة به، ويضاف إلى تلك العوامل التي أثّرت في الصورة الشعرية، اعتماد بعض القصائد على السردية، فكانت أشبه بالقصص أو بالسرد التاريخي لوقائع غابرة، فوقعت تلك القصائد في غواية نظم المعنى المترابط في الذهن حتى لتشعر أن تلك القصائد قد قيلت بصنعة سردية واضحة، لكنها ليست "الصنعة البلاغية" بالمعنى الإيجابي لمفهوم الصنعة. لقد أفادت تلك السردية تلك القصائد القصصية في تحقق الوحدة العضوية والموضوعية التي غابت عن قصائد أخرى، ولكن هذه السردية جفّفت ماء الشعر وحدّت من رواء القصيدة ومن بهاء اللغة.

لقد سيطر على إياد شماسنة في هذا الديوان النّفس السرد الذي كان له حضور في كثير من العناصر، فتراجع الشعر فيه كثيرا لصالح الرؤى السردية، مما جعله أقرب إلى حكايات منظومة مسرودة بطريقة الوزن والقافية، وهذه المسألة ليس لها علاقة بتداخل الأجناس، كما قد يتوهم بعض النقاد أو الدارسين، وإنما هي ملمح، إن لم أقل مشكلة، ظهرت لدى الشعراء خلطوا الشعر بالرواية في مشروعهم الأدبي، فأفسدوا أحدهما إن لم يفسدوا الاثنين معا، فتراجع الخيال الشعري الخلّاق لصالح السرد البسيط. بل إن الشاعر مات أو كاد في نفوس هؤلاء الشعراء الروائيين ولم يعد له وجود، وأخشى أن يكون صاحب "سدرة المشتهى" من هؤلاء الشعراء الذين أماتتهم الرواية في دهاليزها وردهاتها الواسعة.

______________________

الهوامش:

[1] صدر الديوان عن دار موزييك للنشر والدراسات، تركيا، 2020.

[2] يشار إلى أنّ عنوان الديوان مسبوق إليه بديوان شعر آخر يحمل الاسم ذاته للشاعرة المصرية دعاء رخا، صدر عن دار لوغاريتم عام 2019.

[3] ورد هذا التركيب في الآية الرابعة عشرة من سورة النجم.

[4] يُنظر: بلاغة الصنعة الشعرية، دار روافد، القاهرة، 2020، (ص339-343).

[5] يُنظر المقال في موقع ألترا صوت من خلال الرابط الآتي: https://cutt.us/tizoe

[6] الشعر في زمن اللا شعر، ترجمة رشيد بنحدو، دار الصّدى، 2016، ص120-121.

????1) في نحو قوله تعالى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) قالوا: *’خُلِق’* فعل ماض مبنيٌّ لما لم يسمَّ فاعله’، بدلا من ~’مبنيّ للمجهُول’~

????2) وفي نحو قول: (واتَّقُوا اللهَ)، و(أستغفر اللهَ)، و(سألتُ الله)َ، قالوا: ‘اسم الجلالة منصوبٌ على التعظيم’، بدلا من ~’مفعول به،~

????3) وفي نحو قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، و(رب اغفر لي)، قالوا: ‘اهدنا/اغفر : فعل طلب/دُعَاءٍ’، بدلا من ~’فِعل أمر’~

????4) ونحو: (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) قالوا: *’اللام للدعاء’*، بدلا من ~’لام الأمر’~

????5) ونحو: (ربنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)، قالوا: *'(لا) حرف دعاء’*، بدلا من ~’ لا الناهية’~

????6) وقالوا: إنَّ «عسى» من الله سبحانه تُفيد التحقيق،

بدلا من ~’الترجي’~

????7) ومن ذلك التَّورعُ من القول في حرفٍ من القرآن ~إنه حرفٌ زائد~ٌ، كقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) *فالكافُ صلةٌ أو حرف توكيدٍ.*

clip_image002_d5388.jpg

شهور عدة لم أقرأ فيها قصائد أو دواوين شعر إلا صدفة، بعضها كنت أقرأها ولا تترك أثراً بذاكرتي والبعض وهي القلة مما قرأت ما ترك أثراً لا يزول بسهولة، فالشعر وخاصة النثري إن افتقد اللوحات الفنية والرمز والجرس الموسيقي لن يتجاوز مستوى الخاطرة المكتوبة على شكل شعر والشعر منها براء، وفي عصر الثورة الرقمية وكون المجال مفتوح للكتابة والنشر لكل من أراد، بتنا نغرق في بحر من الرداءة وطوفان المستشعرين، فأصبحنا نعاني من كثرة الشعر وقلة الشعراء، وهذا ما نلمسه الآن بالرواية التي أصبح كل من هب ودب يكتب روايات لا علاقة لها لا بالرواية ولا بالكتابة.

وفي ظل هذا البحر المتلاطم قرأت قصيدتين للشاعرة المتمكنة رفعة يونس أثارتا روحي للقراءة والتمتع أكثر من مرة، وأثارتا قلمي ليكتب بعد طول غياب عن الكتابة وقراءة النصوص الشعرية بروحي وقلمي، والنص الأول حمل اسم "بين الربيع وكورونا" وهو نص من عنوانه أنه حديث العهد كتبته الشاعرة التي تسكن مدينة عمَّان في ظل منع الحركة وحظر التجوال بسبب الجائحة العالمية التي تمكنت الحكومة الأردنية من محاصرتها بخطوات شديدة ولكنها صبت في مصلحة المواطن، وفي هذا النص والأشبه بهمس الروح شوقا للربيع الذي حرمت منه، نجد نصا اجتمعت به عدة لوحات حطت على مهل، فاللوحة الأولى وصفت الربيع وإطلالته، واللوحة الثانية لوصف الحال الذي أصبحنا به حين فرحنا بالربيع ولم تطل الفرحة، حتى داهمتنا هذه الجائحة التي انتشرت كمرض مخيف ومميت في أنحاء العالم فحصدت الآلاف من الأرواح ومئات الألوف من الضحايا الذين أصابتهم العدوى، لتعود في لوحة أمل للربيع والفرح والأمل بانتهاء هذه الجائحة والمحنة والحلم بغد أجمل..

كان وصف الربيع متميز برسم اللوحة الربيعية بالكلمات فقد صورته كعطر ناعم وكعريس "يتهادى هذا الربيع" على " غيمة عطر ..سماوية"، ناثرا للزهور وعرائش الورد " ليشعل هذا الكون ...زهورا" ممسدا لعشب الحقول مرخيا جنون الظفائر فترتاح الأرواح لمشهد الربيع "يبعث خدرا في الأرواح" وجمالا في الطبيعة والروابي فهو" جمالا شهيا . ..في الربوات" ، لتنقلنا من هذه اللوحة الشاعرية الجميلة والمتميزة الى لوحة ثانية مناقضة للأولى تصور آثار هذا الزائر العابر فجأة متسللا من تحت أجنحة الربيع، فيجعل المدن خاوية "مدائن خاوية، إلا من وسائل هذا الموت، والطرقات فارغة والعيون ترقب من خلف النوافذ أفواج الراحلين" يلملم كل خطى المارين، عن الطرقات، وأرصفة الانتظار"، ويترك الجميع مع قلوبهم ولكنها "قلوبا واجفة"، ولا بد من الإشارة لحجم الأمل في روح الشاعرة حين وصفت هذا الوباء بأنه زائر وعابر " ذاك العابر".

في اللوحة الثالثة تعود روح الشاعرة التي رغم كل شيء لم تفقد الأمل ولم تستسلم للواقع المخيف والمؤلم، فهي ترى أن الربيع يعود لينثر الفرح، يغسل الطرقات من آثار هذا الزائر المزعج، فهو "يسري كهفهفة الريح" ويقوم هذا الربيع و"ينفي جائحة ...قد حلت"، وهو "يسرج مهر الحكايا في خلد الأحفاد" حيث ستصبح هذه المرحلة بعض من ذاكرة في أذهان الأحفاد، فالربيع سيعود من جديد آتيا لنا وحاملا " أعراسا...وشالات للفرح".

الجميل في هذا النص أنه أتى لروح الشاعرة في ظل اشتداد الأزمة وكأن روحها تهمس لنا: "اشتدي يا أزمة تنفرجي"، وأن الشاعرة رغم الخوف الجاثم على صدور سكان الكرة الأرضية قاطبة، كانت تحلم بالفرح وترى أن هذا الوحش الذي اجتاحنا ليس أكثر من زائر عابر للطرقات، وأن نسمات الربيع والأمل والفرح سيكون لها دورها بكنس آثاره وعودة الفرح للأرواح المتعبة.

للشاعرة رفعة يونس بصمتها الخاصة في قصائدها ونصوصها، وفي نصها الثاني "في يوم ميلادي" ... الذي قرأته وشدني نراها كما كل عام تواكب ذكرى ميلادها مع بوح روحها، وهذا العام وفي ظل الحصار ومنع التجوال والتوتر الذي يعيش به الناس في أردننا الحبيب وفي العاصمة عمَّان، تهمس في نصها للغد الجميل فهي ونحن في الربيع المعطل والموقوف تهمس للربيع في عيد ميلادها وتقول: "سأهدهد زهر الحقول، أردد للنوار بواكير أحلام"، والربيع بعيد عن الرؤيا فلا سيارة يمكنها أن تسير ولا حافلة، ولا يمكن لإنسان أن يخرج من نطاق بيته إلى مكان آخر، فكيف للطبيعة والجمال؟ لكنها الحالمة دوما لا تتوقف عند حدود هذا الحلم، بل تصر أن تقول: "أشدو للعاشق، ذاك المتيم ....بالعينين، ترانيم وجد، قصائد حب"، وبدون أن تحدد من هذا العاشق وتكتفي بالإشارة للمجهول "ذاك المتيم"، فما يعنيها ليس من يكون هو فهذه مسألة تبقى بين نبضات قلبها التي تشدو له ذلك العاشق، فقد أعطته الصفة العامة حتى تصل للهدف، وهدفها معلن وهو الفرح رغم كل الظروف المحيطة والخوف الذي يجتاح العالم، وتراه وهو يجول المدينة مع انطلاق صافرت الإنذار في كل يوم، فتقول: "ألملم نجمات الصبح أنظمها للجيد قلائد".

فالغد ما يهمها فتحلم من أجله ولا تترك المجال للخوف أن يجتاح محيطها الصغير بين أزهارها وأسرتها، فهي في روحها كانت وما زالت " تحرس ما قد تبقى من صهوات العمر"، وتصر أن يبقى الغد هو الحلم الأجمل فتعزف له: "سيمفونيات ...أناشيد، تعلن ...أن القادم أبهى وأجمل"، فبالحب والإيمان وحدهما مقتنعة "أن جدار العتمة لابد ينهار"، و "أن شموسا ستشرق تملأ الكون"، وتشبه النور القادم منها في تشبيه جميل بالخيول الأصيلة" تملأ الكون صهيلا للنور"، فالخيول من تصهل وهنا النور كأنه خيول قادمة تحمل رايات الانتصار وتصهل، وتجلب معها "شالات.. صبوات لأحلى نهار".

هكذا اعتادت رفعة يونس أن تحلّق روحها في قصائدها، مقدمة ومتن وخاتمة، فنقرأ قصة على شكل قصيدة، وقصيدة كما أنها قصة، فهي تتقن اللغة وتمتلك الروح وتبتعد عن السرد وتكثف الكلمات، وتبدع باللوحات المرسومة بالكلمات، فلم أمتلك وأنا أجول بين حروفها الصمت.. فتكلمت..

المزيد من المقالات...