هل أفسدت الرواية ذائقة الشعراء وأصبحت خالية من تلك الحساسية المرهفة للجملة الشعرية أو المعنى الشعري أو العنوان الكلي للمجموعة الشعرية؟ هكذا أفكر في ديوان "الحب شرير" للروائي إبراهيم نصر الله الصادر مؤخرا عن دار نشر محلية فلسطينية، وهو في الأصل صادر عن الدار العربية للعلوم- ناشرون عام 2017. عدة تساؤلات واستفسارات تثار حول مسألة إعادة النشر، ومنها:

أولا يلاحظ اختلاف العنوانين، حيث اختلف العنوان في الطبعة الفلسطينية، واختفى منها العنوان الفرعي الذي كان في الطبعة الأولى: "طوق الذئبة في الألفة والاستذآب". وهو بالطبع يحيل إلى مدونة سردية عربية مشهورة، وأقصد كتاب "طوق الحمامة في الألفة والألّاف"، ولا بد للمرء من ملاحظة هذه المحاكاة في العنوان محاكاة تقليدية جدا تقلب العنوان الأصلي وتحوّره ببساطة وسذاجة كبيرة، ولعل نصر الله قد أدرك ذلك بما تبقى لديه من حس شعري، فتخلى عنه في الطبعة الفلسطينية. أبقى على "الشرير" وأطلق سراح الذئبة بعيدا، لتظل في فضاء الطبعة الأولى. مع أنه أبقى على الذئبة لتحتلّ الواجهة في غلاف الديوان.

ثانيا: ما الذي يدعو نصر الله لإعادة نشر ديوان منشور منذ سنتين؟ وهل فعلا نفدت نسخ الطبعة الأولى؟ وما أثر الروائي على الناشر ليدفعه لإعادة نشر ديوان قديم؟ وأغلب الظن هو سعي الناشر وليس اقتراح الشاعر. وهنا لا بد من طرح سؤال سيطرة الروائي على الناشر مرة أخرى، هذه السيطرة التي لم ينجُ منها الشاعر نفسه، وخاصة في الإحالة المشار إليها أعلاه، هذه السطوة للروائي نصر الله ستساعد الناشر والشاعر نصر الله في تسويق كتاب قديم وديوان مضى عليه سنتان، بل يزيد. وهنا قد يسأل سائل: هل يموت الشعر فهناك شعر ما زال يُقرأ منذ مئات السنين؟ بالطبع لا يموت الشعر، ولكنه بالتأكيد ليس كل شعر جدير بالحياة وإعادة الطبع، وهل بالفعل نصر الله، شاعرا، مقروء بالدرجة نفسها روائيا؟ كنت قد طرحت ذلك وناقشته في كتابي "بلاغة الصنعة الشعرية"، وتناولت هذه الحالة مع شعراء روائيين ومنهم نصر الله نفسه وغيره من الشعراء المهاجرين إلى لجّة السرد الدافئة.

ثالثا: ما جدوى الطباعة مرة ثانية والكتاب متوفر مجانا بنسخة إلكترونية على موقع "جملون" وهو متجر كتب إلكتروني معنيّ بالدرجة الأولى بالتسويق وبيع الكتب، وليس معنيّا بمصلحة القارئ في توفير الكتب مجانا؟ وما الهدف من إتاحة هذا الموقع الكتاب للقراء مجانا؟ والسؤال الأهم ربما هل يتيح هذا الموقع كل كتبه للتحميل المجاني أو كل روايات نصر الله تحديدا؟ وهل يقدّم هدايا مجانية أحيانا للقراء رأفة بهم غير كتاب "الحب شرير"، وخاصة لمن لا يستطيع شراءه؟ ربما يفعل ذلك مع الكتب الكاسدة أو تلك الكتب الذي لا يقبل عليها القراء ليمتلكوها، وربما أيضا يسوّق بعض كتب الكاتب بكتب أخرى له، وهذه لعبة تسويقية يحكمها فكر رأسمالي نفعي بالدرجة الأولى، ولعلها لا تحمل بعدا ثقافيا يهتم بمسألة شيوع المعرفة، وسهولة تداولها. مع ملاحظة أن هذا الموقع لا يشير إلى عدد مرات تحميل الكتاب، ليكون مؤشرا قويا لإمكانية قراءة الكتاب على اعتبار أن كل من قام بتحميل الكتاب سيقرأ الكتاب كله أو بعضه. وكيف لدار النشر الجديدة أن تنافس النسخة المجانية؟ وهل بمقدورها أن تمنحه للقراء بسعر رمزي، ليس تشجيعا للشاعر الروائي، بل من أجل القارئ نفسه الذي سيفاضل بين شراء رواية أو شراء ديوان شعر، فينحاز إلى الرواية؟

رابعا: هل ستفلح دار النشر الجديدة الفلسطينية في تسويق الكتاب دون الارتكاز على وصف الروائي إبراهيم نصر الله، وخاصة فيما سيكون من حفل توقيع الكتاب الذي سيحضر الروائي بوعي أو دون وعي عند التسويق لهذا المعاد رفاته من على رفوف الكتب المنسية، لاسيما وأن الشعر كما يدعي الناشرون جميعا، وليس فقط الناشر الجديد لـ "الحب شرير" أن الشعر ذو سوق كاسدة، وقرّاؤه نادرون. هذه هي حجة الناشرين، ولكن قد يكون لها استثناءات خاصة في حالة كان الشاعر روائيا، كما هو الحال مع نصر الله الروائي؟ فقد جاء في عنوان خبر إطلاق الديوان المنشور في موقع "دوز" الإخباري نقلا عن وكالة "وفا" الفلسطينية: "صاحب رواية أرواح كلمنجاروا التي فازت على جائزة كتارا،....، يصدر ديوانا شعريا جديدا بعنوان "الحب شرير". (الخبر منشور في 19/9/2019 على الموقع الإلكتروني لدوز).

وأخيرا، هل كلّفت دار النشر الفلسطينية الشاعر نصر الله شراء مئة نسخة من الكتاب بسعر السوق؛ مساهمة منه بتكاليف الطباعة كما فعلت مع غيره؟ أشك في أنها فعلت ذلك، فالروائي نصر الله ليس شاعرا طارئا يبحث عن فرصة، بل هو روائي يتمسّح باسمه الناشرون، لما له من سطوة معرفية على القراء الذين يلتمسون فرصة ذهبية لالتقاط الصور معه كلما سنحت لهم هذه الفرصة، ليس بفعل الشعر وفضله بكل تأكيد، بل بفضل رواياته، وخاصة بعد فوزه بجائزتي البوكر وكتارا العربيتين. وبكل أريحية تتجاوز دار النشر عموما هذا الشرط مع البعض كما فعلتها أيضا غير مرة مع غير نصر الله، وليس هذا وحسب، بل إنها ستقوم بأفعال تسويقية متعددة لهذا الكتاب، مستندة في كل مرة على البعد الروائي؛ لتسند قامة الشعر التي تتهاوى بفعل أسباب كثيرة، ومنها الناشرون وتصرفاتهم بطبيعة الحال. ولهذا السبب ليس بمقدور دار النشر الجديدة، وهي دار ما زالت ناشئة وتستهدي الطريق، أن تمنح الكتاب بسعر رمزي، لدواعي الربح والخسارة لتنافس النسخة المجانية على موقع "جملون"، هل فكّرت الدار بهذا؟ أيضا لا أظن، فكون الكاتب روائيا مشهورا لا تهمها هذه الملاحظة ولم تلتفت إليها، ولن تلتفت إليها في المرات القادمة المشابهة إن فكرت بإعادة طباعة كتب منشورة سابقا، ولم تفكّر بالجدوى الثقافية قبل الجدوى الاقتصادية أو حتى العكس، لتقدم التفكير الاقتصادي على الثقافي.

آمل أن أكون مخطئا متجنيا هذه المرة، كما قد يتراءى للبعض، هذا البعض المأخوذ بهالة الروائي ليطبقها ببلادة على ما تبقى من ظلال الشاعر المنسيّ في جلباب الرواية الفضفاض، ولكنها تبدو لي تساؤلات مشروعة على هامش ديوان تعاد طباعته في ظل كساد سوق الشعر عموما، وتقلّص مساحة الشعر والشعراء والدواوين الشعرية لكبار الشعراء قبل صغارهم، ولم يبق من الشعراء المقروئين غير قلة قليلة نادرة.

 clip_image002_fec6f.jpg

صدر عن مؤسَّسة الثَّقافة بالمجَّان كتابٌ جديدٌ للأديب الدُّكتور إميل كَبا، يحملُ عنوانَ "قِراءات في ناجي نعمان"، وتزيِّنُ غلافَه لوحةٌ بريشة الفنَّان التشكيليّ جرَيج بوهارون. وهو يقعُ في 160 صفحة من الحجم الوسط، ويتضمَّنُ تحليلاً ونقدًا لأحد عشر كتابًا أدبيًّا لنعمان أدرجَها في سلسلة "حياةٌ أدبًا"، مع انتِقاء مُختاراتٍ من تلك الكُتُب، إلى قصائِدَ وتعليقاتٍ مختلِفةٍ لكَبا في نعمان، كتبَها منذ العام 2000 وحتَّى تاريخه.

وقد جرى التَّعريفُ بكتب نعمان بحَسَب تاريخ صُدورها، وكذا تَحليلُها ونَقدُها، فاختِيارُ مُنتَخَباتٍ منها، بدءًا بـ "الرَّسائل" الصَّادر في العام 1995، والمُتَضَمِّن "خمس وعِشرون" (1979) و"أنتِ الوطن" (1980)، وصولاً إلى "الفِكرُ مُهَروِلاً" الصَّادر في العام 2019، مُرورًا بـ "المُنعَتِق" (1997)، و"المُندَمِج" (1999)، و"الحالِم" (2001)، و"الألِفياء" (2002)، و"المُسالِم" (2005)، و"القاتِل" (2009)، و"المُتسامِح (2009)، و"العدَّاء" (2014)، و"بأَلَمٍ وذكاء قلب" (2016).

***

وممَّا كتبَه الدَّكتور إميل كَبا في أعمال نعمان تلك:

* أنَّ "الرَّسائِلُ" أوَّلَها يغلِبُ فيه مَنطقُ الخاطِرةِ مُنبثِقَةً من عنوانٍ مَشهَدٍ يُشكِّلُ النَّواةَ، نُطْفَةَ الحبِّ في القَول بأنواعه الكثيرة، عِشقًا ووطنيَّةً وغَيْرِيَّةً وانتِماءً غيرَ محدودٍ إلى حقائق العَيش، كحَتميَّةِ الموت وحركة الكائنِ عندَ شَفا النَّفسِ وتُخوم الآخَر، كلِّ آخَر، أولادًا وأقرانًا ومُحصِّلاتِ تجاربَ في الدِّين والله والزَّمان والمكان والخلود والعدم والاندِماج والألف الثَّالث وما بَعدَه.

أمَّا الأداءُ المُعتَمَدُ استِقدامًا للأَنوارِ الكاشفةِ الأبعادَ، فيتَرَجَّحُ بين الوَمْضِ الشِّعريِّ في كلِّ ما يَمُتُّ بِصِلةٍ إلى الوِجدانيَّات طالِعَةً من عُمق التَّجربة الحياتيَّة بهَدفِ التَّأثير، ومنَ الفِكر المُطَوِّفِ في سماء التَّعليل والذَّرائع الهادفة إلى الإقناع، خصوصًا في "مُستقبليَّات" حيث يتَنَكَّبُ السَّردُ انطلاقةَ الفانتازيا، ذاتِ الرُّؤيا الاستِباقيَّة للأحداث قبلَ وقوعها؛

* وأنَّ "المُنْعَتِقُ"، الكتابَ الثَّاني بأجزائِه الثَّلاثة: "العائِد"، و"الشَّريف"، ثمَّ "في الانعِتاق ومَفهومه"، يبدو كأنَّه تتمَّةٌ ما لـ "الرَّسائِل"، بل نظرةٌ من زاويةٍ أخرى إلى الوجود، أزالَ الكاتبُ من مُشاهداتِه عبرَها حدودَ الزَّمان والمكان، كحالِ سَيرورَةِ الحياةِ في الحُلم، يُظهرُها نُتَفًا من كلِّ شيءٍ وموقفٍ ومُؤَمَّل، مُضَمِّنًا سَرديَّاتِه في مُصَنَّفه مُناخَ الرَّسم التَّجريديِّ مع أنَّها وقائع، ما يُحتِّمُ على قارئه أخذَها كُلاًّ لا يتجزَّأ جامِعًا فلسفةَ كاتبها ومفهومَه للحياة.

أمَّا خاتمةُ الكتاب فبالأسلوبِ المباشر، وِقفَةَ مُعَلِّمٍ في كِرازة، مُوازِنًا بين الوافِد العِلميِّ مع التَّطوُّر التِّقانيِّ وثوابت الغَيْرِيَّة والأخلاق، استِحداثًا للانعِتاق من المادِّيَّةِ القاتلةِ هناءَ الإنسانِ وعافيةَ العيشِ السَّوِيّ؛

* وأنَّ "المُنْدَمِجُ"، الكتابَ الثَّالثَ في هذا المجلَّد، تتعَدَّدُ العناوينُ فيه حتَّى داخلَ أجزائه الثَّلاثة.

فـ "الصَّامِتُ" فاتحتُه حِواريَّاتٌ مُنطَلَقُها مُشاهداتٌ شائعةٌ في حياة الجَماعة، استِحضارًا لمُفارقات الغنى والفَقر، والقبحِ والجمال، والقوَّةِ والضَّعف، والجلاَّدِ والضَّحيَّة، والحسدِ والغبطة، وما وسِعَ الواقعُ الإنسانيُّ من ثُنائيَّاتٍ مُتَضادَّات.

وعلى مِثال الأوَّل: "الدَّيَّان" الجزءُ الثَّاني، لكنْ بمنحًى اتِّهاميٍّ أكثرَ وضوحًا في الزَّلاَّت، وأبلغَ تشهيرًا بالمُقتَرَفِ غيرِ الصَّالح؛

ومن ثَمَّ يدخلُ المؤلِّفُ عالَمَ أناهُ في جُزءٍ ثالثٍ هو "السَّائح"، بما يُعَدُّ في اعتِقادي خُلاصاتٍ عاطفيَّةً فكريَّةً في آن، وعُروضًا نهائيَّةً تُقدَّمُ للذَّات المُضطرِبَة في عالَم النَّاس فتَعرفُ سَلامها؛

* وأنَّ "الحالِمُ"، الكتابَ الرَّابعَ في هذه المجموعة بجُزْئَيْه: "الأخير"، و"الأوراق"، استِحضارٌ مُبكِرٌ لغَدِ الأرض وواقعِ الإنسان فيه، حيثُ الانتِصارُ لفكرةِ الطُّموح والمُثابرة في كَنَفِ الإيمان بالانعِتاق، لاندِماجٍ مُنقذٍ يَليه من ضِمن الحقيقة الواحدة، تَسَلُّحًا بالأَنسَنَة الَّتي من أجلها وُجدَ الإنسان.

وفي هذا الجُزء الأوَّل ترينُ السَّرديَّةُ أيضًا على المقاطع المرقَّمة، تسويقًا لما يراه الكاتب الحالةَ السُّميا الَّتي لا يليقُ بسواها الوجود، مُعيدًا قراءةَ الحياة من ناحية مُنتهاها، موتًا خالقًا يُذيبُ الفوارقَ بين البشر، ومُقدِّمًا كبديلٍ خلودَ الجمال والقِيَم بأيدي المائِتين قبلَ ارتحالهم.

وتعودُ في "الأوراق"، الجزءِ الثَّاني من هذا الكتاب، مُناخاتُ الخاطرة عبر "الوصيَّة" و"المقصِّرة" و"العار" و"الأناشيد" حيثُ مدَدٌ من الغِنائيَّة يواكبُ الفكرةَ الخُلقيَّة، فيُداني الكاتبُ ما اصطُلح على تسميته في التَّقويم النَّقديِّ "المقالة التَّعليميَّة الغِنائيَّة"، ذاتَ التَّوجُّه الشِّعريِّ المؤدِّب في الوِقفةِ الفنِّيَّة الواحدة؛

* أمَّا "الألِفياء"، الكتابُ الخامسُ في هذا المجلَّد، فتَفقيطٌ للوجود يَتَّبِعُ ألفبائيَّةَ أحرفِ الهجاء، في غوصٍ على خُيوره وشُروره، إنجازاتِه ومُرتقباتِه، دياناتِه ومُحَرَّماتِه، فنونِه ومُسطَّحاتِه، يقفُ "الناجي" إزاءَها كلِّها وِقفةَ الحائر بين أنْ يُقدِمَ مُواجهًا الانحرافَ، أو يُحجمَ اكتفاءً بأنْ يُناديَ بالأَنسنة، إلى يومَ استتبَّ له الأمرُ أمانًا وسلامًا بعودة الرُّوح الإنسانيَّة إلى الإنسان جالِبَةً له وللهِ النَّصر.

هي "المَلحَمَةُ" جزءًا أوَّلَ في هذا الكتاب، يليه "الرَّاحل" جزءًا ثانيًا بأداء "الرَّسائل"، الكتابِ الأوَّلِ، عناوينَ يَستقيها ناجي نَعمان من الكلمةِ الأولى في كلِّ لوحة، مُستَرسلاً في عالَم الميلوديا، تساوقَ أصواتٍ وصُورٍ بها الشِّعر، وشجًا جبرانيًّا كما في "النَّبيّ"، حيث دمعُ الفِراق يُؤاسيه الفرحُ بتَمام الرِّسالة.

وبعدَ هاتَين الباقتَين الاثنتَين، يتقدَّمُ "المُحاور" في ما يُشبهُ الرَّسائل الموجَّهة إلى هاماتٍ من التَّاريخ الإنسانيّ، عظماءَ فلسفةٍ وسياسةٍ وفنونٍ وآدابٍ ملأوا مضاميرَهم نجاحات، فحاكى ناجي نَعمان بطَوافه في عالَمهم أبا العلاء في "رسالة الغفران"، ودانتي في "المَلهاة الإلهيَّة"، بعدما أماطَ اللِثامَ عن جانبٍ من وجوه مُختاريه، مُفسحًا في المجال لنفسِه فتطبعُ على وجناتهم ألوانًا من أحلام رُؤاه؛

* وأنَّ "المُسالِمُ"، الكتابَ السَّادسَ في هذه المجموعة، ينهجُ في "السَّأَّال"، جُزئِه الأوَّل، نهجَه في "الرَّاحل" من الكتاب الخامس، ابتداءً بعنوانٍ هو الكلمة الأولى في خاطرة اللوحة، لكنْ بتكثيفِ صورٍ ومشاعرَ وازِنَة، إلى تَمادٍ في ملازمة الذَّات والإِكثار من التَّساؤل؛

و"الثُّلاثيَّة"، جُزؤه الثَّاني، بالشَّرع عينِه، "ثلاثيَّاتٌ" و"ثُنائيَّةٌ" و"الأُحاديَّة"، حيثُ لا انقِطاع للعنوان عن التَّركيب اللُغويِّ للفكرة المتأمَّلة، وختامُ كلامٍ على ربِّ الحياة ساكنًا الكونَ، والطَّريقُ إلى مُلاقاتِه ومعرفتِه أنسنةٌ تجمعُ ولا تُفرِّق؛

بعدَها "الشَّاعرُ" قِسمًا أخيرًا في أقاصيصَ يغلبُ عليها طابعُ الاستِذكار، وأقباسٌ من المُشاهدات اليوميَّة المحمَّلة بوافِر الإشارات والرُّموز، فيختلطُ فيها العامُّ بالذَّاتيِّ الخاصّ، في نزعةٍ إلى اصطِفاء الزُّهدِ في الدُّنيا، مُعتَقَدًا وأمجادًا ومُقتَنَياتٍ، مُكتفِيًا به غَناءً من دون سواه؛

* أمَّا الكتابُ السَّابعُ في هذا المجلَّد وعنوانُه "القاتِل" أو "لِحُبِّكِ سُلافَة" فمَسْرِواية، أو حواراتٌ مُمسرَحَةٌ في فصولٍ أربعة، يتجاورُ فيها الفصيح والمَحكيّ، في توجُّهٍ إلى خروجِ الحبِّ مُنتَصرًا على الأحقاد في المعارك النَّاشبة بين أبناء العشيرة الواحدة؛

* و"المُتسامِحُ"، كتابًا ثامنًا، وفيه "نهايةُ عشّ"، وهو سرديَّةٌ شعريَّة، لعلَّها تروي ضنًى شخصيًّا ألَمَّ بأفراد أسرة الكاتب، فجاء "المُتسامحُ" تنقيحًا لفكرة "القاتِل"، الكتابِ السَّابع، لكنْ بريشةِ الشِّعرِ الوامِئ وَمْئًا خاطفًا وحرارةِ البَثِّ في الخاطرة المتألِّمة.

* أمَّا "ألعدَّاء"، كتابًا تاسِعًا، فهو كتابُ الاختِلالات على صعيدَي العيشِ والحضارة، و"العدَّاءُ" فيه "عَدَّاءُ فِكرٍ وجسد" في سعيٍ لاقترانِ النَّتائج في واقع الرَّائي الحالِم الَّذي هو.. بأسباب، مِن طريق افتراضيَّاتٍ تمثِّلُ في النِّهاية تَوقَ الكاتب الجامِزِ بالحُلم في الزَّمنِ لحظةَ التَّفكُّر، وفي الوقتِ نفسِه مآخذَه على النَّسق المُرتَجِّ وغيرِ المعقول الَّذي تجري بموجبِه الحياة.

لكنْ.. إلامَ أَفْضى هذا الحَراك في خاتمة المَسعى؟

إلى اللاشيء، في الأرضِ الواحدةِ والسَّماءِ الواحدة، والمكانِ والزَّمانِ والحياةِ والموتِ تكرارًا عبرَ الأجساد، إلاَّ مِنْ قدَرِ اللهاث وراء قدمَين في هذا الدَّهر، ومحاولةِ الإنسانِ التَّوفيقَ بين ما يَعتقدُه من دواعي الحُرِّيَّة الَّتي يتمنَّى وما يَعترضُ تحقيقَه ذاتَه مِن موانعَ لدى الآخرين. وما الأسطرُ الأخيرةُ في الكتاب إلاَّ إشارةٌ إلى عبثيَّة الجهدِ بل ضياعِه.

"فالعدَّاءُ رَفرَفتْ روحُهُ فوق بيتِ طفولتِه في كيسمايو رضيعًا عند ثديِ أمِّه، وفي حِضْنها"، في طيٍّ للحُلم الشَّارحِ الواقعَ بالمُتَوَقِّع، بل إلغاءٍ لما بعدَ القبولِ بالحياة بسيطةً، بريئةً، تلقائيَّةً مُرتجلةً وحتَّى من غير تَفَكُّر. وإذا ما يدعو إليه العدَّاءُ تغليبٌ للخُلُقيَّةِ العارفةِ استحالةَ تغييرِ الكون، والاكتفاءُ بالتَّأثيرِ في المُحيطينَ بنا كي يصبحوا مُتخلِّين أنقياءَ "مثلَنا وأفضلَ منَّا".

واللافتُ في حُكمٍ أخيرٍ على هذا العمل الجميل.. توشُّحُهُ بالحزن جَرَّاءَ ما تَستَبقيه الذَّاكرةُ من مَضْبَطةِ اتِّهامه العصرَ والحضارة، لكنَّهُ حزنٌ مُضيءٌ العيشَ بما يكشِفُ من أفراحٍ يزخَرُ بها عندَ حدودِ الإبكاء، وأبديَّةَ المواقعِ المفروضةِ على إنسانِه في مسيرتِه الرَّتيبة المكرَّرَة الَّتي لا تزول.

مَن قال: ليسَ في المعرفة اسْتِغناءٌ عن تَطلُّب، أو يقولُ مِنْ طريق سِواها المَعْبرُ المؤكَّدُ المُفضي إلى الرِّضا الوجوديِّ بالمُتاح منْ قسمةِ الحياة؟ مَن؟

* والكتابُ العاشِرُ، "بألَمٍ وذكاء قلب"، أفانينُ قَولٍ وضُروبُ أَوصافٍ انْمازَ بها التَّعبيرُ في هذا الكتاب، وطَبَعَتْ أدبَ ناجي نَعمان بجِدَّةٍ مأنوسةٍ لَم يَتَوَرَّعِ الكاتبُ في كُلِّها عن مُداناةِ المُفرداتِ والتَّعابير العامِّيَّةِ يُنْزِلُها على غِرارِ كُلِّ مُسْتَحْدَثٍ بين شَوْلَتَين، فيَزْدانَ أسلوبُه بما يُسَمِّيه الفرنسيُّ أناتول فْرانْس "الوضوح الأبيض"، ويُفصِحَ في النِّهاية عن النِّظام والحركةِ اللَذَين انْطَبَعَتْ بهما أفكارُه...

وإنَّ ما قالَهُ الكاتبُ ناجي نَعمان في كتابه شِرعةُ نظافةٍ كُتِبَتْ بالدَّمع المُبْتَسِم حينًا، وعلى الأكثرِ بسَوادِ المُقَلِ المَسْمولَةِ بالقَبائح. وهي مُجتَمَعاتُنا وحضارتُنا المُتَنَقِّلةُ عبرَ شُخوصنا على دواليبِ العَصر الذَّاهبِ انْحدارًا، حتَّى ما نَجِدُ بارِقَةَ أمَلٍ لإنقاذٍ بِسِوى العودةِ إلى الذَّاتِ الإنسانيَّةِ بغيةَ تَقويم أوَدِها، واسْتِرجاعِ بَكارةِ الخَلْق الشَّريفِ إليها.

ولَعَلَّ ذكاءَ القَلبِ، الَّذي يُبَشِّرُ به ناجي نَعمان، والشَّائعَ في ثَنايا كتاباتِه كُلِّها، يَلْتَقي وهذا الهدفَ البعيدَ المُستحيلَ المنشود، وما الاستحالةُ إلاَّ مِن أنَّ الحياةَ الإنسانيَّةَ، بنَسَق تأَرْجُحها بين خيرٍ وشرٍّ، مُعَلَّقَةُ الرَّغبةِ والاختِيار أبدًا بين جحيمٍ ونعيم، جَرَّاءَ وُقوفِ الإنسان في مَنزِلَةٍ بين مَنزِلَتَين: الغريزةِ والقَلب، الشَّيطانِ والمَلاك، النَّقصِ والكَمال، الخطيئةِ والتَّوبة. 

لهذا السَّبب، كُلُّ إبراءٍ يَبْدَأُ مِن الإنسان الفَرد نفسِه، الخَلِيَّةِ الاجتِماعيَّةِ الأولى، كونَه أَهَمَّ مِن البشرِ جميعًا، فهو الَّذي صنعَهُ الله على مِثالِه وليس همْ في تَصَوُّرٍِ لأندريه جيد، أديبِ فرنسا، وبَعدُ، يُعْمَلُ على تَصييرِه خَلِيَّةً خُلقِيَّةً ناصِعَةً مُعافاةً تَنْتَقِلُ عَدواها منه إلى أقرانِه الأبعَدينَ قبلَ الأقربين. ويَقيني أنَّ ناجي نَعمان الكاتبَ، والشَّخصَ على مِثالِِه، في هذا الخَطِّ إنقاذًا للحضارة مِن بُؤسِها المُنْداحِ على سَعةِ المَظالمِ والشُّرور المُتفاقِمَةِ في هذا العصر.

إنْ دُنْيانا تَفْتَقِرُ إلى عقليَّةٍ أكثرَ من احتياجِها حالاتِ قَوْنَنَةٍ، إلى إصلاحٍ فِكريٍّ يَفْضُلُ إلى بعيدٍ كُلَّ إصلاحٍ ماديٍّ، كَيما تَسْتَرِدَّ شيئًا مِن فردوسِها الضَّائع وتَدْخُلَ زمنَ السَّعادة الحقيقيَّة. والكُتَّابُ، في الفوضى العارمة وتَأَكُّلِ الأنظمة والشَّرائع بشَتَّى التَّجاوزات، بمُستَطاعِهم اسْتحداثُ هذه العقليَّة وهذا الإصلاح، فهمُ الملوكُ والأمراءُ الحقيقيُّون، ويَمْتَلِكون القدرةَ على تحريكِ الرَّأي العامِّ، جاعلين منه السَّيِّدَ الوحيدَ وصاحبَ السَّطوة لتَغيير الأقدار.

وفي الانتِظار، وسطَ هذا الصِّراع الَّذي نَحياه، إنسانيَّةً وحضارةً، وفي رِبْقَة الشَّقاء البَشريِّ بمَعناهُ الوجوديِّ المُلْتَبِسِ، فلنُفَكِّرْ بالضَّوء لا بالأَمجاد، ولنُغَنِّهِ، فِعْلَ ناجي الكاتبِ والشَّخص، طريقةَ انْتِصار، وإذ نَفْعَلُ يَفْضُلُ غناؤُنا كلَّ غناءٍ لأنَّه السَّاطعُ برِضانا وصداهُ أبدًا هو النُّور.

إذًا، يا كاتبًا بالأَلَم، لِنُغَنِّ ونُبَشِّرْ بالأَمَلِ لا الخَشْيَة، فنَحْصُدَ الفرحَ، مُرْدِي الانفعالاتِ والضَّغائن، مُرَدِّدين معك ما يَقولُه مُحَيَّا كتابِك الباسمِ السَّاخر مِن غيرِ شَتيمة: ألحزنُ ليس أبدًا نبيلاً، وليسَ أبدًا جميلاً، وليس أبدًا لِيُفيد.   

* أمَّا الكتابُ الحادي عشر والأخير، "الفكرُ مُهروِلاً"، فعَبَثٌ في حدِّه الأَدنى، كحصًى تُغمِّسُهُ في إبريزِ مِدادِك فيجِدُّ ويتذهَّب، وثُمالةُ عُمرٍ تُعَلُّها حتَّى ما "تُبقي في الكأسِ شَيَّا"، وما يَنْجو مِن "شَرِّ لسانِك" الطُّوباويِّ، في صَحْوةِ خُمارِهِ على الدُّنيا، ولو نأْمةٌ مِن حَسَفِ حذاءٍ في مكانٍ من أقاصي الأرض، أو تزاحمُ فِكَرٍ ومَرئِيَّاتٍ تتسابقُ إليكَ في أَدانيها... وإنَّ ما هَروَلْتَ به لَوزنةٌ أُخرى تُضيفُها إلى وزناتِك الكثيرة، بل سَجدةُ تَعَبُّدٍ لإيقونَةِ الحياة، تَسْتَشْفِعُها عند ربِّكَ ليَرأفَ – واذْكُرْني معك – فما يَسْهى عن أنَّا لَم نَمُرَّ في هذا الوجود حدثَينِ أَجوَفين تافهَين بلا معنى، بل حاولْنا جهدَنا، أنتَ وأنا، بالكتابةِ الَّتي هي صِنْوُ الخَلْق بَدْعِ الله، أنْ نَمحَضَهُ، هذا الوجودَ، أشرَفَ المعاني بلا مُقابل، وحتَّى بلا انتِظارِ عِرفان.

وأعجَبُ في الخِتام، وأظنُّكَ على الغِرار عَينِه، إذْ نسمَعُ في حضارةِ الرَّقم والوزنِ والمِشرَطِ والحاسوب الَّتي نَحيا، وبفَمِ عصرِنا الحديديِّ الكافِر هذا، مَنْ يسأل: وما حاجةُ الأرضِ بعدُ إلى أدبائِها وفنَّانيها وهي في طريقها إلى نَعيم؟!

***

ويخلصُ كَبا:

"حياةٌ أدبًا" عَوالِمُ افتِراضيَّة، ككُلِّ أدبٍ نبيلٍ يطمحُ إلى أنْ يُحاذيَ الحياةَ المُثلى، مُكثِّفًا خياراتِ إنسانِها، ومُقَوْنِنًا أحوالَه فيها بالقول الشَّريف غيرِ المُوارِب، فتكبُرُ مِساحةً، ليسَ من طريق الهَندسيَّاتِ وإنجازاتِ التَّجارب في المُختبرات وحَسْبُ، بل بوَساطةِ الخيال المُرتَعي نُسْغَ الحقائق من عالَم الحضور، ليُظِلَّ من بعدُ بقامتِه المُتساميةِ نَماءً أحقابَ الأزمنة الآتية، تمامًا كما في حال الرُّؤيويِّين، يَرتقبون بتوقُّعِ الحَدسِ أحداثَ الوجود قبل أُزوفِها.

ألا إنَّ الأديبَ الحقيقيَّ في جانبٍ من شخصيَّتِه، وناجي نَعمان على الغِرار، قارئُ مُستقبلاتٍ بالكلمات، على نور شمعةٍ تُوقدُها عُزلتُه، فيتكاثرُ كتابةً، وتَنداحُ بما يأتي رِئةُ الحضارة، وتتعاظمُ في الإِثرِ مِساحةً خريطةُ الوجود.

وفي عَودٍ على بدءٍ لِمَثْنى نظرةٍ إلى هذا العمل الكبير، لا يسعُنا إلاَّ التوقُّفُ عند نقطةٍ هامَّة في شخصيَّة ناجي نَعمان الكاتِب، موصوفًا في أوساط عارفيه بـ "مجنون الثَّقافة بالمَجَّان"، هو مَن نذرَ النَّفسَ فيتأخَّرُ في صالونِه الأدبيِّ ليَتقدَّمَه كلُّ مُزدانٍ بها ممَّنْ يستضيفُهم لتكريم. فالغَيريَّةُ، بنتُ الأنسنة والتَّخلِّي فرعٌ من فروع أَنْسالِها، شيءٌ من كهنوت الزُّهد الَّذي كرَّس له حياتَه في عالَمٍ باتَ فيه الفاسقُ هوَ المبشِّرَ بالعَفاف، والمُرائي الدَّجَّالُ حَرباءَةَ الوقوف عند الحدِّ الفاصل بينَ القَول الصَّادق ونقيضِه لِسَريعِ تَلَوُّنٍ عند الحاجة، وتفاقُمِ انفِصامٍ فاجِعٍ يرتَعُ فيه كلُّ مِرفَق ٍ من مَرافق الحياة، والفنُّ بشكلٍ خاصّ، بين الفكرةِ المُلتزمَةِ شرفَ المبادئ والقِيَم، وترجمتِها العمليَّةِ في دنيا النَّاس.

ناجي نَعمان الـ "حياةُ أدبًا" هو مَن أعرِفُ في أسرتِه وبيئتِه ومُجتمعه، أليفَ كلِّ مقامٍ نبيلٍ مُتمَنَّى، وعشيرَ المَطالعِ العُلا، فِكرًا ونظافةَ ريشةٍ وفضائل، وفي اللحظات الحاسمة من العمر طرازًا منَ النَّدرةِ بينَ الأدباء، فاعلاً ما يقولُ قبلَ التَّلفُّظِ به، مُقلِّصًا إلى بعيد المسافة الفاصلة بينَ النِّيَّة في القلب وتظهيرِها بأبهى حُلَّةٍ من البيان في المدى الإنسانيِّ العَميم.

إنَّه بهذا المعنى أَدبُه، وهذا.. بطُروحاتِه وأبعادِه ليس إلاَّ الفردوسَ الَّذي أفقدَتْهُ إيَّاه التِواءاتُ الحضارة ومَضلاَّتُ الإنسان.

دخل الدكتور قاعة المحاضرات فكان جهاز العرض فيه خلل لايعمل فتم تغيير القاعة فعندما دخل احد الطلاب رأى كلمة *رحمت الله* مكتوبة على السبورة مستنكراً وجود هذا الخطاء اللغوي بين طلاب الجامعة.

فقال الدكتور

من يعرف الفرق بين *رحمت الله* و *رحمة الله* ؟

فقال معظم الطلاب انه خطأ إملائي !!

فقال :

الرحمة التي تأتي فيها التاء مبسوطة *رحمت* مفادها أنها رحمة بسطت بعد قبضها وأتت بعد شدة ودائما تكون *مضافة* مباشرة للفظ الجلالة عز وجل

*مثــال* :

بعد مرور السنين الطويلة، وتعدي الزوجة للسن التي تستطيع أن تحمل وتلد، وتعطي الذرية فيها تأتي البشرى لإبراهيم عليه السلام وزوجه.

قال تعالى :

( *قَالُوۤا۟ أَتَعۡجَبِینَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَـٰتُهُ، عَلَیۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِۚ إِنَّهُ، حَمِیدࣱ مَّجِیدࣱ* [ هود 73]

*فتح بعدقبض*

وتأتي كذلك استجابة لدعاء زكريا عليه السلام بطلب الولد - قال تعالى :

( *ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُ، زَكَرِیَّاۤ*) [ مريم 2]

ثم تأتى بعدها قصة وهب يحي لزكريا عليهما السلام. *فتح بعد قبض*

وايضاقال تعالى :

( *فَٱنظُرۡ إِلَىٰۤ ءَاثَـٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ كَیۡفَ یُحۡیِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۤۚ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ* ) [ الروم 50]

*فتح بعدقبض*

وتدل ايضا التاء المبسوطه على اتساع قدرة الله

*ورحمتى وسعت كل شئ*

أما *الرحمة* التي تأتي فيها التاء مربوطة هي رحمة *مرجوة لم تفتح للسائل بعد*. فالعابد القانت الساجد آناء الليل ويحذر الآخرة فهو يرجوا رحمة ربه في الآخرة ألا وهي الجنة.. التي هي مقفلة دونه في الحياة الدنيا .. وستفتح له يوم القيامة.

قال تعالى :

( *أَمَّنۡ هُوَ قَـٰنِتٌ ءَانَاۤءَ ٱلَّیۡلِ سَاجِدࣰا وَقَاۤئِٕمࣰا یَحۡذَرُ الاخِرَةَ وَیَرۡجُوا۟ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلَّذِینَ یَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ* )[ الزمر 9]

*رحمه مرجوه*

أو هي رحمة موعود بها كما في قوله تعالى :

( *فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُوا۟ بِهِۦ فَسَیُدۡخِلُهُمۡ فِی رَحۡمَةࣲ مِّنۡهُ وَفَضۡلࣲ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَیۡهِ صِرَ ٰ⁠طࣰا مُّسۡتَقِیمࣰا* )

[النساء 175].

كذلك الرحمة في الإسلام غاية ووسيلة، والدين بكل اركانه رحمة فقال تعالى :

*كتب ربكم على نفسه الرحمه*

ورسول الإسلام (صل الله عليه وسلم) رحمة ، والله تعالى أخبرنا في كتابة فقال :

*وماأرسلناك الا رحمة للعالمين*

عن مؤسسة فلسطين للثقافة صدر للأسير المحرر وليد الهودلي روايته الجديدة، "ليل غزة الفسفوري" تصف أحداث العدوان على غزة أواخر 2008 مطلع 2009، والطريف أن الهودلي قد كتب روايته وهو في السجن وأنه انتهى منها أواخر شباط 2009، أي بعد شهر فقط من انتهاء الحرب.

العنوان والغلاف

لما كان المكتوب يُقرأ من عنوانه، كما يقولون، فقد رأينا من المناسب الدخول إلى الرواية من عتبة العنوان ولوحة الغلاف.

ليل ... غزة ... الفسفوري ... ثلاث كلمات يتشكل منها عنوان الرواية، فأما الليل فهو بالتعريف يفيد معنى الظلمة وليس فيه ما هو غريب، وإذا أُضيف الليل إلى غزة فهي الظلمة الحالكة المستمرة، حيث يختلف عن الليل في باقي العالم الذي يبدد ظلمته التيار الكهربائي بينما ظلمة الليل في غزة مضاعفة، حيث يمنع الوقود اللازم لتشغيل مولدات الكهرباء، وينتظر الأهالي أياماً طويلة كي يأتي بعض الوقود الذي يشغل المولدات بطريقة التقنين ولا يتمتع السكان بغير ساعات قليلة من الليل أو النهار بالتيار الكهربائي.

ثم يأتي وصف ليل غزة بأنه فسفوري، والفسفور يستخدمه الناس عادة للشواخص والطرقات وعلى المركبات، وخاصة في الظلام، ويلبس العديد من الأشخاص والفئات ثياباً فسفورية في أحوال مختلفة، حيث يؤدي الفسفور وظيفة الإرشاد والتنبيه والتحذير وبالتالي السلامة من الأخطار، وهنا تأتي المفارقة؛ حيث الفسفور في غزة قنابل ومتفجرات وحمم حارقة ومدمرة ومحرمة دولياً، بدلاً من أن يكون عنوان تنبيه وتحذير وسلامة، وهنا أيضاً المفارقة المضحكة المبكية بين الضوء الكهربائي الذي ينتظره الغزيون لإنارة بيوتهم وشوارعهم ويجلب لهم الدفء المطلوب في برد كانون، وبين القذائف الفسفورية التي تضيء شيئاً من ظلام الليل ولكن وهي تفجر وتحرق الأهالي وبيوتهم، فضلاً عن الدخان والغبار الكثيف الخانق الناتج عن الحرائق، وعن الدمار الشامل الذي لا يؤدي إلى إيجاد الضوء المرجو، وهو ما تكفلت بتصويره لوحة الغلاف بتصوير ليل غزة الفسفوري، شديد الحلكة مدلهماً يغمره الدخان والغبار بينما يخترقه شيء من لهب الفسفور لا ليضيء العتمة بل ليبعث الأسى والحزن والخوف على غزة وأهلها.

لقد أضيف الليل إلى غزة، ووصف ليلها بالفسفوري، لكن لم يخبرنا العنوان ما شأن ليل غزة الفسفوري، والتقدير أن المبتدأ محذوف تقديره اسم الإشارة: هذا الذي ستحدثنا عنه الرواية، وبالتالي فالمطلوب قلب صفحة الغلاف والولوج إلى الرواية ذاتها، التي قدم لها الدكتور عبد الكريم أبو خشان، والناشر.

من الناحية الشكلية فإن الرواية لم تقسم إلى فصول، فالأحداث تجري في مكان واحد هو قطاع غزة، والأحداث في الأمكنة الأخرى ليست أكثر من أصداء للحدث الرئيس في غزة، والزمان قصير مركز لا يكاد يتجاوز الشهر، كما أن الشخصية المحورية في الرواية هي شخصية الدكتور علاء، وباقي الشخصيات تكتسب أهميتها وأدوارها من علاقتها بالدكتور علاء، ولعل هذا ما سوغ للكاتب عدم التقسيم إلى فصول، مع أنه كان بإمكانه أن يعطي مساحة أكبر للتفاعلات على شكل فصول داخل المجتمع الصهيوني، أو المجتمع المصري كممثل للرديف العربي، سيما مع وجود شخصيتين مهمتين تمثلان المكانين هما جون ويسرى.

براعة الاستهلال ... واستشراف المستقبل البسام

"أخيراً تحرر من سجن آخر فرضه الاحتلال عليه، عادت الحسناء ذات الأطياف الجميلة التي غابت عنه أسبوعاً كاملاً، عادت الكهرباء لتضيء عليه حياته بعد أن تمكن أبوه الموسر من شراء مولد للكهرباء ... الاحتلال يلقي شباكاً جديدة على أعناق الناس، والناس بدورهم يتحايلون على هذه الشباك اللعينة، كان ينقص الحصار قطع الكهرباء، إضافة إلى منع الوقود ومصادر الغذاء والدواء حتى يكتمل الظلام"...

.."  الدكتور علاء ينتمي إلى إمبراطورية الشر التي تسمى قطاع غزة، يقولون له في العائلة "دكتور" على اعتبار ما سيكون، فهو طالب يدرس الطب- سنة ثالثة- في مصر، طويل نحيف، وجهه دقيق تكسوه سمرة خفيفة تكشف عن روح شفافة وذكاء عميق يحركه من الداخل، حالوا بينه وبين جامعته، وحاصروه حصاراً خانقاً بدا كزنزانة لا باب لها، ضاقت به السبل ولم يتسع صدر معبر رفح الحدودي لعبور الدكتور علاء، باءت كل محاولاته بالفشل، ثم لاذ إلى زنزانته ليحاول اختراق الحصار عبر شبكة الإنترنت التي تفتح أحضانها لكل المشردين والمحرومين والمحاصرين، يرسل برسائل شتى وفي كل الاتجاهات يحكي عن الحصار وآثاره المدمرة لحقوق الإنسان، يدخل منتديات عربية وعالمية يحاور بقوة ويطرح موضوع الحصار وما سببه للشعب الفلسطيني من تداعيات مدمرة في كل جوانب الحياة".

- تم تدمير المفاعلات النووية في إمبراطورية الشر، ستون مفاعلاً في لحظة واحدة، وقعت ضحية هجوم موحد لثمانين طائرة ف16 .. كتب ذلك الدكتور علاء بأعصاب متوترة وسبابته تضرب على لوحة المفاتيح بكل ما أوتيت من قوة".

رد من الجهة المقابلة صديقه الأجنبي الذي نمت  صداقته معه وترعرعت مع بداية الحصار على الإمبراطورية منذ ما يقارب السنتين، هذا الآخر عرف نفسه: طالب كلية هندسة في السنة الثالثة في جامعة كامبردج البريطانية:

-   مساؤك خير، أولاً: عن ماذا تتحدث؟ لولا أني أعلم أنك لا تعاقر الخمر لحُرمته في دينكم، لشككت في الأمر، عن أية مفاعلات نووية تتحدث؟"

-       ألم تسمع الأخبار ظهر هذا اليوم؟

-   سمعت، إسرائيل هاجمت مقرات إرهابية في قطاع غزة، قتلت منهم ما يقارب مائتين وخمسين إرهابياً، صحيح أنها استخدمت أقوى ما عندها في سلاح الجو، ألم تقرأ في التاريخ - صديقي- عن الحروب والضربات المفاجئة؟

-   لهذا بدأت بالمفاعلات النووية؟ أصابت القدرات النووية ومحطات تخصيب اليورانيوم ومخازن القنابل النووية ودمرتها تدميراً شاملاً، لن تقوم لإمبراطوريتنا قائمة بعد اليوم".

هكذا استهل الكاتب وليد الهودلي روايته ...( أخيراً) كأنما البطل يتنهد عميقاً ويتنفس الصعداء، بعد طول غياب وشدة اشتياق، يتحرر من أحد سجنين: الحصار والكهرباء،  سجانهما واحد مع أنه ليس واحداً، بعدما عادت إليه الحسناء الجميلة .. لقد كان التحرر له وحده حيث لم يشمل الغالبية العظمى من سكان القطاع الذين لا يملكون ثمن مولد كهربائي ... ثم إن التحرر النسبي من حلكة الظلام والقدرة على التواصل الإلكتروني مع الخارج يضحي للمحاصرين كأنه خروج من السجن حتى ولو لم يتغير الكثير عليهم ... والحصار على مثله مضاعف حيث لا يستطيع المغادرة إلى مصر لاستئناف دراسته الجامعية وقد ضاع عليه الفصل الأول، والفصل الثاني على الأبواب،  ولذلك تصبح الكهرباء معشوقة حسناء يتغزلون بها ويفتقدونها ويشتاقون إليها متلهفين لعودتها، وسنكتشف فيما بعد أن الكهرباء ستتيح له التواصل مع حبيبة القلب خطيبته وابنة عمه يسرى القاطنة في مصر، وهي بهذا المعنى، أيضاً، حبيبته ومعشوقته الحسناء... إن الكهرباء هي الحياة وليس باستطاعة الإنسان المعاصر العيش بدونها، كما لو أنه أصبح يعمل بالكهرباء إنها كهواء الناس ومائهم، وفي الليل تضيء لهم حياتهم وتفرز لهم ألوانها الزاهية وتجليها، لقد أضحت لكونها تقشع حلكة الظلام وتتيح التواصل الإلكتروني مع الخارج كأنها الخروج من السجن والحصار.

   ولكونه مثقفا رسالياً منتمياً إلى شعبه ووطنه وقضيته فإن الكهرباء وجهاز الحاسوب الذي لا يعمل بدونها يصبحان في غاية الأهمية للدفاع عن قضيته العادلة وبيان حقيقة العدوان الغاشم والحصار الظالم الواقع على شعبه، وخاصة مع بداية الهجمة الشرسة الفظيعة على القطاع... وسنلاحظ كم هو عزيز عليه جهاز الحاسوب حتى إننا سنجد أن أبرز ما تحسر عليه حين رأى بيتهم قد تحول بفعل القصف إلى قاع صفصف هو حاسوبه!! وقد أظهر الحاسوب وبالذات لوحة المفاتيح، التغيرات النفسية التي أبدع الهودلي في إبرازها وذلك في عدة مواقف:

فعندما قامت ثمانون طائرة ف16 بالضربة الأولى موقعة حوالي مائتين وخمسين شهيداً ومئات الجرحى ( كتب ذلك بأعصاب متوترة، وسبابته تضرب على لوحة المفاتيح بكل ما أوتيت من قوة)، والمعتاد أن المتمرس في الكتابة يضرب بمجمل أصابع يديه، والضرب بالسبابة هنا يعكس نوعاً من الارتباك والتوهان بسبب الغضب والألم ما يؤدي إلى عدم القدرة على التحكم في الأعصاب والأصابع، فكان اللجوء إلى إصبع واحدة، والسبابة هي إصبع الاتهام الذي عكسته الرسالة الأولى إلى جون يدين فيها العدوان الصهيوني والغرب المتواطئ معه ممثلاً في جون البريطاني، واسم السبابة المأخوذ من السب مشحون بالكثير نتيجة للحدث وبمناسبة المرسل إليه، كما أنها الإصبع التي نغرزها في صدر من يغضبنا ويسبب لنا الألم خاصة إن لم نكن قادرين على الرد بما هو أكبر. أما عندما عاد في منتصف تلك الليلة ليحادث خطيبته  فقد "انطلقت أصابع علاء مسرعة دون تردد أو ترو"، على لوحة المفاتيح، وهنا تتجلى لغة أخرى مفعمة بالمشاعر التي صاغتها خفقات القلب، ووجيب الضلوع، وآلام الوجد، ونار الشوق، وهنا يظهر كيف أن الحالة النفسية جعلت أصابعه جميعها تدق على لوحة المفاتيح كما لو كانت تعزف سيمفونية رائعة!! ثم نجد الدكتور علاء حين تصله رسالة إلكترونية من خطيبته يسرى تريده فيها أن يعجل بمغادرة القطاع ويترك واجبه في هذه الظروف العصيبة، كأنما أصابه الشلل والعجز لما رأى من طريقة تفكيرها، وشعر بأن الكلمات لن تسع مشاعره الغاضبة المضطربة، وستكون الكتابة باردة أمام سخونة قلبه ولذلك لم تستطع أصابع يده الضرب على لوحة الحاسوب.

غزة بطولة المكان

منذ البداية نعرف أن الدكتور علاء ينتمي إلى " إمبراطورية" الشر التي تسمى غزة، وهذا التعبير يوحي ابتداء بالصورة التي يتخيلها الاحتلال أو التي يسعى لتسويقها للخارج ليبرر عدوانه، حيث يتجلى التضخيم المتعمد والمبالغ فيه لهذه الإمبراطورية، ولذلك يكتب علاء لصديقه جون متهكماً على شدة الضربة الجوية بأنها كانت تدميراً للمفاعلات النووية، والتي سيتبعها ضرب المطارات العسكرية والبوارج البحرية... لكنه يعود ليستدرك مؤكداً على أن قطاع غزة بالرغم من صغر مساحته وحصاره الخانق فهو كبير بأهله وأبطاله.. وهنا يعلم باراك وجنوده أن غزة جحيم الغزاة، وأن دخولها ليس كالفرار منها.

وقد تكرر في الرواية وصف الاحتلال بالنازية  والعدوان بالمحرقة والهولوكوست وأفران الغاز، فيما رسمت الرواية صورة مفعمة بالعدالة والإنسانية والمظلومية للمقاومين وعامة الفلسطينيين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، الذين يقاتلون لينتصروا لا لينتقموا، والذين يدفعون العدوان الموجه نحوهم ولا يبادرون به، وهؤلاء المقاومون قلوبهم معلقة بتحرير الأسرى ولذلك يتمترس أحدهم في خندقه أياماً في عز برودة شهر كانون منتظراً فرصة يصطاد بها أسيراً من جنود الاحتلال لمبادلته بأسرى الشعب الفلسطيني. ولا ننسى المشاركة البارزة للمرأة مع المقاومين، والصغار الذين يكبرون قبل الأوان، فهذا البطل علاء يمارس الطب ميدانياً وهو لا يزال في عامه الجامعي الثالث.

  وفي الرواية يظهر لنأ أسماء العديد من مدن ق\اع غزة ومخيماتها وأحيائها، فهناك عزبة عبد ربه، ومدرسة الفاخورة، وتل الهوى، ومستشفى الشفاء وجبل كاشف، ولا يتميز حتى البطل الرئيس علاء بشيء عمن حوله سوى أن الكاتب جعله في موقع الشاهد على الجريمة والبطولة معاً، وبالتالي فالبطولة الحقيقية هي للمكان بعامة سكانه.

وهذه البطولة تتجلى في انتهاء الحملة أولاً، ثم إصابة وزير حرب الاحتلال بانهيار عصبي، وانتحار ابنه ( بيبي) الذين كان يتخفى تحت اسم ( جون) البريطاني.

شخوص الرواية

الرواية من الأدب التسجيلي الذي يحرص على نقل الواقع كما هو، ولذلك فإن عدداً من شخوص الرواية وإن لم يكن لهم وجود واقعي، فإنهم موجودون بشكل أو بآخر بل ومتكرر في الواقع المرصود.

 وقد حرص الكاتب على عدم إيراد الأسماء المهمة في قطاع غزة من التي تتبوأ مواقع بارزة نضالياً أو سياسياً، عدا اسم الدكتور علاء ريان الذي استشهد وستة عشر من عائلته بفعل صاروخ أطلق عليه من طائرة ف16، وكذلك عائلة السموني التي حورها إلى عائلة الليموني بحيث لا يجد القارئ كبير جهد في التعرف على الاسم الأصلي، فضلاً عن أن اسم الليموني أقرب إلى القراءة والفهم سيما وأن قطاع غزة تكثر فيه بيارات الحمضيات ما يجعل الاسم المحور للعائلة أكثر التصاقاً بالمكان.

البطل الرئيس للرواية هو الدكتور علاء – مجازاً باعتبار ما سيكون- كونه يدرس سنة ثالثة طب، في إحدى الجامعات المصرية، لكن الحصار المفروض على غزة وإغلاق معبر رفح قد حال دون عودته إلى مصر، ثم جاء العدوان ليضطره إلى التطوع مع قوائم الإسعاف، وكان له دور آخر إعلامي حيث يتبادل الرسائل الإلكترونية مع البطلين الآخرين: خطيبته يسرى، وصديقه الأجنبي جون.

 فأما جون فهو في السنة الثالثة أيضاً لكن في كلية الهندسة بجامعة كامبريدج البريطانية وقد تعرف عليه إلكترونياً قبل عامين.

وأما يسرى فهي خطيبته وابنة عمه وطالبة الطب سنة ثانية، تعيش مع أبيها أستاذ الطب بالجامعة نفسها، والذي يسكن مصر منذ ثمانينات القرن الماضي، وأمها مصرية.

وقد جاء اختيار شخصية علاء لبطولة الرواية كونه يمثل قطاعي المسعفين والإعلاميين، وفيما بعد المقاومين الذين لهم القدرة على التنقل والوصول إلى المناطق الأكثر سخونة، وبالتالي فهو يقوم بدور شاهد العيان الأبرز ليقوم بفضح جرائم الاحتلال القتل والدمار وصور الشهداء والجرحى والمشردين، ثم القيام بفضح تلك الجرائم أمام الرأي العام العربي والأجنبي، كما أنه معايش لوقائع البطولة والفداء.

وعودة إلى شخصية علاء ابن العائلة المثقفة المتعلمة المتفوقة، فهو وخطيبته طالبان في كلية الطب وعمه أستاذ فيها، وأبوه أستاذ جامعي في التاريخ، وعمه تزوج من مصر واستقر مدرساً في إحدى جامعاتها يعكس تشرذم العائلة الفلسطينية والتي تسعى لإعادة اللحمة والتواصل وتوثيق العرى عبر تزاوج الأبناء.

حين بدأ الأستاذ الهودلي التعريف بأسرة علاء ذكر أنها تتكون من والديه وأختيه الصغيرتين دون مزيد تعريف، ثم ذكر بعد حوالي خمسين صفحة أنه أستاذ جامعي متقاعد في التاريخ، وذلك بعدما ودع ابنه علاء أن يمضي متوكلاً على الله ( إذ لا مكان للخوف والجبن في أيام الله هذه!!)، ثم أخبرنا الكاتب أن والد علاء ( أستاذ جامعي متقاعد قضى عمره وهو يدرس التاريخ يسبر غوره برفقة طلابه ويسير فيه ينظر عاقبة الظالمين، ويتلمس سنن تداول الأيام بين الأمم والحضارات)، فهذا الوالد الذي تشرب فلسفة التاريخ وقوانينه خاصة من المنظور القرآني، يتحدث عن أن هذه ( أيام الله) التي لها ما بعدها، ثم وُصف الوالد بأنه يتلمس ( سنن تداول الأيام بين الأمم والحضارات)، لا بل إنه حتى عندما يأتي ولده في الحلم، بعد وفاته وتدمير بيتهم يتحدث بقوانين التاريخ: ( بيتنا لم يُدمر .. بيتهم الذي دُمّر .. عندما تسقط الأخلاق يسقط كل شيء)، وليت الهودلي أبقى لنا هذا الفيلسوف حياً إذن لأتحفنا بالكثير سيما وأن الرواية تنتهي بنوع من الاستشراف المستقبلي للمجتمع الصهيوني المحتل.

 يحسب للكاتب أنه أدخل الحوار الإلكتروني في روايته لا بل إنه أقام جل الرواية عليه، والحبكة الروائية في الغالب تعتمد مجموع الرسائل المتبادلة بين الأبطال الثلاثة – علاء ويسرى وجون-، حيث يقوم علاء، بعدما يعود ليلاً من العمل مع طواقم الإسعاف، بالكتابة إلى جون ويسرى، يصف لهما الحرب على غزة، وفيها يرد على الشبهات التي يرددها الإعلام المعادي والإعلام التابع والممالئ، وبضمنها ما يصله من رسائل واستفسارات جون، ويمكن بالتالي أن نقول إن أحداث الرواية تجري في الواقع وتنقل بالتوازي تلك الأحداث وصورها والمواقف منها عبر وسائل الاتصال الحديثة والفضائيات.

تظهر الرواية عدداً من الشخصيات الغزية بالرغم من الحصار ثم الحرب، بل بسببهما، تكبر قبل الأوان، وتتطور خلافاً للمعتاد، فالبنتان الصغيرتان فاطمة ( 8 سنوات)، وعائشة ( 10 سنوات) اللتان تركتا المدرسة، وصارتا تقومان بنقل الأشخاص والأغراض على عربة لهم يجرها حمار حيث أبوهما عاطل عن العمل، حيث ينقل لنا الكاتب الحوار الأخير بينهما والمفعم بأحلام الطفولة وخيالاتها وبراءتها، ومع ذلك تتحدثان عن هموم الكبار ومسؤولية الأسرة والحرب والشهادة والجنة.

والبطل علاء مع أنه لا يزال في السنة الثالثة فإنه يقوم بدور الطبيب والمسعف، ثم يقوم بدور الإعلامي الذي يبعث برسائل إلى جبهتي الأصدقاء والأعداء، ثم هو يقوم بدور التوجيه المعنوي في حواراته مع جيرانه ومعارفه في القطاع، ويتمنى لو تتاح له الفرصة كي يشارك مع المقاومين.

ومن الواضح أن الأستاذ الهودلي الذي كان متعجلاً إنهاء الرواية، حيث فرغ من كتابتها بعد أسابيع قليلة من نهاية الحرب على غزة، قد تسبب في ثغرات عديدة بالرواية جراء عدم صبره على اختمارها ونضجها، ويتجلى ذلك على وجه الخصوص أولاً في أن بناء الشخصيات والتطورات التي وقعت منها أو عليها كانت أحياناً غير مقنعة بل ربما متناقضة، فيسرى خطيبته وابنة عمه طالبة الطب التي يقول على لسان علاء بأن كل همها أن يعود علاء إليها سالماً، مع أنها كانت طالبة في كلية الطب وهي – باعترافه- من أكثر الكليات نشاطاً سياسياً وتفاعلاً مع القضايا الوطنية وتضامناً مع ما يجري على الساحة الفلسطينية، كما أن تحولها وتطور شخصيتها لم يكن مقنعاً.

وكذلك فإن عمه أستاذ الطب كان في غاية السلبية خلال العدوان ، ولم نر له تفاعلاً حتى عندما قصف بيت أخيه وقتل كل من فيه، ولم يقدم لنا الكاتب تفسيراً لذلك، وعلاء نفسه مع أنه كان الشخصية الأكثر تماسكاً حتى إنه بالإمكان تصوره فإن بعض التناقض قد لحق بشخصه؛ فمثلاً يشعرنا الكاتب أنه كان على اطلاع بإمكانيات المقاومين وأنه كان على علاقة بهم، ثم لا نلبث أن نكتشف أن التحاقه بهم كان عن طريق مجاهد جريح مهد له طريق الاتصال بقيادته، ثم إذا بعلاء يقوم بالتخطيط والتنفيذ كما لو كان خبيراً متمرساً، مع أنه حديث عهد بهذا العمل.

وثغرة أخرى أدى إليهاالاستعجال فيما أرى وهي أن الكاتب يكاد ينسى أنه يبني رواية فإذا به يغرق ويطيل في الجانب الإخباري والتحليلات السياسية والمواعظ الخطابية، ولا يعفيه من هذا الخلل أن الرواية تسجيلية، وقد لاحظنا كذلك كيف أن الحوارات الإلكترونية، وهي من إبداعاته، في هذه الرواية كانت في أحيان كثيرة طويلة ومملة.

وفي الختام

لقد أبدع الهودلي في سرعة تفاعله مع قضايا شعبه، وله العديد من الكتابات ومن أبرزها القصص الواقعي عن زملائه في الأسر، كما أبدع في اختيار شخصية علاء كمسعف وإعلامي ثم كمقاوم، وبالتالي أعطانا صورة من قلب الحدث ومن أخطر المناطق وأكثرها سخونة، حيث أطلعنا على أفظع جرائم العدوان، جنباً إلى جنب مع صور البطولة والفداء والمشاهد الإنسانية لدى الفلسطينيين وبالذات المقاومين.

وكنا نلاحظ تغير اللغة والمفردات والتعبيرات بين ما يكتبه لجون وما يكتبه لخطيبته، فلكل مقام مقال، وهنا أيضاً تجلى الإبداع لدى الكاتب.

ويحسب للكاتب أنه لم يجعل من روايته بوقاً دعائياً لأي جماعة محددة من المقاومين، ولا للقائمين على الوضع السياسي في القطاع آنذاك، وجعل البطولة لعامة الشعب دون تسمية فصيل معين، لكنه تورط ولا أدري كيف، في الثناء على أحد الأنظمة العربية وأحد الأحزاب القريبة منه، ولعل ذلك لأن الطبعة الأولى من الرواية صدرت هناك، وربما يكون الذين قاموا على طباعة الرواية ونشرها هم الذين قاموا بهذا العمل... يعزز هذا لظن ورود كلمة ( مشفى) عدة مرات في الرواية علماً بأن الشائع استخدام الفلسطينيين لكلمة ( مستشفى)، حيث يرجح قيام الناشر ببعض التعديلات لمواءمة مكان النشر، والطريف أنه قد تبقى بعض المواطن التي لم تتغير فيها كلمة مستشفى!!

كما يحسب للكاتب الهودلي رؤيته الاستشرافية في أن تكون ( معركة الفرقان) منعطفاً تاريخياً وحدثاً مفصلياً في مسار القضية الفلسطينية، سيقدر له أن يُحدث تفاعلات ضخمة في داخل مجتمع ودولة الكيان المحتل.

وقد استخدم الكاتب بعض التعبيرات العامية، كان الكثير منها موفقاً وفي مكانه، بينما لم تسلم الرواية مما يقارب العشرين خطأ نحوياً أو إملائياً، لكن لغتها ها كانت متألقة في الغالب، ويبقى للقارئ أن يقرر بعد فراغه من الرواية إن كان سيعود لقراءتها ثانية أم سيشعر بأنه قد اكتفى منها. 

أصبحت الكتابة النقدية في ثقافتنا نهجا مضادا للثقافة. اتابع ما ينشر من ادب نثري وشعري. أجد أحيانا صعوبة في فهم دافع كتابة النظم او النثر لدي الكثيرين. بنفس الوقت هناك من يستحق ابداعه القراءة والاشادة. لكني اصمت بحيرة من الفجوة الهائلة بين الابداع الثقافي والتفاهة الثقافية، فاكتفي بسطر او سطرين للدلالة على جمالية نصوص معينة، واهرب من تناول ما أرى انه مجرد ثرثرة لا تقود الى أي فكرة ثقافية او جمالية. لدرجة أني افتقد الوسطية بين ابداع حقيقي يمكن نقده، والنقد ليس شرطا رفضا سلبيا للنص، او تصفيق ومديح، يمكن ان يكون في النقد تنوع واسع، بين ملاحظات سلبية وملاحظات ايجابية أيضا، لكن بالمفهوم الإبداعي، يعتبر العمل عملا ابداعيا، حتى لو لاحظ الناقد نقاط سلبية يمكن تطويرها، حسب وجهة نظره، وهو ليس حكما لا استئناف عليه، بل حوارا ثقافيا بين المبدع والناقد بهدف تطوير الابداع فكرا وجمالا. ان دافع النقد ليس المديح والتصفيق كما تعودنا في الأكثرية المطلقة من النقد الذي ينشر، والذي يفتقد للمسؤولية الثقافية بأبسط اشكالها، وهو نقد بدون وعي من الناقد لدوره واهمية ان يمارس النقد برؤية جمالية للنص.

أصبح النقد نوعا من الاستعراض الذي يفتقد الى رؤية ثقافية وفكرية، النقد هو فكر أولا، وهو رؤية جمالية للنص ثانيا، وهو مفهوم فلسفي يرتبط بادراك العلاقة بين الابداع، النقد الأدبي والرؤية الفلسفية لمضمون النص.

 السؤال ما علاقة النقد الأدبي بالفلسفة؟

 الجواب البسيط والحاسم ان الفلسفة هي ام كل العلوم، ان ربط التطور الأدبي والنقدي بالفكر وحركة التطور الاجتماعي المادية (انتاج الخيرات المادية) والروحية (الابداع الأدبي والفني بكل مجالاته) هو موضوع حاسم في تطوير الابداع وتعميق مضامينه الفكرية والجمالية.

هناك دراسات متخصصة لمفهوم النقد وعلاقته بالرؤية الفلسفية، وأبرز الأمثلة على ذلك كتاب "الجذور الفلسفية للنقد الادبي الحديث"، للمفكر المصري محمود امين العالم، و"كتاب الاستشراق" لادوارد سعيد، الذي طور فلسفة نقدية يمكن تسميتها بالمنهج التاريخاني الحديث وهو الآن يعتبر من أبرز الدراسات النقدية، وربما مشكلة عدم اختراق فكرة ادوارد سعيد التاريخانية النقدية للثقافة العربية هي الترجمة المعقدة جدا للكتاب والتي تحتاج الى ترجمة عربية بلغة سهلة الفهم. كذلك يتطور اليوم في النقد الغربي أسلوب جديد، يتناول النص الأدبي بدون أي علاقة بالواقع الذي انطلق منه الكاتب، وقد لاحظت ان هذا النهج له تأثيره على أوساط تفتقر للرؤية الفلسفية التي تنطلق من رؤية التفاعل بين الواقع والابداع الأدبي. 

 كذلك لا بد ان ننتبه لمسالة هامة مصيرية في ممارسة النقد، الموضوع ليس نزوة شخصية لكتابة نص تحت صيغة نقد، وهو فارغ من أي فكر نقدي او جمالي. طبعا لا انفي ربط التطور الأدبي والنقدي بالهوية القومية، لسبب بسيط ان الأدب يحمل كامل خصائص اللسان الذي يصاغ فيه. وكامل خصائص المجتمع الذي ينطلق منه، ويحمل بالتأكيد الرؤية الفلسفية لكاتب النقد. ان الادب ليس حدثا يُروى، بل هو فكر قبل كل شيء، علاوة أن هناك فرق بين النقد الادبي ونظريات النقد الادبي، مثلا ما زال العديد من النقاد متأثرين بالمدرسة الواقعية الاشتراكية التي لم تصمد تاريخيا، وكانت مدرسة أيديولوجية مغلقة لنظرية فُرضت في فترة النهج "الستاليني – الجدانوفي" في الاتحاد السوفييتي السابق والحركات السياسية الدائرة في فلكه. مثلا النظرية الماركسية للنقد الأدبي تعتمد علم الاجتماع الجدلي، وترى ماهية الأدب والنقد ووظيفتهما في احداث التغيير الاجتماعي، لكن بالتطبيق فرض نهجا تعسفيا يناقض الفكرة الماركسية نفسها.

ان فهم الناقد للرابط الفلسفي للنقد مع الواقع الاجتماعي الذي انطلق من العمل الإبداعي، يشكل المنصة الأكثر مصداقية نقدية، لذا يفترض ان تكون للناقد رؤية اجتماعية وفكرية وفلسفية حول مكانة النقد الأدبية، واهمية المصارحة وليس التضليل الذي اراه ينتشر بتعظيم اعمال (نقد مجازا) هي تجارب أولى لأدباء ناشئين، او ادباء بجيل متقدم لكن نصوصهم كأنها صيغت لمجتمع آخر لا اعرف مكانه الجغرافي ولا جمهور الهدف الذي صيغ النص من أجله.

ان التعظيم يقود حتما الى تضليل المبدعين الشباب خاصة. ومعظمه ينطلق من علاقات شخصية، ومن فقدان من يكتبون هذا النقد لأي مفهوم نقدي بسيط. أي يزرعون فوضى نقدية لا جذور فكرية لها ولا رؤية تربط المضمون بالواقع.  فهل يستوعب كتاب النقد المضمون الذي يتناولونه بنقدهم؟ ام هي كتابة عشوائية لا جذور لها في النص او فلسفة النقد، حين يصيغون صفحات نقدية لا شيء من النقد او الفكر في مضمونها؟ هنا اذكر قولا لماركس يناقض النهج الذي عرفناه باسم "النهج الواقعي الاشتراكي" يقول: "ليس وعي البشر هو الذي يحدد وجودهم بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم". اذن هذه هي وظيفة الأدب ووظيفة الناقد التي لا تقل أهمية لكنها تستثمر في ثقافتنا بصياغات تفتقد لأي مضمون فلسفي او فكري او جمالي او ثقافي، او حتى لغوي سليم.

زميل ماركس إنجلز مثلا يؤكد برسائله الشهيرة المكتوبة في تسعينيات القرن التاسع عشر "أنه كان هو وماركس ينظران إلى الفن والفلسفة وغيرهما من أشكال الوعي بوصفها أشكالا لها استقلالها الذاتي النسبي وقدرتها المستقلة على تغيير حياة البشر" – طبعا مرحلة ستالين ووزيره الثقافي جدانوف، الحقوا بالفكر الماركسي تشويهات ساهمت بتقليص دوره الفكري وبالتالي انهيار بنيانه النظري المعروف باسم "المذهب الواقعي الاشتراكي". واليوم لم نعد نسمع هذا الاصطلاح الا لدي بعض الذين توقف تفكيرهم في حدود تاريخية لم تستوعب التغييرات العاصفة التي تجتاح عالمنا، سلبا او إيجابا منذ نهاية القرن العشرين.  

أكثر من ذلك توصف الرواية انها نتاج عصر الاستعمار، اذ تطورت الروايتان الإنكليزية والفرنسية مع تطور الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، بينما الرواية الأمريكية تأخرت عنهما، وكان هدف الفن الروائي هو تبرير استعمار الشعوب، أي جهاز اعلامي لتسويق الاستعمار، وعالج ادوارد سعيد في كتابه "الثقافة والامبريالية" هذا الموضوع. طبعا الثقافة الاستعمارية اوجدت ثقافة مضادة لدى الشعوب المستعمرة، ويمكن مثلا وصف ادب المقاومة الذي تطور في المجتمع العربي الفلسطيني داخل إسرائيل بأدب مضاد للنهج الثقافي الصهيوني الاستعماري.

أن النقد يتطور بناء على التراكم الفكري، وموضوعه ليس الاعجاب الشخصي بنص ما، او بشخص كاتب النص او كاتبته، كما الاحظ فيما يسمى مجازا نقد ادبي في ثقافتنا المحلية خاصة والعربية عامة. إنما النقد يبنى على أساس قدرة الناقد ان يبنى تقييمه للنص على أسس من الفكر الابستمولوجي (نظرية المعرفة) في تحليل الأدب.

 ان تبجيل صياغات يبرز فيها الاجترار الفارغ من المضمون، ومن أي ملامح جمالية، هو تصرف أحمق له دوافع شخصية لإبراز الذات، وهذا ليس نقدا بل تنمية علاقات شخصية، او كسب موقف لدى صاحب او صاحبة العمل.

من جهة أخرى هناك اعمال إبداعية تبرز فيها تجربة صاحب العمل، يجري على الأغلب تجاهل تلك الأعمال لأنها تحتاج الى جهد نقدي – فكري وليس كتابة نقدية عشوائية، والنقد الفكري لا يتوفر للناقد الذي يفتقد لأي مضمون فكري نقدي، ترهق عقله وفكره، ولا تكسبه "شهرة" مقابل صياغة تحت تسمية نقد، لا نقد فيها. الناقد في هذه الحالة اما لا يفقه مهمة النقد، (وهذا مؤكد في الكثير من الحالات) او ان له هدف يمكن ملاحظته من إصراره على تناول اعمال أولى لأدباء (او اديبات على الأغلب)، وبالتالي لا أرى ضرورة لأتوسع بالتفسير.  من هنا لم أجد نقدا، بل صياغات توهم القارئ انها نقد ادبي وهي خلو من أي ثيمة أدبية ونقدية، لا بالنص ولا بنقده وهي نصوص لا تستحق النشر.

الظاهرة المضحكة المبكية، واختتم موضوعي بها، ان بعض كتابنا الذين ينتجون مواد إعلامية يومية، بمستوى معظمه ما دون المتوسط، لاحظت في الفترة الأخيرة انهم أيضا باتوا عاشقين للكتابة الشعرية، ولم انجح ان اقرأ من شعرهم أكثر من جملتين. تفاهة يستحقون عليها جائزة نوبل. لكن نوبل لم يخصص جائزة للتفاهة حتى لا يلحق الإفلاس بأمواله.

المضحك المبكي ان بعض وسائل الاعلام تنشر دون فهم وتقييم لجودة العمل، بسبب غياب المحرر الأدبي، توفيرا طبعا للمعاش. وهو امر مؤلم، افهمه تماما بسبب الواقع الاقتصادي الذي يضيق الخناق على اعلامنا كله.

المزيد من المقالات...