أراد الكاتب والشاعر، جبران خليل جبران، أن يوصل معنى ما ، من خلال حوار فلسفي خيالي بين حمارين، الحفيد والجد، حيث مر كلاهما فوق جسر أنطاكيا، فوجدا حجراً مكتوباً عليه: هذا ما بناه الملك الروماني..

دار حوار بين الحمارين، عرف فيه الحمار الحفيد أنّ الذي نقل أحجار الجسر هم أجداده الحمير، فوجه سؤاله للحمار الجد: لماذا لم يكتبوا: هذا ما بناه حمير أنطاكيا؟

معنى فلسفي عميق يستحق الوقوف عنده، إذ تخيّل الحمار الحفيد أنّ مجرّد مشاركة أجداده الحمير في بناء صرح الملك الروماني، يستوجب تكريمهم وكتابة اسمهم بجوار الملك.

وحمل سؤاله تعجباً واستنكاراً لإهمال ذكر الحمير، على الرغم مما بذلوه من مجهود وما تكبدوه من عناء، وعلى الرغم من دورهم المحوري في بناء صرح الملك.

ولكن الواقع يقول: الحمير مسلوبة الإرادة فاقدة الوعي، تسير وفق أهداف يضعها قائدها، فهي في المحصلة مُسَّخَّرة لتنفيذ ما يُراد لها، لا ما تريده هي، فالمسألة مسألة امتلاك الوعي والإرادة، قبل توفر القوة والعدد والعتاد.

إذا كان طفل صغير يستطيع أن يقود الجمل ويروّضه، على الرغم من ضخامته وقوته، فهذا طبيعي، على الرغم من فارق الحجم والقوة، لأن الطفل هنا هو صاحب الإرادة والهدف، والجمل مجرّد أداة سُخْرَة.

وبغض النظر عما قد ينتفع به الحمير من بعض عطايا الملك، وما قد يتميز به الحمير ذوو الحيثيات الخاصة، تقوم السياسة الثابتة للملك على سلب الإرادة والوعي عن الحمير، بواسطة دعامتين أساسيتين، هما، التجهيل والإلهاء.

يتم تجهيل الثور بإغماء عينيه وتركه يدور في الساقية بحركة دائرية عبثية، بُغية رفع الماء حيث يريد مُسَّخِره، ويتم إلهاؤه بالمنديل الأحمر في حلبة مصارعة الثيران، وبينما هو يَتَلَهى بمتابعة الهدف الوهمي، تنغرس السهام في رقبته، حتى يَخِر صريعاً وسط صيحات الانتصار من مسخِرِه، وما زالت تلك القصة تتكرّر وتتعدّد أشكالها .

الخلاصة أنّ أي إنسان أو شعب يسير في الحياة فاقد الوعي، مغمض العينين، مسلوب الإرادة، يعطي تفويضا على بياض لمن يقوده، فسيكون مصيره مصير حمير أنطاكيا؛ وظيفتهم فقط: نقل أحجار لبناء صروح لغيرهم.

صدر للشاعرة الفلسطينية سامية محمد شاهين، قصيدة بعنوان" جموح الجواد"، في مجلة " مبدعون" وهي مجلة عراقية شهرية يصدرها المركز العراقي للأدباء والفنانين الشباب 2018م.

الشاعرة من مواليد عام 1973م، فلسطينية من قرية عرابة البطوف في الجليل الأسفل قضاء عكا، وحاصلة على الماجستير، وتعمل مدرّسة لغة عربية في مدرسة بقريتها، وهي عضو في منتدى الكلمة، وفي اتحاد الكتّاب العرب، وصدر لها عدد من الأعمال الأدبية كقصص الأطفال، وديوان شعر بعنوان: (حوراء كحّلها الحنين) وديوان آخر بعنوان: ( أهازيج البراعم)، وغير ذلك من الأعمال المنشورة.

القصيدة كتبت على نمط شعر التفعيلة، وتشتمل على اثنين وخمسين سطراً، وهذا اللون شائع بكثرة بين شعراء هذا العصر، بل هذا زمانه الذهبي. والصحيح أنّ القصيدة حين نتأمل عنوانها "جموح الجواد"، نجدُها مفعمةً بالحركة، والإيقاع الذي يبدأ رتيباً ثم يعلو وينخفض كاشفاً عن ثورةٍ لمشاعر من الحزن والألم والسخط الذي أصاب الواقع العربي. إيقاع يتصاعد، علماً أن الشاعرة لم تُلزم نفسها تفعيلة محددة، تنساب عبرها موجات الانفعالات بتوازن موسيقي، حال الكثير من شعراء اليوم، وإن كانت أقرب لتفعيلة البحر الكامل بعامة. لذا فالضوء الدلالي المنبعث من العنوان يشير إلى حزنٍ دفين ممزوج بالغضب وعدم الرضا عن الواقع، فالجواد لم يعد في حالته الطبيعية المعروفة؛ التي يستجيب فيها للأوامر، فغدا ثائراً متمرداً، فلفظ جموحٌ من الفعل جَمَحَ، وفرسٌ جموح إذا أسرع ولم يردّه شيء، وجموح صيغة مبالغة على وزن(فعول) ويستوي فيه المذكر والمؤنث، نقول: حصانٌ جموحٌ وفرسٌ جموح وهو الذي إذا أسرَعَ لم يردّه اللجام. وفيه دلالة التمرد والغضب الشديد.

القصيدة وفق قراءتي تتألف من ثلاثة دوائر دلالية، تتقاطع معاً لترسم لوحة غنية بالإحساس، معبّرة عن مشاعر جياشة بالحزن والحبّ وأصالة الانتماء لفلسطين وللعروبة جمعاء.

الدائرة الأولى، تستهلك عشرة أسطر، تصف بها الشاعرة حال الجواد العربيّ! وهي في حديثها عن الجواد، تذكّرني بقصيدة الشاعر المرحوم أمل دنقل الرائعة" الخيول" التي يقول في مطلعها: الفتوحاتُ في الأرض- مكتوبة بدماء الخيول... وحدودُ الممالك رسمتها السنابك.." لكنّ الشاعر في القصيدة يرثي الخيل العربية الأصيلة التي حققت الانتصارات والفتوحات، ويبكيها بحسرة، بعدما تحولت اليوم إلى حيوانات في الحدائق يشاهدها السائحون، أو تجرهاّ العربات في المدن والقرى، وغدت حيناً زينةُ وألعاباً للأطفال في الأعياد والأعراس!! أما شاعرتنا فرسمت للحصان صورة أخرى، فهو ما يزال في عنفوانه وقوته وشموخه، لكنه أمام الحالة العربية المتردية آثر الانسحاب من الصحراء التي صنع بها الانتصارات، تقول الشاعرة:

جمحَ الجوادُ عن الصهيل

 شدّ الرحالَ صوب الأصيل

 في حافريه يصكّ الصخور قدحاً

 يفتش عن الشمس صبحاً

 جمح الجواد عن الصحرا

 ولهيبها اللاسع والأفاعي الرقطاء...

إنّ الشاعرة تستعين بالتاريخ العربي الإسلامي، وتستلهم منه صوراً فنية جميلة، فصورة الصحراء في ذهن العربي ترمز إلى أصول العرب وقبائلهم، وهي تستدعي في أذهانهم حين تُذكر معاني الشجاعة والكرم والصبر والحلم والترحال، ويرتبط بذكر الصحراء دائماً حيوانها وبخاصة الإبل والخيل، الوسيلتان اللتان استخدمهما العربيّ في إقامته وظعنه، وفي سلّمهِ وحربِهِ وفي تجارته، فهي مهد ذكرياته وانطلاقاته نحو الأمم الأخرى. ودلالة على أهمية الخيل ذكرت في القرآن الكريم في مواطن كثيرة، أهمها سورة العاديات التي منه قوله تعالى: " والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً، فالمغيراتُ صبحا، فأثرنَ به نقعاً، فوسطنَ به جمعاً.." وقد تأثرت الشاعرة بهذه المعاني كما نجد في المقطع السابق.

وفي الدائرة الثانية، نجد المبررات التي جعلت هذا الجواد جامحاً؛ فالصحراء التي وُلِدَ فيها وترعرع ، وصالَ وجال، وفتح البلاد، تغيرتْ، ولم تعد موطناً للفتوحات، أو الانتصارات أو الذود عن العزّة والكرامة، ومن ثمّ فحاجة الناس إلى الجواد وللخيل بعامة صارت قليلة أو نادرة، وفي هذا مبرر لجموح الجواد، وحقٌّ له أن يجمح ويرحل عن الصحراء نحو الجبال والأودية والشعاب، بعيداً عن العربيّ الذي تغير!! الصحراء انقلبت بدلالاتها الواقعية؛ فهي اليوم موطن للمأساة، وموئلٌ للغربان، يهيم بها المشرّدون اللاجئون المتعبون الهاربون من هزيمة الواقع العربي، وسطوة الذئاب الغربية، ومن حكم المتآمرين على قضايا الشعوب، الذين سمحوا أن يكون واقع العربيّ اليوم مُذلاً لا عزة فيه ولا كرامة، وأن تُقسّم البلاد، ويتفرق أصحاب الأرض ويهيمون على وجوههم في الصحراء أو البراري أو البحار...!! ولم يبقً فيها مسيطرٌ سوى الغول، وهو رمز لسطوة الأجنبي واستحكامه في بلادنا.

تقول الشاعرة عن تبدل الصحراء:

فرمالها غطّاه اصفرار// يتلحفُ أخدود الجرحى

 قشعريرةٌ وغطاءُ الغربان// والصّبار صار طعام الثكالى

لم يبق شيءٌ سوى أرجل الغول...

الدائرة الرابعة، وفيها تفتح الشاعرة أبواب الأمل بنظرة متفائلة للغدّ؛ فنرى أنّ جموح هذا الجواد أمرٌ فيه بوارق أمل نحو غدٍ مشرق، فهو جموح إلى الخلف وليس إلى الأمام! الخلف الذي يعود فيه إلى الطبيعة الغنّاء التي يتنسم فيها عذب الحرية، وعروبة الأرض، تقول الشاعرة:

جمح الجوادُ بعيداً عن قهقهة البنادق// ونقيق الضفادع

تاق اللجوء إلى العصافير// وهي تغرّد لبزوغ النور// وانبلاج النهار

الجموحُ صار عنوان النفس الناضجة// تبوح بأسرار جذلى

وينطلق الجواد على أجنحة البراق// يحمل أمنيات القداسة// من أعناق السماء صرحاً

عساها تزهر القوافي// تحمل بلسم الأرواح

تُضمّد جراح الحناجر// فيرفّ الحمامُ زاجلاً // ويطلق على القيد رمحا ...

فالشاعرة، في المقطع الأخير، تجعل من الجواد ذا بصيرة نافذة، فهو يدرك الواقع، ويشعر بآلام البؤساء، وآمال المحرومين المظلومين، لذا يبتعد عن الواقع الموبوء بالهزيمة والانكسار، نحو الغدّ المشرق، عاقداً العزم على تجديد الماضي العزيز الأشمّ، آتياً على أجنحة البراق، حاملاً البلسم للجراح، كاسراً القيود. وهي صورة جميلة تعبّر عن قراءة واعية ومؤمنة بحتمية التغيير، فبقاء الحال من المحال كما يقولون، ولعلّ هذا ما يحتاجه المتعبون اليائسون في هذا الزمان العربي العحيب.

وبالنظر في لغة النص، نجد أن الشاعرة قد اتكأت على معجم الألفاظ التراثية نحو[ جمح الجواد] و[ شدّ الرحال] و [ الصهيل – الأصيل] و [ صبحاً- قدحاً ] و[ أجنحة البراق] و [ أمنيات القداسة] و [ أعناق السماء- بلسم الأرواح]، فجميع استعمالات هذه الألفاظ وغيرها تشيع في الأدب القديم، وهذا يدلّ على أن الشاعرة قرأت التراث، وهي تستحضره في أشعارها، وتعيد نسجه بثوب جديد، وتضيف إليه خيوط الواقع المؤلم التي نلمحها في ألفاظ نحو[ طعام الثكالى- قيود الزنزانة – عرش الكرامة- سهام الحرية..] ، والشاعرة تتكئ في لغتها الشعرية هذه على اللغة المجازية التي تجعل بعض الدلالات مفتوحة على مصراعيها، أمام التأويل؛ بدءاً من الجواد الذي جعلته موضوع النصّ، فالدلالة الظاهرة والسياقية توحي بأنه الجواد العربي، وقد يرمز إلى القوة العربية الغائبة ، وقد يكون عزم الشاعرة نفسه، كأن تجعله جواداً في حالة من حالاتها النفسية، وإن كنت لا أميل لهذا التفسير. اللغة المجازية تكاد تغطي أرجاء النصّ، وتحوّله إلى فضاءات واسعة، تكشف عن درجة الإحساس العالية بالموقف الشاعري، الذي يعلو حيناً وينخفض حيناً آخر؛ كما نجد في العبارات الآتية: [وفي عينيه نهرٌ يتدفق بين أروقة الجبال] صورة فضائية عميقة، أن تتخيل عيني الحصان نهرين يجريان في شعاب الجبال توافقاً مع حركته يمنةً ويسرة!! وكأن الضوء المنبعث أمامهما حالَ إلى ماء نهر جارٍ، وأظنّ أن هذه الصورة جديدة مبتكرة، تكشف سعة خيال الشاعرة وطريقة تأملها الرائع، وإحساسها بالأشياء.

ومن اللغة المجازية قولها:[ والصبّار صار طعام الثكالى] كناية عما لحق هؤلاء من الفقر والظلم والاضطهاد، وهي صورة إنسانية  تبعث الألم في النفس، وتدعو للشفقة، وقولها كذلك : [ وأضرم النار بضحكة الأطفال] فهي عبارة تحمل دلالات قوية، منها صورة عذابات الأطفال الذين يمثلون زينة الدنيا، وبهجتها، وتحيل القارئ إلى تأمل كيف  يمكن أن يلحق هؤلاء الأبرياء لون من التعذيب ، وأيّ تعذيب هذا ؟ إنهّ إنهاء فرحتهم وضحكاتهم، وكيف؟ بالحرق، بأبشع وسائل التعذيب والقهر والقسوة!!

لقد اعتمدت الشاعرة على الجمل الفعلية اعتماداً ملفتاً، أسهم في تدوير اللوحات التي اشتملت عليها الدوائر الدلالية، بحركات مؤثرة تبعث التأمل في النفس، وجاءت الأفعال الماضية موازية للأفعال المضارعة، وفي هذا دلالة على أن الشاعرة على طول إحساسها بالماضي فهي تغرف من الواقع الحاضر، ولا تستطيع الابتعاد عنه، ولا الفكاك منه، وفي هذا دليل على قوة سلطانه، وسيطرته على البقاء، بآلامه وأحلامه، وهي في نظرتها هذه، تحاول توجيه الحاضر نحو الأفضل بعد تشخيصه، علماً أنها جعلت شارات التفاؤل مفتوحة بالتمني والأمل، دون أن توضح قرب أو بعد لحظة الانفراج أو وصف ذلك بالأسلوب الذي استخدمته حين كانت تصف الماضي وآلام الحاضر.

 إنّ لغة الشاعرة في عمومها رومانسية، فيّاضة بالعاطفة، لكن ليست العاطفة الهوجاء التي لا تخضع لنظام؛ بل نلمس أثر الخيال في بنائها وهذا ما تحدث عنه الناقد الإنجليزي(كولردج) حين تحدث عن دور الخيال في تنظيم العاطفة وتوحيدها مع الصور العقلية في بناء واحد، ليظهر بعد ذلك بناء نصّ فنيّ جميل، وهذا لا يتأتى إلا بقوة إدراك ووعي للحدث أو المؤثر الذي يعالجه الشاعر. لقد حرصت الشاعرة على استخدام أقصى طاقتها في التوليف اللفظي، فجاءت لغتها الاستعارية تشير إلى قدرتها على إدراك مواطن التشابه والتباين وذلك منبع الاستعارات، وهذا بدوره كما يرى الناقد- محمد حسن عبد الله – " يشبع الحنين الإنساني إلى النظام والكمال؛ لأنه يقيم صلة روحية بين الأشياء التي تتوحد في مخيلة الإنسان، لتعبر عن رغبة عميقة للعقل الإنساني في اكتشاف نظام العالم الخارجي"، وهذا كله مرتبط بقدرة العقل والخيال والعاطفة معاً في الاندماج والانصهار ثم البدء بعملية الإبداع.

وأخيراً، تمنياتي للشاعرة بالتوفيق، وسأكون سعيداً وأن أقرأ لها إبداعات أدبية جديدة قادمة.

اولا: هذه قراءة في كتاب (استجواب الرئيس) الذي يروي فيه جون نيكسون المحلل في وكالة المخابرات الامريكية (CIA) تفاصيل استجوابه الرئيس صدام حسين خلال الأسابيع التي تلت أسره. السيد نيكسون هو (محلل قادة – Leadership analyst) في وكالة المخابرات الامريكية متخصص بالرئيس صدام حسين. ومهمة (محللي القادة) هي مساعدة صانعي القرار في واشنطن من خلال تقديم تحليلات تفصيلية للقادة الأجانب، ويشمل ذلك آرائهم وطموحاتهم ومحدداتهم وحياتهم الاجتماعية وكل ما يتعلق بهم. وكان السيد نيكسون كما يقول عن نفسه (كنت خلال عملي في وكالة المخابرات الامريكية أعيش واستنشق صداماً).

ثانيا: أُرسل السيد نيكسون الى العراق بعد الغزو الأمريكي، ضمن جهود البحث عن الرئيس صدام حسين، وعندما أُسر الرئيس كلّف نيكسون باستجوابه. وبعد ثلاث عشرة سنة من ذلك الاستجواب أصدر كتابه (استجواب الرئيس) ليزيل عن كاهله عبء إخفاء الحقيقة. فقد كان السيد نيكسون قد رسم صورة الرئيس صدام حسين استنادا الى تقارير وكالة المخابرات المركزية الامريكية والاعلام الغربي، وهي صورة الدكتاتور الجاهل المتعجرف والدموي، وعندما التقى بصدام وجها لوجه وحاوره، اكتشف أنه متورط في اكبر عملية خداع في التاريخ الحديث، فقد وجد امامه قائدا شجاعا حاد الذكاء واسع المعرفة يختلف كليا عن تلك الصورة المزيفة التي صوّره بها، لذلك نشر كتابه إرضاء لضميره ولكي يساهم في اصلاح آليات اتخاذ القرار في بلده، معتذرا للعراق وللرئيس صدام بقوله: (لا أعتقد أن هناك أي دولة أخرى اضطُهدت وأسيء الظن بها كما حصل للعراق) وأضاف (الولايات المتحدة أساءت فهم صدام، وفهم دوره كعدو حازم للقيادات الراديكالية في العالم.... لقد اثبتت إزالة صدام عن السلطة انها نكبة حلت بالعراق الذي بات الآن دولة فاشلة بجميع المقاييس.... لقد قال لي صدام سوف تفشلون وستجدون ان حكم العراق ليس بتلك السهولة).

ثالثا: عُرض الكتاب، قبل نشره، على وكالة المخابرات الامريكية التي عدّلت به وأضافت له الكثير، وذلك واضح من تضمينه تقييمات واستنتاجات من أدبيات فترة شيطنة العراق وصدام حسين، ولم تكتف المخابرات المركزية الامريكية بتعديلاتها تلك، بل تابعت الكتاب وهو جاهز للطبع، وطلبت تظليل فقرات كثيرة منه باللون الاسود، فظهرت طبعته الإنجليزية وبها أربع وثلاثون فقرة وجمله ظللها الرقيب بالأسود. لكنّ هذه الإضافات والتعديلات السلبية لم تستطع الانتقاص من الخط العام للكتاب الذي ينصف الرئيس صدام حسين وينصف العراق وينتقد بقوة قرار الإدارة الامريكية غزو العراق، المبني على الاباطيل.

أما الترجمة العربية للكتاب، المرفق رابطها، فيؤخذ عليها انها لم تكن دقيقة في مواضع كثيرة، إضافة الى انها وضعت التعابير المتهافتة من فترة شيطنة العراق والرئيس صدام حسين بالخط الغامق، مما يؤشر تحيزها وابتعادها عن الأمانة العلمية.

رابعا: عن شخصية الرئيس صدام حسين ومواقفه، ذكر السيد نيكسون الآتي: كان صدام صلبا وحاد الذكاء ومناورا. كان لا يخشى الموت. سألني بوش إن كان صدام يعرف أنه سيعدم، أجبته إن من أوائل الأمور التي ذكرها صدام هي معرفته بأن حبسه سينتهي بإعدامه. التقى الادميرال ماكريفن بصدام يوم 1/3/2004 وطلب من صدام التوقيع على بيان يدعو المتمردين العراقيين الى إلقاء سلاحهم، وهدده بمصير موسوليني،رفض صدام حتى قراءة البيان، ناهيكم عن توقيعه، وقال (كرامتي لا تسمح لي بقراءته)، وقال صدام لزميلي لاحقا (اعتقد ان السلطات العسكرية الامريكية لا تفهم صدام حسين ولا العراق) وأضاف: (إذا كنتم تريدون وقف سفك الدماء فعليكم أن تغادروا، لن تخسروا شيئا بمغادرتكم، أما نحن فسوف نخسر كل شيء لو أوقفنا القتال).

كان صدام حادّ التقييم لمستجوبيه، وكان سريع البديهة، ولم يكن ساعيا وراء قيادة الامة بل قال (لا اريد غير قيادة العراقيين، فهم انبل الناس). كان يتمتع بالجاذبية الشعبية، وحين سألناه عن القيادة الإيرانية تصرف كرجل دولة شهم وقال انه في اعقاب وفاة الخميني في 1989 طلب من معاونيه إظهار الاحترام لرجل الدين الراحل. خلال استجوابنا له كان صدام يقاوم أي محاولة صريحة لإخضاعه أو لتحدي شعوره بالسيطرة وكنا نراعي كبرياءه. كانت ذاكرته حادة للغاية، وكنت أحيانا اطرح عليه سؤالا غامضا أو أريه صورة ملتقطة قبل ربع قرن، فكانت اجاباته دقيقة ومفصلة. صدام يحب الشعب الكردي لكنه يحتقر مسعود البارزاني وجلال الطالباني، صدام يصف حزب البعث بأنه جزء من الأمة وإنه حزب يدعو الى العدالة الاجتماعية والوحدة العربية والحرية والديمقراطية.

خامسا: وعن غزو العراق، شن المؤلف هجوما عنيفا على فرار بوش الابن غزو العراق بناء على معطيات مفبركة وشخصية منها الانتقام لمحاولة اغتيال والده التي نفاها صدام، وقال إن بوش الابن طلب بعد احداث 11/9 من وكالة المخابرات الأمريكية أن توجد علاقة بين صدام والإرهاب، فاستندت الوكالة الى معلومات جماعة أحمد الجلبي لإصدار ورقة عن صلات حكومة صدام حسين بالإرهاب الدولي، ولم تخضع تلك المعلومات الى التقييم او التحقق من مصداقيتها، وانتقد المنطق الخرافي وغير المسؤول السائد في البيت الأبيض إزاء العراق وصدام حسين، وأضاف: كانوا مقبلين على غزو بلدٍ لا يعرفون شيئا عنه. وأضاف إن الولايات المتحدة كانت مغفّلة عندما توقعت بانها ستتمكن بكل بساطة من الدخول لتحل محل صدام حسين، وإن غزو العراق سيتم بمنتهى السهولة، لقد تمخض الامر عن حالة مذهلة من الغباء والغرور. لم تتمكن وكالة المخابرات الأمريكية ولا غيرها من الوكالات الحكومية من إقناع صانعي السياسة بإن صدام كانت لديه نظرة ثاقبة. صدام كان يعرف مواطنيه معرفة لم ولن نبلغها. إن تهافت إدارة بوش في البحث عن حجج للنيل من صدام، وصل الى حدّ عرض مقابلة لامرأة تدعي انها عشيقة صدام وزعمت حصولها على كثير من الاسرار المتعلقة بأسلحة صدام للتدمير الشامل من خلال حوارات الفراش!!!. وخلص الى أن إدارة بوش لم تنجح في تحديد مكانة صدام في الصورة الجغرافية السياسية الأوسع، واقتنعت بالصورة الكاريكاتيرية الهزيلة التي خلقتها هي، والتي تظهر صدام بأنه ذلك الجزار الشرير الذي لا بد من إيقافه عند حده مهما كان الثمن. وانتقد خضوع اركان الإدارة الامريكية لرغبات بوش، ومنهم مدير وكالة المخابرات الامريكية جورج تينيت الذي بالغ في جهوده لإرضاء البيت الأبيض، وكان يشجع المحللين على تضخيم فحوى تقاريرهم عندما تكون الأدلة ضعيفة وركيكة، وقال ان اقتراح رامسفيلد مغادرة صدام للعراق لتفادي الحرب هو نموذج للخطأ العميق في قراءة الزعيم العراقي، فقد كان صدام فخورا جدا بجذوره. ولم يكن العراق مجرد بلده، بل كان كيانه ومجمل هويته، وأضاف (كان صدام يعتبر العراق خط الدفاع العربي الامامي ضد الفرس... الإطاحة بصدام خلقت فراغا في السلطة في العراق حوّل الخلافات الدينية في العراق الى حمام دم طائفي).

سادسا: وخلال حوارات السيد نيكسون مع الرئيس صدام حسين جرى استعراض العديد من احداث العراق والمنطقة. وادناه بعض ما دوّنه عنها:

· كان صدام يعتبر نفسه حاميا للعرب في وجه التهديد الفارسي، ويعتبر العراقيين أنبل الناس، ولم يكن لصدام مثيل، ما من أحد غيره كان يعرف أحلام العراقيين وتطلعاتهم.

· أجهزة وكالة المخابرات كانت تعتقد أن عدي وقصي يتبادلان الكراهية، لكن قصيّ ظل ملازما لأخيه حتى قتلا برصاص القوات الامريكية في دار أحد شيوخ الموصل. وعندما سمع صدام بمقتل عدي وقصي قال (لقد توفيا وهما يقاتلان من أجل تحرير بلدهما، وتلك كانت انبل نهاية يمكن للمرء أن يتمناها).

· سألت صدام عن قصف حلبجة بالكيمياوي فنفى علمه او إصداره الامر بقصف حلبجة، وعندما كررت سؤالي أجاب بلهجة غاضبة (لو كنت راغبا في اتخاذ هذا القرار لكنت اتخذته، ولست خائفا منك ولا من رئيسك).

· نفى صدام أي صلة له بالقاعدة مصرا على القول بانه كان من أعداء القاعدة

· عن مقتل محمد صادق الصدر قال صدام: لم اسمع شيئا حتى بلغني انه قتل، وأمرت بإجراء تحقيق خاص حول الحادث، وتلقيت تقريرا من المخابرات مفاده ان مقتله كان نتيجة خلاف داخلي بين كبار قادة الحوزة، ولم يكن لي أي دور في اغتياله

· نفى صدام بشكل قطعي وجود أي خطة لاغتيال جورج بوش الاب بعد خسارته في انتخابات 1992 وسفره الى الكويت عام 1993، وقال انه بعد استبعاد بوش من الرئاسة لم يعد يعتبره خصما

سابعا: وعن إعدام الرئيس صدام حسين، الذي شاهده بالتلفزيون بعد مغادرته العراق، قال: كان صدام الرجل الأكثر وقارا وهيبة في غرفة الإعدام، لقد تعامل مع الموقف كما كنت أتوقع منه، بتحدّ وبلا خوف الى النهاية. ومن الجدير بالذكر إن تأثّر السيد نيكسون بالرئيس صدام حسين استمر وسيستمر بقية عمره، حيث قال (خلال السنوات التي تلت مغادرتي لوكالة المخابرات الامريكية كنت كثيرا ما أفكر بصدّام الذي تمكن من اختراق جلدي ليعشعش في ذهني).

الخلاصة: الكتاب جدير بالتوثيق، لإنه يكشف الكثير من الحقائق عن صمود وشجاعة وعنفوان صدام حسين في الأسر، كما يوثق الوقائع التي تثبت أن غزو العراق هي جريمة عدوان مكتملة الاركان، كما يوثق هشاشة النظام الديمقراطي الأمريكي وخضوع المسؤولين الكبار في الإدارة الامريكية المذلّ لرغبات الرئيس مهما كانت عدوانيتها. إن شهادة السيد جون نيكسون التي ضمها هذا الكتاب، تصلح ان تكون ضمن الوثائق التي سيقدمها العراق، بعد تحرره القريب بإذن الله، الى المحاكم الدولية، لمقاضاة الولايات المتحدة ومن عاونها على جرائم الحرب وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت ضد العراق،

ومن جانب آخر، فإن توالي نشر المذكرات والوقائع والوثائق عن غزو العراق، الذي وصفه القاضي الاسباني بالتاسار بإنه أكثر الاعمال خسة في التاريخ الحديث، يتطلب من القوى الوطنية العراقية تأسيس مركز ابحاث متخصص يشارك في كتابة ابحاثه طوعيا المختصون العرب وغير العرب، وينشيء موقعا الكترونيا يجمع فيه ويوثق المذكرات والوقائع والوثائق، لإطلاع الرأي العام العربي والعالمي عليها وللتحضير لمقاضاة المحتلين ومن عاونهم على جرائمهم بحق شعب العراق.

ثامنا: ادناه نصوص إضافية من كتاب السيد ويلسون مرتبه حسب تسلسل ورودها في الكتاب، وفيها كشف لكثير من الحقائق:

· ما كانت الولايات المتحدة ستواجه فاجعة داعش لو كانت مستعدة للتعايش مع صدام.... ومع مراجعة أحداث الماضي، فإن تأمّل صدام حسين وهو في السلطة يكاد يبدو مطمئنا بالمقارنة مع الاحداث الشنيعة والجهود الضائعة التي بذلها شبان وشابات القوات المسلحة الامريكية، ناهيك عن ثلاثة تريليون دولار التي انفقت لحد الآن لبناء عراق جديد. (ص 7-8).

· المباشرة بجلسات الاستجواب جعلتني ادرك ان الولايات المتحدة أساءت فهم صدام، وفهم دوره كعدو حازم للقيادات الراديكالية في العالم الاسلامي، بما فيها التطرف السنّي... كان صدام سنيّا وكان حزبه البعثي رمزا للقومية العربية والاشتراكية، وكان يعتبر التطرف السني مصدر تهديد لقاعدة سلطته (ص 8).

· في كثير من الأحيان وصف صدام خطأ بأنه ملحد، أو بأنه يستخدم الدين للترويج لإهدافه السياسية، لكنه في الواقع لم يكن معاديا للدين بحد ذاته، بل كان يطالب بالسيطرة على النشاط الديني. (ص 9).

· قال صدام " قلت لهم لا مانع من ممارستهم للدين ولكن عليهم الا يدخلوا العمامة في السياسة" (ص 9).

· كان صدام يعتبر العراق خط الدفاع العربي الامامي ضد الفرس... الإطاحة بصدام خلقت فراغا في السلطة في العراق حوّل الخلافات الدينية في العراق الى حمام دم طائفي.(ص 10).

· لو لم يتم الغزو الأمريكي لكان العالم العربي سيبقى هادئا محبطا. (ص 11).

· النقص في فهمنا للطريقة التي ينظر بها صدام للعالم أظهر خللا خطيرا في سياسة الولايات المتحدة الخارجية ظل يلازمها منذ تأسيسها. (ص 13).

· الفكر الضحل الذي جرّنا الى فيتنام نبهني الى بعض الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في حربها الاختيارية في العراق، ومنها أننا لم نكن نعرف غير القليل جدا عن أوضاع العراق السياسية والطائفية. (ص 15).

· صانعو السياسة في البيت الأبيض ما كانوا راغبين في الاستماع الى أن العديد من الأسباب المبررة لاستهداف صدام كانت تستند الى حجج واهية، إن لم تكن زائفة.(ص 15-16).

· ، فكرة (البديل الشبيه) لصدام كانت خرافة... والمؤسف ان دونالد ترامب وجورج تينيت واصلا ترديدها في مذكراتهما المنشورة بعد الاحتلال (ص 26-27).

· قال صدام (الامريكيون مجموعة من المخربين والجهلة لا يفهمون شيئا عن العراق وهم مصرون على تدميره، لكونهم يعتقدون بوجود أسلحة لا وجود لها). (ص 33).

· قال صدام لم أطلب من احد أن ينصب لي تمثالا (ص 34).

· كنا مقيدين جدا نتيجة افتقارنا للمصادر على الأرض، ولم تكن لدينا سفارة ولا أعين ولا آذان تطلعنا عما يجري، فاصبحنا نعتمد بشكل كامل على المغتربين. (ص 46).

· كان تركيزنا على صدام والمقربين منه قد بلغ حدا جعل ذكر أي موضوع لا يتناول النظام إلاّ بمساس عرضي يعتبر استخداما سيئا لمواردنا. (ص 47).

· محللة في وكالة المخابرات المركزية قالت ان رواية (زبيبة والملك) كتبها كتاب بدائل، لذلك فهي لا تفيد في تحليل شخصية صدام. (ص47).

· كانت إدارة بوش مصممة على الحرب وعازمة على إزالة صدام (ص 48).

· تهافت إدارة بوش في تعزيز حججها للنيل من صدام، من ذلك عرضها مقابلة لامرأة تدعي انها عشيقة صدام وزعمت حصولها على كثير من الاسرار المتعلقة بأسلحة صدام للتدمير الشامل من خلال حوارات الفراش. (ص49).

· كنت خلال سني عملي في وكالة المخابرات الامريكية أعيش واستنشق صداما. لم انفرد بذلك، بل كان معي عدد من المهنيين الملتزمين في الوكالة ممن كانوا منشغلين بصدام، لكننا لم ننجح كثيرا في تحديد مكانه في الصورة الجغرافية السياسية الأوسع، وبدأنا نتقبل الصورة الكاريكاتيرية الهزيلة التي تظهر صدام بأنه ذلك الجزار الشرير الذي لا بد من إيقافه عند حده مهما كان الثمن. (ص 53).

· كان صدام سريع البديهة وذكيا بذكاء الشارع. (ص 54-55).

· يدعي بعض الخبراء بالشأن العراقي أن وكالة المخابرات المركزية الامريكية ساهمت في تدبير الانقلاب البعثي (عام 1963)، لكني لم اعثر على دلائل تعزز تلك المزاعم. (ص 55).

· بعد وصولي الى بغداد بفترة قصيرة ادعى احد المصادر بأنه كشف مؤامرة كان صدام قد أمر بتنفيذها وتقضي باغتيال ابنتي الرئيس بوش، جينا وباربارا، للانتقام من قتل ولديه في تموز 2003. ما من شيء يدعو للسخرية اكثر من هذا الادعاء، فصدام كان مختبئا، ولم تكن لديه اية وسيلة لتنفيذ قتل امرأتين في الولايات المتحدة، وقمنا بإبلاغ واشنطن بأن هذا التقرير لا يمكن الاعتماد على مصدره، وبالتالي لا يمكن تصديقه، برغم ذلك نشر التقرير ووزع لتندلع بعد ذلك عاصفة ناريّة..... لقد صدقت واشنطن ذلك التقرير ربما لإنه كان ينسجم مع صورة صدام الكاريكاتيرية لديها. (ص 62-63).

· اجهزة وكالة المخابرات كانت تعتقد أن عدي وقصي يتبادلان الكراهية، لكن قصيّ ظل ملازما لأخيه حتى قتلا برصاص القوات الامريكية في دار أحد شيوخ الموصل. (ص 65).

· حققنا مع سائق صدام واسمه سمير في جلسات طويلة لكن سمير كان يكذب علينا وما من شيء يجعله يكشف عما كنا نريده من معلومات، ولا حتى الجائزة البالغة (25) مليون دولار، فقد كان سمير يحب صدام ويخشاه). (ص 66).

· سألنا صدام عن فراره من بغداد عند الاحتلال فأجاب (إنه لم يفرّ بل انتقل الى موقع آخر ليتمكن من الاستمرار في معارضة احتلال بلاده). (ص67).

· ادهشتني قناعة صدام بأنه سيجد الوسيلة للخلاص من محنته، وأنه كان شديد الولاء لمن كان يكنّ له الولاء. (ص 68).

· كان صدام صلبا وحاد الذكاء ومناورا، كما كان حادّ التقييم لمستجوبيه. (ص 69).

· كان صدام يقاوم أي محاولة صريحة لإخضاعه أو لتحدي شعوره بالسيطرة. كنا نراعي كبرياءه. كانت ذاكرته حادة للغاية، وكنت أحيانا اطرح عليه سؤالا غامضا، أو أريه صورة ملتقطة قبل ربع قرن، فكانت اجاباته دقيقة ومفصلة. (ص70).

· كانت قيادة وكالة المخابرات الامريكية مهتمة بالدرجة الأولى بالمكان الذي اخفى فيه صدام أسلحة الدمار الشامل. (ص 74).

· مهما كانت فضائعه، لا ينكر ان صدام كان يتمتع بالجاذبية الشعبية. (ص 77).

· تكيَّفَ صدام بسرعة مع محيطه (في السجن) وبدا متواضعا نسبيا، كما طلب ذات مرة إبرة وخيطا ليتمكن من إصلاح ملابسه. (ص 79).

· قال نيكسون لصدام كان معك (750) الف دولار عند القبض عليك، فأجاب بل مليون وربع مليون دولار، وان الجنود الامريكان سرقوا نصف مليون دولار، وثبّت ذلك بورقة منه. (ص 89)،

· ظننت انني اعرف مداخل ومخارج حياة الدكتاتور العراقي، لكن ما سمعته منه كان كشفا يثير الدهشة وجعلني اشكك بصحة تشخيصات الأطباء النفسانيين الذين عملت معهم في وكالة المخابرات الامريكية، كنا سمعنا منذ سنين ان صداما يعاني من آلام شديدة في ظهره، وانه لا يأكل اللحوم الحمراء، وانه ترك تدخين السيجار، وهذه كلها لم تكن صحيحة. (ص 96).

· حين سألناه عن القيادة الإيرانية حاول صدام ان يتصرف كرجل دولة شهم مع شيء من الاستعلاء. (ص 99).

· كان صدام يعتبر نفسه بالفعل حاميا للعرب في وجه التهديد الفارسي، وقال ان هذا يجعل كل العالم يعتبر العراقيين أنبل الناس. (ص 100).

· عندما اتهمته بتنحية البكر، أكد صدام ان فكرة توليه السلطة كانت تعود الى البكر نفسه، موضحا أن البكر كان قد تقدم في السن وأن صحته لم تعد كما كانت وأنه لم يعد راغبا برئاسة البلاد. وقال "هل تعرف انني احب البكر كما لو كان ابي، وهل تعرف اننا كنا صديقين". (ص 102).

· قال صدام انه (بذل جهوداً كبيرة للحد من الاحتفال المفرط في العراق في اعقاب وفاة الخميني في 1989 وأنه طلب من معاونيه إظهار الاحترام لرجل الدين الراحل. (ص 106).

· علمنا بعد سقوط صدام (أي من الوثائق العراقية) أن صدام لم يأمر باستخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة. (ص 107)

· تعبير صدام عن حبه للشعب الكردي لم يمتد للقيادات الكردية، فكان ينظر الى مسعود البارزاني وجلال الطالباني باعتبارهما كذابين، وسياسيين لا يمكن الوثوق بهما.(ص 108).

· حذر صدام من انتشار السلفية والاصولية (ص 111-112).

· نفى صدام أي صلة له بالقاعدة مصرا على القول بإنه كان من أعداء القاعدة، وعندما سئل عن احداث 11/9 قال إن محمد عطا كان مصريا فلماذا لا تسألوا حسني مبارك عنه؟ وعندما قيل له ان مقالاً لعدي في صحيفة (بابل) كان شامتاً بأحداث 11/9 قال (وما تأثير ما يقوله ابني، هل كان عضوا في الحكومة؟ كلا)، وسخر منّي عندما قلت له ان عدي يتحدث نيابة عنه. (ص 114).

· لم يكن لصدام مثيل. ما من أحد غيره كان يعرف أحلام العراقيين وتطلعاتهم. (ص 115).

· عندما سمع بمقتل عدي وقصي قال (لقد توفيا وهما يقاتلان من أجل تحرير بلدهما، وتلك كانت انبل نهاية يمكن للمرء أن يتمناها. (ص 122).

· عن وفاة عدنان خير الله قال (شعرت كأن مسمارا اخترق قلبي). (ص 124).

· عندما سئل عن طموحه لقيادة الامة أجاب (لا اريد غير قيادة العراقيين، فهم انبل الناس) (ص 127).

· كانت الولايات المتحدة مغفلة في توقعاتها بإنها ستتمكن بكل بساطة من الدخول لتحل محل صدام حسين، وإن غزو العراق سيتم بمنتهى السهولة، لقد تمخض الامر عن حالة مذهلة من الغباء والغرور.... لم تتمكن وكالة المخابرات الامريكية ولا غيرها من الوكالات الحكومية من إقناع صانعي السياسة بإن صدام كانت لديه نظرة ثاقبة... صدام كان يعرف مواطنيه معرفة لم ولن نبلغها. قال صدام سوف تفشلون وستجدون ان حكم العراق ليس بتلك السهولة (ص 128).،

· عن مقتل محمد صادق الصدر قال صدام: لم اسمع شيئا حتى بلغني انه قتل، وأمرت بإجراء تحقيق خاص حول الحادث، وتلقيت تقريرا من المخابرات مفاده ان مقتله كان نتيجة خلاف داخلي بين كبار قادة الحوزة، ولم يكن لي اي دور في اغتياله. (ص 132).

· نفى صدام بشكل قطعي وجود أي خطة لاغتيال جورج بوش الاب بعد هزيمته في انتخابات 1992 وسفره الى الكويت عام 1993، وقال انه بعد استبعاد بوش من الرئاسة لم يعد يعتبره خصما، ولم يتفهم أبدا القول أن خطة الاغتيال المزعومة كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء رغبة بوش الابن الإطاحة به. (ص 137).

· لا أعتقد ان هناك أي دولة أخرى إضطُهدت وأسيء الظن بها كما حصل للعراق). (ص 139).

· كنت استمع خلال عملي في وكالة المخابرات المركزية إلى ان صدام يدرس سيرتي ستالين وهتلر، وكان صدام يقتدي بهما، غير ان صدام اعرب عن اعجابه بديغول ولينين وماو وجورج واشنطن وتيتو ونهرو، ولم يذكر ولا مرة واحدة انه معجب بهتلر او ستالين، بل وصف ستالين بأنه لم يكن مفكرا وكانت اساليبه مقززة. ان هذه المعلومات غير الصحيحة كان هدفها تصوير رجل العراق القوي بانه شيطان. (ص 146).

· سألت صدام عن قصف حلبجة بالكيمياوي فنفى علمه او اصداره الامر بقصف حلبجة، وعندما كررت سؤالي أجاب بلهجة غاضبة (لو كنت راغبا في اتخاذ هذا القرار لكنت اتخذته، ولست خائفا منك ولا من رئيسك).(ص152).

· لقد بدا صدام مخيفا حتى وإن كان محتجزا في زنزانة محكمة. (ص 153).

· وعن موضوع تجفيف الاهوار قال صدام (بإنه قام بتجفيف المنطقة من أجل سكانها، وقال (كيف يمكن للمرء أن يعيش على الماء؟ الأرض هناك خصبة وكنت أتطلع الى توسيع الرقعة الزراعية. لقد أنشأنا مدارس وعيادات طبية وزودنا المنطقة بالكهرباء، وقبل ذلك كانوا يعيشون كما كانوا قبل ثلاثة قرون من الآن). (ص 154).

· كرر صدام فخره بإن الظاهرة الطائفية لم تكن معروفة في العراق في ظل نظامه، وسألني: هل تعرف إن كان صدام شيعيا أم سنيا؟ إنهما متساويان امام القانون. في 1959 كان سكرتير حزب البعث شيعيا من الناصرية، وفي 1960-1961 كان كرديا شيعيا يدعى عبد الكريم الشيخلي. (ص 155).

· قال صدام إن حزب البعث جزء من أمتي، وهو يدعو الى العدالة الاجتماعية والوحدة العربية والحرية والديمقراطية. (ص 155).

· عندما سألته عن إنجازاته التي يفتخر بها قال صدام "بناء العراق... كنا نخدم الشعب ونرضي الله". (ص 157).

· عند انهاء مهمة نيكسون قال للرئيس صدام: الان بعد ان التقينا اشعر انني أصبحت افهمك وافهم بلدك بشكل أفضل من ذي قبل، فأشكرك على ذلك. وأضاف (كان صدام رجل سياسة وكان يستخدم مهارات السياسة اثناء وداعي.. كانت كلمة وداع صدام نابعة من التقاليد العربية).

· التقى الادميرال ماكريفن بصدام يوم 1/3/2004 وقدم له بيانا ليوقعه يدعو فيه المتمردين العراقيين الى إلقاء سلاحهم، وهدده بمصير موسوليني ان لم يفعل ذلك، لكن صدام رفض قراءة البيان، أو توقيعه، وقال (كرامتي لا تسمح لي بقراءته) وقال لاحقا (اعتقد ان السلطات العسكرية لم تفهم لا صدام حسين ولا العراق) وأضاف: اذا كنتم تريدون وقف سفك الدماء فعليكم أن تغادروا، لن تخسروا شيئا بمغادرتكم، أما نحن فسوف نخسر كل شيء لو أوقفنا القتال. (ص 160-161).

· في 4 شباط 2008 التقيت بالرئيس بوش وسألني عن طبيعة صدام، فقلت له انه كان يبدو مسالما وكان يلجأ الى التواضع المرح، وهنا بدأ بوش وكأنه سيفقد صوابه، فسارعت الى التوضيح بإن تصرف صدام كان مجرد مناورة، وإن صدام كان ساخرا ومغرورا بالإضافة الى كونه قاسيا وساديا. مما جعل بوش يهدأ. وسألني بوش لماذا لم يقبل صدام عرضنا له مغادرة العراق في 17 آذار 2003، فقلت له ان صدام لا يشعر بالأمان الا في العراق وكان صدام يتوقع أن لا تتحمل الولايات المتحدة تبعات حرب قاسية. ثم سألني بوش إن كان صدام يعرف أنه سيعدم، اجبته إن من أوائل الأمور التي أشار اليها صدام كانت معرفته بأن حبسه سينتهي بإعدامه. (ص171).

· انتابني بعض الانزعاج بمقدار اهتمام كبار مسؤولي وكالة المخابرات الامريكية بإرضاء الرئيس بوش. (ص 172).

· في اجتماع 4 شباط 2008 مع بوش جرى نقاش حول مستقبل مقتدى الصدر، وقال بوش ان عادل عبد المهدي اخبره بإن مقتدى (يكاد أن يكون متخلفا)، وعندما شكك بعض الحاضرين بهذا التوصيف عارض بوش ذلك، ويقول نيكسون، (بدا بوش مقتنعا بإن العراقيين ما كانوا سيكذبون عليه بعد أن قام بإنقاذ بلادهم من قبضة الطاغية). (ص 177).

· استفسر بوش إن كان على أمريكا ان تقتل مقتدى الصدر، فأجيب بانها لو فعلت ذلك لحولته الى شهيد. (ص 180-183).

· كانت كوندوليزا رايس ذكيّة لكنها ضعيفة، وتعرض كولن باول الى التهميش من قبل المحافظين الجدد. (ص 193).

· كان طموح جورج تينيت (مدير وكالة المخابرات الامريكية) هو أداء دور بين كبار اللاعبين، ما جعله في النهاية يعد خشبة المسرح لفشله هو. لقد افرط تينيت في جهوده لإرضاء البيت الأبيض. كان يشجع المحللين على تضخيم فحوى تقاريرهم عندما تكون الأدلة ضعيفة وركيكة..(ص 196).

· كاد بوش ان يدمر وكالة المخابرات الامريكية من خلال تحميلها مسؤولية كل الأخطاء التي ارتكبت في العراق، ووصف تحليلاتها بأنها مجرد تخمينات، ولكنه لم يكن يسمع غير الذي كان يتطلع الى سماعه. (ص 200).

· أشار نيكسون بسخرية الى سذاجة بوش، عندما اوجزوه عن الخلافات بين الشيعة والسنة في العراق، فأجاب بإنه كان يظن أن أهل العراق مسلمون، أي انه لم يكن يعرف ان الشيعة والسنة هما طائفتان اسلاميتان. (ص 199).

· بعد احداث 11/9 طلب بوش من وكالة المخابرات الامريكية ان توجد علاقة بين صدام والإرهاب، فاستندت الوكالة الى معلومات جماعة أحمد الجلبي لإصدار ورقة عن صلات حكومة صدام حسين بالإرهاب الدولي، ولم تخضع تلك المعلومات الى التقييم او التحقق من مصداقيتها، بل كانت ترسل الى وزارة الدفاع لاستخدامها لتبرير الحرب على العراق. واصدر مركز مكافحة الإرهاب ورقة عن صلات حكومة صدام بالإرهاب الدولي، وكانت أكثر وثيقة إثارة للجدل إذ كانت مليئة بالثغرات والافتقار الى الدقة والتحليلات البائسة والخرافات. (ص 199).

· بقي كبار اللاعبين السياسيين (الامريكان) متمسكين بشدة بتبريراتهم لخوض حرب العراق حتى بعد ان ظهرت الحقائق بانهم كانوا على خطأ، فكانوا كالناجين من سفينة غارقة والممسكين بأطراف قوارب النجاة. (ص 203).

· دهشت لدى قراءتي مذكرات بوش "نقاط القرار" (الصادرة عام 2010)عن مؤامرة صدام المزعومة لقتل ابنتيه، إذ بقي بوش مقتنعا بذلك رغم أن كل الأدلة تشير الى عكس ذلك. (ص 204).

· خلال الأشهر السابقة للغزو كان بعض أصدقائي يعودون من اجتماعات مجلس الامن القومي ليتحدثوا عن المنطق الخرافي السائد في البيت الأبيض. كان طاقم بوش يرفض التعامل مع أي شخص ذو صلة بصدام أو بحزب البعث، كان ذك موقفا محبطا، إذ كانوا مقبلين على اصدار امر بغزو بلد هم لا يعرفون شيئا عمن كانوا سيهاجمونه. (ص 205).

· من بين اكثر جوانب مذكرات بوش المقلقة كان قوله (كان هناك شخص واحد قادر على تفادي الحرب لكنه لم يفعل، لقد خدع العالم ثم خدع نفسه). علق على ذلك بالقول: لقد اظهر (بوش) اخفاقا جوهريا في فهمه لشخص صدام وللدوافع التي جعلته يفعل ما فعل، كان صدام مستعدا للتفاوض، فلقد صرح ابان عهدي كلينتون وبوش الابن إنه جاهز لمحاورة الولايات المتحدة في اي وقت. إلا ان بوش هو الذي رفض التفاوض.(ص 204-205)

· كان رامسفيلد يريد مغادرة صدام للعراق لتفادي الحرب، كان ذلك نموذجا للخطأ العميق في قراءة الزعيم العراقي، كان صدام فخورا جدا بجذوره.... ولم يكن العراق مجرد بلده، بل كان كيانه ومجمل هويته. (ص 206).

· كان طاقم بوش يرفض الاستماع الى أي شيء يشكك بصحة مسألة وجود شبيه لصدام. (ص 208).

· وصف رامسفيلد بول بريمر بإنه (وغد بيروقراطي يعبث ببلاد ما بين النهرين).(ص 208).

· كنت أتأمل من توني بلير ان يظهر الشجاعة ويعترف بإن بريطانيا ساهمت في الغزو بالاستناد الى فرضيات ثبت لاحقا انها خاطئة، ولكن بدلا من ذلك أطال بلير الحديث عن التهديد المتنامي المتمثل بصدام. (ص 208).

· أعترف اني لعبت دورا صغيرا في كارثة جسيمة جدا المّت بسياسة أمريكا الخارجية، وهي حرب العراق. (ص 223).

· كان وجودنا (في العراق) يستند الى مخيلة المحافظين الجدد المتمثلة ببسط النفوذ الأمريكي في المنطقة والى قناعة الرئيس بوش بإن صدام أراد قتل بوش الأب. (ص 224).

· انفقنا ترليونات الدولارات وضحينا بآلاف الرجال والنساء لنحصل في نهاية المطاف على بلد تزيد فيه حالة الفوضى عما كنت عليه ايام حكم صدام البعثي. (ص 225).

· يبدو ان ايران كانت اكثر المستفيدين من مغامرتنا في العراق. (ص 225).

· لقد اثبتت إزالة صدام عن السلطة انها نكبة حلت بالعراق الذي بات الآن دولة فاشلة بجميع المقاييس. (ص 227).

· خلال السنوات التي تلت تركي العمل في وكالة المخابرات الامريكية كنت كثيرا ما أفكر بصدّام الذي تمكن من إختراق جلدي ليعشعش في ذهني... ادركت بعد مرور السنين، أنا وزملائي، أننا ما كنا نعرف عن صدام شيئا، كنا اسرى الانطباع المبني على احداث 1990-1991. شعرت بشخصية صدام الجذابة وبحدود ذكائه وكنت احترمه يوما وأكرهه في اليوم التالي، ولم أكوّن في نهاية المطاف غير مخطط صورة للرجل، وسوف اقضي بقية حياتي في ملء الفراغات في تلك الصورة. (ص232).

· صدام كان الرجل الأكثر وقارا وهيبة في غرفة الإعدام، لقد تعامل مع الموقف كما كنت أتوقع منه، بتحدّ وبلا خوف الى النهاية. (ص235).

والله المستعان

بغداد 27/8/2018

شبكة البصرة

clip_image002_4f9e8.jpg

استهوتني رواية  " عديقي اليهودي "  للكاتب والروائي الفلسطيني  محمود شاهين الصادرة عام ٢٠١٨ عن دار الناشر مكتبة كل شيء- حيفامن حيث طبيعتها الفريدة وموضوعها  المتميز الفكري والتاريخي والسياسي، وابحارها في عمق التاريخ، ومناوشتها للعقل وفكرة الوجود والخلق، وطرقها على كوابح السياسة برؤى قد تبدو  " فانتازوية " اذا جاز التعبير، وقدرتها على توظيف المخيال الانساني وتعقيدات واقع الأرض الفلسطينية في ظل الاحتلال، وإلى ما قبل فجر التاريخ، وقدمت لنا طبقا شهيا من الفكر وفهم صيرورة  هذا التاريخ على ارض البرتقال الحزين، وفق تسلسل تاريخي  درامي مثير  ومحّير في نفس الوقت.

ويمكن القول ان الرواية بأبطالها عارف نذير الحق الفلسطيني الكنعاني اليبوسي،  ويعقوب وسارة التوراتيين او الاسرائيليين  الحاليين، صورة صادقة لتفسير علمي قائم على الحقائق للنصوص الدينية التلمودية والتوارتية، وكشف مبهر عن طبيعة كم هائل من الاكاذيب والتزييف المهول الذي ينخر متون هذه النصوص، التي جرى استغلالها لفرض حقائق جديدة رغم انف التاريخ والجغرافيا السياسية الحديثة، ويصحبنا الكاتب بأسلوبه المشوق في رحلة  ممتعة مع النصوص الدينية التوراتية؛ ليضعنا أمام قراءة  واعية وجديدة لمعنى التاريخ الحقيقي، وأنه في النهاية لن يصح الا الصحيح.

وتنحى الرواية حسب فهمي المتواضع منحى واقعيا من خلال تمهيدها الأرضية لوقائع هذه الرواية في أرض البرية  وفصولها على تخوم القدس، وفي القلب منها الخان الاحمر الذي يشهد صراع بقاء  مصيريا هذه الأيام، وتنسج هذه الفصول ببراعة بحيث تمزج كل عناصر الرواية بأبعادها التاريخية والفكرية والسياسية ، عندما  تتبدى ملامحها المثيرة في عكس البعد التاريخي القديم لطبيعة الحياة البشرية إلى اليوم الحاضر، حيث ما تزال ملامح الحياة القديمة ماثلة للعيان . . الأرض القفراء ورعي الأغنام والإبل ومضارب البدو  وتفاصيل الحياة البسيطة، مما يخلق هذا الانشداد اللاواعي  لروح الرواية ومضامينها ورموزها وألغازها البادية للعيان  والاخرى المستترة.

وأزعم أن مطالعة  الرواية  تغني الكثيرين عن العودة مجددا  الى قراءة نصوص التوراة  أو العهد القديم  من الكتاب المقدس، التي غالبا ما يشعر القارئ بالملل والضجر اثناء تصفحها للتكرار في العديد من فصولها أو اصحاحاتها، أو للصياغة اللغوية المتعبة للفهم السريع، أو لتناولها مواضيع حياتية ولاهوتية جافة ومملة، ولكن استعراض الرواية لأبرز هذه النصوص التوراتية وشرحها والتعقيب عليها وتفنيدها، قد أعطاها روحا جديدة بحيث دبت الحياة في مفاصلها، واستمتع القارئ أيّما استمتاع بأسلوب هذا التناول الجميل الذي لا يخلو من سخرية لاذعة ظاهرة  أحيانا ومبطنة أحيانا أخرى.

ويفوح من الرواية عبق الأرض الفلسطينية البكر .. تلك الارض الخلاء الصافية التي تساعد على التخيل والتفكر في بديع صنع الخلق، ودور المادة والطاقة الأزلية  في التحولات الكونية عبر مليارات السنين، وانعكاس هذا الفضاء اللامحدود على نمو افكار انسانية قائمة على المساواة والعدل والحق والخير والجمال، ولذا  أزعم مجددا  ان الرواية كانت موفقة في مشهد تصور أو تخّيل انقاذ الاطفال اليهود من الغرق في واد أبو هندي من برية القدس القريب من بعض المستوطنات،  وهي صورة انطباعية في غاية الجمال والتوفيق ولا تتيح مجالا للانتقاص منها،  انها  ربما مستحيلة الحدوث على ارض الواقع ، وإن كنت أفضل عدم المبالغة في انقاذ هذا العدد الكبير من الأطفال من قبل بطل الروايةعارف نذير الحق الذي هو  في منتصف الستينات من العمر، وهو ما برّره الكاتب بشيء مقنع على كل حال  .. ولكن هذا هو حال الأدب ونمطه المتخيل الذي يشطح بعيدا في العادة.

ولعبت الرواية  بذكاء حسب ما أرى، على تناقضات المجتمع الإسرائيلي، وأبرزت الصوت الاسرائيلي الحر المعارض للسياسات المتطرفة التي ستقود حتما الى الخراب  والدمار، وإن كان هذا الصوت خافتا ومبحوحا خصوصا هذه الأيام، كما تبنت الموقف السياسي الفلسطيني الرسمي المتوازن والعاقل والمعتدل  ولكنه المتمسك بالحقوق الوطنية الثابتة  للشعب الفلسطيني، كما اقرتها الشرعية الدولية عبر عقود من الصراع والنضال والتضحيات، ويا ليت الجهات المسؤولة عن الثقافة الفلسطينية،  تعمل على ترجتمها للغات الأجنبية وخاصة الانجليزية  والعبرية لعلها تساهم ولو قليلا في الكشف عن معدن الشعب الفلسطيني الأصيل، وتطلعه  الحق الى السلام العادل والدائم رغم ما تعرض له وما عاناه من كوارث منذ الغزوة الصهيونية الأولى،  وبدء المشروع الصهيوني المدعوم من الغرب الامبريالي بقضه وقضيضه.

والحقيقة ان كل فصل من الرواية بحاجة الى الوقوف عنده وتأمله لما يحويه من عناصر ثراء وقيم رفيعة ومفاهيم انسانية راقية، ولا تغني هذه الانطباعات البدائية  المبتسرة  والمجتزأة شيئا عن  ضرورة الولوج الى أعماق وكنه الرواية التي هي من طينة أو عجينة تكاد تكون فريدة من نوعها وغير مسبوقة، والبحث والغوص عميقا  في مجاهلها ، لاكتشاف  المزيد من كنوزها المخبوءة ودلالاتها  ومراميها البعيدة. الرواية في كلمتها أو سطرها الأخير صيحة  حرّى عاتية من  قلب الانسان الفلسطيني الموجوع والمكلوم والمقهور،  الباحث عن العدل والحياة الحرة الكريمة.. والمتطلع الى عالم انساني خالٍ من أسلحة العنف والكراهية والقتل والاحقاد، التي لا توّرث الا المصائب والكوارث. فهل ينتصر داود وجوليات العصر الحديث، لقيم الخير والجمال ويقبران رياح الموت والخراب مرة واحدة والى الأبد؟ هل ينتصران لهذه المعاني؟ لنعش ونرى.

صدرت رواية " ليلى وليالي الألم" للكاتب الإيزيديّ الكورديّ العراقي خالد تعلو القادري عام ٢٠١٧، عن منظمة "روزا شنكل لحقوق الانسان"، وتقع الرّواية في ١٠٠ صفحة من الحجم الصّغير.

وصلتني هذه الرّواية عبر البريد الألكتروني "الإيميل"، حيث أرسلتها لي سيّدة فلسطينيّة تعمل في برنامج تدريبيّ للأمم المتّحدة شمال العراق.

بداية يجدر التّنويه أنّ هذه الرّواية مأساة حقيقيّة كما سردتها ليلى شقيقة الكاتب حول ما حدث لها مع ارهابيّي داعش، الذين اختطفوها وطفليها وآخرين لمدّة ثلاث سنوات، حيث تنقلّوا بها في عدّة أمكنة وسجون للدّواعش في العراق، وبعدها نقلوها كسبيّة إلى مدينة الرّقة السّوريّة، إلى أن اشترت نفسها بمبالغ دفعتها أسرتها عن طريق عملاء داعش، والكاتب يسرد حكاية شقيقته المأساويّة كما سمعها منها؛ لتكون شاهدا على الجرائم التي ارتكبها ارهابيّو داعش أينما حلّوا وأينما ارتحلوا.

 تتحدّث الرّواية بألم يبكي الصخر عن المأساة التي حلّت بالإيزيديّين والمسيحيّين العراقيّين الذين اجتاح الدّواعش مناطقهم.

 ورغم الأخطاء اللغويّة التي وردت في الرّواية، ورغم المضمون المأساوي  إلا أنّ عنصر التّشويق فيها يرغم القارئ على متابعتها، متحمّلا آلاما قد تصل إلى حدّ البكاء على الانسانيّة المهدورة من قبل داعش التي تتلفع برداء دينيّ، والدّين منها براء.

والقارئ لهذه الرّواية سيشعر بالخجل والعار الذي ألحقه مرتكبو هذه الجرائم بالدّين الاسلاميّ الذي اختطفوه، واعتمدوا في جرائمهم على فتاوي وأحداث غابرة لا علاقة لها بالإسلام الصّحيح.

إن الوحشيّة التي تعاملت فيها داعش مع الإيزيديّين والمسيحيّين في المناطق التي اجتاحوها، تفوق التّصوّر، وتبيّن مدى خطورتهم على الانسانيّة وعلى العرب والمسلمين خاصّة، فلا يمكن أن يتصوّر المرء طبيبا -كما ورد على لسان ليلى السّبيّة – يتّخذ طفلة ابنة عشر سنوات سبيّة له، ويعاشرها معاشرة الأزواج. ولا يمكن أن نتصوّر وحوشا بشريّة يغتصبون امرأة -كما حصل مع ليلى-، ويعذّبون طفليها ويستعبدونهم أمام عيني والدتهم. ولا يمكن أن نتصوّر كيف يعدم الرّجال دون ذنب اقترفوه، وأن تترك النّساء والأطفال أيّاما دون طعام أو شراب أو استحمام.

وداعش وأخواتها من القوى الظلاميّة دمّروا حضارة العراق وسوريا، فقد دمّروا بابل وتدمر والمقامات بما فيها المقامات الدّينيّة، كما نهبوا المتاحف وأحرقوا المكتبات التّاريخيّة، ومن هنا تنبع أهمّيّة محاسبة الدّول التي دعمتهم وسلحتهم ودرّبتهم وموّلتهم لأنّها هي الأخرى شريكة بالجرائم ضدّ الانسانيّة التي ارتكبتها داعش وقوى التّكفير الظلاميّة الأخرى.

المزيد من المقالات...