clip_image002_faec5.jpg

القدس: 28-9-2017 ناقشت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس قصة الأطفال" دعسوقة وشموسة في القدس" لكاتب الأطفال المقدسيّ طارق المهلوس، والصادرة عام 2017 عن دار العماد للنشر والتوزيع في الخليل-فلسطين،

وتقع القصّة التي صاحبتها رسومات لأماني البابا، وصور لوائل السلايمة مفروزة الألوان  في 18 صفحة من الحجم المتوسّط، وهي مطبوعة على ورق مصقول وغلافها مقوّى.

افتتح اللقاء ديمة جمعة السمان وأشادت بالقصة.

وقال جميل السلحوت:

 بداية بسعدني أن أبدي فرحتي بطريقة منتجة هذه القصّة واخراجها والرّسومات والصّور التي رافقتها، ، وطباعتها وورقها وطباعتها وغلافها المقوّى، وهذه بشائر خير في نشر الأدب الموجّه للأطفال، فأطفالنا يستحقّون كلّ جميل.

معنى الدّعسوقة في اللغة:" دُعْسوقة [مفرد]: جمعها دعاسيق: وهي حشرة نصف كرويّة تتميَّز بألوانها الحمراء والبرتقاليّة، والنِّقاط السوداء التي تحمل على جناحيها وتُعدّ من الحشرات النافعة، لأنّها تتغذّى على يرقات كثير من الحشرات.

ويسمّيها العامّة "أمّ سليمان" وهناك أغاني شعبيّة للأطفال تتغنّى بـ "أمّ سليمان" استغلّها الأخوان رحباني في تأليف أغنية شدت بها ملكة الغناء العربيّ فيروز، وجاء في مطلعها:

تك تك تك يام سليمان

تك تك تك جوزك وين كان

تك تك تك كان بالحقلة

عم يقطف خوخ ورمان

يا ستي يا ست بدور

شوفي القمر كيف بيدور

والناطورة بدا شمس

والشمس بعقد المرجان

 وواضح أنّ الكاتب طارق المهلوس قد استفاد من أغنية الأطفال الشعبيّة حول "أمّ سليمان" فكتب قصّته هذه "دعسوقة وشمّوسة في القدس" ليعرّف الأطفال على بعض معالم القدس، وفي مقدّمتها أهمّ المقدّسات الاسلاميّة كالمسجد الأقصى، والمسيحيّة ككنيسة القيامة، وكذلك المرور بباب العمود الذي يعتبر الباب الرّئيس في سور القدس القديمة التّاريخيّ، وهو واحد من أبواب السّور السّبعة.

 وقد استعمل الكاتب لغة فصيحة بسيطة تناسب عمر الجيل المستهدف من "7-10" سنوات، مع التأكيد على أنّ قصص الأطفال تبدأ من الجيل المستهدف، وتتواصل إلى الأجيال اللاحقة مهما بلغت من العمر.

الرّسومات والصّور: الرّسومات التي أبدعتها ريشة أماني البابا، والصّور التي التقطتها عدسة وائل السّلايمة مناسبة للنّص، وتساعد الطفل المتلقي على فهمه.

ملاحظة: جاء في صفحة 3 :" فتحت دعسوقة جناحها" وكان الأجدر أن يقول "فتحت دعسوقة جناحيها" لأنّ للدّعسوقة جناحين اثنين، وليس جناحا واحدا.

وتبقى القصّة هادفة ومفيدة لتعريف الأطفال بالقدس، خصوصا وأنّ المدينة المقدّسة مغلقة أمام أبنائها الفلسطينيّين في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة بسبب عسف الاحتلال.

وقالت هدى عثمان أبو غوش:

غلاف القصة سميك وملون بألوان زاهية تجذب عقل وخيال الطفل، وتبدو الصوّر والرسومات الجميلة في القصة معبِّرة وتخدم الفكرة، تجري أحداث القصة في مدينة القدس، أمّا الزّمان فهوالصباح.

الشخصيّات في القصة هما(الشّمس) شموسّة وشخصيّة الحشرة دعسوقة، أبدع الكاتب في بناء التناقض والتشابه بين الشخصيات، فالشّمس لا نستطيع لمسها بالمقابل بإمكاننا لمس الحشرة ، أما التشابه فهو في الشكل الدائري للشمس وللحشرة

هدف القصة تخليد معالم القدس في ذهن الطفل، باب العمود وعدد أبواب المدينة، مسجدالأقصى وقبة الصخرة الشريفة، كنيسة القيامة .

يبدو عنصر التشويق ضعيفا في البداية حين تدعو شمّوسة صديقتها دعسوقة لزيارة القدس، فيكون الرّد ليس بمستوى الإعجاب واللهفة فتقول دعسوقة "سنزورها اليوم ولكن بعد أن آكل الخس."

يكرّر الكاتب من خلال القصة جملة" تشبهنا" أي على شكل دائري، قِباب الكنيسة وأبوابها، قبَّة الصخرة ،البيوت، الشكل الدائري لباب العمود . ومن هنا فإن الطفل سيدرك ويتعلم ما هو الشكل الدائري من خلال القصة .

تبدو الحروف واضحة وجاءت الكلمات متسلسلة مرتبة، واحتوت على السجع الموسيقي المشبَّع بتوافق نغمي( شَمّوسة -دعسوقة -المساء- السّماء اليّوم النّوم  لتنام-السّلام كثيرا-قريبا الغيمات الفراشات) .

وقالت هدى خوجة:

        العنوان مناسب لمحتوى القصّة والكلمات واضحة ومشكلة، العنوان أسود واحمر بتشكيلات التطريز الفلسطيني، الشّمس بلون أصفر ناصع رمز العطاء والأمل مع مفتاح العودة، والدّعسوقة تحمل غصنا أخضر رمز السّلام والأمل، ونقاط الدّعسوقة تطريز فلسطيني جميل؛ والورود أيضا.

بدأ الكاتب القصّة بتحيّة الصّباح الجميلة، تحيّة الأمل والجمال والخير.

يوجد عدّة مفاهيم وقيّم تربوية تعليميّة في القصّة منها:

الشّكل الدّائري في قرص الشّمس والدّعسوقة. الألوان مع التّركيز على الاحمر رمز الحب والتّحية، والأصفر رمز الحيّوية والعطاء وأشعة الأمل النّور.التّشابه والاختلاف. التّراث والمحافظة على التّطريز الفلسطيني.

التّركيز على جمال القدس والجوانب الدّينية والتّاريخية مثل كنيسة القيامة والمسجد الأقصى وقبة الصّخرة، واحترام الأديان.

بيان أن للقدس سبعة أبواب مع التّركيز على باب العامود. أجمل الأحلام هي القدس وفي القدس. حبذا لو كان هنالك صورة من الخارج للمسجد الأقصى؛ للتّمييز بين قبة الصّخرة والمسجد الأقصى للأطفال.

جاءت الكلمات مناسبة للأطفال ، والأسلوب جميل، الكلمات واضحة ومشكلة ، الرّسومات رائعة، والألوان واضحة والقصّة ثقافية تربوية تعليميّة.

وقالت رائدة أبو الصوي:

قصة تربط الطفل الانسان بالمكان .تعريف للقدس وربط شكل القباب بالقدس بشكل ظهر الدعسوقة وشكل الشموسة .قصة تواجد فيها عنصر الجذب ، الألوان والورق الملون، ونوعية الورق .قصة تستحق الأقتناء .بساطة السرد والألوان الجاذبة. القصة مناسبة لمربيات الأطفال فيها موسيقى .تكرار كلمة تشبهني تكرار جيد للقصة ترسخ المعلومة .

الرسامة أماني البابا كانت موفقة في الرسم .

وشارك في النقاش عدد من الحضور.

clip_image002_fe03f.jpg

الدكتور عمر محاميد

مقدِّمة ٌ:  الشَّاعرُ  والاديبُ والباحثُ  الدكتور "عمر محاميد " من  سكان  مدينة  " أم الفحم " - المثلث ، يكتبُ  الشِّعرَ  والدراسات  والأبحاثَ  الأدبيَّة  والأكاديميَّة  منذ  أكثر من ثلاثين  سنة ، حاصلٌ على شهادةِ  الدكتوراه  من  جامعة "سانت بطرس بورغ "  - روسيا ( لينغراد  سابقا )  في علم  الألسن  وفي التاريخ  والعلوم السياسيَّة، وهو مُمّثِّلٌ  لتلكَ الجامعةِ  في الداخل  وعن طريقهِ  يتمُّ التسجيل والإنتساب للأكاديميَّة  الروسيَّة .  وكما يصدرُ  ويُحرِّرُ  مجلّة ً للأدب  والأبحاث وباللغةِ العربيَّةِ عن  طريق هذه الجامعةِ .       وجاءَ في كتاب *1 معجم العشائر  الفلسطينيَّة  ما  يلي : " المحاميد  في  أمِّ الفحم : جدُهُم  محمد القرشيّ ، وبهذا  اللقب : عمر محمود محاميد  ، شاعر  لهُ " أزهار فلسطينيَّة  في أنشودة الغضب، ولم ينسبوهُ  إلى قريةٍ .. ( مؤلف هذا الكتاب محمد محمد حسن شراب - عمان  الطبعة الأولى  ) .

مدخل :  الشَّاعرُ  والأديبُ  "د. عمر محاميد " غنيٌّ عن التعريف...حققَ  شهرةً وانتشارًا واسعا محليًّا  وخارج البلاد..نشرَ الكثيرَ من كتاباتهِ الشعريَّة والنثريَّةِ  في  العديد  المجلات  والصُّحف  المحليَّة  وخارج البلاد ، وأصدرَ العديدَ من الكتب والدواوين الشعريَّةِ وتُرجِمت أعمالُهُ لأكثر من لغةٍ ، ومنها  اللغةِ الروسيَة .   إذا نظرنا  من  ناحيةٍ  شكليَّةٍ  لأشعارهِ  نجدها جميعا على نمط الشعر الحديث الحُرّ، بَيْدَ  أنَّها  قريبة ٌ إلى شكل ونمط  شعر التفعيلةِ في  كيفيَّةِ  وتوزيع  وترتيب المقاطع   والقوافي، وهنالك  بعض الجمل الشعريَّة  عندهُ  تأتي موزونة ً بشكل عفويٍّ ..ولكنهُ لا يلتزمُ  بتفعيلةٍ  مُعيَّنةٍ رغم كونه  له  دراية  ومعرفة  واسعة  بعلم  العروض  ( الأوزان ) وَمُتبحِّر  في  اللغةِ (  قواعدها - نحوها   وصرفها  وشواردها )    . 

  وَمِمَّا  يُميِّزُ الدكتور عمر محاميد عن الكثيرين من الشُّعراء المحليِّين هو : العناصر الجماليَّة والرَّمزيَّة  والتجديد والإبتكار والمستوى الفني الرَّاقي في شعرهِ ... وللدكتور عمر  محاميد  إلمامٌ   كبيرٌ  واطلاعٌ  واسعٌ  على  جميع الإبداعات  الشعريَّةِ  والأدبيَّةِ ... فهو  مُطَّلعٌ  على  الشعر  والأدب  الأجنبي ( الغربي)، معظمهُ) ،خاصَّة ً المكتوب أو المُلَّف  بالإنجليزيَّة  أو الروسيَّة ، بالإضافةِ إلى إطلاعِهِ الواسع على الأدب والشعر العربي (القديم والحديث). وكانَ  لثقافتهِ الأجنبيَّةِ  دورٌ كبيرٌ في توسيع مداركهِ وأفاقهِ  وبلورةِ مفاهيمهِ  الثقافيَّة ومن  ثمَّ  صقل وتطوير أدواتهِ الكتابيَّة بشكل واضح وملحوظ ، فكلُّ من يقرأ أيَّة َ قصيدةٍ  شعريَّةٍ لهُ يظنَّ  للوهلةِ الاولى أنها لشاعر أجنبيٍّ  كبير  قد ترجمت إلى العربيَّة  ترجمة ً دقيقة ً  بقيت  محافظة ً على  قيمتِها الفنيَّة .. وذلك  من خلال الإلتزام  بالقوافي أحيانا واستعمال  الكلمات  والمرادفات اللغويَّة العربيَّة الجميلة ، لأنَّ الشعرَ الأجنبي عندما يُترجمُ إلى اللغةِ العربيَّةِ  مهما كانَ مستواه عاليا  يفقدُ  شيئا من قيمتِهِ الفنيَّةِ والذوقيَّة وجماليَّتِهِ ...إلخ .

      إنَّ  المواضيعَ التي  يعالجها الدكتور عمر محاميد  في شعرهِ هي جميع المواضيع   التي  تعني  كلَّ  إنسان   فلسطيني  أو عربي، مثل : السياسيَّة ، الإجتماعيَّة والوطنيَّة والقوميَّة، وكما انهُ  يتطرَّقُ إلى مواضيع أخرى شاملة : ( إنسانيَّة  ووجدانيَّة وغزليَّة ووصفيَّة  وفلسفيَّة  وميتافيزيكيَّة )... وعيرها .. تعني البشرَ جميعا على اختلافِ طباتهم  وانتماءاتهم  ومعتقداتهم ، وكتابهُ هذا الي  بين أيدينا الآن بعنوان ( خريف أخر في  مدن الشَّمال )  طبعَ  سنة 1996  -  إصدار مركز التعليم  في روسيا - وقدَّمَ  لهُ المؤلِّفُ  نفسهُ " عمر محاميد "   مقدِّمة ً جميلة ً ومقتضبة .  

   وسأختارُ  نماذجَ من شعريَّة  ، من هذا الديوان ،  مع  الدراسةِ والتحليل .

  يقولُ في أول قصيدةٍ لهُ من الديوان بعنوان : ( " تأمُّلات " - صفحة 1 ، في المقطوعة الأولى منها " مساء " :

( " يفلتُ المساءُ من رأسي  //   فلا أبكي لايومي ولا أمسي //

     ولا    أشربُ    الكأسَ   //   فيومي   صارَ  كما  أمسي    //  " ) .

  نجدُهُ هنا  يُركِّزُعلى القافية ( في نهايةِ كلّ  جملةٍ  شعريَّةٍ)، ولكنَّ القصيدة َ  تبقى  غيير مُقيَّدة  بوزن  مُعيَّن ، بل  ينتقلُ شاعرُنا من  تفعيلةٍ  لأخرى  بيدَ أننا  نحسُّ ونستشفُّ  ونتذوَّقُ  عناصرَ الجمال والموسيقى  الداخليَّة  الرَّنانة الأخَّاذة  في هذه المقطوعةِ . والدكتور"عمر محاميد " فنانٌ  بارعٌ في  كيفيَّةِ اختيار  الكلمات  الجميلةِ  وفي  كيفيَّةِ   توزيع  المقاطع  الفظيَّةِ  والمفردات  العذبة   المُعبِّرةِ ، فكلُّ   كلمةٍ  او  مقطع  عندهُ  عبارة ٌ عن  تفعيلةٍ  مستقلَّةٍ  بذاتِها   تعطينا   نغما   مميَّزا  وليسَ   بحاجةٍ   للإلتزام  والتقيُّدِ  بإيقاعاتٍ   وأوزان " الخليل  بن  أحمد  الفراهيدي " بحذافيرها ،   فكأنَّ  " عمر " هنا  يُريدُ ان  يُثبتُ  ويقولُ  لنا  أنَّهُ   مُجَدِّدٌ  وَمُستحدثٌ  حتى  في  البناءِ  الشَكلي  والخارجي للقصيدةِ  .  وه ، بدورهِ ، يخرجُ  عن  المألوفِ  والرُّوتين  بشكل  جميلٍ  وعذبٍ  وبموسيقى  داخليَّةٍ   رنَّنةٍ  أخَّاذةٍ  وبصور  شعريَّةٍ  جديدةٍ .  

   وفي هذه المقطوعةِ المُكوَّنة من  أربع جمل  شعريَّةٍ  تنتهي بنفس القافيةِ  ( حرف السين )  نجدُ  فيها البُعدَ الفلسفي والإنساني فيريدُ الشاعرُ أن يحدِّثنا  عن  رتابةِ الحياةِ، فيُشعرُنا  برتابةِ  الحياة  وروتينها  وكيفَ  أنَّ  الأيَّامَ  تمرُّ وتتوالى  والإنسان ( الشَّاعر ) يبقى  يناضلُ ويكدحُ ويعملُ لأجل الإستمرار  والبقاءِ  والإبداع  والتجديد والتطوُّ ر .. ودائما  يعملُ حتى  المساء ( نهاية  كلّ  عمل  - أو بعد فترةٍ  زمنيَّةٍ  من كلِّ عطاءٍ  وجُهدٍ  مبذول وكدٍّ)  فيُحِسُّ الشَّاعرُ  كأنَّ  المساءَ  يفلتُ  من  رأسهِ . (  وهو  أوَّلُ  شاعر  يستعملُ  هذا التشبيهَ والمصطلحَ  البلاغي - " المساءُ يفلتُ من الرَّأس " ... أيّ  انهُ  نسيَ كلّ  شيىءٍ  قد  مرَّ عليهِ  حتى  نهايةِ المطافِ  بهِ   وآخر الذكرياتِ -  وقت المساء-  .   فالمساءُ  يفلتُ  منهُ  ومن  رأسهِ  وفكرهِ   كما  ولَّى  النهارُ  من  قبل  وفلتَ منهُ ،  وشاعرُنا  ( عمر ) بدورهِ   لا  يبكي  يومَهُ   الحالي   ولا  أمسَهُ  الذي   مضى وما يحملُهُ   من  ذكرياتٍ  ومن خطوبٍ   وندوبٍ  ومن افراح ٍ  وأتراح ٍ .. إلخ  ..ولم يأسفْ على  ما مضى  من عُمر ٍ، ولا  يشربُ أيضا أيَّ  كاسٍ ليفرحَ  وينتشي فكلُّ شيىء  بالنسبةِ لهُ  صارَ كغيرهِ  سواءً : اليوم - والأمس  - والمساء -  والغد -  ولا..  لا  جديد  تحت الشَّمس . وهذه  هي  حالتنا   نحنُ  اليوم  بكلِّ  ما  تعنيهِ  هذه  الكلمة ُ.. من  منظلق  وضعِنا الإقتصادي   والسياسي   والنفسي    والإجتماعي   وحياتنا   غير  المستقرَّة   ومصيرنا المجهول .

  وفي مقطوعة أخرى  من  نفس القصيدةِ بعنوان : ( " .. عشق " - صفحة 1  ) يقولُ فيها :

( "  يلتقي العاشقُ عشيقتهُ  //   يُقبِّلُ وجهها  //

     ثمَّ  يخرجُ العاقُ  الشَّيخُ  من  الضَّباب  //

     يلاحقُ    وجهَ    اللهِ     والسَّحابْ   //  " )

     إنَّ  العاشقَ هنا ( الذي  يعنيه  الشَّاعرُ )  هو  الإنسان المُحبّ  للحُرِّيَّةِ .. للعدالةِ  وللجمال  والوطن  ولكلِّ  ما  هو  جميل  ونفيس  ومُقدَّس - فالعاشقٌ دائما  يلتقي  مع عشيقتِهِ  حتى  في  الحلم  والخيال  وفي الذكريات، وأرواح العاشقين   دائما  متقاربة   مُتدانية   ودائما   متعانقة  رغم  البُعد  الجغرافي  والمادي  ورغم الحواجز والسُّدود  وحتى  لو كانت  الأجسامُ  متباعدة  ً كلَّ  البُعد .     وهنا ( في هذه القصيدةِ ) نرى العاشقَ  / الإنسان  المُحبّ لحبيبتِهِ ...لأرضهِ وبلادِهِ  ووطنهِ ..قد شاخ  وشابَ رأسهُ على مرِّ  وتوالي الأزمان  وهو  لم  يزل  على  عهد  الحُبِّ  والوفاء  والتضحية  لحبيبتهِ  .    فالعاشقُ المناضلُ والمُكافحُ  يخرجُ  من  وسط السَّديم  والضَّبابِ،  فالعالمُ  من  حولهُ  مُغبَرٌّ  وجميعُ  قوى الشَّرِّ  تحيطُ  بهِ . ( الضَّبابُ هنا  رمزٌ  للأعداءِ  ولقوى الشَّرِّ والظلام التي تريدُ السَّلبَ والإستيلاءَ والتسلُّطَ  والإحتلالَ والإستعمار) .  والعشيقة ُ هنا هي  الأرضُ والوطن .  وأمَّا  العاشقُ فهوَ الإنسانُ صاحبُ الحقّ الشَّرعي  والتاريخي  للأرض التي  يمتلكها وورثها  أبا  عن  جدّ  منذ  عهودٍ طويلةٍ  وللوطن البذي لا  وطنَ  لهُ  سواه . وهذا العاشقُ يلاحقُ  وجهَ الله  ويبحثُ  عنهُ ...أيّ  انهُ  يبحثُ عن  الحقيقةِ  وعن العدالة  وعن الحُرِّيّةِ  المُثلى والسلام  العادل والإستقرار.  ففي وجهِ اللهِ  يتجسَّدُ  كلُّ  ما هو جميل  ومقدَّس: الفردوسُ الأبدي والجنة الخالدة  والحياة الجميلة  المثاليَّة  والسعادة الروحيَّة والسلام والمحَبَّة  والوئام .  وأمَّا السَّحابُ هنا  فربَّما  يعني الشَّاعرُ بهِ  المطرَ  والغيثَ  والعطاءَ  والخير  والخصب  والبركة، وقد  كونُ  أيضا  الجانب السَّلبي الذي  يعنيهِ  وهو السَّحايب غير الماطر والذي  يحجبُ النورَ  والشَّمسَ (  شمس الحرّيَّة )  مثل  الدخان  والضباب  رمز  الظلم   والظلام  والشَّرِّ .. إلخ ...  وهكذا  نحنُ  نرى  أنَّ  الشَّاعرَ  "عمر  محاميد"، في  هذه المقاطع الشعريَّة، يتحدَّثُ عن  وماضيع  شاملة وذات أبعاد فلسفيَّة  وإنسانيَّةٍ  ووطنيَّةَ .  

 ولننتقل إلى قصيدةٍ اخرى من الديوان  بعنوان : (" نشيد المدينة المقدَّسة "- صفحة 3 - 8 ) حيث  يوظفُ  الشَّاعرُ هنا العديدَ  من الشَّخصيَّاتِ التاريخيَّة  والفنيَّة  والقياديَّةِ ( عربيًّا وعالميًّا ولاهوتيًّا ) ليصلَ إلى المعاني والمواضيع  والأهداف التي يريدُها ، وكما  يظهرُ تأثُّرُهُ الكبيرُ بالمتب المقدَّسة، وخاصَّة ً ( التوراة والأناجيل )  فيوفُ  مثلا  الشخصيَّات التالية : "مريم المجدليَّة " ، " سفر التكوين " ،  " يسوع المسيح  رسول السلام  " ...  ثمَّ"  بيتهوفن  "، " موزارت " ، " بوشكين " ،   و " نجلو " ،  " لإبن المعتزّ "   ،   "  نهر النيفا  المتجمِّد "  و " شكسبير " ... ويوظفُ  شجرَ الزيتون " رمزَ  السلام  والمحبَّة  والبقاء   .     ويتحدَّثُ  تلقاءيًّا  في  القصيدةِ   عن  مدينة  " سانت بطرسبورغ  " ( لينغراد )  ودورها  في  ردِّ  جحافل الغزاة مثل : ( نابليون  وهتلر )  وصمود أهلها التاريخي  ..  ويجري الشَّاعرُ  مقارنة ً  بينها  وبين  مدينة السلام  " القدس العربيَّة " .. ويقولُ " عمر محاميد في هذه القصيدة :  

( "ينامُ   البشرُ  //  وينهضُ  الرَّصاصُ  ساقطا //  وسط َ  أغاني السَّلام  //

  وتعمُّ السَّاحات  والبيوت //  والشَّوارع  فوضى //

  ويلفُّ  السَّحابُ  وجهَ  المدينه  حزنا ، وتنهارُ بناية ُ التاريخ المتصدِّع //

 على حافةِ   الهاوية  //

 ينامُ البشرُ // وتنهضُ الأفاعي من جحور الماضي// 

ومن أنفاقِ المستعمراتْ // ومن  سفن  مُبحرةٍ  في مستنقع  العنصريَّهْ  //

يظلمُ التاريخُ ، وتبدو  السمفونيَّة الخامسة  للسيِّد " بيتهوفن " ... //

أرجوحة  لقاتل يحملُ الكتبَ السَّماويَّة في  يدٍ ، //

وفي لاليدِ الأخرى يحملُ سكينا  أو  بندقيَّهْ  //

ينفجرُ الشَّجرُ الآن  //   وتحترقُ   الأشجارُ  والجذور  // " )

ويقولُ أيضا :

 ( " هنا سيُقامُ كازينو في شارع " صلاح الدين "

 وفي زاويةٍ في ساحةِ الشُّهداء //

سنحملُ حمامة ً لأجيال ستأتي // من بعدِنا  وبعدِهم //

هنا  سيقامُ  تمثالٌ  لبطل  السلام  //

 لذلك الذي سقط َ وسط َ أغنيةٍ  في قلب " تل- أبيب "    

برصاصةِ شابٍّ أوحَتْ لهُ آلهة ُ القتل  //

باسم القانون والفلسفةِ والتوراة ، والغابات //   

هنا تحملُ الدُّنيا  أنواعًا  وأشكالا   جديدة من قتل الدَّفاتر //

والحكمةِ  والسَّنابل  والشَّجر  //

الأخضرُ ينمو في الخليل  // في سفر التكوين // وفي موسيقى موتسارت //   

ويقولُ أيضا :

( يا قاتلَ البسمةِ // هنا سيُقامُ حتمًا // تمثالٌ  لبطل السَّلام  //

ذلكَ الذي سقط َ وسط َالمدينةِ في نهايةِ الحرب // في بدايةِ الزرع //  

وهنالك  يردِّدُون نغمًا  آخر من  النشيد //  نشيدكم   سيِّدنا  بوشكين //

سقط َ وسط  غابات  سانت - بطرسبورغ // وفي  قصر النيفا المتجَمِّدْ //

وفي قصر القيصريَّة الساكنه //  وفي كنيسة مريم المجدليَّهْ //

هناكَ في سفوح جبل المُكبِّر// في الأرض المُقدَّسة //

حيث الجنود يعبثونَ بسلال الفلاحات ، اللواتي حفظن  عن  ظهر قلب // نشيدًا يُمجِّدُ السُّلطان //  وأعوانهُ  المُنتشرين  في الألويهْ // 

وفي عاصمةِ المُدن المُقدَّسَهْ  //

هنا في القدس // يُنشدُ القياصرَة ُ ، والملوكُ ورؤساء الجمهوريَّه //

وشكسبير وابنُ المُعتزّ وأبناءُ الله //  وأبناء السبيل // نشيدًا قصيرًا //

يلفُّ  المدينة َ بالحُزنِ  والخشوع //  

هنا يدفعُ  جنودُ الخيالةِ بأحذيتِهم، الثقيلة طفلا ، دخلَ يشتري كتابا ودفترًا // 

بمناسبةِ السَّنةِ الدراسيَّةِ الجديدَهْ //

هنا وحفاضًا على النظام والأمن //

هنا يُطلقُ الجنودُ رصاصة ً قاتلة ًعلى عجوزٍ ذاهبٍ للصلاةِ، فتبتلعُهُ الأرض //  ولأسبابٍ أمنيَّةٍ // لا يدفنُ ليلا ً //

هنا  يحرقُ الجنودُ صحيفة ً //  تكرِّسُ صفحتها الأولى لأطفالٍ // 

سقطوا بالأمس  قتلى برصاص جنودِ الإحتلال //

هذا  الإحتلال  هو  الإحتلال "  )  .

    وفي  نهايةِ القصيدةِ  يقولُ الشَّاعرُ :

( "  يا شجرة َ الزَّيتونْ //  أنسِّقُ  باقة ً من أغصانِكِ الخضراءْ  // 

     باقة ً أقدِّمُها  لسيِّدي  "المسيح "   //  ليبارككِ الرَّبُّ يا  زيتونتي ، //

     ليسامحَكِ الرَّبُّ  يا  زيتونتي // هنا الحربُ تنتهي // هنا الحربُ  تبدأ //

     هنا  السِّلمُ   يبدأ // هنا  السِّلمُ  ينتهي  / هنا  البداية ُ وهنا  النهايهْ //") .

  وكما هو واضحٌ جليًّا في هذه  القصيدةِ أنَّ شاعرَنا  يريدُ القول : إنَّ  بلادَنا هي  بلادٌ  في  وضعٍ غير مستقرٍّ وفي مرحلةِ حربٍ ،ولكنها هي بلادُ  سلام وستظلُّ  وطن  السلام  والمحبَّة  وهي التي  كانت   تنشرُ  السلامَ   والمحبَّة  والهُدى  على  جميع  الشُّعوب ، وهي  مهد   الحضارات   جميعها  ومبعثُ  الديانات  السَّماويَّة   ومسرى الأنبياء  والرُّسل  والمبشِّرين  دعاة  السلام ... ولكن وللأسف السلم  والعدالة  والإستقرار فيها  الآن هم  يغتالون  وَيُوأدُون ، ويُقتلُ  ويصلبُ الضَّميرُ  والفجرُ كلَّ  يوم . وهذه  البلدُ  كانت  وما  زالت قبلة َ البشر جميعا ومآل الشعوب وهي البداية ُ والنهاية وفيها ستكون القيامة  ويوم النشور .

  نلاحظ ُ  في هذه القصيدةِ   أنَّ  الدكتور "عمر محاميد " يوظفُ الكثيرَ من الرموز والشَّخصيَّات التاريخيَّةِ  والدينيَّة  والفكريَّة  والأعلام الهامَّة  ليصلَ إلى مبتغاه ، والقصيدة ُ شاملة ٌ تلخِّصً  آيديلوجيَّة  وفكر  "عمر " وتطلعاتِهِ  القوميَّة  والإنسانيَّة والفلسفيَّة والامميَّةِ ، وفيها  يستجلي ويستعرضُ  التاريخَ   الفلسطيني  والعربي  والعالمي  واللاهوتي، فيعبِّرُ  ويصلُ  من  خلالهِ  إلى أهدافهِ  ومواضيعهِ ومنهُ  تتجلى أفكارُهُ  وتجاربُهُ  الثقافيَّة  والذاتيَّة  وتتجلَّى هوية ُ شعبهِ  وقضيَّتهُ .  والقصيدة ُ بحدِّ ذاتِها تجسِّدُ جميعَ التجارب  ومعاناة الإنسان الإنسان  أينما  كان  ومهما  كانت  نوعيَّتهُ  وقوميتهُ  وعرقهُ .  لكنَّ الدكتور "عمر محاميد" هنا  يلخِّصُ  ويجسِّدُ  بالضَبط  أجواءَ ووضعَ وحالةَ الفلسطينيِّين  في منطقة الحكم  الذاتي ( الضفة  والقطاع ) وفي الشتات  وما  يلاقونهُ  من  قتل وتنكيل على  يد  جيش للإحتلال ..فالمدن الفلسطينيَّة ُ رمزُ السَّلام والمحبَّة قد استُبيحَت  وَدُنِّسَت  وتشوَّهَ طابعُها  الجميل  وغابت  عنها البسمة ُ  واختفى الفجر .   فيعطينا  الشَّاعرُ  صورة ً  شاملة ً  وقبيحة ً للظلم والإحتلال  والإستبدادِ  مُروِّعة ً  وَمُؤلمة ...وكما  يذكرُ النضالَ  والمقاومة َ الفلسطينيَّة َ  ، وبشكلٍ  تلقائي   يُجري  مُقارنة ً  بين   نضال  وكفاح   مدينة " سانت بطرسبورغ " التي  درسَ فيها الشَّاعرُ  في  جامعتِها العريقة  فترة ً طويلة - المدينة التي صمدَدت صمودًا أسطوريًّا  ودحَرَت  وهزمت  جحافلَ وجيوشَ النازيِّين  ونابليون بونبارت  وبين مدينة " القدس " عروس السلام والشعب الفلسطيني الذي يقاومُ الإحتلال  بإمكانيَّاتِهِ المتواضعة والمحدودة .  وكما  ذكرتُ أعلاه  فعمر محاميد  وَظَّفَ  في هذه القصيدةِ  الطويلةِ  الكثيرَ من الأسماءِ التاريخيَّة للمُهمّةِ  والرُّموز الحضاريَّةِ  وقد وُفِّقَ  وأجادَ  كثيرا في هذا التوظيف الدَّلالي،وعلى كلِّ  قارىءٍ  يُريدُ  فهمَ وتحليل هذه القصيدةِ أن يكون  ذا  ذقافةٍ  عاليةٍ   وواسعةٍ  وَمُلمًّا  بالتاريخ  والأدب  .  والقصيدة ُ ببساطةٍ  للإنسان الدارسُ والمُطَّلعُ  هي سهلة ٌ وواضحة ً للفهم  ويجدها  من دون تعقيد  أو غموض ، وأمَّا  الذين   ثقافتهم  ومفاهيمُهُم  ضحلة ٌ  وَمنغلقة  فلا  يفهمون  رموزها  وتوظيفاتها  الدَّلاليَّة   وأبعادِها  التاريخيَّة   والقوميَّة  والإنسانيَّة .   

   وبالإضافةِ  إلى العديد  من القصائد الوطنيَّة  والسياسيَّةِ  في  هذا  الديوان  هنالك قصائد أخرى للشاعر عمر محاميد   تتناولُ  باقي المواضيع ، منها :  بعض المقطوعات والومضات الغزليَّة والوجدانيَّة الذاتيَّة وبعض الشَّطحات الصُّوفيَّة  .  يقولُ  مثلا ً :

( " رُبَّ صَبيَّةٍ  أضاءَت لي  الطَّريقْ  //

     رُبَّ  صبيَّةٍ  أشعَلتْ  فيَّ  الحريقْ  //

     وَرُحتُ   أنشدُ   أنا   الطريقْ  //  " ) .

ويقولُ أيضا :

( " رُبَّمَا  أسيرُ في  بحر الرِّمالْ //  رُبَّما  أغرقُ  في  بحر النسيانْ  //

    وَرُبَّمَا أعشقُ ، أصبحُ سيِّداتي سادتي ولهانْ //

    رُبَّما أصبحُ في  غُربتي  حيرانْ  // 

    لكنَّني أبصرُ يا سيِّداتي  سادتي بحرًا // 

  لن تبصرَهُ  إلاَّ  بعدَ   أن  تغرقَ // في بحر النسيانْ //  " ) .

ويقولُ في نفس القصيدة :

( " أقبلَ  الفقرُ  إلى غرفتي ،//  يحملُ لي خبزًا وفاكهة ً في غربتي // 

    فقلتُ : يا َربَّ  الجوع  ولوعتي ، //  أنقذني  برَبِّكَ  من  محنتي // " ) .

    وبإختصار هذه المقطوعات  يشوبُها الطابعُ  الوجداني  والذاتي والفلسفي  وتعكسُ ذاتيَّة َ الشَّاعر ومشاعرَهُ  ولواعجَهُ  الذاتيَّة الجيَّاشة  وما  كان يُحسُّ  ويشعرُ  بهِ  في بلاد الغربة... وسأكتفي بهذا القدر من إستعراض القصائد .

 وأخيرا :  إنَّ الدكتور الشَّاعر  " عمر محاميد " هو  ركنٌ  هام  من  أركان  ثقافتنا وأدبنا المحلِّي وصوتٌ شاعريٌّ  وأدبيٌّ  إبداعيٌّ  مُمَيَّز .. قدَّمَ وأعطى الكثيرَ لشعبنا  الفلسطيني والعربي  من أعمال إبداعيَّةٍ  على الصَّعيد  الأدبي والثقافي ، وكما  لهُ  الفصلُ  الكبير  والرَّائد  في إرسال  العديد من  الطلاب العرب ، من  الداخل، إلى جامعة  " سانت  بطرس  بورغ  " ( في روسيا )    وتخرُّجهم وحصولهم  على الشَّهادات الأكاديميَّة العالية  وشهادات الدكتوراة  من  تلك الجامعة العالميَّة .. فنتمنى  لهُ  العمرَ  المديد  والمزيدَ   من  العطاء  والإبداع .  

1* كتاب معجم العشائر الفلسطينيَّة " محمد محمد حسن شراب " – الأهليَّة – عمَّان -  اللطبعة  الأولى  2002  .

1- المقدمة:

عندما تنزل القرآن الكريم مخاطباً العرب، كان العربي يقدر الفصاحة ويملك ناصية البيان، وكانت العرب تتنافس فيما بينها على الوصول إلى الدرجات العليا منه. وقد ارتقى الفن الشعري عندهم إلى مرحلة متطورة من الأداء والدقة، حيث أصبحت له مقاييسه النقدية الثابتة في أوزانه وقوافيه وتعدد أغراضه، وتفاصيل معانيه، واصبح البحث عن الابتكار وتحريه من مقاييس المرحلة، لعراقتهم في ذلك الفن. واستطاع العربي بما عرف عنه من صفاء الذهن وحب التأمل وتراكم الخبرة، أن يدرك الفروق الدقيقة للمعاني في لغته بصورة مذهلة، تكشف عن مدى تعلقه بها وتفاعله معها، فهذا أحد الأعراب عندما سمع بدعوته صلى الله عليه وسلم سأل إلى ما يدعو صاحبكم؟ قالوا له يدعو إلى " لا اله إلا الله " فكان جوابه: " إذا تقاتله عليها العرب والعجم " وهذا دليل على إدراك العربي لمدلول لغته ودقائق أسرارها.

ولما فاجأه القرآن ببيانه، وأعجزه بنوعه المتميز، كان يدرك الفارق بين نسق الشعر ونسق النوع البياني الجديد الذي جاء به القرآن الكريم.

وكان كبراء القوم - من المشركين - يدركون هذا ويعترفون به، وتنقله مصادر التاريخ عنهم، فهذا الوليد بن المغيرة يقول في لغة القرآن الكريم " إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإنه لمثـمر أعـلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلا عليه "(1). وشهادة أخرى للنضر بن الحارث " والله ما هو بالشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزة.. والله لقد نزل بكم أمر عظيم،،(2).

نعم هم الخبراء في فارق القرآن الكريم عن الشعر، ولكنه الكفر والعناد والدفاع عن المصالح، يدفعهم للوقوف في وجه الدعوة، ومقاومة تأثير القرآن الكريم على قلوب السامعين بحملات التشويه لوضع العراقيل أمامها.

ومن هنا شاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أَن تفتح ملف هذه الشبهة التي قارن فيها العرب بين النبي والشاعر، والقرآن الكريم والشعر؛ لتصحيح الأفهام وتنوير العقول وإحقاق العلم، الذي يكشف التضليل ويعري الشبهات، وهذه هي حيوية القرآن في معالجة الانحراف الذي يقع فيه البشر، ينزل منجما حسب الحوادث وأحوال المخاطبين وأسباب النزول، لأنه جاء لإلغاء واقع جاهلي وإنشاء واقع إسلامي، من خلال معالجة انحرافات الفهم البشري، حسب الحاجة، وبقدر الحاجة في وقت حصولها لا قبل ذلك ولا بعد ذلك.

2- الآيات الكريمة في المرحلة المكية: (التي ورد بها كلمة الشعر والشاعر).

1- قال تعالى (وما علمناه الشعر وما ينبغي له، إن هو إلا ذكرٌ وقرآن كريم) 69يس (مكية).

2- قال تعالى (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر) 5 الأنبياء (مكية).

3- قال تعالى (ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون)  36 الصافات (مكية).

4- قال تعالى (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) 30 الطور (مكية).

5- قال تعالى (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون) 41 الحاقة (مكية)

3- شبهة المقارنة بين - النبي صلى الله عليه وسلم - والشاعر: من خلال مراجعة كتب التفسير لهذه الآيات الكريمة،يظهر للباحث طبيعة الخطاب القرآني الكريم الموجه للعرب؛ لكشف المغالطات وإيضاح الحقائق من خلال مصادرها وغاياتها: فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس شاعراً، لأنه يتلقى القرآن الكريم من مصدر علوي خارج عن مشاعره وإرادته، وفي هذا تفريق وتوضيح، لطبيعة الشاعر الذي يصدر عن مشاعره؛ لأَن الشعر تعبير عن الرغبات والمشاعر والأهواء و النوايا والمواقف، وهو قيمة لإحساس الشاعر بالحياة من حوله، أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاقته بالقرآن هي عــلاقــة المبلغ الأمين الذي يتلقى رسالة ربــه ويبلغها للـناس (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)  (3،4 النجم) ولذلك فالشعر لا يليق بمقامه ووظيفته، لأن للشعر منهجاً غير منهج النبوة، يختلف الاثنان في المصدر والغاية، النبي إنسان مكلف بنقل الأمر الرباني على منهج ثابت، لا يملك فيه لأمر نفسه شيئاً ولا تختلط مشاعره بكتاب الله سبحانه وتعالى، ووظيفته التلقي والتبليغ، لا يملك من معنى القرآن الكريم ومبناه شيئاً، والخلاصة في هذا:

أَن النبي (وما ينطق عن الهوى) والشاعر (ينطق عن الهوى)

4- الشبهة الثانية المقارنة بين الشعر والقرآن الكريم:

ويخاطب الله سبحانه العرب ليتعلموا الفارق بين الشعر والقرآن الكريم، من خلال المصدر والغاية أيضاً، موضحاً لهم (إن هو إلا ذكر وقرآن كريم) غايته هداية البشرية إلى العقيدة الكاملة الشاملة التي تفسر الحياة، وتدعوا الإنسان لعبادة الله، على منهج واضح بيّن وشريعة تقنن له شؤون حياته، وتوصله إلى سعادة الدارين، ومصدره ليس من محمد ولا من مشاعره، وإنما هو كلام الله سبحانه وتعالى إلى خلقه وما هو بقول شاعر قليلاً ما توقنون.

الشعر يصدر عن ذات الشاعر وغايته التعبير عن نفس قائله.

والقرآن الكريم كلام الله المنقول مبنى ومعنى من الوحي الكريم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم- غايته هداية البشرية وإقامة أمره وتذكيرهم بمسؤولية الحساب.

5- المستخرجات الشرعية الأخرى في قضية الشعر من هذه الآيات الكريمة:

1- يقول الله سبحانه وتعالى (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان) سورة الرحمن(1-2) إن الله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان وأحيا قلبه بالمشاعر، وأوجد عنده القدرة على الإبانة والإفصاح والتعبير عن نفسه، يريد أن يكشف مغالطات كبراء المشركين، في تضليل الناس عن حقيقة القرآن الكريم، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هدف الآيات الكريمة هو تعطيل مسيرة هذا الفن واستأصاله من الحياة؛ لان الشعر فطرة ربانية؛ ولان الله علم البيان وهدف البيان، هو التعبير شعراً ونثراً، وفي سكوت القرآن الكريم عن الشعر وقواعده وأوزانه ما يقر العرب على فنهم، ولا نلمس من الآيات الكريمة ما يفيد التهوين من أَمر الشعر أو تحقيره.

2- ويُفهم من الآيات الكريمة أيضاً إيضاح طبيعة الفن الشعري للعرب، بعد أن غمض عليهم فنسبوه إلى العبقرية والأمور الخارقة، من خلال عملية رفض المقارنة بين القرآن والشعر في المصدر والغاية.

فالشعر كلام " ينطق عن الهوى " والقرآن " وحي يوحى " وفي كشف وتفسير الملكة والموهبة الشعرية وأصولها ما يصحح كثيراً من المقاييس القائمة لهذا الفن في أذهانهم، ما دام أن الشعر قد حصر بين الآيتين الكريمتين وما ينطق عن الهوى  علمه البيان، لأنَّه بيان يعبر عن الهوى والمشاعر البشرية.

3 - الشعر فن ينطلق من الذاتية والنسبية وإدراك الشاعر للدنيا من خلال ذاته، ولهذا فقد ينحرف الشاعر ويجر عنان الموهبة الفطرية الربانية لخدمة المصالح والأهواء، ولابد للإسلام أن يتدخل ليصحح مسيرة توظيف هذه الموهبة وإيضاح المسار الحلال لها؛ ولكن التصحيح يرتبط أولاً بقضية أُولى وهي تصحيح العقيدة، وعندما يسهل على النفوس الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى، ولكن الأمر سابق لأوانه، لأن المرحلة المكية هي مرحلة بناء العقيدة في النفوس، والمسلمون يعيشون في مجتمع مكة الجاهلي أفراداً مبعثرين، ولا يملكون التعبير أو إقامة الأحكام فيه.

طَرَفٌ مِنْ تَكْمِلَةِ عَمَلِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَرَاهِيدِيِّ

دعيت من كيلة اللغات الأجنبية بجامعة بكين سنة 2010م، إلى المحاضرة في تاريخ اللغة العربية، فرأيت أن أصطفي نصوصًا من تراث الكلام العربي متوافقةً متعاقبةً متكاملةً، أتتبع فيها حركة أصوات اللغة العربية وصيغِها ومفرداتِها وجملِها وفقرِها؛ فلم يُمَكِّنِّي من ذلك إلا تراث الشعر العربي.وعلى رغم عيوب "الموسوعة الشعرية" الصادرة عن مُجَمَّع أبي ظبي الثقافي في 2003م، لم أستغن عما جَمَعَتْه من شعر لا يتيسر لباحث الانقطاع لجمعه؛ فعسى القائمون عليها وعلى مثلها أن يعرفوا خطر عملهم، فيقوموا له بما يستحق[1]!أهملت من مادة الموسوعة، شعر العامية، وشعر الدوبيت والشعر الموشح: أما شعر العامية فمتعدد الماهيات، يحتاج إلى بحث غير هذا المرصود لرحلة اللغة العربية الفصحى. وأما شعر الدوبيت ففارسي الوزن منخلع من العروض العربي الذي ضبطه الخليل. وأما الشعر الموشح فغير خالص للغة العربية الفصحى؛ فمن تقاليده الأصيلة المستمرة، أن يُختم الموشح بخرجة عامية أو أعجمية، يجدها الوشاح أولا، ثم يبني عليها موشحه، ليفضي إليها، وقد درست هذا الشعر الموشح من قبل، في "علاقة عروض الشعر ببنائه النحوي".خَلَصَتْ لي بعد ذلك 114234 قصيدة، توزعت في عصور التاريخ العربي، على النحو الآتي: م العصر مدته درجة مدته قصائده درجة قصائده صِنْفُه 1 ما قبل الإسلام 500 3 2,20% 10 د 2 المخضرمون 50 10 3,76% 9 ب 3 الإسلامي 39 12 0,36% 12 أ 4 الأموي 88 9 6,81% 7 ج 5 ما بين الدولتين 50 11 1,98% 11 أ 6 العباسي 508 2 19,54% 2 أ 7 الفاطمي 262 6 7,22% 5 ب 8 المغرب والأندلس 781 1 6,97% 6 د 9 الأيوبي 168 7 6,08% 8 ب 10 المملوكي 267 5 9,02% 3 ج 11 العثماني 288 4 7,40% 4 أ 12 الحديث 147 8 28,59% 1 د ولما تأملت من كل عصر، علاقة مدته بمقدار قَصَاْئِده، تَصَنَّفَتْ الاثنا عشر عصرا، على أربعة أصناف:

-         (أ) عصورٌ تَطابَقَتْ فيها دَرَجَةُ مُدَّةِ زمانها مِن تاريخ الشِّعْر ودَرَجَةُ نِسْبَة قصائدها مِنْ مَجْموع القصائد، وهي الإسلامي، وما بين الدولتين، والعباسيُّ، والعثماني.

-         (ب) عصورٌ تَلاصَقَتْ فيها الدَّرَجَتانِ، وهي المخضرمون، والفاطميُّ، والأيوبي.

-         (ج) عصورٌ تَقارَبَتْ فيها الدَّرَجَتانِ، وهي الأيوبيُّ، والمملوكي.

-         (د) عصورٌ تَباعَدَتْ فيها الدَّرَجَتانِ، وهي ما قبل الإسلام، والمغربُ والأندلسُ، والحديث.

وعلى حين يظهر في ثلاثة الأصناف (أ) و(ب) و(ج)، أثرُ المدة الزمنية في مقدار القصائد- يختفي في الصنف الرابع (د)، هذا الأثر، ليظهر أثر تِقَانةِ التوثيق والحفظ والنشر؛ فلم يكن كثير من شعراء الجاهلية يكتبون شعرهم مثلا، ولا تخلو نكبات المغرب والأندلس من تضييع تراث الشعر، ثم إن للطباعة أثرا واضحا في تسجيل الشعر الحديث.

وتخرجت قصائد الموسوعة الشعرية، من الستة عشر بحرا الخليلية، على النحو الآتي: م 1 2 3 4 5 6 قبل الإسلام المخضرمون الإسلامي الأموي بين الدولتين العباسي 1

الطويل

938

الطويل

1696

الطويل

171

الطويل

3604

الطويل

585

الطويل

4445

2

الوافر

428

الوافر

622

الرجز

92

الوافر

1017

الكامل

314

الكامل

3687

3

الكامل

347

البسيط

537

الوافر

58

البسيط

979

الرجز

304

البسيط

3035

4

البسيط

300

الكامل

511

الكامل

43

الكامل

806

البسيط

290

الخفيف

2271

5

الرجز

154

الرجز

414

البسيط

31

الخفيف

370

الوافر

204

الوافر

2120

6

المتقارب

104

المتقارب

217

الخفيف

11

الرجز

339

الخفيف

159

السريع

1625

7

الخفيف

76

الخفيف

113

المتقارب

6

المتقارب

302

السريع

104

المتقارب

1305

8

الرمل

54

الرمل

60

الرمل

3

المنسرح

118

الرمل

87

الرجز

1111

9

المنسرح

48

المنسرح

55

السريع

2

الرمل

111

المتقارب

84

المنسرح

1058

10

السريع

48

السريع

53

المنسرح

1

السريع

82

المنسرح

78

الرمل

888

11

المديد

13

الهزج

11

المجتث

1

المديد

33

الهزج

41

المجتث

351

12

الهزج

9

المديد

11

×

الهزج

20

المجتث

7

الهزج

278

13 ×

المجتث

1

×

المجتث

2

المديد

6

المديد

149

14 × × × × ×

المضارع

3

15 × × × × ×

المتدارك

3

16 × × × × ×

المقتضب

2

ج 2519 4301 419 7783 2263 22331 7 8 9 10 11 12 ج الفاطمي المغرب والأندلس الأيوبي المملوكي العثماني الحديث

الطويل

1832

الطويل

2051

الطويل

1825

الكامل

2077

الطويل

1905

الكامل

7786

الطويل

27701

الكامل

1568

الكامل

1797

الكامل

1354

الطويل

2016

الكامل

1833

الطويل

6633

الكامل

22123

البسيط

1352

البسيط

1227

البسيط

1217

البسيط

1444

البسيط

1248

البسيط

5287

البسيط

16947

الوافر

747

الوافر

597

السريع

496

السريع

906

الخفيف

941

الخفيف

3216

الوافر

10787

السريع

662

السريع

518

الوافر

465

الخفيف

826

الوافر

697

الوافر

3092

الخفيف

9548

الخفيف

596

الخفيف

504

الخفيف

465

الوافر

740

الرمل

447

الرمل

1806

السريع

6217

المتقارب

529

المتقارب

406

المتقارب

274

الرجز

593

السريع

440

الرجز

1324

الرجز

5371

الرجز

337

الرمل

299

الرجز

266

الرمل

544

الرجز

273

السريع

1281

المتقارب

4936

المنسرح

256

المنسرح

178

الرمل

225

المتقارب

409

المتقارب

242

المتقارب

1058

الرمل

4708

الرمل

184

الرجز

164

المنسرح

157

المنسرح

305

المجتث

172

المجتث

618

المنسرح

2604

المجتث

120

المجتث

136

المجتث

91

المجتث

304

المنسرح

159

المنسرح

191

المجتث

1803

المديد

39

المديد

57

الهزج

55

الهزج

62

المديد

71

المتدارك

134

الهزج

635

الهزج

25

المتدارك

17

المديد

52

المديد

59

الهزج

18

المديد

106

المديد

596

المتدارك

4

الهزج

13

المتدارك

8

المتدارك

14

المتدارك

11

الهزج

103

المتدارك

191

المقتضب

3

المقتضب

5

المقتضب

3

المقتضب

5

المضارع

1

المقتضب

30

المقتضب

48

المضارع

3

المضارع

3

المضارع

1

المضارع

4

×

المضارع

4

المضارع

19

8257 7972 6954 10308 8458 32669 114234 وتدرجت نِسَبُها من القصائد، على النحو الآتي:

1       الطويل (24,24%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الأولى لعشرة عصور (1-9، 11)، والثانية لعصرين (10، 12).

2       الكامل (19,36%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الأولى لعصرين (10، 12)، والثانية لستة أعصر (5-9، 11)، والثالثة لعصر واحد (1)، والرابعة لثلاثة أعصر (2، 3، 4).

3       البسيط (14,83%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الثالثة لتسعة أعصر (2، 4، 6-12)، والرابعة لعصرين (1، 5)، والخامسة لعصر واحد (3).

4       الوافر (9,44%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الثانية لثلاثة أعصر (1، 2، 4)، والثالثة لعصر واحد (3)، والرابعة لعصرين (7، 8)، والخامسة لخمسة أعصر (5، 6، 9، 11، 12)، والسادسة لعصر واحد (10).

5       الخفيف (8,35%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الرابعة لثلاثة أعصر (6، 11، 12)، والخامسة لعصرين (4، 10)، والسادسة لخمسة أعصر (3، 5، 7-9)، والسابعة لعصرين (1، 2).

6       السريع (5,44%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الرابعة لعصرين (9، 10)، والخامسة لعصرين (7، 8)، والسادسة لعصر واحد (6)، والسابعة لعصرين (5، 11)، والثامنة لعصر واحد (12)، والتاسعة لعصر واحد (3)، والعاشرة لثلاثة أعصر (1، 2، 4).

7       الرجز (4,70%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الثانية لعصر واحد (3)، والثالثة لعصر واحد (5)، والخامسة لعصرين (1، 2)، والسادسة لعصر واحد (4)، والسابعة لعصرين (10، 12)، والثامنة لأربعة أعصر (6، 7، 9، 11)، والعاشرة لعصر واحد (8).

8       المتقارب (4,32%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة السادسة لعصرين (1، 2)، والسابعة لستة أعصر (3، 4، 6-9)، والتاسعة لأربعة أعصر (5، 10-12).

9       الرمل (4,12%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة السادسة لعصرين (11، 12)، والثامنة لستة أعصر (1-3، 5، 8، 10)، والمنزلة التاسعة لعصرين (4، 9)، والعاشرة لعصرين (6، 7).

10  المنسرح (2,27%)، في الاثني عشر عصرا:

-    بالمنزلة الثامنة لعصر واحد (4)، والتاسعة لخمسة أعصر (1، 2، 6-8)، والعاشرة لأربعة أعصر (3، 5، 9، 10)، والمنزلة الحادية عشرة لعصرين (11، 12).

11  المجتث (1,57%)، في أحد عشر عصرا - فقد خلا منه العصر 1 - :

-    بالمنزلة العاشرة لعصرين (11، 12)، والحادية عشرة لستة أعصر (3، 6-10)، والثانية عشرة لعصر واحد (5)، والثالثة عشرة لعصرين (2، 4).

12  الهزج (0,55%)، في أحد عشر عصرا - فقد خلا منه العصر 3 -:

-    بالمنزلة الحادية عشرة لعصرين (2، 5)، والثانية عشرة لخمسة أعصر (1، 4، 6، 9، 10)، والثالثة عشرة لعصرين (7، 11)، والرابعة عشرة لعصرين (8، 12).

13  المديد (0,52%)، في أحد عشر عصرا - فقد خلا منه  العصر 3-:

-    في الحادية عشرة لعصرين (1، 4)، والثانية عشرة لأربعة أعصر (2، 7، 8، 11)، والثالثة عشرة لخمسة أعصر (5، 6، 9، 10، 12).

14  المتدارك (0,16%)، في سبعة أعصر - فقد خلت منه الأعصر 1-5-:

-    بالمنزلة الثانية عشرة لعصر واحد (12)، والثالثة عشرة لعصر واحد (8)، والرابعة عشرة لأربعة أعصر ( 7، 9-11)، والخامسة عشرة لعصر واحد (6).

15  المقتضب (0,04%)، في ستة أعصر- فقد خلت منه الأعصر 1-5، 11-:

-    بالمنزلة الخامسة عشرة لخمسة أعصر (7-10، 12)، والسادسة عشرة لعصر واحد (6).

16  المضارع (0,01%)، في سبعة أعصر - فقد خلت منه الأعصر 1-5-:

-    بالمنزلة العاشرة لعصر واحد (6)، والخامسة عشرة لعصر واحد (11)، والسادسة عشرة لخمسة أعصر (7-10، 12).

ولا تخفى مراتب الستة عشر بحرا الخليلية بعضها من بعض، بل قد انتبه إلى كثير من ذلك الخليلُ بن أحمد، ونبه عليه بدوائره المرتبة على وفق نسبة شيوع البحور؛ فقد قَدَّم دائرة المختلف ليدور فيها الطويل والمديد والبسيط، ثم ثَنَّى بدائرة المؤتلف ليدور فيها الوافر والكامل، ثم ثَلَّث بدائرة المجتلب ليدور فيها الهزج والرجز والرمل، ورَبَّع بدائرة المشتبه ليدور فيها السريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث، ثم خَمَّس بدائرة المتفق ليدور فيها المتقارب والمتدارك. ولو اطلع الخليلُ بن أحمد على ما كان بعده، لربما قدم دائرة المشتبه بتقدم الخفيف والسريع على وجه العموم، على دائرة المجتلب بتأخر الرجز والرمل!

ثم إننا نستطيع الآن أن نصنف الستة عشر بحرا الخليليةَ، على طبقتين:

1       في الطبقة الأولى بحور لم يخل منها عصر، وهي عشرة: الطويل، والكامل، والبسيط، والوافر، والخفيف، والسريع، والرجز، والمتقارب، والرمل، والمنسرح.

2       وفي الطبقة الثانية بحور خلا منها بعض العصور، وهي ستة: المجتث، والهزج، والمديد، والمتدارك، والمقتضب، والمضارع.

لِنُنَوِّهَ بما ثبت لبحور الطبقة الأولى دون أبحر الطبقة الثانية، من ملاءمة إيقاعية حيوية مستمرة- ثم بما كان من استغناء الشعراء بها أحيانا عن أبحر الطبقة الثانية.

ولَمَّا تَمَيَّزَ لي تراث الشعر العربي على النحو السابق، أقبلت أصطفي من عصوره كلها، ما اتَّحَدَ بينه البحر والرسالة والطول جميعا معا؛ فاجتمعت لي عفوا لا قصدا، اثنتا عشرة قطعةً طَويليةً مَديحيةً مُثَلَّثَةً. ولا يمتنع أن يجتمع لي غيرها، إذا ما تغيرت مجامعها، ولكنني حرصت على البدء بهذه الدفعة، إجلالا لبحر الطويل ملك البحور المتوج عليها بالمرتبة الأولى من الاستعمال على مدار التاريخ.وهذه هي الاثنتا عشرة قطعةً، الطويليةُ المديحيةُ المثلثةُ:

1       مِنْ عصر ما قبل الإسلام قال الطُّفَيْلُ الْغَنَوِيُّ (؟-609م):

عُصَيْمَةُ أَجْزِيهِ بِمَا قَدَّمَتْ لَهُ يَدَاهُ وَإِلَّا أَجْزِهِ السَّعْيَ أَكْفُرِ

تَدَارَكَنِي وَقَدْ بَرِمْتُ بِحِيلَتِي بِحَبْلِ امْرِئٍ إِنْ يُورِدِ الْجارَ[2] يُصدِرِ

أُفَدّي بِأُمِّيَ الحَصانِ وَقَد بَدَت مِنَ الوَتِدات لي حِبالُ مُعَبِّرِ

2       ثم مِنْ عصر المخضرمين قال النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ (570-670م):

وَأَيَّ فَتًى وَدَّعْتُ يَوْمَ طُوَيْلِعٍ عَشِيَّةَ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَسَلَّمَا

رَمَى بِصُدُورِ الْعِيسِ مُنْخَرَقَ الصَّبَا فَلَمْ يَدْرِ خَلْقٌ بَعْدَهَا أَيْنَ يَمَّمَا

فَيَا جَاْزِيَ الْفِتْيَانِ بِالنِّعَمِ اجْزِهِ بِنُعْمَاهُ نُعْمَى وَاعْفُ إِنْ كَانَ أَظْلَمَا

3       ثم مِنَ العصر الإسلامي قال زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفيَانَ (622-673م):

هَلُمُّوا إِلَى أَهْنَاسَ يَا آلَ هاشِمِ    وَيَا عُصْبَةَ الْمُخْتَارِ نَسْلَ الْأَعَاظِمِ

وَدُونَكُمُ ضَرْبَ السِّهَامِ بِشِدَّةٍ وَقَطْعَ رُؤُوسٍ ثُمَّ فَلْقَ جَمَاجِمِ

لِنَنْصُرَ دِينًا لِلنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الْهُدَى الْمَبْعُوثِ مِنْ آلِ هَاشِمِ

4       ثم مِنَ العصر الأموي قال الْفَرَزْدَقُ (658-728م):

وَقَوْمٌ أَبُوهُمْ غَاْلِبٌ جُلُّ مَالِهِمْ مَحَامِدُ أَغْلَاهَا مِنَ الْمَجْدِ غَالِبُ

بَنُو كُلِّ فَيَّاضِ الْيَدَيْنِ إِذَا شَتَا وَأَكْدَتْ بِأَيْمَانِ الرِّجَالِ الْمَطَالِبُ

وَمَا زَالَ مِنْهُمْ مُشْتَرِي الْحَمْدِ بِاللُّهَى وَجَارٌ لِمَنْ أَعْيَتْ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ

5       ثم مِنْ عصر ما بين الدولتين قال مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ (723-798م):

إِذَا بَلَّغَتْنَا الْعِيسُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ أَخَذْنَا بِحَبْلِ الْيُسْرِ وَانْقَطَعَ الْعُسْرُ

سَمَتْ نَحْوَهُ الْأَبْصَارُ مِنَّا وَدُونَهُ مَفَاوِزُ تَغْتَالُ النِّيَاقَ بِهَا السَّفْرُ

فَإِنْ نَشكُرِ النُّعْمَى الَّتِي عَمَّنَا بِهَا فَحَقَّ عَلَيْنَا مَا بَقِينَا لَهُ الشُّكْرُ

6       ثم مِنَ العصر العباسي قال ابْنُ الرُّوْمِيِّ (836-896م):

بِهِ تَنْطَوِي الْآمَالُ عِنْدَ انْبِسَاطِهَا وَتَنْبَسِطُ الْأَعْمَارُ بَعْدَ انْطِوَائِهَا

وَمَا تَنْطَوِي الْآمَالُ عَنْهُ بِخَيْبَةٍ وَلَكِنْ إِلَى جَدْوَاهُ أَقْصَى انْتِهَائِهَا

إِذَا غَلَتِ الْآمَالُ فَارْضَ بِجُودِهِ فَمَا بَعْدَهُ مَعْدًى لِسَهْمِ غَلَائِهَا

7       ثم مِنَ العصر الفاطمي قال ابْنُ أَبِي حُصَيْنَةَ (998-1064م):

رَأَيْتُ مُلُوكَ الْأَرْضِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَأَبْصَرْتُ مَا لَا يُبْصِرُ النَّاسُ فِي النَّاسِ

وَطَوَّفْتُ فِي شَرْقٍ وَغَرْبٍ وَأُدْمِيَتْ مَنَاسِيمُ أَعْيَاسِي وَآطَالُ أَفْرَاسِي

فَلَمْ أَرَ مَخْلُوقًا مِنَ النَّاسِ فَضْلُهُ يَزِيدُ عَلَى فَضْلِ الْمُعِزِّ بْنِ مِرْدَاسِ

8       ثم مِنْ عصر المغرب والأندلس قال ابْنُ رَشِيقٍ الْقَيْرَوَانِيُّ (1000-1071م):

فَقُلْ لِصُرُوفِ الدَّهْرِ ضُرِّي أَوِ انْفَعِي فَإِنِّيَ مِنْ مَثْوًى بَعِيدٍ عَلَى قُرْبِ

هُوَ الْمَرْءُ أَمَّا جَارُهُ فَهْوَ آمِنٌ وَأَمَّا الْعِدَى وَالْمَالُ مِنْهُ فَفِي رُعْبِ

مَتَى يَدْعُهُ الدَّاْعِي لِدَفْعِ مُلِمَّةٍ يُجَاوِبْهُ مَنْصُورَ الْيَدَيْنِ عَلَى الْخَطْبِ

9       ثم مِنَ العصر الأيوبي قال ابْنُ النَّبِيهِ (1164-1222م):

أَيَا مُنْعِمًا شُكْرِي لَهُ الْوَاجِبُ الْأَوْلَى    وَيَا مُخْلِصًا لِلَّهِ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى

خَرَجْتَ لِتَرْتِيبِ الْبِنَاءِ فَلَوْ رَأَى سُلَيْمَانُ مَا شَيَّدْتَهُ قَالَ لَا أَقْوَى

فَكَمْ بُنِيَتْ مِنْ قَبْلِهَا مِنْ مَدَارِسٍ وَلَكِنَّهُمْ مَا أَسَّسُوهَا عَلَى التَّقْوَى

10  ثم مِنَ العصر المملوكي قال ابْنُ الْوَرْدِيِّ (1292-1349م):

وَمَا كَانَ ظَنِّي أَنْ يَكُونَ الْفَتَى كَذَا ذَكَاءً وَلَكِنْ مَنْ يَوَدُّكَ مُقْبِلُ

وَمَا حَدَبَاتُ الْأَذْكِياءِ نَقِيصَةٌ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ تِلْكَ لِلْعِلْمِ أَحْمَلُ

فَدُمْ فِي أَمَانِ اللَّهِ فَضْلُكَ وَافِرٌ وَعِرْضُكَ مَوْفُورٌ وَذِكْرُكَ أَوَّلُ

11  ثم مِنَ العصر العثماني قال شِهَابُ الدِّيْنِ الْخَفَاجِيُّ (1569-1659م):

بِنُورِ الْمَعَانِي أَشْرَقَ اللَّفْظُ فَاكْتَسَى بِثَوْبَيْهِ مِنْ حُسْنٍ بَدِيعٍ بِلَا زُورِ

فَفِي عُمَرٍ مِنْ عَالَمِ الذَّرِّ عَدْلُهُ إِلَى اسْمٍ سَرَى مِنْ أَجْلِ ذَا قِيلَ تَقْدِيرِي

وَمَنْ قَالَ ذَا التَّقْدِيرُ غَيْرُ مُحَقَّقٍ فَقَدْ سَارَ فِي ظَلْمَاءِ جَهْلٍ بِلَا نُورِ

12  ثم مِنَ العصر الحديث قال جَمِيل صِدْقِي الزَّهَاوِي (1863-1936م):

نَزَلْتَ كَمَا يَرْجُو السَّلَامُ عَلَى الرَّحْبِ    بِمُشْرِفَةٍ بَيْنَ الْمَحَابِرِ وَالْكُتْبِ

وَجِئْتَ إِلَى بَغْدَادَ تُبْصِرُ دِجْلَةً وَتَشْرَبُ مِنْ سَلسَالِ مَنْهَلِهَا الْعَذْبِ

فَقَامَتْ بِتَكْرِيمِ الرَّجَاحَةِ أُمَّةٌ وَرَحَّبَ شَعْبٌ بِالْكِيَاسَةِ وَاللُّبِّ

إن وجود هذه القطع في نفسه رباط قوي، يخلد أسلوبا عربيا أصيلا مستمرا، يستشكل فيه الشاعر ببيت من مُثَلَّثَتِه، ويدعي ببيت، ويستدل ببيت، وإن اختلف بين الشعراء ترتيب هذه الفصول.وربما خطر لبعض المتلقين أن تلك القطع بقايا قصائد -وإن اكتملت رسائلها- لاقترانها ببعض الروابط والإحالات التي لا ترجع إلى مذكور. ولكنها على هذا قُبِلت ورُوِيَت وبَقِيَت، فأما الروابط والإحالات فلها فيما يأتي وجوه من أساليب الشعر العربي الأصيلة المستمرة.ولقد تجلى لي أن حركة الأصوات في الشعر العربي، مخبوءة في حركة المفردات؛ فإذا غلبت على الشاعر كلمة دالة تعلق بها وبسط لأصواتها في كلامه عنها؛ ومن ثم اضطربت أَرْوِيَةُ قِطَعنا بين ثلاث درجات من الإسماع.وتلاقى بعض الشعراء في كلمات القوافي، على صيغٍ تؤدي تفعيلات أو أجزاء من تفعيلات، كصيغتي "فُعْل"، و"فَعْل"، اللتين تُؤَدِّيان جزء "عِيلُنْ"، من تفعيلة الضرب "مَفَاعِيلُنْ".وآثر بعض الشعراء تعبير الجار والمجرور في بعض المواضع التي آثر فيها غيره تعبير المتبوع والتابع، فدل الأول على تَحَرُّجِه من عيب الاستدعاء، على حين استكان له الأخير.وتلاءم في أبيات قطعنا البيت والجملة، إلا درجاتِ التضمين الخفيفةَ، التي تتيح للمتلقي أن يستعمل البيت الواحد في حاجته المشابهة.أما جرأة بعض الشعراء على تصدير حروف العطف من غير معطوف عليه، عطفا على حديث النفس، أو تسليما لوزن البحر اطمئنانا إلى جواز العطف على حديث النفس- فيستثقله بعض الشعراء فيعرضون عنه، أو يستغلق على بعض المتلقين فيحذفون هذه الحروف!لقد بدت لي تلك القطع الاثنتا عشرةَ الطويليةُ المديحيةُ المثلثةُ، قصيدة واحدة مستمرة، أجاز فيها اثنا عشر شاعرا بعضُهم بعضًا على اختلاف الأزمنة والأمكنة، ولن يَقَرَّ لها قرار ما بقي في الدنيا عربي، و"لَنْ تَدَعَ الْعَرَبُ الشِّعْرَ حَتَّى تَدَعَ الْإِبِلُ الْحَنِينَ"!وتَمَثَّلَتْ لي بها رحلة اللغة العربية في بحور الشعر، كيف كانت أصواتها وصيغها ومفرداتها وتعبيراتها وجملها وفقرها، وكيف صارت. وفي تأمل كلٍّ من ذلك بها، ما لا يتسع له وقت.وتجلى تراث العربية كُلًّا مجتمع الأجزاء، يَسْتَوْعِبُه على اجتماعِ أجزائِهِ كلُّ طالبٍ من كل زمان ومكان، عالما كان أو فنانا، وتتكرر لذلك آثاره على اختلاف الأزمنة والأمكنة.لم أكن أريد إلا أن أصطفي نصوص الكلام العربي المتوافقةَ المتعاقبةَ المتكاملةَ، التي أتتبع فيها رحلة اللغة العربية، ولكنني وجدتني أجري مجرى الخليل بن أحمد الفراهيدي، من حيث أدري ولا أدري، وأُكَمِّل عمله على نحو ما، فرضَ كفاية على المشتغلين بالعربية في كل زمان ومكان! فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات!

 [1] ربما كان من علامات التفريط أن يتخلوا عن عملهم لتستولي عليه مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم لتخرج به سنة 2009م، ما سمته موسوعة الشعر العربي!

[2] هكذا في الموسوعة وفي ديوانه نشرة دار صادر بتحقيق حسان فلاح أوغلي الطبعة الأولى 1997م، ص132، ولكنني أظن أن الصواب بالرفع؛ فعلى هذا ينبني المديح.

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 275

-1-

الشِّعر أقرب الفنون إلى نفس الإنسان؛ لأن اللغة أنفاس الإنسان، والصوت آلته الفنيَّة الأُولى، كطائرٍ بَشَريٍّ مُغرِّد. ولذلك فإن الأصل في الشِّعر أنه فنٌّ فِطريٌّ، لا يتطلَّب عِلْمًا، ولا فلسفة، ولا صناعة مكتسبة- بما تعنيه هذه العبارة من معنى- ولا أكثر من الاستعداد اللغوي الفِطري والموهبة. بخلاف الفنون الأخرى التي لا بُدَّ لها من ثقافةٍ خاصَّة، ودُربةٍ شاقَّة، وتفاعلٍ اجتماعيٍّ، بقدرٍ أو بآخر. فهي صناعاتٌ فنِّـيَّة متقدِّمة، ظهرت بتطوُّر الإنسان وحضور الآلة ونشوء المجتمعات، بخلاف الكلمة الشِّعريَّة. وبرزت تلك الفنون في بعض المجتمعات دون بعض، وفي حقبٍ دون أخرى، ولكن ليس هناك مجتمعٌ بشريٌّ في أيّ زمانٍ ومكانٍ لم يكن له شِعر أو غناء. ربما كان فنّ الرسم قد بدأ في مرحلة لاحقةٍ كثيرًا بعد الشِّعر، فبدأ بدائيًّا جدًّا مع سُكنى الإنسان الكهوف، والرسم على الجدران، ثمَّ منه انبثقت فنون الكتابة، من مقطعيَّةٍ إلى تصويريَّةٍ إلى أبجديَّة، في الألف الثاني قبل الميلاد.

من هذه المنطلقات يبدو التعبير الصوتي أقدم، بطبيعة الحال، والتعبير الصوتي ملازم للكائنات الحيَّة كافَّة.  بحيث لا يُتَصَوَّر أن الإنسان الأوَّل، في أوَّل وجوده على هذا الكوكب، كان يرسم، مثلًا، أو يخطب، أو يَقُصُّ قِصَّة، أو يُزاول فنًّا آخَر كهذه الفنون، لكنه قطعًا كان يعبِّر بالغناء، فرحًا أو ترحًا، ويُفضي عمَّا في نفسه بلُغة.  وقد كانت لغة الإنسان تؤهِّله لذلك، كما أهَّلته للحوار الكوني، في قضايا الوجود والمصير، والحقِّ والباطل.  وهذا ما ميَّزه عن سائر المخلوقات.

ومن هنا فلا خلاف في أن اللغة هي أوَّل مكتسبٍ معرفيٍّ للإنسان.  وبما أنها كذلك، فإنها أداة العقل والتخيُّل والفنّ، وكلُّ اللغات الفنيَّة الأخرى ثانويَّة ولاحقة ورامزة، وإنما وقع الجدل منذ القِدَم في أيِّهما أسبق: الشِّعر أم النثر؟  النثر: بمعنى التعبير الفنِّي نثرًا، غير المنظوم في قوالب موسيقيَّة. بَيْدَ أن الفِطرة الطبيعيَّة، وسُنن الله في خلقه، تدلَّاننا على أن الشِّعر، بأُفهومه العامّ، أسبق من النثر الأدبي؛ من حيث حاجة الإنسان للإرواء الصوتي، والموسيقي، وللبثِّ الروحي، لا الفكري، وللتأثير الإيحائي، لا العِلْمي. بل إن اللغة لتبدو في ذاتها أقرب إلى الموسيقى، حتى في نثرها، بحيث أستطيع القول: إن اللغة هي أول كرَّاسة موسيقيَّة، أو «نوتة»، عزفها الإنسان. وشواهد ذلك ما تزال قائمة لدَى علماء اللغة، في ما يسمونه محاكاة(1) أصوات الطبيعة Onomatopoeia، والعربيَّة حافلة بهذا النوع جِدًّا. وقد عالجتُ بعض هذه القضيَّة من خلال كتابي «الصورة البَصَريَّة في شِعر العميان: دراسة نقديَّة في نظريَّة الخيال والإبداع»، (وهو رسالتي للدكتوراه 1993، ونُشِر في نادي الرياض الأدبي، 1996). ولذلك كان الشِّعر فنَّ المجتمعات الرعويَّة والشفاهيَّة الأوَّل في مختلف الأمم.

-2-

قد يقول قائل: «إنه من الصعوبة الحصول على دراسة أنثروبولوجية تربط بين الشِّعر والحضارة، وأثر خفوت الأوَّل على مآل الأخرى». لكن ما كلُّ أمرٍ يتطلَّب دراسات أنثروبولوجية لاستنتاجه بالضرورة؛ إذ إن طغيان الماديَّات- ولا أقول «الحضارة» بمعناها الشمولي المتوازن- يُبعد الإنسان عادةً عن روحانيَّاته، الدِّينيَّة والفنِّيَّة، ويتحوَّل بالإنسان إلى ما يشبه تبلُّد الآلة. وهذا ملموس على مستوى المجتمعات والحضارات، فلن تجد رجلَ مالٍ واقتصاد، مثلًا، يحفل كثيرًا بالشِّعر، إلَّا ما ندر، والنادر لا حكم له؛ فالعقل الصرف سيشغل لديه هذا الحيِّز. وبمقدار غرق المجتمع في متطلَّبات الحياة اليوميَّة، وضغوط الماديَّات، يبتعد عن الكلمة والفنون والآداب، ولاسيما الشِّعر؛ لأن خصوصيَّة الشِّعر، وصفاءه من الأغراض- حتى الأغراض الدلاليَّة المباشرة- تحتِّم شفافيَّةً على متلقِّيه، ومَلَكَة متخيِّلة تسمو على القراءة الحرفيَّة والمباشرة للنصّ، وأنْ تكون لديه قدرةٌ ذاتيَّةٌ لإعادة إنتاج النصّ، إلى ما لا نهاية. فأنَّى سيكون هذا في مجتمع يلهث وراء حاجاته البسيطة، والمُلِحَّة، والبهيميَّة أحيانًا. ولذا فإن الشاعر نفسه في مثل هذه المجتمعات يغدو منبوذًا. وقد قالها (أفلاطون) قديمًا، حين طردَ الشعراء من مدينته الفاضلة؛ لأنه رآهم فارغين، لا يفيدون المجتمع بشيء، بحسب فهمه للإفادة. وهذا ما خالفه الرأيَ فيه (أرسطو) في محاورته معه حول هذه المسألة، أو «الثيمة» كما يحلو اللفظ في بعض الأفواه العربيَّة المعاصرة.(2)

بناءً على ما سبق- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- فإن الفنون اللغويَّة، وبخاصة الشِّعر، بوسعها أن تكون معاول بناءٍ أو هدمٍ للإنسان ومجتمعه، أكثر من غيرها من الفنون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  مصطلح المحاكاة: هو المقابل للمصطلح الإنجليزي Imitation، من الأصل اللاتيني Mimesis. مع أن التَّيَمُّم، في العربيَّة: القصد، والتوخِّي، والاتِّباع. واليَمامة: القصد. والمُئمُّ: الدليل الهادي. والأُمَّة والأِمَّة: الشِّرعة والدِّين والسُّنَّة. والإمام: المثال. وكلُّ ذلك من: أُمِّ الشيء، وهو أصله. ومنه سُمِّيت الأُمُّ بهذا الاسم. قال (الجوهري): أَصل الأُمِّ أُمَّهةٌ، ولذلك تُجْمَع على أُمَّهات. ويقال: يا أُمَّةُ لا تَفْعَلي، ويا أَبَةُ افْعَلْ. (انظر: الجوهري، الصحاح؛ ابن منظور، اللسان، (أمم)). وما زال هذا هو المسموع في لهجات (نَجْد): «يُمَّة/ يا أُمَّة، يُبَة/ يا أَبَة». ومن هذا يتَّضح أن الأصل اللاتيني للمصطلح الذي قابلناه حديثًا بـ(محاكاة)، والكلمة الإنجليزيَّة لهذا المصطلح، شبيهان بالجذر العربي، الذي يشير إلى الاتِّباعيَّة والاستنان والتقليد، وكأن الأصل في العربيَّة واللاتينيَّة واحد، وهو الذي كان يحسُن أن يكون منه اشتقاق المصطلح في العربيَّة، لما ينطوي عليه من دلالة أعمق من محض التقليد الظاهري الذي تعبِّر عنه كلمة «محاكاة». فلو قلنا «الائتمام»، مثلًا، في مقابل Imitation، لكان مصطلحنا عربيًّا صميمًا، ومجانسًا للمصطلح الأجنبي، وأدلَّ على معنى الاتِّباعيَّة المُؤْتَمَّة المتمذهبة. غير أنه قد سبق السيفُ العَذَل، فاستقرار مصطلحٍ يجعل تغييره غير ميسور ولا مستساغ.     

(2)  كثيرًا ما نقرأ لدى بعض نقادنا المغرمين بطرائف الألفاظ كلمة «تِيْمَة»، كقولهم: «هذه تِيْمَة أساسيَّة في النصّ!» على الرغم من أن التِّيْمة في العربيَّة هي: الشاة تُذْبَح في المَجاعة، وقيل: الشاة في المنزل، وليست بسائمةٍ، فإذا ذُبِجَت، قيل: قد أَتامَ فلان. وفي الحديث: التِّيمةُ لأَهْلها. (انظر: ابن منظور، اللسان، (تيم)). فهل يصح قول الناقد: «هذه (شاة) أساسيَّة في النصّ»؟! على أن الكلمة بالإنجليزية: theme، وتعني: مسألة أو قضيَّة أو موضوعة ما. غير أن اللهجة العربيَّة تتدخَّل أيضًا هاهنا، حتى في الإنجليزيَّة، فمَن ينطِق الثاء ثاء في لهجته، فالمصطلح: «ثيمـ[ـة]»، وقد أُنِّـثَ، ومَن ينطِق الثاء تاءً، فهو: «تيمة»، وربما صار «سيمة»، حسب لهجة ثالثة/ أعني: تالتة/ أو سالسة! ولِمَ لا تتدخَّل اللهجات في الإنجليزيَّة، مادامت تتدخَّل في الفُصحى، حتى لدَى عِلْيَة القوم من الأدباء واللغويِّين، وربما قارئي «القرآن المجيد»! وذلك مثل كتابة الروائي (الطيب صالح): «أزرعات»، بالزاي، على الطريقة السودانيَّة، وهي «أذرعات»، بالذال، في إشارته إلى قول (امرئ القيس):

تَنَوَّرتُها مِن أَذرِعاتٍ وأَهلُها  * *  بِيَثرِبَ أَدنَى دارِها نَظَرٌ عالِ

في روايته (منسي: إنسان نادر على طريقته، ص146، (رياض الريس، 2004)). هذا، ولعلَّ (أذرعات) اسمٌ معروفٌ إلى الآن باسم (أذيرعات)، من روافد جبل طُوَيق، على يمين الطريق إلى الحجاز. (وانظر: ابن خميس، عبدالله، (1970)، المجاز بين اليمامة والحجاز، (الرياض: دار اليمامة)، 39، 115). على حين يفعل روائيٌّ آخر، هو (يوسف زيدان، عزازيل، الرَّقّ الثالث عشر)، عكس ذلك، فيقلب الزاي ذالًا، في كتابته كلمة: «الوخَّاذ»، بالذال، وهو يعني «الوخَّاز»، بالزاي، وذلك في حديثه عن نبات العوسج ذي الشوك الوخَّاز. والسبب أنه ظن الزاي لهجةً والأصل بالذال؛ فوقع في ما فرَّ منه! وما ضربتُ المثل بهذين الكاتبين إلَّا مثلًا طريفًا ودالًّا على التأثير اللهجي الطاغي، وجَلَّ من لا يخطئ ولا يلتبس. وعودةٌ إلى مصطلح «تيمة»، لماذا لا نستعمل: مسألة أو قضيَّة أو موضوعة، ونفتكّ من البلبلة اللغويَّة اللهجيَّة؟ يبدو سؤالًا بريئًا؛ لأنه: من سيضمن الصورة الحداثيَّة الطليعيَّة الكاذبة لناقدنا (التِّيمة) لو عرَّب مصطلحاته، لا قدَّر الله؟!  وإلَّا فالأمر هنا يختلف عن مصطلح (محاكاة) المذكور في الحاشية السابقة؛ من حيث هو هنا مأخوذ، بعد تشويهه، من لغةٍ أخرى، وتعريبه سائغ سائر في كثير من الكتابات، سِوَى تلك التي تُصِرُّ على أن تلبس قُبَّعة السيِّد الأبيض، ولو بالمقلوب!

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «في الشِّعر والحضارة!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الجمعة 22 سبتمبر 2017، ص13].

المزيد من المقالات...