clip_image002_6a41f.jpg

في رواية " هذا الرّجل لا أعرفه" للرّوائيّة المقدسيّة  دِيمة السّمّان الصادرة عام ٢٠١٨ عن مكتبة كل شيء الحيفاوية، خلقت الكاتبة صراعا حقيقيّا ما بين شخصيّات روايتها؛ كي توصل لأذهان القارئ  فكرة أساسيّة تعيشها مجتمعاتنا العربيّة خاصّة، وهي النّزاع على السّلطة والتّمسّك بكرسيّ الحكم و" الغاية تبرّر الوسيلة".

عاش بطل الرّواية وحيد سالم صراعا مريرا ما بين حياته الشّخصيّة والاجتماعيّة، وبين حياته الاقتصاديّة والسّياسيّة. ظلّ متمسّكا بحبّه القديم للمهندسة الزّراعيّة منى رغم زواجها بغيره وتخليها عن حبّها له، في الوقت نفسه تعلّق بحب جديد لناهد الّتي مارس معها الخطيئة قبل الزّواج.

هذه العلاقة خلقت في نفسه صراعا قويّا لم يقدر على الخلاص منه. نرى بأنّ وحيد في الرّواية خلق لنفسه أزمة جعلته يعيش حياة صعبة ينقصها الحبّ والاستقرار. تزوّج بفتاة دون تفكير أو تخطيط، بل كان زواجه تغطية لغلطة قام بها مع الفتاة ناهد الّتي لم يعرفها مسبقا.

شيء آخر أوقع به وحيد بأزمة، وهو الصّراع على السّلطة. من سيكون المسيطر في البيت، المرأة أم الرّجل؟ وهل يقبل سلطة المرأة وجاهها ومركزها الاجتماعي والسّياسي كوزيرة مهمّة لا يستغنى عنها في موقعها السّياسي؛ أم يثور ويحتجّ ويطلب حقّه كرجل في المجتمع الشّرقي؟ أم هي قضيّة انسانيّة بحتة لرجل أراد الحبّ والاستقرار وبناء عائلة ذات ركائز سليمة، منعت تحقيقها امرأة ذات مصلحة ماكرة لعوب؟

هنا نجد بأنّ الكاتبة السّمّان قد طرحت قضيّة حقيقيّة تواجه مجتمعاتنا العربيّة خاصّة، الصّراع ما بين العقلية الذّكورية وبين الأنثى على السّلطة؛ وهذه بحاجة إِلى نقاش ودراسة عميقة أكثر.

ظلّ الصّراع مستمرّا خلال مراحل الرّواية مع باقي شخصيّاتها. هل تقبل عائلة آل سالم وضع الزّوجة السّياسيّة ناهد ونفورها من حياتها الأُسريّة مع ابنهم وحيد؛ أم ترفضه وتقف بجانب الابن؟

بدا الصّراع واضحا بين أفراد الأُسرة، هل يقفون جانب الابن أم الكنّة؟ حيث وقفوا بجانب الزّوجة؛ خوفا على اهتزاز مركز الأُسرة أمام النّاس وبقاء اسم عائلة آل سالم مرموقا في المجتمع؛ وربّما أيضا خوفا على أنفسهم من المكانة السّياسيّة الرّفيعة الّتي تحملها كنّتهم!

موقف الأخ فارس كان واضحا، وهو رفض تصرّفات الأخ وحيد ووقوفه جانب زوجته، حيث أظهرت أحداث الرّواية، حبّ هذه الشّخصيّة للمصلحة وحبّه للارتقاء على أكتاف الآخرين، وخاصّة زوجة الأخ.

ظلّ الصّراع  دائرا حتّى نهاية الرّواية. الحبّ القديم، أم الاستقرار الّذي لم يتحقّق؟

محاولة وحيد التّقرّب أكثر من منى حبيبته الأولى بعد مقتل زوجها المهندس لم تحظ بالنجاح؛ لأنه هو المتّهم في القتل.

معرفته بأنّ أخاه فارس هو القاتل جعلته يعيش صراعا أقوى. هل يسلّم القاتل للعدالة ويحظى بحب منى، أم  يرضخ للنّزعة القبليّة في حبّ السّلطة والجاه حسب وصيّة الجد؟

لقد غلب الخيار الثاني وهو السلطة والكرسي السّياسي على الخيار الأوّل؟ن

حيث تحوّل وحيد من رجل اقتصادي معروف إِلى ترشيحه لنفسه كرجل سياسي؛ وكان في نظر منى" هذا الرّجل  لا أعرفه"

clip_image002_82857.jpg

القارئ لرواية "هذا الرجل لا أعرفه" للأديبة المقدسية ديمة جمعة السمان، لا بدّ له أن يستعيد جزأها الأوّل "غفرانك قلبي"، وإن لم يفعل ذلك فسيلتبس عليه فهم بعض تطوّرات الأحداث في جزئها الثاني.

وقارئ جزئي الرّواية سيجد نفسه أمام رموز وأحداث وتساؤلات ستجبره على التفكير فيما ترمز إليه الكاتبة، ومن ضمن ما يجب الانتباه إليه هو زمن كتابة الرّواية، والأحداث التي تمرّ بها المنطقة حيث تعيش وتتأثّر الأديبة.

وفي تقديري -وحسب فهمي للرّواية- أنّ الكاتبة المعروفة لمن يتابع قراءة أعمالها الرّوائيّة بخيالها الخصب، وقدرتها الفائقة في تحريك شخصيّات رواياتها، وأسلوبها  السّلس الذي لا يخلو من عنصر التّشويق، ولغتها الرّشيقة في سرد الأحداث والحوار، كانت تهدف إلى ما هو أبعد من قراءة سطحية لما جاء في الرّواية.

فملخّص جزئي الرّواية يدور حول رحيل قبيلة بدويّة طلبا للماء والكلأ، ولا تلبث أن تكتشف الزّراعة لتكون بداية استقرارها، وانتقالهم من السّكن في الخيام إلى البيوت الحجريّة، وبناء القرى والمدن، ولتتطوّر إلى بناء دولة وحكومة وأجهزة أمنيّة، ليتبع ذلك صراع على الحكم واستئثار عائلة شيخ القبيلة "آل سالم" بالحكم. وهذا ما ينطبق على تأسيس الدّول العربيّة، فهي في غالبيّتها لا تزال عبارة عن تحالفات قبليّة بعيدة عن الدّولة المدنيّة. والتّحالفات القبليّة جاءت دفاعا عن مصالحها في الرّضوخ لقبيلة قويّة استأثرت بالحكم وما يدور حوله من صراعات. وما يجري في عالمنا العربيّ من أحداث جسيمة فيما يسمّى "الرّبيع العربيّ" الذي حصد أرواح مئات الآلاف من البشر ليس بريئا من صراعات "القبائل" على الحكم، وما ترتّب عليه من تفريط بالأوطان وبالشعوب مقابل الاحتفاظ بكراسي الحكم وثروات البلدان والشّعوب.

وكأنّي بالرّوائيّة ديمة جمعة السّمّان تقول لقرّائها العرب، هذه هي حال دولكم المتصارعة والتي ما حصدت إلا الهزائم المتراكمة من خلال صراعات لا مبرّر لها.

لكنّ الأديبة السّمان التي تملك ناصية الكلمة وتجيد الفنّ اللرّوائيّ سهّلت الأمر على القارئ عندما طرحت الموضوع من خلال تطوّر العائلة والقبيلة، ومن خلال العلاقات الاجتماعيّة وما يصاحبها من حبّ وخلاف ومشاكل، فظهرت لنا في الرّواية العقليّة الذّكوريّة وكيفيّة تعاملها مع المرأة، فهذه العقليّة والتي تساهم بشكل وآخر في مصائب الأمّة وهزائمها لا تزال بعيدة عن تقبّل المرأة حتّى وإن كانت متعلمة، ومستحوذة على أعلى المناصب كأن تكون "وزيرة" على سبيل المثال.

يبقى أن نقول أنّ الرّواية عميقة في مضمونها، متقنة في بنائها الفنّي، وتثبت لنا من جديد أنّ الأديبة السّمّان تطوّر أدواتها في كلّ عمل روائيّ جديد لها.

clip_image002_41f27.jpg

رواية (هذا الرجل لا أعرفه) للأديبة المقدسية ديمة جمعة السمان، صدرت مؤخرا عن مكتبة كل شيء الحيفاوية، وهي الجزء الثاني من رواية (غفرانك قلبي) للكاتبة، والتي صدرت عام 2015، وأحداث هذه الرواية هي امتداد لأحداث الرواية السابقة، وهي امتداد لملحمة سياسيّة اجتماعيّة، استطاعت فيها الكاتبة أن تبني حيّزا مكانيّا مميّزا تماما كما بنت شخصيّات واقعيّة تتحرّك في هذا الحيّز الافتراضي.

 لكنّ القارئ الذي لم يطّلع على رواية (غفرانك قلبي) قد لا يستطيع تفسير بعض الأحداث في هذه الرواية أو تبرير تصرفات الشّخصيات الرئيسيّة فيها؛ حيث لم تشر الكاتبة إلى روايتها السابقة في هذا الكتاب، والذي قد يؤدي لحدوث لبس عند بعض القرّاء؛ إذ قد لا يفهم القارئ المستجد طبيعة المكان الذي تدور فيه أحداث الرّواية، أو طبيعة العلاقة بين وحيد ومنى، ورمزية المزرعة وشجرة الجمّيز فيها.

ولا بدّ من فهم طبيعة المكان ورمزيّته من أجل فهم أفضل لأحداث الرّواية. فالمكان هو مكان خياليّ خلقته الكاتبة في رواية (غفرانك قلبي) وواكبت تطوّره من صحراء قاحلة إلى مدينة كبيرة ودولة وطنيّة، وهو ينطبق على أي مكان في العالم العربيّ. وثقافة ساكنيه تتفق مع الثقافة المشتركة للعرب أينما حلّوا، لذلك فإن فهم طبيعة هذا المكان، يساعد في فهم الرمزيّة الكبيرة في الرواية، والنقد العميق لما يدور في المجتمعات العربيّة، من خلال أحداث عاديّة، لكنّها تحمل أبعادا اجتماعيّة وسياسيّة. وللرواية جانبان: جانب اجتماعيّ، وجانب سياسيّ، بالإضافة إلى الأحداث الرومانسيّة فيها والتي تخدم هذين الجانبين.

"البيت مملكة يا ولدي ... والمرأة في داخله ملكة." (ص 73) قالت فاطمة أم وحيد سالم لولدها متحدثة عن ضرورة ترك ناهد لكرسي الوزارة والتفرّغ لبيتها. هذه العبارة توضّح إحدى الجدليات التي تطرحها الكاتبة وتريد إثارة النقاش حولها من خلال كتابها، مسألة ما زالت تثير كثيرا من الجدل في المجتمعات العربيّة: هل أولوية المرأة هو العمل خارج البيت، أم عليها أن تخنق طموحها لتبني بيتا تسوده الألفة والطمأنينة؟ لن ينتهي الجدل حول هذا الموضوع، لكن الكاتبة طرحت عددا من النماذج للنساء في روايتها، أولها فاطمة نفسها والتي عملت بجدّ داخل مزرعة العائلة وفرّغت كل وقتها لها، ووسّعتها وضمّت إليها الأراضي، لكنّ بيتها دائما كان في مركز هذه المزرعة وأنشأت أبناءها على حبّ السيطرة والتّوسع، فكان فارس الضابط الكبير، وكريم  التاجر الناجح، ووحيد رجل الاقتصاد، وعبير المحاميّة والزوجة. والنموذج الثاني هو ناهد التي كان لديها طموح كبير، وسعت للارتقاء في مناصب الدولة، جاعلة الاهتمام ببيتها وزوجها أمرا ثانويّا، فحقّقت النّجاح الكبير، لكنّ نهايتها كانت سريعة بجرعات من السّمّ وضعها فارس في قهوتها وهي في قمّة مجدها كوزيرة للخارجيّة. والنموذج الثالث هو منى، التي تخلّت عن حبّ وحيد في المرّة الأولى والثانية، ومالت إلى الاستقرار في بيت الزّوجيّة، لكنّ ذلك لم يمنعها أن تكون ناجحة في عملها، فقد أبدعت حينما عملت في وزارة الزّراعة، ثمّ عندما بنت مزرعة نموذجيّة أصبحت الأكبر في البلاد. والنموذج الأخير هي حنان والتي كانت ربّة بيت، وكانت المحور الذي ترتكز عليه العائلة في حلّ جميع مشاكلها، ويلتجئ الجميع إليها وقت الشّدة.

(هل أنا ضعيف؟ كيف؟ وأساطين الاقتصاد ورجالات الحكم ترهب هيبتي؟ هل أنا قويّ؟ كيف؟ وسيّدة تتحكّم بحريّتي وتبيع فيّ وتشتري؟) ص 179 هذه العبارة التي قالها وحيد سالم وهو في أوج حيرته وتردّده بين علاقته بزوجته ناهد وعلاقته بحبيبة صباه منى، تشير إلى جدليّة العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع العربي، والتي تريد الكاتبة أن تشير إليها من خلال أحداث هذه الرّواية. فهل المرأة ندّ للرجل؟ وهل يرضى الرّجل أن يقترن بمن تفوقه ذكاء أو تنافسه في نجاحه؟ أم يريد للمرأة أن تكون جارية تحت سطوته؟ نلاحظ أن وحيد كنموذج للرجل العربيّ، لا يروق له تقدّم ناهد في المناصب ومنافستها له في مكانته في الدولة، ويتناسى أنّ علاقته معها بدأت عندما اغتصبها وهو في أوج قوّته، وأجبرها على ترك خطيبها، ولم يشعر بوخزة ضمير. أما عندما بدأت تتفوّق عليه، بدأ يشعر بمدى تقصيرها تجاه بيتها، وعزا الخلاف بينهما إلى هذا التقصير وتناسى أنانيّته بالتعامل معها. أمّا منى، فقد رفض الزّواج منها لسنين طويلة رغم الحبّ الجارف بينهما، والعلاقات الأسريّة المميّزة، والرّخاء المادي، معتذرا أن الزواج سيكون حائلا بينه وبين تحقيق أحلامه، ولم ينظر لها مرّة كرافد قد يكون له عونا في تحقيق أحلامه في إعادة السلطة والغلبة لآل سالم. ولم يرق له أنّها تزوّجت من غيره وبدأت تبنى حياتها بعيدا عن قيوده، فهل علاقة الرجل والمرأة تسودها أنانيّة الرجال ونرجسيّتهم؟

لكن هل نجحت الكاتبة في تقمّص شخصيّة الرجل، عندما جعلت الرّاوي هو وحيد سالم؟ أعتقد أنّ الجواب نعم، مع أنّ القارئ قد يلمح أحيانا شخصيّة أنثى داخل هذا الرجل! وإلا لماذا يعتبر الزّواج عائقا لتحقيق أحلامه، والنجاح في عمله؟ ربما كان هذا صائبا بالنسبة للمرأة، لكن الرجل قد يعزف عن الزواج لضيق ذات اليدّ، أو انسياقا وراء نزواته. هروب وحيد بعد طلاقه لناهد، وسفره إلى عواصم العالم لابتياع الهدايا لمنى دون أن يخبرها، مضحيا بمصالحه التي ترك منى أساسا من أجلها، لا يتوافق مع شخصيّة رجل أعمال ناجح، وإنما قد يكون أقرب إلى رومانسيّة أنثى. ونلحظ أيضا أنّ الشخصيّات الأنثويّة في الرواية هي الطاغية رغم أن الرواي رجل.

أما الجانب السّياسي في الرواية، فهو يعكس الواقع السّياسي في الدول العربيّة أجمع، حيث التسلّط هو سيّد الموقف: ففارس الضابط الكبير هو من يدير الأمور ويتحكّم في رقاب العباد، وعندما ينجح شخص مدنيّ في الصعود إلى مراكز الدولة - ممثلا بناهد في الرواية - يكون ذلك تحت جناحه، ولا يسمح له أن يصل فعلا إلى صنع القرار، وينهي حياته بدم بارد.

وتظهر عقلية القبيلة، التي لم تفارق آل سالم من يوم أن تركوا الواحة وأصبحوا جزءا من المدينة والدولة. وكذلك الأمة العربية التي ما زالت تعيش في عقلية القبيلة، حتّى عندما تشظّت إلى دويلات أو إلى  أحزاب سياسيّة، أصبح انتماؤها إلى هذه الشظايا تماما كانتمائها إلى القبيلة، رغم أن الانتماء القبلي لم يخبُ أبدا. نرى كيف يسعى آل سالم من خلال سيطرتهم على التجارة والزراعة والاقتصاد والهيمنة على الجيش إلى تطويع الدولة لتكون تحت وصايتهم، وحتّى عندما تُقام انتخابات، فهي من أجل إيصال وحيد سالم إلى سدّة الحكم.

وهل يمكن تداول السلطة في الدولة العربيّة؟ تبدو الكاتبة غير متفائلة، وتعتقد أن الحكام سيصلون إلى السلطة بالقوّة، وتقول على لسان وحيد سالم: (ملعونة مراكز الحكم التي نصل إليها على جثث الآخرين.) صفحة 202 . وإذا عدنا إلى رواية (غفرانك قلبي) نلحظ أن الكاتبة بدأت ببناء دولة جديدة، ثمّ بثورة على الحاكم المتسلّط، فكانت تبثّ الأمل بالتغيير، لكنّ هذا التغيير أتى فقط بحاكم متسلّط آخر، ثمّ أعاد الحكم إلى القبيلة!

روايتا (غفرانك قلبي) و (هذا الرجل لا أعرفه) ملحمة أدبيّة تشرّح المجتمع العربيّ، وتثير العديد من التساؤلات عن طبيعة هذه المجتمع وإمكانيّة التغيير فيه، وهي تفعل ذلك من خلال أحداث دراميّة واقعيّة، وعلاقات اجتماعيّة متشابكة، ورومانسيّة عالية، وغوص في أعماق النّفس البشريّة. عمل رائع يستحق القراءة والدراسة العميقة.

 clip_image002_f7185.jpg

روايّة "هذا الرّجل لا أعرفه"للرّوائيّة المقدسيّة ديمة جمعة السّمان صادرة عن  مكتبة كلّ شيء حيفا2108 . أوّل ما يلفت القارئ في الرّوايّة هو عنصر المكان، حيث تعمدت الكاتبة أن تجعل مكان الرّوايّة مجهولا، دون أن تذكر اسم المدينة التي تجري فيها الأحداث، لربما من أجل التّعميم على أنّ مجريات أحداثها تحدث في كلّ مكان وفي أيّ دولة، فالقارئ للرّوايّة لا يستطيع أن يتخيّل مكان أحداثها ولا أن يستخلص موطن الكاتبة. ففي الأسطر الأولى تتجاهل الكاتبة على لسان بطل الرّوايّة وحيد اسم الشارع الفرعيّ واسم المدينة. "مكان مكتبها في شارع فرعيّ في المدينة". اتّخذت الكاتبة الزّمن كافتتاحية للتنقل من فترة إلى أُخرى، فبدأت الرّوايّة بعد سبع سنوات، بعد أربعين يوما، في الصباح، ذات مساء، في بدايّة الشّهر...إلخ. في بعض الأحيان استخدمت الكاتبة الزّمن بلا تحديد بالضبط (ذات مساء، ذات يوم)؛ لتجعل حدوث الزّمان يتطابق مع المكان المجهول. جاء عنوان الرّوايّة موفقا، فمن خلال أحداث الرّوايّة ظننت أنّ وحيد، هو الرّجل الذّي لا يعرف نفسه بسبب الحالة النفسيّة والعاطفيّة غير المستقرة وتصرفاته المتناقضة ، إلاّ أنّ المفاجأة كانت في أنّ منى توصلت إلى حقيقة أعلنتها في النهايّة تتعلّق بوحيد  الرّجل الذّي لا تعرفه، بسبب تخلّيه عنها وعدم جلبه الدّليل على مقتل زوجها أحمد. سلّطت الكاتبة مضمون روايتها على العاطفة والحب، أو فلنقل أنانيّة وحب التملك والحفاظ على السلطة، وغياب الزوجة عن البيت وإهمالها للزوج. وحيد يتزوج ناهد الصحفيّة والتّي تصبح فيما بعد وزيرة، ورغم عدم استقراره الأسري والعاطفي تجاهها إلاّ أنّه يبقى معها، وبالمقابل فإنّ ناهد تعلم بعلاقة وحيد الغرامية مع منى إلاّ أنّها من أجل الحفاظ على مكانتها الإجتماعيّة المرموقة فإنّها تبقى معه. حب وحيد لمنى يسقط من أجل الحفاظ على مركزه ومكانة آل سالم. فحين أصبح رئيس دولة، رفض تقديم الدّليل. عائلة آل سالم تعاطفوا مع ناهد من أجل الحفاظ على مكانة العائلة وخوفهم من جبروتها. جاء اختيار الكاتبة لاسم وحيد موفقا، فالاسم مرتبط بحال بطل الرّوايّة وحيد الّذي ظلّ وحيدا بلا حبيبة ولا زوجة في نهاية الرّوايّة. علاقة وحيد بناهد كان يسودها الوحدة من خلال غياب ناهد المتواصل عن البيّت، وشعوره بالإغتراب والوحدة حتى وهو في شهر العسل برفقة زوجته ناهد. شعور وحيد بالوحدة حين أنكره آل سالم، وتعاطفهم مع ناهد. أسهبت الكاتبة كثيرا في تسليط الضوء على غياب وانشغال الزوجة ناهد عن زوجها من خلال عملها وسفرها، وبرأيي الشخصي فإنّ الكاتبة أوصلت الفكرة عدة مرّات وكان بالإمكان الإستغناء عن بعض المشاهد التّي تكرّر الفكرة. جاء الحوار بالّلغة الفصحى بعيدا عن العاميّة، وهنا ربما تعمدت الكاتبة ذلك من أجل خلق روح الوحدة العربيّة للقارئ، ومن ناحية أُخرى فليس بوسع القارئ التّعرف على هويّة وموطن الكاتبة من خلال غياب الّلهجة المحكيّة. وقد جاءت الرّوايّة بلسان المتكلّم على يد بطل الرّوايّة وحيد،أمّا الّلغة فكانت سلسلة شيقة للقارئ.

clip_image002_b27a3.jpg

ناقشت الباحثة الجزائريّة سعاد عريوة أطروحتها لنيل درجة الدكتوراة في الأدب العربيّ الحديث والمعاصر في كلية الآداب واللغات جامعة محمد بوضياف الجزائرية/ المسيلة لتنال عليها الدّرجة بتقدير مشرّف جداً وتهنئة اللّجنة المناقشة على منجزها البحثيّ المتميّز في هذه الأطروحة التي تدرس رواية الأديبة الأردنيّة ذات الأصول الفلسطينيّة د.سناء الشعلان حول رواية "أَعْشَقُنِي" ،إذ حملت الأطروحة عنوان "مكونات السّرد وخصائصها في رواية الخيال العلميّ العربيّة المعاصرة:رواية أَعْشَقُنِي لسناء الشعلان أنموذجاً"

وقد تكوّنت لجنة مناقشة الأطروحة من كلّ من: عميد كلية الآداب و اللغات د.عمار بن لقريشي مشرفاً ومقرراً ،والبروفيسور جمال مجناح رئيساً ،والدكتور عبد العزيز بوشلالق ممتحناً،والدكتور بوزيد رحمون ممتحنا الدكتور ميلود فضة ممتحناً،والبروفيسور حشلافي لخضر ممتحناً .

وفكرة الأطروحة انطلقت عند الباحثة سعاد عريوة من سُؤال  مُنبثقٍ عَن مُفارقةٍ واضحةٍ  : هَل يُمكنُ للعربي أن يكتب روايةَ خيالٍ علميٍ وهو يستهلكُ  باستمرارٍ كُلَّ مَا يُنتجُهُ الغربُ علميّاً وتقنّياً.وسُرعان مَا بدأَ هذا السّؤالُ  بالتّوسّعِ عبر أسئلةٍ أخرى بل وظهرت الحاجةُ إلى ضرورةِ تجاوزهِ أيضا ببحث قضايا  رواية الخيالِ العلميّ الإبداعيّة و المضمونيّة و النّقديّة،من حيث مفهوم أدب الخيال العلميّ وحركته عبر التّاريخ وتكوّن اتجاهاتٍ خاصّة به ،و بحث الخصائص الجمالية الّتي تعكسها أجناسه .

من هذا المنطلق  استهدفت الدّراسة  تحديدِ خصوصيات كتابة رواية الخيال العلمي العربية في رواية أَعْشَقُنِي لسناء الشّعلان،للاقتراب من  هذا النّوع الروائي، حيث تقر الدّكتورة سناء الشّعلان أنّ روايتها قد "خرجت من عباءة الخيال العلمي،فحلقت نحو الحرية دون عوائق من أجل تصوير مستقبل البشرية المفرغ من الإنسانية و المشاعر من خلال الاستعمال اللا إنساني للعلم ". 

وقد حركت إشكالية هذه الأطروحة جملة من الأسئلة الفرعية  نذكر منها  ما مفهوم رواية الخيال العلمي ؟ و كيف يمكننا التّعامل مع وفرة المفاهيم التي يصوغها  نقاد و مبدعو هذا النّوع ؟ كيف يمكننا التّمييز بين رواية الخيال العلمي وأنواعٍ أخرى مجاورة كالرواية العجائبية و الغرائبية ؟ ما مسار تطور هذا النّوع عند الغرب و العرب ؟ ما هي خصوصيات كتابة رواية الخيال العلمي من خلال رواية أَعْشَقُنِي لسناء الشّعلان؟وإلى أي مدى تعكس بنيةُ مكوناتِها خصوصيةً وكفاءةً سرديةً عربيةً ؟ وقد توصّلت الباحثة عبر تحليل الرّواية إلى تحديد جملة من الخصائص التي ميّزت مكوّنات السّرد في رواية أَعْشَقُنِي  على مستوى البنّية  قد مكّن التّحليل البنيوي للرّواية من استخلاص جملة من الخصائص حيث انطلقت الروائية من رؤية جماليّة تتراوح بين ما هو علمي وما هو شاعري على مستوى المكونات، حيث خضع بناء شخصيات رواية الخيال العلمي لشروط أهمّها تناسب بنيّة الشّخصية مع الزمن والمكان والحدث، وقد تعدّدت طرق تقديم الشّخصيات، الطّرق التي مكنتنا من استخلاص جملة من الخصائص لأبعاد الشّخصيّة فيزيولوجياً واجتماعيّاً ونفسيّاً،فالشّخصيّة من الجانب الفيزيولوجي قابلة للاختيار والتّحول، وهذه القابليّة لا تخضع للصدّفة وإنما لأسباب علميّة، أما اجتماعيّاً فهو البعد الذي حددته علاقة الشّخصيات فيما بينها في إطار مجتمع أفرزه العلم أيضا حيث يتّسم بالآليّة وهشاشة العلاقات الاجتماعية، الأمر الذي يفضي إلى نفسيّات معقدة، متمرّدة، خاضعة، وقد أسهم بحث النّموذج العاملي وإقامة مقابلة بين أفعال الهدم والبناء  في  بيان علاقة الصراع الفكريّ بين الشّخصيات ودوافعهم .

 وقد رسمت الروائيّة  لروايتها "أَعْشَقُنِي بنيّة زمنيّة خاصّة، مزجت فيها بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالرّواية تبدأ من نقطة انتهاء حكاية، سرعان ما تنازع حاضر الحكاية الثّانية وتستولي على مساحات الرّواية، لذلك قد قام التّرتيب الزّمني في الرّواية على المفارقات الزّمنيّة الأمر الذي كسر من رتابة السّرد وخطيّته، وقد ساهم الاسترجاع في الرّبط بين حاضر الرّواية وماضيها وهذا الرّبط بسبب حدث علمي، أي الجمع بين دماغ باسل وجسد شمس وهو المصوّغ الوحيد الذي قام عليه الاسترجاع عن طريق قراءة المذكّرات والرّسائل القديمة، أمّا الاستباق فقد كان عبارة عن توقّعات تحقّق أغلبها في متن الرّواية وهو يبدأ في التّناقص تدريجيا كلما اقتربت الرّواية من نهايتها على عكس الاسترجاع .

المدّة الزمنية الإجمالية لأحداث هذه الرواية هي إحدى وثلاثين سنة، استطاعت الروائية عبر حيّز نصي متوسّط أن تتعامل مع الأحداث بالقدر الذي تحتاجه بالاعتماد على إيقاع زمني خاص تنوع بين الخلاصة والحذف تسريعا والوقفة والمشهد إبطاءً لوقائع تنتمي للألفيّة الثّالثة، هذه الأخيرة تستدعي فضاءً جغرافيّا خاصّا حيث تشتمل الرّواية على أماكن بمحدّدات علميّة أو هي نتيجة لتطوّرات علميّة وتكنولوجية فقد انتقل الإنسان للعيش في الفضاء الخارجي ليتم الانتقال بسرعة الضّوء عبر مدارات مغناطيسيّة بين الكواكب، بمركبات خاصة، والإقامة في مختلف الأماكن كما نلحظ غياب بعض الأماكن كالمقاهي والمطاعم لارتباطها بالجانب الاجتماعي وتضييع الوقت أحيانا، وقد أفردت سناء الشّعلان فضاءً نصيّاً خاصّاً لروايتها "أَعْشَقُنِي" تميّز باستحداث طرق جديدة ومن أهمها مراسلة القرّاء. 

المزيد من المقالات...