تعد رواية "عالم بلاخرائط" لكل من جبرا إبراهيم جبرا، وعبدالرحمن منيف، والمؤلفة من ثلاثة وأربعين فصلا، من الروايات الممتعة، الغنية  بأبعادها الدلالية والرمزية وبإشكالاتها العميقة، التي تحتاج إلى قارئ ماهربتعبير تدروف، قادرعلى تتبع الدلالات المستترة فيها، واستنطاقهاعبرآلية التأويل بروح نقدية عالية. تسعفه على فهم خطابها المتشظي على طول مساحة السرد . وهو ما تفصح عنه مقدمة الرواية صراحة، بكون عوالم هذه الرواية - بما فيها عالم عمورية- هي عوالم من صنع خيال مبدعيها، وتضمره ضمنيا كذلك من خلال أسطورة العرافة"السيبيلا" عرافة كوماي ، والغاية من توظيف هذه الأسطورة جاء لحكمة ما .مفادها أن فهم خطاب هذه الرواية يحتاج لجهد نقدي، وتأمل فلسفي لما تشير إليه فصولهاالمتعددة، والمتشابكة .  باعتباره خطابا متشظيا، وثاويا يحتاج إلى قراءة الرواية في كليتها قراءة رائي عارف لا قراءة عاشق معجب، وهوالأمر الذي دعا إليه ميخائيل باخثين في مؤلفه" الخطاب الروائي"  بغية فصل خطاب السارد ، والشخصيات عن خطاب الروائي أثناء القراءة.

بعد حكاية العرافة"السيبيلا" عرافة كوماي ينطلق السرد، وذلك عبر السارد العليم المشارك في أحداث الرواية ، narrateur hètèrodiegètiqueعلاء نجيب سلوم، حيث يقدم لنا هذا الأخيرالثالوث المؤسس لحبكتها، والعامل على توتير الحكي فيها.المفضي إلى رسم صورة للروائي كمبدع، وكإنسان حالم، وكمثقف عضوي، مهموم بإبداعه ، ووعيه، وذاته ، ومجتمعه. وهو الثالوث المشكل من تيمة اللذة، وتيمة الألم، وتيمة الرعب.وهي تيمات يعمل السارد على تعريفها. كرؤيا شهوانية محرمة، حادة، ومتوترة ،وقاهرة.

 وما تكراره لمفهوم الرؤيا، وربطها بالثالوث المحرم. اللذة الناتجة عن ممارسة الحب، والألم الناتج عن المعاناة بسبب الخيبات العاطفية، والسياسية. والرعب الناتج عن الموت. موت الأحبة( الأب،الخال حسام الرعد،نجوى) أوالناتج عن غبابهم وهجرتهم(  غياب نجوى ، غياب أدهم ،  غياب نائلة ، رحيل صبا عن بيت العائلة..) أوعن موت الصورة المثالية  التي تسكنه، بظهور الوجه الثاني للبطلة نجوى العامري.إلامن أجل الـتأكيد على أن كل أحداث الرواية في النهاية يحكمها ويلخصها هذا الثالوث النابع عن خياله اللجوج، وهو خيال روائي له نفسية مرهفة، قلقة ومتدفقة، تصل حد الهذيان. كما لو أنه يعاني مرضا نفسيا. وهي نفسية شبيهة بعربة تقودها خيول جامحة" التخييل " بوصف جان بول سارتر في كتابه "ما الأدب" الذي اعتبر الأدب نشاطا تخيليا إنسانيا). هذا الثالوث المرتبط ارتباطا وثيقا برؤيا الروائي المتعطشة للحب، وللفيض وللإبداع، وللتغيير. وهي من سمات المبدع الرائي علاء سلوم، الذي يصاب في النهاية بالعجز.حيث تسقطه رؤياه فريسة للألم، ثم المرض، فالإنكسار.يقول السارد علاء نجيب سلوم في الصفحة12 " يتراءى لي كل شيء حلما أو كالسراب".

فعوالم رواية" عالم بلا خرائط" هي عوالم مهما حاولنا رسم صورة لها، وربط دلالة هذه الصورة بالواقع، وبالمنطق، وبالأحداث الماضية، وبجغرافية منطقة الشرق الأوسط، وتاريخها، وبتجربة مبدعيها جبرا إبراهيم جبرا، وعبدالرحمن منيف، تبقى بالرغم من ذلك عوالم بلا خرائط، وبلا ملامح. متداخلة، ومحيرة .تثير التساؤل، والدهشة ،والغرابة ، وتقبل أكثر من قراءة وتأويل. وهي العوالم المشكلة من  "عالم المرأة " الذي تمثله  القتيلة نجوى العامري، وقبلها نائلة، وناهد وبعدها ميادة، و"عالم آل سلوم" أسرة السارد الأسطورية ثم "عالم عمورية" المدينة التي تدورفيها أحداث هذه الرواية، ثم عالم الكتابة الروائية"عالم الروائي علاء نجيب سلوم". الذي يسترجع في غرفة مظلمة عبر تقنية الفلاش باك- تفاصيل الحكاية المرتبطة بمقتل نجوى العامري غير مصدق لما حصل، منكر لكل ماجرى .

وعلاء نجيب سلوم هوكاتب ينشر مقالاته بجريدة" الميزان" وأستاذ جامعي لتاريخ الفنون، مثقف عضوي( بتعريف غرامشي)متبني للفكر الإشتراكي التحرري، في الأربعينات من عمره ،متحرر من كل القيود" دين ،عادات، تخلف.."  نزق وثائر على كل السلط المعيقة لتحرر الإنسان "سلطة الأب، سلطة الدولة الجائرة، سلطة الرقابة المفروضة على حرية التعبيروالكتابة، سلطة المجتمع ..." الباحث عن شكل حديث للرواية العربية شكلا ومضمونا ولغة بعيد عن الأشكال التقليدية النمطية " يقول كاشفا عن شخصه ونمط حياته"آخذ كتابا وشيئا من الويسكي،وأعزف أسطوانة أوكاسيتة على الستريو"ص99 وهو مثقف خائب عاطفيا وسياسيا "الآن وأنا أتحدث عن تلك الفترة أشعر بخيبة كاوية، أشعربما يشبه الوقوع تحت فعل الخديعة" ص115 .حالم بتغييرحال عمورية- ذاك العالم الذي عجز عن تغييره بواسطة النضال والسياسة - ونقله مما عليه"الكائن المشوه" إلى ما ينبغي أن يكون عليه "الممكن الجميل" وفق الصورة المثالية التي ينشدها " أعلن التحدي ورغبتي في أن أغير العالم القائم"ص117 هذا العالم الذي سوف يستنجد من أجل تغييره في نهاية الأمر بالرواية.  تلك الكتابة التي تسكنه  حد التلف والهذيان، وتصيبه بالعجزفتظهرنجوى العامري على مسرح الأحداث، كبطلة  متمردة على قيم مجتمعها، متعطشة للحب، والجنون . منقذة ، ومخلصة للبطل علاء من هذاالعجز الذي يشل مخيلته، ويكبل روحه، وجسده.

فمن هي إذن نجوى العامري؟ وماعلاقتها بأسرة آل سلوم، وبعالم الروائي علاء نجيب سلوم؟

من خلال قراءتنا للرواية في كليتها نخلص في النهاية إلى أن نجوى العامري هي ابنة شهاب خالد سلوم ابن عم والدعلاء سلوم، الذي أعدم بتهمة التآمرعلى الدولة سنة 1949م والتى تبناها، ورباها - الرجل الثري عم أمها- محسن العامري درءا للفضيحة، وذلك بعد موت أمها الحقيقية عائشة بنت أخيه فؤاد-  ونجوى هي زميلة صبا أخت علاء أيام الجامعة، التي كانت حلقة الوصل الرابط بين نجوى وعلاء"ذات يوم جمعة أخرجتها أختي صبا من بين يديها الفارغتين، كما يخرج الساحرأرنبا من قبعته، دعتها إلى الغداء معها ومع زوجها نبيل، والتقيتها ساعة الغداء على المائدة"ص 48 ونجوى هي بطلة رواية "عالم بلاخرائط" وحبيبة الروائي البطل علاء سلوم سارد هذه الرواية، وهي الشخصية المحورية التي تدورجميع الأحداث، وتتشابك حولها.مشكلة عقدة الرواية بما فيها من تشويق، ومتعة، وتمرد يقول السارد علاءعنها " ما قصدت أن أحدثكم عنه هو نجوى، نجوى هي الماضي، وهي الحاضر، ولقلت هي المستقبل لو كان لي بعد مستقبل"ص44 فهي  الأمنية، وهي اللذة، والرؤياالتي يصبو إليها الكاتب، التي سوف تتحول مع الوقت من لذة شبقية يحكمها الجنس وفي ذلك نظرة دونية للمرأة إلى حالة عشق حية، متحركة، نابضة ، ومتمردة. قادرة على إثراء وديان روحه، ومتخيله من جديد بمياه إبداعية متدفقة "نجوى مرض يصيب الروح ، منذ اللحظة الأولى ، منذ المرة الأولى ، تركت في القلب شيئا أقرب إلى السر" ص 133.  "  وهي العاشقة التي لا قدرة له على مواجهة جموحها، الذي ازداد قوة بعد اكتشافها بأن ما يجري في عروقها من دم هو نفس دم السوالمة. يقول علاء نجيب معترفا بضعفه أمام  سحرها "كلمة واحدة منها كافية لجعلي أسلمها أسلحتي كلها " ص133 ، ونجوى هي حلمه العاطفي، والسياسي، والنضالي الذي أصابه التشوه نتيجة ما أصاب عمورية " بلدان شرق الأوسط" خاصة .بسبب تدفق مال النفط الذي أفسد كل شيء فيها، طباع الناس، وأخلاقهم، وأذواقهم وهو مايستنتجه السارد علاء نجيب قائلا" طبعا للنفط أثره العظيم، اكتشفه الأمريكيون، وعلموا الناس الخطيئة، بل الخطايا السبع كلها"ص79.

هذه الخطيئة التي لم تنجو منها حبيبته نجوى"عمورية" بعد وفاة محسن العامري،عم أمها، الذي تبناها والذي عاشت معه على أساس أنه هووالدها الحقيقي، مما انعكس سلبا على علاقة علاء بنجوى، وبالآخرين، والتي وصلت حد الكراهية ،وربما القتل.

فتعلق الروائي علاء نجيب سلوم بنجوى العامري، ومحاولة تعويض خسارته معها بميادة. هو شبيه بتعلقه بعمورية التاريخ -عمورية المعتصم- كما لو أنه يحاول أن يدشن فتحا جديدا لها عبر الحب أولا،. وعبر السياسة ثانيا. وأخيراعبر الرواية .لكن" عمورية " تبقى في نهاية المطاف مدينة بلا ملامح، وبلا خرائط ، حتى وإن حاولنا جاهدين أن نرسم لها حدودا، ونجدلها ملامح لمدينة  نفطية على خريطة" الشرق الأوسط"  خاصة بغداد متتبعين أثرأحداث تاريخية عرفتها المنطقة من قبل. وعاشها وقرأعنها، وبحث، وشارك فيها على الخصوص الروائي عبدالرحمن منيف وانتهت بطرده بعد توقيع حلف بغداد . كمرحلة احتلال العراق من طرف الأتراك، والتي نرصدها من خلال كلام العمة نصرت وهي تحكي عن أبيها سليم سلوم الذي هوجد بطل هذه الروايةعلاء سلوم يقول هذا الأخير" وعمتي نصرت تروي ذلك بصوت عال مليء بالفخر : سليم سلوم مات يوم أراد الأتراك أن يحلقوا نصف لحيته  .. الأتراك سمموه " ص73 وهناك حدث تاريخي آخروهو المرتبط "بحلف بغداد"  وتداعياته منها  المظاهرات الرافضة له والتي كانت سببا في  تهجيرعلاء سلوم من عمورية باتجاه" انجلترا" بقرارمن أبيه خوفا عليه من ملاحقة الشرطة له مرة أخرى بعد تدخله لإطلاق سراحه عندما تم القبض عليه . نتيجة مشاركته في مظاهرة ضد الأحلاف العسكرية. ونعلم مسبقا عبر كتب التاريخ بكون حلف بغداد هو أحد الأحلاف التي شهدتها حقبة الحرب الباردة حيث تم إنشاؤه عام 1955 للوقوف بوجه المد الشيوعي في الشرق الأوسط يقول السارد علاء بهذا الخصوص"فبعد أن أوقفتني الشرطة لاشتراكي في مظاهرة ضد الأحلاف العسكرية الأجنبية " ص85 وهو التاريخ الذي يؤكده المحقق أثناء التحقيق مع علاء حول مقتل نجوى العامري بقوله "اطلعت على ملفك كله منذ توقيفك عام1956  وحتى الآن"ص 293 إضافة إلى وصف جغرافية مدينة عمورية التي تقع مقابل الصحراء مباشرة وتتعفر، بغبارها، ورمالها. وكذاالتحول العمراني، والإجتماعي الذي أصابها نتيجة ظهور النفط يقول السارد علاء واصفا هذا التحول "وماكانت لتكسب هذه القسوة والوحشية لولا انبثاق هذه الثروة اللعنة" ص 92  وهي الآثارالتي حاول أن يخفيها  كل من جبرا ابراهيم جبرا، وعبدالرحمن منيف خلف جبال، وأسماء قرى شبيهة بقرى فلسطين ولبنان وسورية كالمطلة وعين فجاروغسرين والطيبة في محاولة لجعل مدينة عمورية  بأحداثها وشخصياتها (بما فيها البطل الذي يشبع رغبات المؤلف إشباعا غير مباشر كما يقول فرويد )هي من صنع خيالهما وليس من صنع الواقع. تصلح لأن تكون أية مدينة عربية منتجة للنفط .

 كما يكشف لنا الملف الضخم للمحقق الذي وصفه علاء سلوم أثناء جلسة التحقيق أهمية أخرى ذات قيمة سياسية، وإيديولوجية مرتبطة برؤية علاء كروائي مثقف رافض للظلم والإستبداد .هذاالرفض الذي كان مرجعه تبني السارد علاء سلوم للفكرالاشتراكي في تلك المرحلة ، وهوما تكشف عنه  الحياة المتمردة المتحررة للكاتب، وبعض الإشارات المتضمنة في الرواية منها هذه الإشارة التي نرصدها في سياق حديث علاء عن حبيبته الأولى نائلة . وهي الإشارة التي تؤكد ماذهبنا إليه حول الاتجاه الإيديولوجي لبطل الرواية علاء حيث يقول "...أو لكي أخط بالأحمرعلى الجدران أوأوزع المناشير " ص83 فالخط الأحمر الدال على لون الدم والثورة والتضحية" اللون الأحمر" والمناشير الدالة على"التنظيمات السرية" يرمزان للفكرالأشتراكي الثوري التحرري الذي يؤمن به البطل كسلاح لمحاربة الظلم والفساد، والتشوه الذي أصاب عمورية بعد ظهور النفط.وهوالفكر الذي تعرض أصحابه مفكرون كانوا أو مثقفين أو سياسيين أو مبدعين أو طلبة لاضطهاد كبيرمن طرف أنظمة بلدان الشرق الأوسط في تلك المرحلة.

وبعد عودة البطل الروائي علاء من إنجلترا وإكماله لدراسته هناك، سيجد عمورية قد تغير فيها كل شيء وساءت الأمور فيها أكثرمن الأول. مما يعمق من جراحه، ويزيد من غربته ،  الشيء الذي سوف ينعكس سلبا على علاقته بالعالم، وبالآخرين ،وبالكتابة نفسها.

فما الحل إذن؟

 سؤال ظل يتكررأكثرمن مرةعبرمدارالرواية، وبمنظور السارد بطل الرواية علاء نجيب سلوم يبقى الحل للخروج من عنق الزجاجة - كما يقول- يتجلى في أمرين مهمين الأول "عالم نجوى" والأمر الثاني وهو الأهم بالنسبة له يمثله "عالمه الروائي" . فأي كتابة روائية يطمح إليها البطل السارد علاء سلوم؟ .

 بعد مغادرته لجريدة" الميزان " إثر خلاف حصل مع رئيس تحريرها صديقه صادق الرمحي حول مقالة صحافية، ذات حمولة فكرية وسياسية تنتقد مايجري بعمورية استثمر فيها الكاتب علاء حوارية لوقيان، وبعد رفض صادق لنشرهذه المقالة كماهي يختارعلاء سلوم الرواية كبديل مقنع للسياسة، وللصحافة، باعتبارها أداة قادرة على رصد الواقع ،وتحليله، ونقده في علاقته بالتاريخ المسكوت عنه ، وقادرة على التحريض، والفضح، وتشكيل الوعي لدى المتلقي بما يجري حوله، وبما يدبرفي الخفاء لمستقبله، ولوطنه ولعروبته. يقول السارد في الصفحة 292"يجب أن أتوجه إلى عالمي الحقيقي إلى الرواية " على اعتبارأن الرواية " ملحمة البرجوازية" كما يعرفها هيجل، تعد سلاحا شعبيا لمناهضة الظلم والاستبداد، وهي مرآة بتعبير ستاندال تعمل على تعرية الواقع المتردي، ووسيلة - كما يرى لوسيان غولدمان وجورج لوكاتش- للبحث عن قيم إنسانية فاضلة كالعدالة، والمساواة، والحرية. بغية تأسيس واقع إنسان مثالي، وهي الكتابة الروائية التي يطمح إليهاالروائي علاء سلوم قائلا"لكن وقتا سيأتي يلذ لي أن أتخيله،لا يحول الكلمات إلى رصاص، وسوف يكون رصاصا قاتلا، بل يجعلها وعيا متوثبا، وحبا للإنسان والوطن "ص92

فكيف ينظرهذاالأخيرللرواية في علاقتها بذاته، وبالعالم الآخر، عالم عمورية ، وعالم أسرته، وعالم نجوى العامري؟

يقول السارد علاء في ص29 راسما لنا صورة للروائي في علاقته بذاته ، وبإبداعه ، وبالعالم الخارجي "فحالة العجز التي سيطرت علي بعد روايتي الثانية "النوارس" جعلتني أشعرأني فقدت القدرة على الكتابة....،فهل كانت تلك الحالة سببا في المرض"  وهي الجملة الروائية التي تكشف لنا خوف الكاتب علاء من جفاف ينبوع الإبداع الروائي لديه . الذي يحضرأحيانا بقوة بالرغم من توفيرالعدة، والمناخ المناسب يقول السارد واصفا هذه الحالة النفسية المرتبطة بالإبداع  "ما كدت أشتري مستلزمات العمل وهي كميات كبيرة من الأوراق الصقيلة، وعدد من أقلام الحبرالجاف، وأجلس وراء المنضدة التي جعلتها بمواجهة الشباك العريض،لكي أرى من خلاله الأشجار وزرقة السماء حتى داهمني العجز" ص43. فالعجز.هذه الحالة الذهنية، والنفسية،كانت السبب الرئيسي في مرضه. يزيد من حدتهاغياب نجوى . وانتقاد النقاد لرواياته، وعدم فهمهم للخطاب الثاوفيها الذي يريد إيصاله إليهم، وإلى العالم .في قالب روائي حديث مختلف شكلا ومضمونا.وهو النقد الذي بقدر ما يزيد من ألمه بقدرمايزيد من إصراره على مواصلة الكتابة بالشكل الذي يطمح إليه. يقول السارد الروائي علاء نجيب سلوم محتجا "عندما صدرت روايتي الثانية، لم يرض عنها النقاد كثيرا ، وقالوا إنها ملأى بالغموض والتناقض وادعوا أنها لا تمثل عمورية كما يعرفونها " ص29  وهي الرويات التي لم تسلم من نقده هو نفسه لها في دليل واضح على طموح الروائي للأفضل " .. وأنها قرأت روايتي الأولى الرديئة "وجوه في الظل" ويضيف منتقدا إبداعه " لوكنت مبدعا  بمقدار كاف لجعلت منه  شخصية روائية كبيرة " كل هذا يرسم لنا صورة للروائي، المثقف المهموم والحالم، المتمكن من آليات الكتابة الروائية .إبداعا، وتنظيرا، ونقدا الباحث عن رواية حديثة.مختلفة ومقنعة .وهي الرغبة المحمومة التي حولت الكتابة الروائية في رواية "عالم بلا خرائط" إلى وسيلة تمكن من التعويض عن الخسارات التي مني بها  البطل علاء سلوم "موت أبيه ،موت خاله حسام الرعد " بل أكثر من ذلك جعل هذه الخسارة بما تفرزه من غربة، وألم، ومعاناة، وتساؤل مادة خصبة وطيعة لكتاباته الروائية، التي  يستمد شخصياتها من الخيال الممزوج بالواقع باستحضارأسس فنية وإنسانية جوهرها الغرابة، والإختلاف، والتميز، والتمرد ،والتجربة، والموقف، والمعرفة ، والمتعة، وهي سمات توفرت في خاله حسام الرعدعلى سبيل المثال مما جعله يفكر في الكتابة عنه. فالكتابة الروائية مع علاء تحولت إلى فيض يمكن من ملأ الفراغ الذي يخلفه غياب الأحبة" غياب أدهم بالتحاقه بالمنظمات الفدائية الفلسطينية- زواج حبيبته نائلة بعد رحيله مكرها إلى إنجلترا" يقول علاء سلوم كاشفا عن الفراغ والألم الذي يخلفه غياب أخيه أدهم"بعد سفر أدهم شعرت من جديد أن عالمي  يتزعزع وأن أحلامي تنهار" ص 275 . وزاده فراغا انتقال صبا إلى بيتها الجديد، وانشغال نجوى عنه، كل هذا  الفراغ كان سببا في نزقه، وجنونه، وقلقه، وألمه . فيسقط في النهاية مريضا. وأثناء ذلك يبحث عن الحل  الذي لن يتأتى إلا عبر حضور البطلة نجوى العامري التي تتحقق بوجودها المتمرد لذة الحياة ومتعتها. كما لو أنها طاقة خارقة غيرمرئية تبث روح الإلهام في جسد الكتابة لتحيا من جديد.وهذا ما يعترف به علاء صراحة بقوله" وحدها  نجوى العامري استطاعت  أن تلملم شتات عالمي، بل عوالمي واستطاعت أن تصنع منها ما يمكن أن يرى ويلمس ويذاق ويشم "ص31.

لكن هذه العوالم المرتبطة باللذة "الهوس الجنسي"، والألم "المعاناة والمكابدة"، والموت "الرحيل"– التي هي مادة إبداع الكاتب- تتداخل في ما بينها أثناء الكتابة (فعل التخييل) رغم إرادته. مشكلة وعيه، ولاوعيه.متمردة على سلطته، راسمة حياتها،ولغتها وعلاقاتهاالخاصة وهودليل على فهم الكاتب لكيفية تشكل الرواية، والمراحل التي تقطعها قبل تحققها في صورتها النهائية، وهوالأمرالذي نقف عنده من خلال الحوارت المتعددة لبطل الرواية ،مثال حواره مع نجوى، وحواره مع بطل روايته "شجرة النار" رياض البرهان حول البناء الفني للرواية خاصة شخصياتهاالبطلة. مما يمنحنا صورة عن الثراء الإبداعي ، والتنظيري، والنقدي للروائي علاء سلوم الحالم بشكل ومضمون حديث للرواية العربية وهوالقائل كاشفا عن هذا الوعي"رغم إرادتي إنما تتبع هواها الخاص وتتركب في أنماطها الخاصة، لتقيم في النهاية أنساقا من المراوغة ومن والتضبيب والتعميم" وهو فهم  نجده حاضرا عند مجموعة من الروائيين مثال ذلك وصف غابرييل غارسيا ماركيزلهذه الحالة الإبداعية في مؤلفه "عشت لأروي"  قائلا "فقد كنت لا أزال مبتدئا لكي ألاحظ أن الرويات لا تبدأ مثلما يريد أحدنا وإنما مثلما تريد هي " ص144.

 بيد أن التحول الذي أصاب عمورية، وأفسد كل شيء جميل فيها - نتيجة تدفق مال النفط - سوف يمتد ليفسد علاقة الروائي علاء سلوم بالبطلة نجوى العامري وذلك بعد وفاة والدها محسن العامري وانتقال تركته إليها، وهوالميراث الذي سوف يخلق لها عداوة مع عمها فؤاد العامري الذي يعتبر نفسه الوريث الشرعي لأخيه، هذه العداوة التي كانت ربما سببا في مقتلها، وهوالتحول الذي يصفه البطل قائلا" فجأة أصبحت نجوى خبيرة في قوانين الأراضي والملكية والميراث"  مما جعلها مخلوق ثان بالنسبة للسارد فتحولت العلاقة من حب مجنون إلى كراهية قاتلة .خاصة بعد شك البطل في خيانة نجوى له مع أخيه الأكبر صفاء . يقول السارد في الصفحة311 معبرا عن دهشته "حتى نجوى التي امتلأت بها إلى درجة الوله، أصبحت بالنسبة لي مخلوقا جديدا"  فكان لابد من هروبه بعد ظهورالوجه الثاني لنجوى"عمورية" نحو ضفة أخرى بحثاعن ملجإ جديد. وتكون الضفة  هذه المرة طالبته ميادة محمد أمين، التي سوف يأخذها في نهاية الرواية إلى المجنونة بيت الصياد، الذي فقد أثناء رحلة صيد، وجنت بسبب ذلك زوجته، وهو البيت الذي أعجبت نجوى بموقعه قبالة البحر، وكذاقصته، فاشترته لتمارس فيه جنون الحب، والخيانة والتمردعلى المجتمع، غيرمدركة أنها بذلك كانت ترسم فيه معالم نهايتها.

 ويكشف لنا جواب نجوى وهي ترد على سؤال علاء بعد لقائهما الأخير بالمجنونة المفضي إلى مقتلها "هل جاء خلدون؟ جاء وذهب. وهل رأى سيارتي في الخارج مع سيارتك؟ " عن معرفة  خلدون لخيانتها له مع علاء، الشيء الذي يعززمن فرضية قتله لزوجته نجوى انتقاما منها، وما اكتشاف علاء برفقة ميادة لمقتل نجوى العامري إلادليل واضح على براءة علاء من دم نجوى، الشيء الذي تختلط معه الأوراق على القارئ، والمحقق معا أثناء البحث عن القاتل الحقيقي، الذي سوف يبقى مجهولا، وهوالإسسنتاج الذي أكده المرفق الملحق في نهاية الرواية .

 هذا الملحق  البوليسي السري الذي يحدد مصير الروائي علاء سلوم المتجلي في الإقامة الجبرية ببيته " بعين فجار"  حيث يدون المحقق في نهاية الرواية ما يلي" وقد أفرجنا مؤخراعنه بناء على اقتراح الطبيب بكفالة أخيه السيد صفاء نجيب سليم أدهم ،على أن يقيم في داره الكائنة في عين فجار"ص 277.

وهووالتقرير الذي نرصد من خلال ملحقه ، حب الروائي علاء - بطل  هذه الرواية-  لعمورية "العالم العربي"ودفاعه عنها، وموقفه من ما جرى، وما يجرى من أحداث تاريخية. كنكبة فلسطين 1948 والعدوان الثلاثي 1967 وحرب أكتوبر(العاشر من رمضان) من سنة 1973 في علاقتها بعمورية ، وكذا تنبأه بالثورات القادمة التي سوف تجتاحها نتيجة التشوه الذي أصابها ونتيجة التحولات الإجتماعية، والسياسية ، والإقتصادية التي أصابت البلدان المحيطة بها قائلا "لأهل المدينة أن يناموا مطمئنين سنة أواثنتين،غير أن العواصف سوف تصلهم، وهي لن تصلهم هذه المرة كأصداء أو انكسارات، وإنما كحمم وزلازل وبراكين" ص380  لتنتهي فصول الرواية في الأخير بسؤال إشكالي يطرحه البطل علاء على نفسه ويطلب من الجميع أن يتبناه نظرا لأهميته قائلا" وثمة سؤال واضح على كل إنسان أن يطرحه على نفسه ،كما أطرحه على نفسي ، في هذه الأيام الصعبة المخيفة ،والعواصف على الأبواب :"أين مكاني من هذا كله ؟ هل سأجده ؟هل سأكون جديرا بالمستقبل؟" .

هوامش

-         رواية"عالم بلاخرائط" جبرا ابراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف

المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثانية سنة1992

-         "عشت لأروي" غابرييل غارسيا ماركيز

مكتبة نوبل سنة1982 ترجمة صالح علماني

clip_image002_a7d27.jpg

الأستاذ موفق خوري مع حاتم جوعيه

مقدِّمة : الكاتبُ والأديُب المرحوم الأستاذ " موفق خوري " وُلِدَ ونشأ وترعرعَ وعاش حياتهُ في قريةِ "عبلين" الجليلية - قرب شفاعمرو، وأصل عائلتهِ من قرية الدامون التي هُجِّرَ سكانها عام 1948 . تبوَّأ الأستاذ ُ موفق عدَّة وظائف ومناصب هامَّة وأهمَّها كان مديرا لدائرةِ الثقافة العربيَّة - وزارة المعارف - المسؤولة عن طباعةِ كتب الأدباء والشعراء العرب المحليِّين ودَعم الكتاب والأطر والمؤسَّسات الثقافيَّة والفكريَّة،وهنالك العديدُ من الشعراء والكتاب المحليِّين ليس بإمكانِهم طباعة إنتاجهم لأسبابٍ ماديَّةٍ ، خرجت كتاباتُهم للنور ولاقت الإنتشارَ من خلال هذه الدائرة . والأستاذ "موفق خوري" كان حاصلا على عدَّةِ شهاداتٍ أكاديميَّة في مواضيع مختلفة : كالجغرافية واللغة العبريَّة والتاريخ والأدب المقارن ، وكان قبل وفاتهِ يعدُّ لأطروحةِ الدكتوراه في التاريخ من قبل جامعة " سانت بطرسبورغ" ( لينغراد ) .

مدخلٌ :

 لقد أصدرَ السيّد " موفق خوري " العديدَ من الكتب الأدبية والفكريَّة ، ومنها ديوانا شعريًّا بعنوان : " وداعا للصمت " ومجموعات قصصيَّة للأطفال دفعة ً واحدة تقع في ( 12 كتاب صغير ) تحلّيها بعضُ الرسومات الملوَّنة والمُعبِّرة لمواضيع القصص ، طبعت في مصر، والديوان الشعري طُبعَ محليًّا ، وجميع تكاليف الطباعة كانت على نفقتِهِ الشّخصيَّة . وجاءت هذه الإصدارات ( المجموعات القصصيَّة والديوان الشعري ) مفاجأة كبيرة لجميع الشعراء والأدباء المحليِّين، فالجميعُ لم يكن يتوقَّع أنَّ الأستاذ " موفق " يكتبُ الشِّعرَ والأدبَ والقصَّة... بيدَ أنَّهُ كان ينشرُ في السابق بعضَ المقالات : السياسيَّة والإجتماعيَّة والثقافيَّة ، في الصَّحافةِ المحليّة . وأنا بدوري ، كنتُ في البداية أحِسُّ وأشعرُ أنَّهُ أديبٌ وشاعرٌ متمكّنٌ مُحترفٌ وذلك من خلال مقدِّماتِهِ الشِّقة للعديدِ من الكتب والإصدارات للكثيرين من الشعراء والأدباءِ المحليِّين الذين صدَرت كتبُهُم على نفقةِ دائرةِ دائرةِ الثقافة العربيَّة التي كان يرأسها هو... وفي مقدِّماتِهِ لدواوينهم الشِّعريَّة نجدُهُ متذوِّقا جيِّدًا للشعر إلى حدٍّ بعيدٍ ومتفهِّمًا وَمُقيِّمًا لهُ تقييمًا صادقا موضوعيًّا وشاملا ... وأسلوبهُ في الكتابةِ النثريَّةِ وفي مقدِّماتِهِ للدواوين الشعريَّة قريبٌ جدًّا إلى لغةِ الشعر كالخواطر الأدبيَّة ... بل هو شعرٌ منثور .

 وسأبدأ بديوانِهِ الشعري " وداعًا للصَّمت " فمن ناحيةِ الشكل والبناء الخارجي يخضَعُ لنمط الشعر الحديثِ المنثور - المتحرّر من قيود الوزن والقافية ، ولكن يوجدُ في الكثير من قصائد الديوان جرسٌ وموسيقى داخليَّة أخَّاذة تُحِسُّ بها الأذنُ وتأسرُ المشاعرَ والوجدانَ وَتُحَرِّكُ اللواعجَ واللُّبَّ والخيال وتشطحُ وتحلِّقُ بنا إلى أجواءٍ وعوالم رومانسيَّةٍ جميلة . وقصائدُ الديوان تتحدَّثُ وتعالجُ مواضيعَ عديدة ، بعضها وجداني يجسِّدُ مشاعرَ وأحاسيسَ وعالمَ الشَّاعر الخاصّ ، وهنالك قصائد متقوقعة في الذاتيَّة. وبعضُ قصائد الديوان يُعالجُ فيها قضايا وأمورًا عامَّة وشاملة تهمُّ وتعني الإنسانَ بشكل عام أينما وُجدَ . واللغة ُ والرُّؤية الشعريَّة عند أبي رفيق موفق خوري متطوِّرة ومنعكسة إلى مساحاتٍ ومداراتٍ بعيدة. فهو دارسٌ موضوع الأدب المقارن ( العالمي ) والعبري ومطَّلعٌ على إنتاج معظم الشعراء والكتَّاب الأجانب العالميِّين وعلى الشعر العبري والعربي أيضا - قديما وحديثا، واستفادَ كثيرا من مخزونهِ الثقافي الواسع ومن تجارب هؤلاء الشعراء والرُّوَّاد المُبدعين . وعرفَ بدورهِ كيفَ يُطوِّرُ أدواتهُ الفنيَّة والشعريَّة ليلائمَها مع الظروف الحاليَّة ومقتضيات التجديد والحداثة في عصرنا الحالي .

 في قصائدِهِ النثريَّة نجدُ عنصرَ التكثيف في المعاني العميقة السَّامية والمواضيع المُتشعِّبة والواسعة وبالخيال المُجنح والصورةالجديدة وبالتعابير والمفردات المبتكرة التي لم تستعملْ سابقا، وبالجرس الموسيقي الداخلي الذي تستريح لهُ الأذنُ ويهفو ويرنو لهُ القلبُ والعقلُ . وبالرغم من كون قصائد هذا الديوان غير مُقيَّدة بوزنٍ ، ولكن يوجدُ فيها تفاعيل مختلفة متناغمة مُنسجمة مع بعضِها تستسيغُهَا الأذنُ ويتقبَّلها المنطق والعقلُ والذوقُ الشَّاعري الشَّفاف فنحِسُّ فيها وبجمالها وبحرارةِ الكلمة وصدق العاطفةِ ورهافةِ الحِسِّ ودفء النغمة، والأصالة في التجديد والإبتكار وروعة وخصوبة التجربة . فهذا الديوانُ مستواهُ عالي من خلال المعاني الرَّاقية والمستحدثة والأسلوب الشائق واللغة الشعريَّة الصافية التي لا يشوبُهَا أيُّ نوع من الإقتباس أو التقليد . وكلّ كلمةٍ أو جملةٍ شعريَّةٍ لديهِ جاءت في مكانها وموقعها الصَّحيح حسب التوظيف الدلالي ولا يوجدُ لديهِ،إطلاقا،أيُّ لغو شعريٍّ وتكرار واستهلاكٍ في الكلمات والمعاني .

 وسأختارُ نماذجَ من قصائد هذا الديوان . فيقولُ مثلاً في قصيدةٍ بعنوان : ( " إنتظار " - صفحة 18 ) :

( " لِمَن تطلعُ الشَّمسُ كلَّ يوم ؟ // وَلِمَ يسقط ُ المَطرْ ؟

 وَلِمَن تهبُّ الرِّيحُ ؟ // وَلمَ يسطعُ القمَرْ؟

 لِمَن تغرِّدُ البلابلُ ؟ / وَلمَ يتدَفَّقُ ماءُ للنَّهَرْ؟

 ولِمن يتدفَّقُ ماءُ النَّهَرْ ؟//

 لِمَن أرسِلَ الأنبياءُ ؟ // وَلِمَ يستمرُّ الكفرْ ؟ ... //

 كلُّ هذا وذاك مِن صُنعِ ربِّ البَشَرْ //

 فهل صحيحُ أنّ الظلمَ // أيضا مِنَ الإلهِ المُنتظرْ //

 لا أعرفُ جوابًا لهذا وذاكَ // أنا على مفرق ِهذا العُمر أنتظِرْ //) .

 والقصيدة ُ فلسفيَّة نوعا ما ، وتذكِّرُنا بالشِّعر المهجري وبالذات بقصيدةِ الطلاسم لإيليَّا أبو ماضي التي يكثرُ فيها من التساؤل عن جميع الأمور الحياتيَّة وماهيَّة وحقيقة الكون والوجود وكنه طلاسمهِ التي لم تفكّ وتفسَّرْ بعد .

 وأمَّا قصيدة ( " وداعا للصمت "- صفحة 60 ) فنجدُ فيها البُعدَ والنفسَ الوطني، والقصيدة ُ فيها تهكُّمٌ بالوضع العربي المُزري والتخاذل العربي وحيث الأنظمة العربيَّة لم تحرِّك ساكنا بالنسبةِ لمأساةِ الشعبِ الفلسطيني ولم تعمل وتساعدَهُ على حَلِّ قضيَّتِهِ ولم تؤازرهُ وترفع عنهُ حصارَ الجوع والالم ... والعسف والقتل والتنكيل ، فيقولُ في القصيدة :

( " باعونا بالشِّيكل والدُّولارْ //

 نستغيثً نُصَلِّي // نحاربُ // نقاتلْ //

 وحولنا تلتهبُ النار // لا أحدٌ يسألُ عنَّا //

 غدرَنا الزَّمانُ // وبقينا في فقر ٍ وجوع //

 نرنو في الأخبار ونصرُخْ // يا عربَ العارْ ... //

 قولوا للوليدِ ، وللعاص ِ ، ومعاويه :إنهضوا لتنظرُوا وتسمَعُوا //

 أخبارَ الأشرارْ //

 نموتُ كلَّ يومٍ مرَّاتٍ وَمرَّاتْ // وَمَن تبَقَّى في احتظارْ //

 خسئَت مارسيديسَات القدرْ // ولموازينَ الشيوخ والزُّوَّارْ //

 إلى متى هذا الصَّمت الرَّهيب؟ // لقد شُوِينا ببحرِّ القارْ //

 يا أهلَ الكهفِ والقصور ِ // كيفَ تنامُ جفونكُمْ //

 وَمَنْ تُضَاجعونَ في أحلامِكم // " ) ... إلخ .

 والقصيدة ُ بعضُ مقاطعَِا جاءت موزونة ً، كما هو واضحٌ ،على بحر المتدارك .

 ويقولُ الأستاذ ُ موفق في القصيدةِ الأولى من الديوان بعنوان: ( فرحة لقاء ) - والقصيدة ُ وطنيَّة غزليَّة :

 ( " أكتمُ في قلبي أسرارَ الوجودْ

 والوجهُ تُغطِّيهِ بسمة ٌ // لكنَّني حاولتُ الصُّمُودْ //

ويقولُ: ( إغتالوني يا حبيبي عندما كنتُ في سنِّ الوُرودْ //

 لم تشفعِ ليَ النجومُ ولا شمسٌ ولا قمَرْ //

 وضعُوا في الأغلال أطرافي //

 واغتصبُوا على جوانبي الحُدودْ //

 قلتُ : يا أقدسَ زهرةٍ ويا مُنية َ القلب//

 الريحُ تذهبُ وتعودْ

 وأنا وأنتِ سنبقى على مَرِّ العهودْ // أوفياءَ للأمانهْ //

ويقولُ:( وَسَيمحُو المطر// كلّ أوساخ الزلزال// وأنتِ أمُّ وأختُ الأسودْ //

 سنلتقي يومًا // وتكونُ أعيادُ ميلادِكِ // فرحة َ لقاءٍ //

 وعناقا ، وشقاءً مولودْ //

 في ظلِّ أصواتِ البلابل // تحتَ أشجار الصُّنوبر ِ //

 تتراقصُ الأغصانُ // ونُغنِّي سنعُودْ //

ويقولُ :(حبيبتي في كلِّ زمان مكانٍ // تضيىءُ مشاعلَ الأمل ِ المَنشُودْ //

 لأنَّكِ قلبلتي وأنتِ مزاري // لكِ ومنكِ أستلهمُ سرَّ الوجُودْ // ) .

 سأكتفي بهذا القدر من إستعراض القصائد وسأنتقل إلى مجموعاتِهِ القصصيَّةِ للأطفال ففي مجموعاتِهِ هذهِ ( قصص الأطفال) نلمسُ أنَّهُ كتبَها بلغةٍ جميلةٍ سهلةٍ سلسةٍ ومفهومةٍ...يفهمُهَا الصغيرُ ويتذوَّقهَا ويتأثَّرُ بها الكبيرُ أيضا، وأسلوبُ موفق شائقٌ دائما ولغتهُ في أدب الأطفال غير معقدة. ومجموعاتهُ هذهِ التي بين أيدينا ( 18 كتاب صغير " قصص " ) تضمُّ وتحوي كلَّ أسس وعناصر الإبداع وشروط أدب قصص الأطفال من :

1 - العنصر التعليمي والتثقيفي .

2 - المستوى الأدبي والفنِّي .

3 - اللغة الجميلة السَّلسة الشائقة والمفهومة .

4 - الجو الدرامي الجميل والمُمَيز .

5- عنصر المفاجأة ونقل الصُّور والمشاهد للقارىءِ بشكلٍ متناغم .

 وعدا هذا نجد عندَهُ البُعدَ الإنساني والثقافي، فالكتابة ُ للأطفال بحدِّ ذاتِها هي مسؤوليَّة ٌ عظيمة، وليس كلُّ أديب وكاتبٍ يستطيعُ أن يكتبَ للأطفال ، لأنَّ هنالك شروطٌ عديدة لإكتمال وارتقاءِ العمل الأدبي القصصي في هذا المضمار والنجاح في هذه المجال . والأستاذ "موفق خوري " يعرفُ جيدًا من أين تأكلُ الكتف - نظرًا لخبرتِهِ الطويلة وثقافته الواسعة...وقد استطاعَ أن يُحققَ الغاية َ ويتابعَ المشوارَ على أحسن ما يكونُ وعلى أكمل وجهٍ، وأن يُبدعَ ويتألَّقَ فنيًّا حيث نجحَ نجاحًا ملحوظًا وَمُمَيَّزا في مجال قصص أدبِ الأطفال . ونحن محليًّا ( على الصَّعيد المحلِّي) نعاني من نقص كبير في هذا المجال ( أدب للأطفال) ، والقلائلُ من الأدباءِ الذين ولجوا هذا البابَ وهذا الموضوع ، وبعضهُم أخفقَ فيهِ . وبهذا نستطيعُ القول : إنَّ الأستاذ موفق خوري قد أضافَ إلى الأدبِ المحلِّي باقات جديدة يانعة مترعةٍ بأريج وعبير فوَّاح ٍ مُنعش ٍ سيكونُ بلسمًا ودواءً وعزاءً وغذاءً للأجيال الناشئة القادمة - أطفالنا وفلذات أكبادنا وللكبار البالغين ايضا الذين جميعهم بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى هذا النوع النفيس والهامّ من الثقافةِ والأدب .

 وفي مجموعاتهِ القصصيَّة هنالك قصَّة ٌ أريدُ تركيزَ الضوءِ عليها في هذا المقال وهي بعنوان : "الطيَّار" التي سُبكتْ وَحِيكت فصولُها بلغةٍ جميلةٍ سلسةٍ سهلةٍ ومُبَسَّطةٍ ...تتحدَّثُ القصَّة ُ- بلغةٍ مُبسَّطةٍ ليفهمَها الطفلُ أيضا - عن إنسان مكافح هاجَرَ أهلهُ من مدينةٍ " حيفا " بعد نكبةِ ال ( 1948 ) مع الكثير من العائلاتِ المُهجَّرةِ إلى لبنان وحَطَّ بهم الترحال في بيروت . واستطاعَ هذا الإنسانُ ( بطل القصَّة ) أن يُكافحَ ويتحدَّى العراقيلَ منذ صغرهِ وطفولتِهِ بعدَ الهجيج والرَّحيل فتابعَ دراستهُ العلميَّة والأكاديميَّة رغمَ الظروف الصَّعبةِ ليصبحَ في نهايةِ المطافِ طيَّارا عظيمًا . وهذه القصَّة ُ واقعيَّة وتنطبقُ على الكثيرين من أبناءِ شعبنا الفلسطيني الذين دُمِّرَت قراهُم عام 1948 ورحلوا إلى خارج البلاد وعملوا وكافحُوا من أجل لقمةِ العيش واستطاعو أن يُقاوموا الظروفَ القاهرة الصَّعبة َ ويُحقِّقوا النجاحَ الباهرَ اقتصاديًّا وسياسيًّا وعلميًّا واجتماعيًّا (على جميع الأصعدة ). وهذه القصَّة ُ، التي نحنُ في صدِها، عدا انها مُسليَّة ٌ وَمُمتعة ٌ للطفل تحملُ في طيَّاتِها بُعدًا إنسانيًّا واجتماعيًّا ووطنيًّا ..وتُعلِّمُ الطفلَ الصَّغيرَ كيفَ أنَّ الإنسانِ المُكافحَ بإرادتِهِ القويَّةِ وبالمُثارةِ وبالعمل الدَّؤُوبِ يستطيعُ من اللا شيىء أن يصنعَ الكثيرَ ويحقِّقَ ذاتهُ وكيانهُ وماهيَّتهُ ويتغلَّبَ على كلِّ الظروفِ والعراقيل وينالَ النجاحَ على جميع الأصعدةِ ويحصدَ الجوائزَ والأوسمة َويتبوَّأ المراكزَ والوظائفَ العالية..فلا يوجدُ شيىءٌ إسمهُ مستحيل. 

clip_image002_97055.jpg

بقلب واثق وجريء كتبت بيان شراونة روايتها البكر " قلب مرقّع"، التي صدرت مؤخّرا عن دار الجندي للنّر والتّوزيع في القدس مستمدّة أحداثها الواقعيّة من المجتمع الّذي تحياه . ذلك المجتمع الّذي ما زال يهمّش الأُنثى ويستضعفها، رغم القوّة الّتي منحها الله سبحانه وتعالى.

 استلّت الكاتبة الشّابّة بيان شراونة قلمها؛ لتعلن حربا ضدّ من يقف عائقا أمام الأُنثى في المجتمع. ضدّ من اغتصب حقوقها وكرامتها وأُنوثتها، وقالت: لا لقيمكم وعاداتكم البالية. لا لظلمكم. لا لقوّتكم الفيزيائيّة الّتي تستغلّونها للأسوأ في حياتكم.

 تناولت الرّاوية سالي قلبها، وبدأت بترقيعه بعد أن تعاون على تمزيقه أفراد مجتمعها، وخاصّة والدها، وفتاها الّذي أحبّت خالد، ووالدتها، وسائر أفراد المجتمع سواء كانوا ذكورا أم اناثا؛ علّ هذا التّرقيع يعيد للقلب طبيعته.

وقفت الرّاوية أمام قضيّة شائكة طالما أقلقت مجتمعنا الاسلامي والعربي. هل الفتاة الّتي فقدت عذريّتها لسبب ليس لها به ذنب تعتبر فتاة فاقدة لشرفها؟ ما هي المعايير والمقاييس الاجتماعيّة الّتي يبني عليها المجتمع هذا الحكم؟ ناقشت الكاتبة بروايتها هذه القضيّة وعاتبت المجتمع بأسره على حكمه الظّالم تجاه المرأة.

أدخلت الرّاوية القارئ إِلى المؤسّسات الّتي أُعدّت للأطفال الّذين فقدوا مكانهم بين أهلهم وأُسرهم. تبيّن للقارئ أشياء كثيرة كان يجهلها، ويجهل ما يدور هناك في تلك الأروقة، وأيّ قوانين وعادات تمارس عليهم، وما هي علاقتهم بالمجتمع الخارجي، وكيف يمكن معالجة تلك الفئة المظلومة من خلال المربّين والمربّيات وأصحاب (الدّار، أو السّكن)، كما أطلقت عليها في نهاية الرّواية.

تغلّبت العاطفة على أحداث الرّواية من بدايتها حتّى نهايتها، وقد جهدت لاستدرار عطف القارئ من خلال الرّاوية البطلة، سالي حيث أسهبت في التّعبيرعن عاطفتها الحزينة، الغاضبة، المتألّمة، المقهورة من ظلم والدها الّذي رفض الاعتراف بها، وقد ميّز بينها وبين أُختها بشكل واضح ومباشر، ونبذها، وضربها ضربا مبرحا دون سبب جنته. أعتقد بأنّ العاطفة هنا كان مبالغا بها؛ لأنّ مهما وصل رفض الوالد للمولود الزّائد – حسب رأيه- لا يصل به أن ينتقم منه بهذه الطّريقة المرفوضة عرفا وقانونا.

عاطفة حنان الجدّة وحبّها لحفيدتها واحتوائها لها كانت منطقيّة وواقعيّة؛ لأنّ الأجداد يحبّون الأحفاد ويعطفون عليهم أكثر من أولادهم.

عاطفة الشّفقة والحنان معا من قبل الأُمّ لم تتقبّلهما سالي، بل طمحت بعاطفة أكبر، وحنان ومودّة واحتواء، وتفهّم. أرى بأنّ عاطفة الشّفقة من قبل الأُمّ هي وليدة ضغط المجتمع، فقد خلق منها شريكة رافضة لما وقع لابنتها المغتصبة،؛ لأنّ المجتمع نفسه يرفض، ولا تقدر على مواجهته وحدها. نلحظ في الرّواية كيف استغربت الأمّ عندما تقدّم عريس لطلب يد ابنتها، وهي فتاة غير عذراء. هذا ما حصل مع الأخ الكبير رفعت، إِذ أحبّ أُخته سالي دائما وأحضر لها الحلويات وغيرها، لكنّه حين سمع بأنّها قد اغتصبت ابتعد عنها، ولم يفسّر لها سبب بعده.

عاطفة شعور سالي بالظّلم والقهر وعدم المساندة المجتمعيّة لها، خلقت بداخلها فتاة قويّة جعلتها تقف متحدّية أمام هذا الظّلم، بحثت لها عن عمل في مكتبة، وطوّرت نفسها من خلال كتاباتها للأطفال ومشاركتهم الفعاليات. أمّا الانتقام المباشر فكان أوّلا انتقامها من والدها حين أصبح لا حول له ولا قوّة، حينها أدارت له وجهها وأشبعته كلاما كانت قد خزّنته لمدّة سنوات؛ ثمّ انتقامها الآخر من محبوبها الّذي تخلّى عنها، خالد، إِذ رفضته زوجا بعد تعبيره لها عن ندمه بعد فقدان زوجته بحادثة سير.

أشبعت الكاتبة بيان شراونة عاطفتها بالانتقام لبطلة روايتها سالي من الرّجل القبيح الّذي اعتدى عليها، وأفقدها عذريّتها من خلال تعرّضه لحادثة سير وموته على الفور، وذلك بعد ملاحقة خالد له.

clip_image002_b1202.jpg

تتناول بيان شراونة في روايتها (قلب مرقّع) الصادرة عام 2017 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس مواضيع اجتماعيّة مهمّة جدّا بجرأة كبيرة وأسلوب متقن رائع ولغة جميلة رزينة، وتستحدث أسلوبا روائيا يجعل النصّ مشوّقا مثيرا. فالقارئ الذي يبدأ بصفحتها الأولى تشدّه الرواية بكلّ قوّة ويعيش مع أحداثها بجميع مشاعره، حتّى يخرج منها وقد تكوّنت لديه صورة عن شريحة اجتماعيّة يراها أمام ناظريه في شوارعنا أو مؤسساتنا، لكنّه لم يتفاعل معها من قبل، وتهتزّ مشاعره بعنف حتّى يتولّد عنده بعد الإحساس الكبير بالألم، توجّه إيجابي وحنوّ كبير على الأطفال المحرومين من حنان أسرهم، وتتغيّر معاملته حتّى لأفراد أسرته.

 فالقارئ يرى في وجه كلّ طفل مشرّد وفي عينيه الذابلتين شخصيّة سالي، تلك الطفلة التي حرمت من حنان الأب، وعاينت قسوته منذ لحظة ولادتها؛ لتجد نفسها منبوذة من عائلتها وحتّى من أمّها التي لم تضمّها بحنان طوال حياتها، ثمّ تتعرّض لأقسى صنوف المعاناة والقسوة داخل ملاجئ الأطفال وخارجها، لكنّها لا تفقد معاني الحياة بل تبقى متشبّثة بها، تحدّث دفترها الأخضر وتبوح له بمكنونات نفسها بأسلوب أدبي، ولغة تنمو بالتدريج مع تقدّم الطفلة بالعمر، حتّى تتخطّى جميع الصعاب وتخرج من رحم هذه المعاناة فتاة قويّة قادرة على التأثير في مجتمع يتستّر على كثير من عيوبه.

 لا تتردّد الكاتبة بطرح العديد من القضايا الشائكة التي قد يحجم البعض عن الكتابة عنها، فتطرح موضوع فقدان العذريّة وارتباطه بشرف العائلة، خاصة في حالات الاغتصاب عندما تقع الفتاة ضحيّة لنزوات رجل يفتقد معاني الإنسانيّة، وبدل أن تتلقّفها أسرتها بالحبّ والحنان لتزيل عنها آثار العدوان النفسيّة المدمّرة، تصبح وكأنّها هي المذنبة التي جلبت العار للعائلة، وتستمرّ معاناتها مدى الحياة، ولربما تدفع حياتها ثمنا لجريمة هي ضحيّتها.

 والرواية تنقل مشاعر الأنثى التي تساء معاملتها، لا لشيء إلا لأنها أنثى، وتتعرّض للظلم والعدوان وتسحقها أقدام المجتمع دون رحمة، لتصبح ضحيّة مرّة بعد مرّة. لكنّها تعرض نموذجا قويّا لهذه الأنثى، التي تتخطّى جميع الصعاب، وتضمّد جراحها، لتخرج من معاناتها وتبني عالما جديدا، تمحو فيه المعاناة من قلوب الأطفال الذين يفتقدون حنان العائلة، وتقدّم لهم خلاصة تجربتها في قصصها التي تفيض عليهم بالمتعة والفائدة، وتهيّئهم لحياة أفضل من حياتها، ولتنجح رغم الصعاب وتصبحّ شخصيّة فعّالة في المجتمع، وتبني حياتها من جديد على أنقاض الماضي، وتتغلّب على التشاؤم والسلبيّة، وتنجح في بناء حياة جديدة بعيدا عن الاستسلام للظلم والاستبداد.

 رواية (قلب مرقّع) لها طابع خاص يخرج عن المألوف في أدبنا المحليّ، ويخرج من دائرة المعاناة التي يفرضها الاحتلال إلى دائرة أخرى من المعاناة، التي يسبّبها الظلم الاجتماعيّ بمعزل عن مثالب الاحتلال، فهي رواية انسانيّة لا تتعلق بمكان محدّد، لذلك فإنّ الكاتبة تختلق حيّزا مكانيّا خاصّا بروايتها، وتخلق شخصيّات واقعيّة تعيش بيننا، لكنّنا في كثير من الأحيان نتعمد إغفالها ولا ننتبه لمعاناتها.

 هذه الرواية هي انطلاقة قويّة للكاتبة الشابّة بيان شراونة، وإن كانت لغة الرواية تحتاج إلى مزيد من العناية، فهي لم تخلُ من الأخطاء اللغويّة والمطبعيّة والاستعمال الخاطئ لبعض الكلمات، وكذلك الخلل في إدارة الحوار بين الشّخصيات. لكنّها تبقى رواية مشوّقة، تطرح مواضيع مهمّة بأسلوب جّذاب وسرد آسر.

clip_image002_96ee4.jpg

ناقشت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس رواية "قلب مرقع" " باكورة اصدارات الكاتبة الفلسطينية بيان شراونة، وتقع الرواية  التي صمّم غلافها فادي حمدان في 158 صفحة من الحجم الكبير، وصدرت عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس. 

بدأ النّقاش ديمة جمعة السمان فقالت: 

"قلب مرقع" رواية تلقي الضوء على قضية اجتماعية حساسة يتجنبها العديد من الكتّاب.  قلب مرقّع" عنوان موفق لرواية عانى شخوصها من واقع اجتماعي أليم حطم قلوبهم..  فلم ييأسوا.. عادوا ولملموا شظايا قلوبهم المتناثرة.. على أمل أن يعيدوها  مكانها من جديد.. فيفتحوا صفحة جديدة مع الدنيا.. بانتظار أن يروا وجهها الآخر.. ليكتشفوا أن قلوبهم لم تُجبر بعد.. لا زالت مرقعة تشهد على ماضيهم.   

بيان شراونة كاتبة ناشئة نجح قلمها في نقل تفاصيل قضية اجتماعية في غاية الأهمية، غابت عن الكثيرين، تجنب تناولها معظم الكتاب، إما لعدم الإلمام بتفاصيلها، أو لشدّة حساسيتها،  فتفتح عليهم أبوابا ليس من السهل إغلاقها. 

تحدثت الكاتبة  -بجرأة لا تخدش الحياء- عن واقع يعيشه عدد لا بأس به من الإناث في سن المراهقة في ظل مجتمعنا الذكوري غير المنصف للجنس اللطيف. ألقت الضوء  بجرأة ملتزمة على ما يجري خلف بعض أبواب البيوت في زوايا الممنوع، وما يجري داخل بعض الملاجئ،  وتبعات ذلك على سلوكيات هؤلاء الضحايا. 

أما الأسلوب فقد تميز بعنصر التشويق اللافت.  تم بناء  الشخوص على أسس نفسية تربوية اجتماعية سليمة،  تركت الكاتبة الضحايا من المراهقات يتحدثن عن أنفسهن بحرية دون  تدخل، فباتت الأحداث تتسلسل بصورة ناعمة مقنعة زادت من أهمية الطرح. 

لا شك أن مكتبتنا الفلسطينية تفتقر الى هذا النوع من الطرح الاجتماعي والنفسي. 

وقال جميل السلحوت: 

في هذه الرّواية، تطرق الكاتبة الفلسطينيّة الشّابّة بيان شراونة بابا لا يزال مغلقا أمام الرّواية الفلسطينيّة بشكل خاص، والعربيّة بشكل عام، وهو باب الحياة الاجتماعية من خلال الأسر المفكّكة، ووقوع الأطفال ضحايا لذلك. 

فسالي وأمل شقيقتان، والدهما مدمن كحول ومخدّرات، وأمّهما امرأة عاديّة مغلوبة على أمرهما، تتعرّض للشّتائم والضّرب بشكل مستمر من زوجها، ولا خيارات أمامها سوى الرّضوخ والسّكوت في مجتمع لا يستسيغ الطلاق، وحفاظا على أطفالها. الزّوج أبو رفعت يحبّ ابنته أمل، ويكره ابنته سالي لأنّه يعتبرها "زيادة" في الأسرة، إضافة إلى كونها ليست جميلة مثل شقيقتها أمل، لذا فإن سالي تتعرّض إلى الاضطهاد والضّرب بلا سبب، وموقف الأب السّكّير هذا أثار نار الغيرة بين الشّقيقتين. ولم يتوقّف عند هذا الحدّ بل دمّر الأسرة. وشرّد الأطفال بين دور الرّعاية التي ترعاها الشّؤون الاجتماعية، وملاجئ الايواء والأديرة. 

ضياع الأسرة الذي تسبّب به الأب جعل أطفالها عرضة لأطماع المنحرفين، فمثلا سالي تعرّضت للاغتصاب وهي طفلة، وأودعت في دار رعاية وحماية على جريمة لا ذنب لها بها، بل هي ضحيّة لها، ومن ثمّ أودعت في ملجأ تابع لأحد الأديرة. 

الرّواية لم تقتصر على طرح حكاية سالي وأسرتها بل تعدّت ذلك بكثير، فسالي سردت ما تعرّضت له هي وأخريات في دار الرّعاية وملجأ الدّير من اهانات وانتهاكات لحقّها في طفولة آمنة. وسردت حكايات طفلات أخريات من نزلاء هذه الأماكن. منها حكاية تلك الطفلة سلام، وهي طفلة لقيطة، ألقت بها والدتها أمام الدّير منذ ساعة ولادتها الأولى مع رسالة لمن يلتقطها. وسردت معاناة هذه الطفلة وما تتعرّض له من أذى من قبل النّزيلات. ولكلّ طفلة وطفل من روّاد هذه الأماكن حكايته المثيرة والمرعبة. 

والرّواية تعرض لموقف المجتمع السّلبي من الأطفال الضّحايا مثل سالي. فسالي التي تعرّضت للاغتصاب في طفولتها لم تجد من يحميها، أو يدافع عنها، ولم تجد صدرا حنونا سوى صدر جدّتها لأمّها، والتي كانت هي الأخرى أي الجدّة تعاني من الوحدة بعد أن تخلى عنها أبناؤها العاقّون. 

ومجتمعنا الذي لا يرى شرف المرأة وعفّتها إلا من خلال "غشاء البكارة" لم يرحم سالي، فخالد بن الأسرة الفقيرة وجار الجدّة عشق سالي وعشقته، وجاء مع والدته لخطبتها، وعندما اعترفت له بأنّها فقدت عذريّتها بحادثة اغتصاب، تركها، وتزوّج من أخرى، وأنجب طفلة سمّاها سالي أيضا، بينما تزوجت سالي من أمين المكتبة. 

والتقت سالي وهي بصحبة زوجها صدفة بمغتصبها، فانهال خالد عليه ضربا، وعندما حاول النّجاة من بين يدي خالد صدمته سيّارة ومات. 

بينما أصيب والد سالي بجلطة دماغيّة شلّته وأخرسته، وبقي ينتظر حتفه حتى مات ذليلا. 

وتزوّجت أمل شقيقة سالي من رجل ثريّ. 

في حين عادت والدة "سلام" الثّريّة زميلة سالي في الملجأ و"تبنّت" ابنتها، ولاحقا أخبرتها أنّها أمّها ووفرّت لها حياة كريمة. 

وسالي تحسّنت ظروفها عندما عملت في مكتبة، والتقت خالد صدفة وتزوّجا. 

مجتمع مريض: أبو رفعت مدمن كحول ومخدّرات، دمّر أسرته ولم يجد من يردعه، الجدّة أبناؤها عاقّون تركوها وحدها حتّى وفاتها، سالي طفلة تعاني وتتعرّض للاغتصاب ولا تجد من يحميها، مغتصب مجرم بقي طليقا ولم يجد من يعاقبه سوى ضحيّته من خلال زوجها، أطفال دور الحماية والملاجئ يتعرّضون لمعاناة كبيرة ولا يجدون من يحميهم. مجتمع لا يفهم الشّرف إلا من خلال ما بين فخذي المرأة، والضّحيّة دائما هي الأنثى. وغير ذلك. 

بين العذريّة والشّرف: ركّزت الرّواية على قضيّة العذريّة والشّرف، وجاء على لسان سالي أكثر من مرّة على ضرورة التّفريق بين مفهوم الشّرف، ومفهوم عذريّة الفتاة. 

شخصيّات الرّواية: 

سالي: وهي الشّخصيّة الرّئيسيّة، طفلة رافقتها التّعاسة منذ ولادتها، تعرّضت للاهانة والضّرب والاذلال من والدها المنحرف مدمن الكحول والمخدّرات، تعرّضت للاغتصاب وهي طفلة، وضعت في دار رعاية تتبع الشّؤون الاجتماعية، وبعدها في ملجأ تابع لدير، وفيهما تعرّضت لمعاملة سيّئة وقاسية، كانت موهوبة وقويّة، حاولت التّغلب على كلّ مصاعبها. ونجحت إلى حدّ كبير. 

أمّ سالي: امرأة تقليديّة بسيطة، تزوّجت من رجل سكّير منحرف، كانت تتعرّض للضّرب والاهانة بسبب وبدونه، وبذلت جهودها للحفاظ على أطفالها، لم تتخلّ عن زوجها عندما أصيب بجلطة دماغيّة شلّته وأخرسته، وبقيت ترعاه حتّى وفاته. 

البناء الرّوائي: تركت الكاتبة شخصيّاتها تتحرّك بعفويّة تامّة رغم مرارة المراحل التي مرّت بها، وتطوّرّت الأحداث وتتابعت، دون تدخلّ الكاتبة، ممّا أعطى السّرد مصداقيّة عند المتلقي. 

عنصر التّشويق: تتوالى الأحداث بطريقة انسيابيّة مشوّقة رغم مرارة المضمون، ممّا يشدّ القارئ لمتابعتها حتّى النّهاية. 

وماذا بعد؟ 

هذه الرّواية تشي لنا بأنّنا أمام روائيّة شابّة سيكون لها شأن في عالم الأدب إذا ما واصلت تثقيف نفسها، وتطوير لغتها. 

ويسجّل لها أنّها طرقت بابا يكاد يكون بكرا في الأدب الفلسطيني خاصّة، وإن سبقها إليه بعض الرّوائيّين العرب أمثال الكاتب المغربيّ الرّاحل محمد شكري. 

وقالت هدى عثمان أبو غوش: 

رواية اجتماعية مؤثرة تحمل في طياتها الكثير من الرسائل  الإجتماعية المؤلمة، وتسلِّط الضوء على موضوع سلب الطفولة الذي يعتبر شريان الرواية . 

اختارت  الكاتبة إسم سالي لتكون بطلة روايتها، ولعل اختيارها لهذا الإسم ليس بمحض الصدفة، فشخصية سالي معروفة من خلال المسلسل الكرتوني الشّهير، تلك الطفلة التي تعيش في الملجأ وتعاني من الظلم هناك . 

أمّا بطلتنا الشّرقية، الطفلة سالي، فإنها تعاني من ظُلم الأهل والمجتمع والأفكار الظالمة، فالأب لا يطيق ابنته سالي ويعاملها بقسوة؛ لأنه لم يكن يرحب بولادتها منذ البداية. أمّا الأُمّ فكانت مغلوبة على أمرها وعجزها في مساعدة ابنتها رغم حبِّها لها، فساهمت في معاناتها حين بعثتها إلى الملجأ وهناك تعرضت للإهانات، أمّا الجدّة فكانت رؤوفة تُحبها وتعطف عليها، بل وتثق بها، ورغم ذلك فإنها عاجزة عن رعايتها وحمايتها بسبب شيخوختها وضعفها. بالإضافة الى مديرة المدرسة التي كان لها الدور الفعَّال في ترسيخ فِكرة الخيال عند سالي لمواجهة الصِعاب . 

قرعت الكاتبة أبوابا إجتماعية عديدة ما زالت جريحة في مجتمعنا الشّرقي كموضوع إنجاب البنت، العنف الجسدي والكلامي، التّفكك الأُسري وأثره على الأُسرة، وألقت الضوء على الأب المدمن للكحول في شخصية أبى رفعت ومدى التّأثير السّلبي على العائلة.  كشفت عن ستائر الخوف والشّعور بالأمان المفقود داخل مجتمع الطفل خاصة، وأشارت إلى موضوع الاغتصاب ومفهوم العُذرية وعلاقته بالشرف في المجتمع الشّرقي، وقد أبدعت الكاتبة في تصويرها لهذا المفهوم من خلال الطفلة سالي التي أطلقت على هتك العذرية بالمرض "مرض العذرية"، كما وتطرقت إلى موضوع إهمال الأبناء والتفرقة بينهم، وقضية العيش الظالم في الملاجئ، وما يتعرض إليه الأبناء من ضرب وإهانات وعدم مسؤولية من قبل الإدارة، وطرقت أبواب زواج القاصرات المتمثل بأُمّ رفعت، وأثارت قضية الإبن العاق من خلال قصة الجدّة، والرِّسالة المؤثرة جدا  التي أرسلتها لسالي . 

جاء اُسلوب الكاتبة شيقا شفافا مفعما بالأحاسيس والمشاعر الرقيقة، التي صوّرت مشاعر معاناة الطفلة سالي بلغة قريبة للقلوب، وبسرد قصصي يداعب عواطفنا وخيالنا، حيث أخذتنا الكاتبة لعالم الطفولة، وسحبتنا لنعيش حالات قهرهم، وسارت بنا في مراحل متقدّمة؛ لتقدم لنا البُعد النفسي الذي يتركه الحرمان العاطفي من قبل الأهل على الطفل. 

استخدمت الكاتبة الحوار الداخلي مع النفس، وأكثرت من التساؤلات وتكرار جملة" لماذا لا يحبّني أبي "؟ لإثارة حجم المعاناة النفسية التي أثرت على سالي بسبب عدم تقبل الأب لوجودها، لدرجة أنها تمنت لو أنّ أُمّها تقتله، وقد رأينا من خلال أحداث الرواية قمّة غضب سالي حين مرض أبوها، فأشبعته من غضبها انتقاما وثأرا لسلبه طفولتها . 

ساهمت الكاتبة في زيادة الوعي عند المتلقي في أهمية التفريغ  النفسي والتعبير عن الذات من خلال الكتابة والخيال، فسالي تكتب بدفترها الأخضر عن حالتها وظروفها الإجتماعية والنفسية، وكذلك تعلمت أن تستخدم قوة الخيال لمواجهة الصعاب عن طريق نفخ البالون والتّخيل والإسترخاء. 

أعجبتني شخصية سالي حيث أتقنت الكاتبة بناءها، فرغم سلب طفولتها وحرمانها من الحنان إلا أنها كانت صاحبة شخصية قوية، تناقش وتدافع عن نفسها. 

أشارت الكاتبة إلى نقطة مهمة أعجتني  تكمن في أن بإستطاعة الطفل تلقي المعلومة غير المفهومة لديه من خلال كبسة على الحاسوب، وهو بغير حاجة لشرح من أهله وهنا إشارة إلى عدم الإستخفاف بعقل الطفل . 

لم يعجبني شرح الكاتبة للقارئ على لسان سالي في تفسير موضوع ماعلى شكل نقاط، كذكرها على سبيل المثال "أسباب التفكك أولا" 

استخدمت الكاتبة إسم "فلورا " متأثرة من المسلسل الكرتوني "فلورا " وحبذا برأيي لو كان الإسم عربيا. 

حبّذا لو اختصرت الكاتبة من الخوض بتوسع في ذكر ما ورد في الكتب وفي سردها لكتابة لحكاية الشاطر حسن. 

بقي أن أقول رواية جميلة استمتعت بقراءتها بشكل مؤثر، وتذكرت وأنا أقرأها قول الشاعر الراحل توفيق زيّاد عن أهمية الطفولة حين قال "وأُعطي نصف عمري للذي يجعل طفلا باكيا يضحك" .

وتحدثت نزهة أبو غوش فقالت: 

طغيان العاطفة في رواية "قلب مرقع" 

     بقلب واثق وجريء كتبت بيان شراونة روايتها البكر هذه مستمدّة أحداثها الواقعيّة من المجتمع الّذي تحياه . ذلك المجتمع الّذي ما زال يهمّش الأُنثى ويستضعفها، رغم القوّة الّتي منحها  الله سبحانه وتعالى. 

  استلّت الكاتبة الشّابّة بيان شراونة قلمها؛ لتعلن حربا ضدّ من يقف عائقا أمام الأُنثى في المجتمع. ضدّ من اغتصب حقوقها وكرامتها وأُنوثتها، وقالت:  لا لقيمكم وعاداتكم البالية. لا لظلمكم. لا لقوّتكم الفيزيائيّة الّتي تستغلّونها للأسوأ في حياتكم. 

   تناولت الرّاوية سالي قلبها، وبدأت بترقيعه بعد أن تعاون على تمزيقه أفراد مجتمعها، وخاصّة والدها، وفتاها الّذي أحبّت خالد، ووالدتها، وسائر أفراد المجتمع سواء كانوا ذكورا أم اناثا؛ علّ هذا التّرقيع يعيد للقلب طبيعته. 

وقفت الرّاوية أمام قضيّة شائكة طالما أقلقت مجتمعنا الاسلامي والعربي. هل الفتاة الّتي فقدت عذريّتها لسبب ليس لها به ذنب تعتبر فتاة فاقدة لشرفها؟ ما هي المعايير والمقاييس الاجتماعيّة الّتي يبني عليها المجتمع هذا الحكم؟ ناقشت الكاتبة بروايتها هذه القضيّة وعاتبت المجتمع بأسره على حكمه الظّالم تجاه المرأة. 

أدخلت الرّاوية القارئ إِلى المؤسّسات الّتي أُعدّت للأطفال الّذين فقدوا مكانهم بين أهلهم وأُسرهم. تبيّن للقارئ أشياء كثيرة كان يجهلها، ويجهل ما يدور هناك في تلك الأروقة، وأيّ قوانين وعادات تمارس عليهم، وما هي علاقتهم بالمجتمع الخارجي، وكيف يمكن معالجة تلك الفئة المظلومة من خلال المربّين والمربّيات وأصحاب (الدّار، أو السّكن)، كما أطلقت عليها في نهاية الرّواية. 

تغلّبت العاطفة على أحداث الرّواية من بدايتها حتّى نهايتها، وقد جهدت لاستدرار عطف القارئ من خلال الرّاوية البطلة، سالي حيث أسهبت في التّعبيرعن عاطفتها  الحزينة، الغاضبة، المتألّمة، المقهورة من ظلم والدها الّذي رفض الاعتراف بها، وقد ميّز بينها وبين أُختها بشكل واضح ومباشر، ونبذها، وضربها ضربا مبرحا دون سبب جنته. أعتقد بأنّ العاطفة هنا كان مبالغا بها؛ لأنّ مهما وصل رفض الوالد للمولود الزّائد – حسب رأيه- لا يصل به أن ينتقم منه بهذه الطّريقة المرفوضة عرفا وقانونا. 

عاطفة حنان الجدّة وحبّها لحفيدتها واحتوائها لها كانت منطقيّة وواقعيّة؛ لأنّ الأجداد يحبّون الأحفاد ويعطفون عليهم أكثر من أولادهم. 

عاطفة الشّفقة والحنان معا من قبل الأُمّ لم تتقبّلهما سالي، بل طمحت بعاطفة أكبر، وحنان ومودّة واحتواء، وتفهّم. أرى بأنّ عاطفة الشّفقة من قبل الأُمّ هي وليدة ضغط المجتمع، فقد خلق منها شريكة رافضة لما وقع لابنتها  المغتصبة،؛ لأنّ المجتمع نفسه يرفض، ولا تقدر على مواجهته وحدها. نلحظ في الرّواية كيف استغربت الأمّ عندما تقدّم عريس لطلب يد ابنتها، وهي فتاة غير عذراء. هذا ما حصل مع الأخ الكبير رفعت، إِذ أحبّ أُخته سالي دائما وأحضر لها الحلويات وغيرها، لكنّه حين سمع بأنّها قد اغتصبت ابتعد عنها، ولم يفسّر لها سبب بعده. 

عاطفة شعور سالي بالظّلم والقهر وعدم المساندة المجتمعيّة لها، خلقت بداخلها فتاة قويّة جعلتها تقف متحدّية أمام هذا الظّلم، بحثت لها عن عمل في مكتبة، وطوّرت نفسها من خلال كتاباتها للأطفال ومشاركتهم الفعاليات. أمّا الانتقام المباشر فكان  أوّلا انتقامها من والدها حين أصبح لا حول له ولا قوّة، حينها أدارت له وجهها وأشبعته كلاما كانت قد خزّنته لمدّة سنوات؛ ثمّ انتقامها الآخر من محبوبها الّذي تخلّى عنها، خالد، إِذ رفضته زوجا بعد تعبيره لها عن ندمه بعد فقدان زوجته بحادثة سير. 

أشبعت الكاتبة بيان شراونة عاطفتها بالانتقام لبطلة روايتها سالي من الرّجل القبيح الّذي اعتدى عليها، وأفقدها عذريّتها من خلال تعرّضه لحادثة سير  وموته على الفور، وذلك بعد ملاحقة خالد له.

وقال عبدالله دعيس: 

تتناول بيان شراونة في روايتها (قلب مرقّع) مواضيع اجتماعيّة مهمّة جدّا بجرأة كبيرة وأسلوب متقن رائع ولغة جميلة رزينة، وتستحدث أسلوبا روائيا يجعل النصّ مشوّقا مثيرا. فالقارئ الذي يبدأ  بصفحتها الأولى تشدّه الرواية بكلّ قوّة ويعيش مع أحداثها بجميع مشاعره، حتّى يخرج منها وقد تكوّنت لديه صورة عن شريحة اجتماعيّة يراها أمام ناظريه في شوارعنا أو مؤسساتنا، لكنّه لم يتفاعل معها من قبل، وتهتزّ مشاعره بعنف حتّى يتولّد عنده بعد الإحساس الكبير بالألم، توجّه إيجابي وحنوّ كبير على الأطفال المحرومين من حنان أسرهم، وتتغيّر معاملته حتّى لأفراد أسرته. 

    فالقارئ يرى في وجه كلّ طفل مشرّد وفي عينيه الذابلتين شخصيّة سالي، تلك الطفلة التي حرمت من حنان الأب، وعاينت قسوته منذ لحظة ولادتها؛ لتجد نفسها منبوذة من عائلتها وحتّى من أمّها التي لم تضمّها بحنان طوال حياتها، ثمّ تتعرّض لأقسى صنوف المعاناة والقسوة داخل ملاجئ الأطفال وخارجها، لكنّها لا تفقد معاني الحياة بل تبقى متشبّثة بها، تحدّث دفترها الأخضر وتبوح له بمكنونات نفسها بأسلوب أدبي، ولغة تنمو بالتدريج مع تقدّم الطفلة بالعمر، حتّى تتخطّى جميع الصعاب وتخرج من رحم هذه المعاناة فتاة قويّة قادرة على التأثير في مجتمع يتستّر على كثير من عيوبه. 

    لا تتردّد الكاتبة بطرح العديد من القضايا الشائكة التي قد يحجم البعض عن الكتابة عنها، فتطرح موضوع فقدان العذريّة وارتباطه بشرف العائلة، خاصة في حالات الاغتصاب عندما تقع الفتاة ضحيّة لنزوات رجل يفتقد معاني الإنسانيّة، وبدل أن تتلقّفها أسرتها بالحبّ والحنان لتزيل عنها آثار العدوان النفسيّة المدمّرة، تصبح وكأنّها هي المذنبة التي جلبت العار للعائلة، وتستمرّ معاناتها مدى الحياة، ولربما تدفع حياتها ثمنا لجريمة هي ضحيّتها. 

    والرواية تنقل مشاعر الأنثى التي تساء معاملتها، لا لشيء إلا لأنها أنثى، وتتعرّض للظلم والعدوان وتسحقها أقدام المجتمع دون رحمة، لتصبح ضحيّة مرّة بعد مرّة. لكنّها تعرض نموذجا قويّا لهذه الأنثى، التي تتخطّى جميع الصعاب، وتضمّد جراحها، لتخرج من معاناتها وتبني عالما جديدا، تمحو فيه المعاناة من قلوب الأطفال الذين يفتقدون حنان العائلة، وتقدّم لهم خلاصة تجربتها في قصصها التي تفيض عليهم بالمتعة والفائدة، وتهيّئهم لحياة أفضل من حياتها، ولتنجح رغم الصعاب وتصبحّ شخصيّة فعّالة في المجتمع، وتبني حياتها من جديد على أنقاض الماضي، وتتغلّب على التشاؤم والسلبيّة، وتنجح في بناء حياة جديدة بعيدا عن الاستسلام للظلم والاستبداد. 

    رواية (قلب مرقّع) لها طابع خاص يخرج عن المألوف في أدبنا المحليّ، ويخرج من دائرة المعاناة التي يفرضها الاحتلال إلى دائرة أخرى من المعاناة، التي يسبّبها الظلم الاجتماعيّ بمعزل عن مثالب الاحتلال، فهي رواية انسانيّة لا تتعلق بمكان محدّد، لذلك فإنّ الكاتبة تختلق حيّزا مكانيّا خاصّا بروايتها، وتخلق شخصيّات واقعيّة تعيش بيننا، لكنّنا في كثير من الأحيان نتعمد إغفالها ولا ننتبه لمعاناتها. 

    هذه الرواية هي انطلاقة قويّة للكاتبة الشابّة بيان شراونة، وإن كانت لغة الرواية تحتاج إلى مزيد من العناية، فهي لم تخلُ من الأخطاء اللغويّة والمطبعيّة والاستعمال الخاطئ لبعض الكلمات، وكذلك الخلل في إدارة الحوار بين الشّخصيات. لكنّها تبقى رواية مشوّقة، تطرح مواضيع مهمّة بأسلوب جّذاب وسرد آسر. 

   

وكتبت رفيقة عثمان: 

صورة الغلاف لفتاة تلبس ثوبا أحمر قانيا، تظهر صورتها من الخلف، متّجهة نحو منظر طبيعي خلّاب. يبدو عنوان الرواية جذّابا، فيه وقع صوت قوي خاصّة حرف القاف المضخّمة تكرّرت مرتين على المسامع. 

رواية جديدة لموضوع وفحوى لم يتكرّر كثيرا بالقصص والروايات، تطرّقت لسرد قصّة لأسرة مُفكّكة، تعيش بطلتها بواقع أليم منذ طفولتها، عاشت في أسرة لأب سكَّير مدمن، وأمّ ضعيفة، الأسرة تعاني من العنف الجسدي والنفسي، دون أن تجد المعونة والحلول الصائبة للتخفيف من حدّتها؛ في مجتمع قاس، يجلد الضحيّة ويُبرّئ الجاني. علاج هذه المواقف مُغيّب في المجتمع العربي خاصّةً 

  هكذا تجرّأت كاتبتنا على دق ناقوس العيب والحرام، وخاضت في تفاصيل وصف دقيق لحيثيّات الأحداث، الأليمة غالبا، وجعلت الكاتبة من دفتر اليوميّات خطَّا قصصيّا رافق بطلة الرواية منذ البداية حتى نهايتها. تطرّقت الكاتبة لقضيّة الاعتداء الجنسي على بطلة الرّواية سالي، وتأثيرها السلبي في المجتمع والنظرة السلبيّة للضحيَّة والحكم عليها بوصمة عار، في المجتمع. 

إنّ تناول هكذا موضوع يتطلَّب معرفة تامَة حول الموضوع، وتأثيراته، هذا الأمر يُحسب لصالح الكاتبة؛ خاصّة عند نجاحها في وصف المشاعر الحزينة، والسلوكيّات التي ترافقها، حيث نجحت الكاتبة بالولوج لداخل النفس البشريّة، كما صاحبت بطلة الرّواية سالي. 

  يبدو لي بأنّ الرواية مناسبة للفتيات اليافعات، واليافعين، أكثر ممّا هي مخصّصة للكبار؛ لا شك بأنّ الرواية تعتبر مرشدا، ومنبّها للآباء والأمّهات في المجتمع، نحو قضيّة يتم الكتمان عنها وتجاهلها؛ نظرا لحساسيّة الموضوع، ونظرة المجتمع السلبيّة نحوه. 

لا شك بأنّ لغة الكاتبة توصف بالسهولة والسّلاسة، ورصانة المعاني ووقع اللغة، إلَا أنه ورد أخطاء لغويّة ونحويّة عديدة، كان بالإمكان تلاشيها، لو تم تنقيحها من قبل مختص. 

حاكت اللغة مستوى الأطفال والفتيان، لدرجة لا يصعب عليهم استيعابها؛ تخاطب مشاعرهم، وعقولهم، بالإمكان التّماهي مع البطلة وأحداثها، اقترح ان تكون بمكاتب المدارس، وتكون مفتاحا للتساؤلات، والمناقشة، نحو تربية جنسيّة، وتوعية الفتيان والفتيات حول المشاكل التي يتعرّضون لها، وكيفيّة التعامل معها، والتوصّل للحلول التربويّة والأخلاقيّة المناسبة. 

طغت على الرّواية العاطفة الحزينة الجيَّّاشة، والتي تمثَّلت في بطلة الرّواية، وأسرتها، وإقامة البطلة سالي في تنقّلها بين ثلاثة ملاجئ؛ حيث كان دفتر اليوميّات، ملاذا لأحزانها وأشجانها. 

كانا دفتر اليوميّات بمثابة علاج نفسي وتربوي، لانزعاج واضطراب البطلة، وبإمكان الأبناء تقليد هذه الفكرة، لما فيها من تفريغ عاطفي أليم. 

للأسف تكاد تخلو المدارس من مرشد أم مرشدة تربويَّّة؛ لاحتواء الفتيان والفتيات، عند مواقفهم في ضائقة. 

بنظري كإنسانة تربويّة، يتوجّب علينا كمربّين، ومسؤولين، التنبّه لهذا النقص، وتخصيص ساعات إرشاد تربوي نحو تربية جنسيّة سليمة، من جيل مبكّر؛ وفق المراحل العمريّة، أسلوب تربوي واعٍ، بواسطة أخصّائيين محترفين بالموضوع نفسه. نحن بحاجة لورشات عمل، والتعلُّم من الوقائع الحقيقيّة مع كيفيّة مواجهة هذه الظاهرة؛ كذلك هنالك ضرورة لتوعية الأهالي، وخاصّة الأسر الفقيرة والمنبوذة، المُعرّضة للانتهاز، والاعتداءات الجنسيّة، التي تحظى بالكتمان، والخوف على شرف العائلة. 

اختارت الكاتبة نهاية رائعة لروايتها، حيت جعلت البطلة تنتقم لكرامتها، وقوّة شخصيتها بعد تخلي حبيبها عنها بعد معرفته بوصمة العار التي رافقتها. تزوّجت من شخص آخر احترم ماضيها. 

ومن جنين كتب قاسم محمد ملحم عن الغلاف: 

بداية حين ننظر للعنوان ومدى تأثيره على مسامع الروح فانه سيحذب العقل و القلب للقارئ، فنجد الشطر الأول منه "القلب" موطن الحب والكره، موطن السكينة والطمأنينة، موطن التقلبات والأضداد، منه يفوح مسك الخير ورياحين الطيبة، ومنه يُنفخ الخير بأدخنة الشر، كما نجد أن الشطر الثاني يزيد في النفس الفضول والشغف ليسبح في فضاء المعنى والمضمون بين سطور الرواية، والبحث عن السكينة والأمل والتقاط الأنفاس، ويضبط لهفته عند مفترق الانتقال من صفحة الى صفحة أخرى. 

فالعنوان لو كتب مجردا من الألوان على صفحة بيضاء وأطلق كسهم على مرمى عيون القارئ، فإنه سيلقي عليه من الذاكرة حملا ثقيلا؛ لتبتل روحه من غيوم التساؤلات، وتستظل نفسه بسيل من الإجابات المتلاحقة والجارفة، لتجده ساعة يتنقل كاليراع بين الورود وبساتين تزهو وتبتهج بالفرح والأمل، وساعة تجده يتوقف كشجرة أصابها ما أصابها؛ لتبدو تبحث عن حطاب يريحها من طول انتظار ووقفة كأنها أعواد المشانق. 

وما كان الغلاف بطيف ألوانه إلا نسيجا من المعاني التي تملكها كلمات العنوان، فكان اللون الأحمر الذي يتميز عن باقي الألوان بأن له أطول موجة لون، كما يتميّز بالوضوح ولفت الانتباه، وإثارة الحواس، لذلك هو أحد ألوان إشارات المرور الذي يرمز إلى الخطر والتوقف، كما يرمز اللون الأحمر إلى الجسد ومعتقداته، كما يرمز بشكل إيجابي إلى الشجاعة والرجولة، وهو بحد ذاته منبع للطاقة والحيوية، لذا كان للون الأحمر نصيب زاد فاعلية من رمزية اللون وتأثيره، كما أنه يظهر ملامح الجاذبية حين جسد بتصميمه ما يشبه فستان الزفاف للعروس. 

فما سر هذا الفستان الذي تخضب بالأحمر، أهو بسبب نزف عميق أصاب صاحبته، وذلك مما نالته من أيدي وألسن غيلان البشر حتى أنهم ظنوا أنهم قد وأدوها، فباتت دفينة أمزجتهم وأهوائهم، حتى أن الأرض ضجرت من قبح أفعالهم وبثها، فأصبحت تحت قدميها كصحراء أو أنها حديقة أصابها شيء كالطوفان، أو نها أصيبت بالجفاف فتشققت لتكون مرآة لهذا القلب التي يتوجع على ظهرها، تلك الأرض التي أرى أنها قد فقدت كل خضرتها وزهو جمالها بأزهارها، فغاب التملق و النفاق والظلم ليأتي الصدق والطيبة والعدل، صورة تمتلئ بالمعاني وكأنها تقول أن مظاهر الفساد رحلت حين أصابها الطوفان والجفاف، وأن في ذلك عبرة لمن أغرقهم الطوفان ليس بظلمهم، بل بسكوتهم عن الحق ومؤزارتهم للظالم، فكان نصيبهم ما ينطبق كما تقول الحكمة "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" فتغيب جميعها من المشهد وتبقى الشجرة المرأة بيقينها وإيمانها وصبرها لتبدأ الحياة بكل الامل. 

إلا أنه القلب الذي يملأه اليقين والثقة بالله لا زال ينبض بإيمانه وإنسانيته وبدعائه وباتكاله على الله، لتجده يتكئ على بقية الروح الطيبة والنية الطاهرة، فتنمو وتعلوه البهجة كأنه شجرة كبيرة ترتوي من قلب يمتلك العزيمة، ليضخ في عروقها الأمل فتورق أوراقا نقية الخضرة، متآلفة بتناسقها بينها ومتماسكة مع أغصان تحملها، لتتساقط الأوراق الصفراء تصديقا لعملية التغيير الحقيقي، تلك الشجرة التي سمحت لنفسي أن أسميها بالأنثى الشجرة. 

فنجد الأنثى الشجرة قد تملكتها طبائع القلوب، تلبس فستانها كعروس تثير القلب بالحب لمن يستحق وترد كيد الظالمين، إنها المرأة خلقها الله لتمنح الكون السكينة والأمل، وترتق بالصبر كل الجروح وتمسح كل الندوب والخدوش؛ ليكون الخير غالبا في نفوس البشر والله غالب لأمره. 

وهكذا نجد القلب المُرقع للأنثى الشَجرة لوحة وعنوانا لرواية اتوقع أنها تحمل رسالة بأن جميع القلوب تحب وتكره، لكن القلوب نقية والنفوس طاهرة لا تستلم لنفسها الأمارة بالسوء، ولا تستمع لنفسها اللوامة، فالصبر والتحمل، والصدق بالاتكال على الله يجعلها قوية شجاعة قادرة على البداية من جديد. 

وتحدّثت نزهة الرملاوي فقالت: 

طفولة ما غاب عنها لؤم الحياة وما بها من ظلم وقهر، طفولة تعي ما يدور حولها من اهتمام أو تهميش، مما أثر عليها وخلق حولها واقعا مؤلما..وقلبا نازفا.. هيهات أن ينجو القلب النازف من الموت، موت الضمير حين اعتدى الرجل على الطفلة واغتصبها، وموت الأب السكير في عيون أبنائه وزوجته.. وموت الحياة الكريمة في بيت يحلم بالدفء والأمان ..والسؤال الذي يطرح، كيف لذلك القلب النازف أن يرقع؟ وهل الزمن كفيل بأن يدمل جراحه بعد نزفه المتواصل من ذبح المجتمع؟ 

نجد أن الكاتبة جمعت أحداثا كثيرة متشابكة ومؤلمة في روايتها، وسلطت الضوء عليها بكل قوة، وقد خيل للقارئ أن المجتمع الذي نعيشه كائن يحيا تحت مظلة الانحلال والضعف، لا حياة ولا أمان فيه، لا عطف ولا محبة إلا ما ندر، فلماذا اختارت الكاتبة هذه المشاهد القاتمة لتصويرها؟ 

وهل فعلا مجتمعاتنا يغطيها هذا السواد القاتم فلا نرى في  أفقه نورا من المحبة أو سموا في الأخلاق، ووهجا في العواطف الصادقة؟ 

هل هذه الحقائق الدائرة من حولنا تسيطر على شريحة مجتمعية واسعة ونحن غافلون عن تلك الشرائح؟ إن سمعنا عنها، نصم آذاننا ...وإن شاهدناها لا نحاول إصلاحها. 

تعتبر الرواية من الروايات الاجتماعية المؤثرة، عاشت أحداثها طفلة كبرت وكبرت معاناتها، تحمل في جعبتها الكثير من الأحداث المؤلمة، وتبحر في سيكلوجيا الأطفال وما يعانون من ألم نفسي وجسدي نتيجة العنف الأسري، والتفريق بين الأشقاء، وانتهاك الأعراض، وزواج القاصرات، فقد سلطت الكاتبة الضوء على المرأة المهمشة، والمرأة الضعيفة التي تعاني من ظلف العيش، المحرومة من الحياة الكريمة، تتحمل الأذى ولا تواجه، تحملها لمسؤوليات تفوق قدرتها..بحيث أصبحت الأم والأب في آن واحد، أضف إلى ذلك أن الكاتبة تعرضت لقضية مجتمعية هامة، وهي عقوق الوالدين وابتعاد الأبناء عن ذويهم. 

وبينت معاناة الحبيبة حين تخلى الحبيب عنها وهي في حاجته لذنب لم تقترفه، الملاجئ وما بها من انتهاكات وعنصرية وقصص محزنة. 

أعتقد أن الكاتبة الشابة، تأثرت مثلنا إلى حد ما بقصص الافلام الكرتونية الشهيرة، مثل صاحب الظل الطويل وبطلته جودي أبوت، التي عاشت ظروفا قاسية معروفة في المدرسة الداخلية، وسالي الطفلة التي فقدت والدها الثري، وفقدت المكانة الرفيعة بين أترابها. 

    رسمت الكاتبة معاناة سالي بطريقة لافتة، فقد ظلمها الأهل والمجتمع والحبيب، وترسخت في وجدانها أفعالهم، وشاهدت نواتج مجتمع مهترئ ظالم، أدّى إلى غلبة عاطفة الحزن في معظم الرواية. 

    لقد توقعت نهاية أكثر حماسة للأمل، وانتشار الفرح في الكلمات، لكن سواد الكلمات ظل مسيطرا على الصفحات، منذ ولادتها كأنثى غير مرغوب بها في بيت تسوده مشاعر الخوف والفقر والخيبات المتتالية، إلى نهاية القصة بالرغم من تبدل الأحداث إلى الأحسن. 

جاء أسلوب الكاتبة شيقا شفّافا، فهي ذات إحساس صادق المشاعر، كذلك الأسلوب جاء سلسا واضحا، بعيدا عن الرمزية. 

لوحظ أن الكاتبة جردت معظم شخصيات الرواية من الإنسانية، حتى الشخصية الرئيسة (سالي) تمنت موت أبيها الذي جردته هو أيضا من إنسانيته، فوجدناه يكره طفلته سالي، ويترنح ويسكر ولا يؤدي واجباته نحو بيته وأسرته. 

وجردت الأمّ من عاطفتها حينما أخذت الأم ابنتها إلى الدير لتعيش هناك؟ فالبرغم من شخصيتها الضعيفة، لم تترك زوجها السكير، ولم تترك بيتها وأولادها الآخرين، مع أنها ضربت وعذبت وشتمت، فكيف تجرأت أن تبتعد عن ابنتها وتضعها في الدير؟ لماذا؟ هل لتسرد لنا حكايات عمّا يدور في الملاجئ وما فيها من مآس ومصاعب وكوارث اجتماعية، كقصة صديقتها اللقيطة سلام، التي استنتجت بالصدفة أن أمّها عادت وأخذتها بعد أن أصبحت ثرية؟ 

أم هي حبكة درامية لتعلم القارئ أن هناك ما يستوجب الوقوف حتى في الأماكن التي يدعون بها الأمان؟ 

ما الحكمة من ذلك؟ ما دام الدير ليس آمنا، كما توصلت الكاتبة بعد ذلك. 

وقعت الكاتبة في فخّ حينما نسيت سالي صورة حبيبها خالد ولم تصدق أنه خالد، فكيف لحبيبة أن تنسى ملامح وجه حبيبها بعد سنوات قليلة؟ الحوار ص 116 مع أنها ذكرت أنه الحب الأول الذي هو كاللهب يلفح القلوب ص 80 

كان بإمكان الكاتبة وضع مقتطف من كتاب ابراهيم الفقي رغم أهميته في الحث على تقدير الذات والثقة بالنفس..أو ملخص عنه بين يدي القارئ؛ ليبحث عنها إن وجد فيها ما يلائم احتياجاته وهواه، ولا تضع صفحة كاملة، وتذكرنا بقصة الشاطر حسن التي ترويها جدتها، ولا تكتبها. 

عرضت الكاتبة مشهدا قاسيا شوهت فيه عاطفة الأمومة حينما عرضت قصة زيارة أمّها، وأنهما لم تشتاقا لبعضهما البعض، فقد كان اللقاء باهتا ملونا بالنفاق كما ذكرت الكاتبة. 

لكنه لم يكن بقساوة الأسئلة النابعة من جرحها، نتيجة الاهمال وعدم الرعاية وفقد العذرية، وقارنت بكل جرأة وتحدّ ما بين فقد العذرية التي وصفته بالمرض المميت، وبين الشرف، وقد أبدعت بتصوير الطفلة، فوجدت أسئلتها البريئة في انتظار دمع القارئ. 

تكرار بعض الكلمات ككلمة شقشقت خيوط الشمس باحة المنزل، وفي مرة أخرى شقشقت الشمس بين الحارات، أمّا تكرار الأسئلة فقد كان في محله؛ لأنه أفصح عن داخل مجروح مقهور، يريد إجابات شافية..ولا يتلقاها. 

لقد شوهدت شخوص الرواية في تحرك دائم...دون تصنع، ولكن كان هناك بعض الإضافات غير الضرورية، ولم تخدم النص، كالنص الوارد ص 80 شربت بعض المياه الباردة من الثلاجة.... وسألت جدتها..وأجابتها لا...أريد حساء... 

أيضا كلامها مع اختها أمل أو عنها أثناء وجودهما في الدير أو في البيت، كان مبالغا في طرحه. 

في الصفحة 79  الفقرة التي تحدثت عن غيرة سالي من ابنة عمّ حبيبها خالد، جاءت الكلمات والتصرفات عفوية خرجت من أعماق مراهقة. 

في النص بعض الأخطاء الإملائية مثل أنك لستي "لست". 

لقد تميزت الرواية بمشاهد صورية عنيفة وقاسية...وإن دلّ ذلك فإنّما يدلّ على قوة العرض، وأخذ الصور من الزوايا المؤلمة لتشد القارئ بقوة، كمشهد ضرب سالي بعد أن بالت على نفسها في الدير، ومشهد ضربها من أبيها السكير بعد عودتها إلى المنزل، وقلبه الطعام وحرمان الأطفال من تناول الغداء، مشهد ضرب الأم حين أعلمت والدها عن الحمل، صورت الكاتبة مشهد رحيل سالي عن البيت، بحزن وكلمات رائعة. 

أكثرت الكاتبة من عرض أسماء برامج الأطفال ومسلسلاتهم، كصاحب الظل الطويل وتوم وجيري، وتأثرها بجودي أبوت الكاتبة الصغيرة، وهذا يحسب للكاتبة، لأنها تروي قصة طفلة، ففي بعض الأحيان نحسب أنّ الرواية موجهة لفئة اليافعين، ثم نصطدم بأحداث مؤلمة توقفنا كمجتمع راشد، وتدلنا على حفر عميقة في طريق حياتنا، يجب توخي الحذر منها كي لا نسقط فيها. 

تصوير الكاتبة لقدوم الليل بجمل قوية تهز المشاعر، من قاد خطاك إلى نومي؟ 

فأمّها تعاتب الليل إذا جاء؛ لأنه يعني لها كوابيس وأحلاما مزعجة وعودة زوج سكير. 

تصوير حادثة الاغتصاب وتجمهر الناس ورقم السرير والألوان التي تعني للذاكرة الشيء الكثير..بل كل شيء. 

الرواية حملت أفكارا عديدة ومهمة وأحداثا قاسية محزنة، عرضت بشكل مشوق...كنت أتمنى على الكاتبة لو عالجت كل حدث أو موضوع مجتمعي بشكل فردي لأهميته، فقد كان هناك حشو للأحداث المجتمعية المكتوبة، بحيث سيطر كل حدث على الحدث الآخر، وكأن الكاتبة تأمر الحدث بالتوقف؛ ليلتفت القارئ إلى غيره رغم أهميته وصعوبته، وضرورة الالتفات إليه ومعالجته، وأتمنى عليها لو أنها لونت روايتها بألوان الأمل والسعادة بعض الشيء في النهاية، حتى بعد أن دهس الرجل المغتصب أمام عينيها وبرز عدل الله فيه، وبعد التقائها بحبيبها خالد مجددا وعرضه الزواج منها، وإن لم تتزوجه، لم يتزحزح ألم الكلمات ولم يتبدل في الرواية، بل ظل جامدا باهتا. ليتنا ابتسمنا بعد أن داهمنا الحزن وأجبرنا على التوقف أمام طابور من الحقائق المرة لساعات طويلة..طويلة جدا.

المزيد من المقالات...