قارب الموت والظمأ العظيم

clip_image001_c8c35.jpg

 

clip_image003_02ea5.jpg

د. علي القاسمي

(4)                    

"كومة ضمير"

تحليل قصّة "الكومة"

-------------------

"إنّ اهتمام الناس بدفن أفكارهم عن الموت لا يقلّ شأناً عن اهتمامهم بدفن موتاهم"

                    "بوسويه"

في قصّة (الكومة) يضعنا القاص أمام معضلة نفسيّة شائكة ترتبط في جانب منها بشخصية بطلها (القصة تُحكى بضمير الغائب) ، في حين يرتبط جانب آخر منها بعوامل أخرى سنلتقطها بعد حين . فالقصّة تتحدّث عن رجل يمارس هواية الركض الصباحي فجر كل يوم ، ووفق منهاج ثابت كتقليد في حياته اليومية . يقتطع القاص حدثاً عارضاً – كعادة القصّة القصيرة التي لا تتحمّل بنيتها ، إذا أريد لها النجاح والإقتدار ، أكثر من ذلك – يحصل للرجل في ممارسته الصباحية ، ويلاحق هذا الحدث العارض لمدة ثلاثة أيام . يستهل القاسمي نصّه بوصف حالة الطقس السلبية حيث العَتَمة التي تلف الأشجار التي يُسقط عليها مشاعر الرجل القلقة فتتراءى له اشباحاً أخطبوطية :

(كانت العَتمة تلفّ أشجار الحديقة العامّة ونباتاتها ، فتُخيّل إليه كأشباح طويلة وقصيرة ذوات أذرع متعدّدة متحرّكة مثل أخطبوط هائل داكن ) (ص 253) .  وحيث الوصف المتساوق لحالة الرجل الجسديّة المكدودة (اصطكاكُ أسنانٍ وارتجافُ أوصال) الذي يُظهره وكأنه يؤدّي طقساً قسريّاً ، ولكنه يتناغم مع مظاهر البيئة من صقيع وعصف ريح في الحديقة العامة حيث المسرح المكاني للحكاية :

(كانت أمطار الليلة الماضية على الأرض قد تجمّدت ، هنا وهناك ، صقيعاً يتكسّر تحت وقع قدميه . وعصفتْ رياحٌ ثلجيّة تخترق القلنسوة التي يعتمرها ، وتلسع أذنيه وشفتيه فتحيلها حمراء قانية كعُرف الديك . وأخذتْ أنفاسه اللاهثة المتلاحقة تتناغم مع اصطكاك أسنانه وارتجاف أوصاله) (ص 253) .  

ويلتحم هذا الإيقاع الجسدي الذي يحوّل هذه الجولة من هواية إلى ممارسة مازوخيّة تقريباً ، بالوصف العام للمكان الموحش في مشهد تمهيدي أعدّه القاص – على الطريقة الشكسبيرية - لاستقبال نذُر وممثلي "المُثكل" كما يصف جدّنا جلجامش الموت . وقد تمثّل هذا النذير الممثّل للمُثكل بـ "كومة" لمحها الرجل بسرعة في أثناء جريه .. وأهملها :

(وفيما هو يجري مُسرعاً مكدوداً ، لاحت له كومةٌ قاتمة على جانب الممرّ . ولم يكن لديه متّسع من الوقت ، ليُمعن النظر أو يطيله في تلك الكومة ، فاكتفى بأن حسبها مجرّد كومة أحجار جُلِبَتْ لترميم سياج الحديقة العامّة ، أو ، ركام أغصان تجمّع من جرّاء تشذيب الأشجار . لا يهمّ . ) (ص 253) .

ومن المستحيل فصل النصّ مهما كان جنسه ونوعه عن مبدعه ، ولا يمكن – وبتلك الخفّة البنيوية التي أعلنها "رولاند بارت" – إعلان موت المؤلّف بأي قدر من الإمكان . رأى بارت بأنّ النص – وبمجرّد إنهاء كتابته – سوف لا يكون له شأن بكاتبه إلّا بدرجة ضئيلة جدّاً . ويستطيع القارىء وضع أي تفسير للنص يراه مناسباً . وهذا سيمنح القارىء حرّية كبرى في التأويل وفي إهمال نوايا الكاتب . وقد نظر بارت لمتعة القارىء المُستقاة من هذا اللعب الحرّ مع النصّ بأنّه يشبه المتعة المستحصلة من الاتصال الجنسي . لكن حتى في هذا الاتصال يجب أن ترى شريكك ويكون من لحم ودم وليس شبحاً ورقيّاً ميّتاً . المهم أن جوهر الأطروحة هي أن بارت يرى أنّ اللغة هي التي تتكلّم وليس المؤلّف . اللغة تخلق المتكلّمين بها ، اللغة تعرف الموضوع ولا تعرف المؤلّف . ولا أعلم كيف يقتنع ناقد و"فيلسوف" مثل بارت بفكرة أن المجرّدات (الحروف والكلمات والأصوات) تعقل وتفكّر وتتكلّم ، والأشياء الجامدة (الورقة) يمكن أن تشعر وتخطّط وتبلّغ . اللغة هي مطيّة اللاشعور تحت رقابة مضنية من الشعور . ومهما كان المؤلف بعيداً أو "أجنبيّاً" عن المتلقي أو ميّتاً ، فأنّه يتمرأى خلف نصّه أمام عيني القارىء كـ "مؤلّف" من لحم ودم .

ولكن قد يسأل قارىء ذكي ومعاند : وإن لم يعرف قارىء ( إسباني مثلا ) بأن مؤلف هذه القصّة (الكومة) هو علي القاسمي ، هل ستفسد متعته وتضعف دقّته في التأويل والإستجابة ؟

وللإجابة عن هذا التساؤل الكبير نتحوّل إلى موضوعة مركزية حاولت مدارس نقد استجابة القارىء ، بل مدارس ما بعد الحداثة ، تدميرها ، ألا وهي موضوعة (قصدية المؤلف أو المبدع – intentionality ) . فـ ( حينما تعمد إحدى المدارس النقدية إلى تجاهل المعنى أو الدلالة ، كما فعلت الشكلية الروسية والبنيوية الأدبية في تركيز واضح على آليات الشكل وجمالياته في الأولى ، وكيفية تحقيق الدلالة في الثانية ، يصبح الحديث عن القصدية من باب العبث الصريح . والقول نفسه ينطبق بصورة أكثر إلحاحا حينما تعمد مدرسة أخرى مثل مدرسة التلقي إلى نقل السلطة كاملة إلى المتلقي الذي ( يقرأ النص الذي ينتجه هو ) أو حينما تعمد رابطة مثل التفكيك إلى تأكيد الغياب في الحضور ، وغياب أي مركز للإحالة والمراوغة الدائمة للنص ) (10) .

ولسنا من السذُّج بحيث نطلب من هذا القارىء الإسباني مساءلة القاسمي عن (قصده) وهو في المغرب ، وقد يكون ميتا لا سمح الله . لكننا مثل الكثيرين من النقّاد الذين اتخذوا مواقف مخالفة لفوضى المناهج النقدية ، بعد الحداثية ( ما بعد البنيوية / التفكيكية / استجابة القارىء .. إلخ ) نرى ( أن قدرة اللغة على الإيحاء لا تنفي مفهوم القصدية وارتباط اللغة ذاتها بغرض قائلها ، على الأقل حسب نظرية فعل الكلام المعروفة – speech act theory ، التي تربط فعل الكلام بقصد قائله . ولو تخيّلنا للحظة ان كاتب (الكومة) ليس علي القاسمي ، بل  - حاشاه - قردٌ نشط ضغط على مفاتيح الآلة الكاتبة ، أو لو أننا عثرنا على كلماتها وسطورها محفورة على صخرة على شاطىء البحر بفعل الأمواج أو عوامل التعرية ، فإن النتيجة ستكون اختفاء القصدية بسبب غيبة الفعل المقصود / فعل السرد المقصود . ولن يبقى أمامنا غير تفسير وحيد أقرب إلى الصحة هو التفسير الذي يتفق مع قصد المؤلف / القاص ، والذي يوجد فقط لو أننا سلّمنا بأن (القاسمي) هو كاتب القصّة ، وليس القرد أو أمواج البحر ، أي أننا نستطيع أن نرفض فكرة قدرة اللغة على تحقيق معنى ، مستقلة عن القصد البشري . ويمكننا تطوير الأفكار السابقة حول أهمية القصدية في النص بالقول : إننا لو عثرنا مصادفة على قسم من الرواية منقوشا على الرمال ثم شاهدنا موجة تغطي الكلمات لتمحوها ، مخلفة وراءها القسم الباقي ؛ فسوف يتأكد لنا أن الرواية لم تنتجها قريحة إنسان بل جاءت إلى الوجود مصادفة وبصورة عفوية ، وشتّان بين الحالتين : حينما اعتبرنا الآثار على الرمال سردا كنا نفترض صفة القصد فيها ، أما حينما اتضح أنها بلا مؤلف فإنها لا تصبح كلمات على الإطلاق ؛ إن حرمانها من مؤلف يعني تحويلها إلى تشابهات عفوية للغة ؛ فهي ليست ، على رغم كل شيء ، نموذجا لمعنى من دون قصد ، وفي الوقت الذي تصبح فيه (الكلمات) بلا قصد تصبح أيضا بلا معنى ... إن العلامات التي تخلّفها الأمواج وراءها في انحسارها ليست لغة على الإطلاق ، بل شبيهة باللغة . إن المعنى دائما مقصود ، وإن اللغة لها طبيعة قصدية ، ومن ثم فإن محاولات تفسير نص لغوي في عزلة عن المؤلف أو القصدية محاولات عبثية عديمة الجدوى . إننا حين نطلب من النادل فنجان قهوة فإنه لا يرفض ، لا يصبه فوق رؤوسنا ، بل يحضره إلينا ، ما ندّعيه أن التفسير في حضور منتج قول ما والذي يرى أنه تفسير ملائم هو النموذج الصحيح لتفسير قول في غياب منتج ذلك القول ) (11) .

و (رحم الله عبد القاهر الجرجاني الذي قدم ضوابط التفسير الجوهرية وفي مقدمتها تحمّل النص اللغوي والنص الأدبي للتفسير المختلف ، وكأنه كان يتنبأ بفوضى القراءة في القرن العشرين قبل حلول ذلك القرن بما يقرب من تسع مئة عام :

( فأما الإفراط فما يتعاطاه قوم يحبون الإغراب في التأويل ويحرصون على تكثير الوجوه ، وينسون أن احتمال اللغط شرط كل ما يعدل به عند الظاهر ، فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تقله من المعاني ، يدعون من السليم من المعنى إلى السقيم ويرون الفائدة حاضرة قد أبدت صفحتها وكشفت قناعها فيعرضون عنها حبّاً للتشوّق أو قصداً إلى التمويه وذهابا في الضلالة ) (12) .

وعليه ، وبعد هذه المداخلة الطويلة نسبيّاً ، لكن الضرورية ، والتي استخدمتها في مناسبات سابقة لأنها شافية كافية في تقويض أطروحة موت المؤلّف أقول : إنّ "الارتباك" الذي سيلاحظه السيّد القارىء في صياغة الجمل في الأسطر الثلاثة الأخيرة والراوي يتحدّث عن "الكومة" التي شاهدها الرجل في جريه ، ليس ارتباك اللغة بتراصف كلماتها واصطفاف حروفها التي لا معنى لها من دون قصديّة القاص المؤلّف ، الحي الذي لا يموت في عمليّة الإبداع ، فمن المرّات القليلة التي يكرّر فيها القاسمي مفردةً بهذه الصورة التي تثقل الدلالة وتخرج عن السياقات النحوية التي يعرفها باقتدار :

(لاحت له كومة .. ليمعن النظر في الكومة .. حسبها مجرّد كومة !!) (وعلامات التعجّب منّي) ..

فهل هذه الربكة اللغوية الظاهرة تعبير عن تشوّش وجداني على مستوى أعمق في ظلمة اللاشعور يلوب فيها قلق الكاتب من الموت ؟ هل جاءت بفعل الانهمام المسبق لدى الكاتب بالمعنى الذي اختزنه للكومة وما يمثّله من رمز أمومي مثلاً ؟ ثمّ أي كومة أحجار هذه أو ركام أغصان في حديقة عامة تتم تغطيتها بعباءة ؟

تساؤلات كثيرة ومهمّة لا يمكن الإجابة عليها بدقّة وكفاية إذا لم نضع في حسابنا وجود مؤلّف من لحم ودم وراء النص من جانب ، وأن لهذا المؤلّف قصديّة مسبقة تحكم مجريات النص من جانب آخر .

في اليوم التالي ، وفي الغَلَس (ظُلْمة آخر الليل إِذا اختلطت بضوء الصباح ) كما يقول القاص ، وهو وقت مُبكّر جدا لممارسة رياضة الجري ، ويعبّر عن توقيت مُرتبك ، انطلق الرجل كعادته كل يوم في ممارسة رياضة العدو في الحديقة العامة المجاورة لمنزله ، هذه العادة التي لم يشر إليها القاص في المقطع السابق حين رأى "الكومة" لأول مرّة من أجل أن لا تُفسد "العادةُ" المفاجأةَ ، لأنّ الحديث عن عادة يوميّة يُضعف استقبال الأحوال العاصفة ، التي واجهها الرجل لأول مرّة ، حين نضع في احتمالنا أنّه يمكنه التراجع عن عادته لصباح واحد . يوحي إصراره بدوافع قلقة تشي بقدر من "فوضى" داخليّة تتسق مع الفوضى الخارجية في الطبيعة والمكان .

ومن جديد ، يستخدم القاص مفردة "الغلس" للتعبير عن الوقت الذي خرج فيه الرجل للركض ، ولأنّه قد أشار في مقدّمة هذه الفقرة إلى توقيت أعمّ (في فجر اليوم الثاني ...) ، فإن هذا التخصيص يبدو وكأنّ الرجل فيه قد قطع شوطاً طويلاً في جريه ليصل مرحلة "الغَلَس" التي يأتي تخصيصها لتعزيز "دراميّة" عمليّة لمحه للكومة مرّة ثانية ، وهو تخصيص ودلالة تعكس شدّة انفعال القاص بموضوعته خصوصاً أنّ الفعل قد انتقل من المصادفة في اليوم الأول : (لاحتْ له كومة قاتمة على جانب الممر) إلى التصرّف الإرادي : (لمَحَ الكومة ما تزال في مكانها على جانب الممرّ) . كما حصلت نقلة في "التأويل" بين اليومين ، ففي اليوم الأول اعتبر الكومة كومة أحجار أو ركام أغصان ، ولكن ، الآن ، في اليوم الثاني ، ندّت حركة مُريبة كما يصفها الرجل ـ فافترض أنّها حركة صادرة من واحد من الكلاب أو القطط السائبة التي تتخذ من الحديقة ملجأً . وفي الحالتين يبرّر عدم تقرّبه من الكومة لغرض معرفة ما فيها أو تحتها بعدم وجود متّسع من الوقت لديه . لم يفكّر أبداً في أي احتمال آخر ، كأن تكون هذه الكومة المُهملة "إنساناً" مثلاً . أبعد عن ذهنه مثل هذا الإحتمال المُقلق ، فهو احتمال قد يثير مخاوف دفينة لديه هو "الراكض" وكأنّه هاربٌ من "شيء" ما يطارده . وفي المرّتين ينبثق "صوت" يختم موقف الرجل في الحالتين بالتعليق : (لا يهمّ ) . فقد صرنا نشهد انسحاباً لدى الإنسان نحو ذاته ، إنسحاب يجعله يضع أولوياته الترفيهية الشخصيّة فوق كلّ شيء . صار الفرد يتوحّد بما يقوم به من أفعال ناسياً كل ما يحيط به أو يصادفه من متغيّرات تستحق الالتفات . إنّ هذا الركض اليومي الذي يعكس انهمام عميق للرجل بصحته وسلامة جسده وكماله يعبّر عن نرجسية مفزوعة من الموت ؛ مفزوعة بتكتّم ينفضح بالحدّ الذي لا يستوقف الشخص ويمنعه من إكمال شوطه الفجري (الغَلَسي) أيّ شيء . طبعاً بالإضافة إلى مبرّر اللحاق بالعمل الذي هو مبرِّر واهٍ لا يمنعه من مجرّد التأكُّد إلّا إذا كان يتوقع بقدرٍ ما أنّ في الكومة "شيئاً" قد يفرض عليه التزامات وتداخلات خارج احتياجات الحجارة أو الأغصان أو الكلب السائب . فلمجرد أنّ الرجل قد فكّر بماهيّة الكومة وقدّم تفسيرات احتمالية لها (حجارة ، أغصان ، كلب ، قطّة ) واحتمالا اليوم الأول : حجارة ، أغصان ، تناقض احتمالي اليوم الثاني : كلب ، قطّة ، من ناحية حجم وتناسق وثبات الكومة في كلّ منها ، فإنه قد أزاح عن ذهنه الاحتمال الأكثر توقّعاً ومنطقيّة . لقد جفّت مشاعرنا واستعبدتنا متطلّبات الحياة ، وتمّ تدريبنا – للأسف – على السلوك الهروبي ، والانشغال بذواتنا وسلامتها فحسب . لعلّ هذا من الدروس الأخلاقية الكبرى التي يريد القاسمي توصيلها إلى متلقّي نصّه هذا . ( لا يهمّ ) .. هذه الجملة البسيطة تعبّر عن اللااكتراث وتبلُّد العواطف ، والانحشار الأناني في خانة ذات منشغلة بذاتها ومتطلّبات حياتها . (لا يهمّ ) .. هذه الجملة البسيطة هي مفتاح خراب الحياة في أيّ مجتمع ، وقد توصل إلى الكوارث الجسيمة التي لن يفيدنا أن ( نهتمّ ) بها بعد فوات الأوان . وهذا ما حصل في اليوم الثالث ، ولا أدري لماذا تكتمل دورات أغلب الأمور في اليوم الثالث وخصوصاً المصائب . ففي اليوم الثالث تراءى للرجل وهو يركض كالعادة مقترباً من الكومة في المكان نفسه على جانب الممرّ ، تراءى له ما يُشبه اليد ممدودة منها . ومع ذلك تجاوزها بخطوات ، ثمّ تدارك الأمر وعاد أدراجه فإذا بها امرأة عجوز متلفّعة بعباءة سوداء . الآن اتضحت هويّة "الكومة" . لم يفكّر هذا الإنسان بأي احتمال غير الاحتمال "المادي" .. الإحتمال المرتبط بالعوز والحاجة للمال (الذي قد يكون واحداً من مصادر القلق التي "يركض" منها !) . أخرج بعض النقود ، ووضعها في اليد الممدودة في العراء ، ولكنّها لم تقبض عليها ، فسقطت على الأرض .

تُرى ألم ينظر إلى وجه هذه العجوز التي مضت عليها ليلتان وهي في عراء وبرد الحديقة ؟ ألم يتمعّن في تعبيرات وجهها قبل أن يفكّر بمتطلّبات "يدها" ؟ لقد فكّر في اليد قبل الوجه .. فكّر في اليد الممدودة كتعبير عن الحاجة للمال ولم يخطر بباله أن يكلّم هذا الجسد ليتعرّف على ما يبغيه ، فقد يكون في غنىً عن المال ، ولديه حاجة أخرى . لم نعد نرى من أخينا الإنسان سوى علامات عوزه وفاقته وجوعه .. لم نعد نسمع نداءات روحه .. تلك النداءات التي لا تسكّنها أوراق النقود ولا تشبعها غير الاستجاية الحيّة من روح إنسان مُعين وصبور ومتعاطف . صار همّنا أن نحصل على بيت دافىء لا نتخلّص فيه من سياط البرد والعواصف حسب ، بل نتخلّص فيه من مجرد التفكير بمن لا منازل لهم من إخوتنا . ما الذي حصل لضمائرنا ؟ وهل صارت تركض معنا مما يواجهها من مسؤوليات ؟ هل صارت ضمائرنا لا تفكّر بـ " الأمانة " التي رفضت حملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها ؟ هل هذه هي الأمانة التي تصدّى الإنسان – الغشوم الجهول – لحملها ؟ هل سأل رجل القصّة نفسه يوماً ما ، أو حين رأى الكومة ، عن "أمانته" التي تسلّمها من الله ؟

إنّه يصرّ – من جديد - على وضع النقود في يد عجوز الكومة :

(التقط النقود ، وحطّها مرّة أخرى في يدها ، ونبّهها بالمناداة ، ولكنّها ظلّت صامتة ، ولم تقبض النقود . لمسَ كفّها وحرّكها بلطف لعلّها كانت غافية وهي جالسة . ولكنّ برودة مريعة سرتْ من يدها إلى أصابعه . وأ﴿شاعت في جسده قشعريرة وتوجّساً . وقبل أن يُتاح له القليل من التفكير ، مال جسم المرأة بأكمله مع تلك الحركة الخفيفة ، لتسقط على الأرض جثّة هامدة) (ص 254) .

وإذا كان في مشهد سقوط جثّة العجوز الأخير الكثير مما شاهدناه في الأفلام السينمائية ، فإن السؤال المزلزل الذي سوف يلاحقنا بعد أن ننهي هذه القصّة هو : ألم يكن بإمكان هذا الرجل الركّاض (وهو في الحقيقة "مركوض" .. ومن معاني الجذر رَكَضَ الإضطراب والتقلّب المعبّر عن القلق .. والفرار أيضاً ﴿ إذا هم منها يركضون ﴾ الأنبياء/12 – وكلّها تنطبق عليه) التقرّب من الكومة في الغَلَس الأول ومعرفة ما فيها ؟  

وهل كان من الممكن – لو اكتشف أنّ فيها عجوزاً - أن لا تموت هذه العجوز ؟

طبعاً هذا ممكن .. ولكن عندها لن تبقى حكاية أبداً ، بل خبراً عابراً باهتاً لا يُرجف أعماقنا ويدفعنا نحو هذه التأمّلات الرهيبة . الموت هو صاحب الفضل الاول والأكبر على الحياة وليس العكس . لا حكاية من دون الموت . وخطاً أن نقول أنّ فلاناً تعلّم من "دروس الحياة" . في الحقيقة نحن نتعلّم من "دروس الموت" ؛ الموت هو المعلّم الأوّل والأخير .

إنّ علينا ألّا نستخف بـ "النذر" الصغيرة التي تقابلنا مصادفة . لا توجد مصادفات في دروب المثكِل . ولو تأمّلنا تاريخ البشرية ، وحياتنا اليومية على حدّ سواء ، لوجدنا أنّ نذر الموت الموصلة إلى الخراب والفناء تكون دائماً بسيطة وصغيرة . خذ الدرس من سيّدة الحكايات : ألف ليلة وليلة . فالعشرات من حكايات الدمار والتمزّق الذي يلحق بحيوات الشخصيات يبدأ بمتغيّر عابر ومبتذل وقد يكون مُحتقراً : شعرة من رأس ، رسالة ، وشم بسيط ، قنينة ، خرزة ، فردة حذاء ... إلى أخره من الأمور والأشياء التي نستهين بها عادة ، وفيها يكمن مفتاح فنائنا ، وكأنّ سيّدة الحكّائين الفيلسوفة "شهرزاد" تريد تذكير الطاغية شهريار بأن لا يؤمن بعقله المتنفّج كل الإيمان ، فتعمى بصيرته عن رؤية حكمة الله والحياة والقدر مبثوثة في أضعف المخلوقات وأبسط الاشياء ، وأهمها حكمته العظيمة : في أننا نموت . وأينما نولّي فثمّ وجه الموت . ولأنّ سيّدة الحكّائين هذه أدركت سرّ الحكاية ، فقد تناسلت على يدها لألف ليلة وليلة .. بل لمئات السنين حتى يومنا هذا .

تبقى ملاحظة أخيرة في الجانب اللغوي وتتعلّق بالعنوان : "الكومة" . فالكومة قاموسيّاً هي مؤنّث " الكَوْم "تعني (كلُّ ما اجتمع وارتفع له رأسٌ من تراب أو رمل أو حجارة أَو قمح أَو نحو ذلك) أو (القِطْعَةُ الْمُتَجَمِّعَةُ مِنَ أَيِّ مَادَّةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) ، كَوَّم الفلاّحُ التّبْنَ جمعه وألْقَى بعْضَهُ فوق بَعْض وارتفع له رأس ، جعله كومًا :- كَوَّم حجارةً / قمْحًا / الترابَ / الحصى / المتاعَ .

وعليه فإنّ الكومة لا تنطبق على الشيء المُفرد كالكلب أو القطّة ، بالإضافة إلى أنّها لا تكوّم بالطريقة المشار إليها أعلاه . وقد يعكس هذا الإستخدام ربكة الكاتب اللاشعورية بفعل ضغوط قلق الموت الذي ينبغي أن نشير إلى أنّه – حين نَعِيه – من أقوى العوامل الخلّاقة الدافعة نحو الإبداع والنضج المعرفي والحضاري .

القصة التي تم تحليلها :

الـكـومـة

______

د. علي القاسمي

          كانت العَتَمة تلفُّ أشجار الحديقة العامَّة ونباتاتها، فـتُخـيَّل إليه كأشباحٍ سودٍ طويلةٍ وقصيرةٍ ذواتِ أذرعٍ متعدَّدة متحرِّكة مثل إخطبوط هائل داكن. وكانت أمطار الليلة الماضية على الأرض قد تجمّدت، هنا وهناك، صقيعًا يتكسَّر تحت وقع قدميْه. وعصفتْ رياحٌ ثلجيَّةٌ تخترق القلنسوة التي يعتمرها، وتلسع أُذنيْه وأنفه وشفتيه فتحيلها حمراءَ قانيةً كعرف الديك. وأخذتْ أنفاسه اللاهثة المتلاحقة تتناغم مع اصطكاك أسنانه وارتجاف أوصاله. وفيما هو يجري مسرعًا مكدودًا، لاحتْ له كومةٌ قاتمةٌ على جانب الممرّ. ولم يكُن لديه متَّسع من الوقت، ليمعن النظر أو يطيله في تلك الكومة؛ فاكتفى بأنْ حسبها مجرَّد كومةِ أحجار جُلِبتْ لترميمِ سياج الحديقة العامَّة، أو ركام أغصان تجمَّع من جراء تشذيب الأشجار. لا يهمّ.

       في فجر اليوم الثاني، انطلق كعادته كلَّ يوم يمارس رياضة العدو في الحديقة العامَّة المجاورة لمنزله. وفي الغَلَس، لمحَ الكومةَ ما تزال في مكانها على جانب الممرّ. وعندما اقترب منها هذه المرَّة ندَّت منها حركةٌ مريبةٌ. ولم يكُن لديه من الوقت الكافي ليدقّق النظر أو يطيل التأمُّل، إذ كان عليه أن يعود إلى المنزل مباشرة للاستحمام، وتناول طعام الفطور، والتوجُّه إلى مقرِّ عمله في المصنع قبل الساعة السابعة صباحًا؛ ولهذا اكتفى بافتراض أنَّ الحركة صادرة من واحدٍ من الكلاب أو القطط السائبة التي تتّخذ من الحديقة ملجأً. لا يهمّ.

       في اليوم الثالث، وفيما هو يركض مقتربًا من الكومة ذاتها في المكان نفسه على جانب الممرِّ، تراءى  له ما يُشبه اليد ممدودةً منها. وبعد بضعةِ خطواتٍ، توقَّف عن الجري ليعود القهقرى إليها، ويحدّق فيها؛ فإذا بها امرأةٌ عجوزٌ متلفِّعةٌ بعباءةٍ سوداءَ، تسند ظهرها إلى شجرةٍ كبيرةٍ من أشجار الحديقة. ظلَّ مطرقًا هنيهة، ثمَّ دسَّ يده في جيبه وأخرج بعض النقود، ووضعها في اليد الممدودة في العراء. ولكنَّها لم تقبض النقود، فسقطتْ على الأرض. التقط النقود، وحطّها مرَّة أُخرى في يدها، ونبهها بالمناداة، ولكنَّها ظلّت صامتةً، ولم تقبض النقود. لمسَ كفها وحرّكها بلطف لعلَّها كانت غافية وهي جالسة. ولكنَّ برودةً مريعةً سرتْ من يدها إلى أصابعه، وأشاعت في جسده قشعريرة وتوجّسًا. وقبل أن يتاح له القليل من التفكير، مال جسم المرأة بأكمله مع تلك الحركة الخفيفة، لتسقط على الأرض جثةً هامدة.

clip_image002_17d2d.jpg

ناقشت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني رواية "حرام نسبي" للأديب المقدسيّ عارف الحسيني، الصادرة عام 2017 عن دار الشّروق للنّشر والتّوزيع في رام الله وعمّان، وتقع الرّواية التي صمّم غلافها مجد عسّالي في 312 صفحة من الحجم المتوسّط.

وهذه الرّواية هي الثّانية للرّوائي الحسيني بعد روايته الأولى "كافر سبت" التي صدرت عام 2012 عن دار النّشر نفسها.

بدأ النقاش ديمة جمعة السمان فقالت:

بين الحرام النّسبي.. والعيب النّسبي

خطّ عارف الحسيني روايته من منطلق إيمانه باهمية دوره.

 وثقته بقدرة قلمه على إيصال صرخة المقدسي إلى العالم.

"حرام نسبي" عنوان رواية مثير للجدل، هل قصد الروائي حرام نسبي أم عيب نسبي؟ الحرام له علاقة بالدين، فالحلال بيّن والحرام بيّن، أمّا العيب فله علاقة بالمجتمع وثقافته، فتنطبق عليه النسبية وفق المجتمعات وتطورها وحضارتها واعتقاداتها وعاداتها وتقاليدها. وقد أحسن الكاتب اختيار العنوان الذي بالتأكيد يفتح بابا للنقاش من الصعب اغلاقه، وهذا يسجل لصالح الروائي وروايته.

الرواية هي جزء ثانٍ من ثلاثية، كان جزؤها الأول بعنوان ( كافر سبت)، ففي الجزئين لم يكتف الحسيني بالحديث عن القدس بشوارعها وأزقتها وعاداتها وتقاليدها ولهجتها، بل تحدث أيضا عن نسائها وطقوسهن، وعن  شبابها المثقفين الذين يعيشون ازدواجية لا يحسدون عليها، فهم يؤمنون بشيء ويمارسون شيئا آخر، فموروث العادات والتقاليد لا زال يحكم.

 تطرق الكاتب إلى  ظروف القدس الاستثنائية، إلى عزلتها عن أخواتها من المدن الفلسطينية الأخرى، لامس ألمها، ولكنه لم ينس أملها، صوّرها بليلها ونهارها، وبالمتناقضات التي فرضت نفسها عليها وعلى مواطنيها، وثّق ما يحاول الاحتلال محوه مع الزمن. لم يكتف بأن يدخل القاريء البيت المقدسي الفلسطيني ويطلعه على عاداته وتقاليده، بل مسك بيد القاريء وأدخله بيت المحتل وعرّفه على عاداته وتقاليده ومعتقداته كيهودي، نصّب نفسه سيّدا، وآمن بأن الله  خلق البشر جميعا ليكونوا عبيدا له.

خطّ الحسيني روايته من منطلق إيمانه بأهمية دوره، وثقته بقدرة قلمه على إيصال صرخة المقدسي إلى العالم. بادر في طرح قضية القدس التي من الصعب أن يستوعبها أو يشعر بمرارتها سوى من يعيش داخل المدينة المقدسة بتفاصيلها المعقّدة.

ما فاجأني حقيقة أن معظم الرواية جاءت على لسان امرأة،  مع أن الرّاوي هو رجل. أفهم  أن يتحدّث (الراوي الرجل) بلسان امرأة عن الواقع المعيشي في داخل مجتمعه بشكل عام، وهو بذلك يكون ضمن منطقة الأمان، أمّا أن يغوص في داخل النفس الأنثوية وأحلامها، طبيعتها الفسيولوجية والسيكولوجية والتقاط أحاسيس معينة والحديث عنها بهذا العمق وهذا الاتقان! فهذا لا شك أمر يحسب لصالح الكاتب. فالأمر ليس سهلا على الاطلاق، فمن المعروف أنّ التركيبة الفسيولوجية والسيكولوجية للمرأة تختلف كثيرا عن الرجل، وقد يكون هذا الاختلاف هو السبب الحقيقي وراء الخلافات الزوجية التي تؤدي إلى فشل العلاقة بينهما، وقد ظهرت مؤخرا ظاهرة الدورات المصممة من قبل علماء متخصصين بعلم النفس للجنسين؛ لدراسة طبيعة الآخر للحد من نسبة الطلاق التي ارتفعت نسبتها كثيرا في الآونة الأخيرة، مع العلم أن الحسيني  متخصص بعلم الهندسة والفيزياء البعيد كل البعد عن علم النفس.

ما لفت نظري في الرواية أن الكاتب كان يكتب المشهد مرتين، الأولى من وجهة نظر الشخصية الأنثوية، وفي فصل آخر يعيد كتابة المشهد من وجهة نظر الشخصية الذكورية. وقد نجح بذلك أن يعطي كلا من الجنسن حقه. كان كل مشهد بوجهين، يحمل بعدا ثنائيا، فكنا نتعاطف مع الأنثى في المشهد الأول، لنكتشف عند الاطلاع على الوجه الآخر أننا ظلمنا الرجل. فنتوه بين الوجهين؛ لنخوض في جدال يعمّق رؤيتنا للمشهد، لنكتشف أنّ الأنثى والرجل سويا كانا ضحية الاحتلال.

حورية..  كانت تمثل شريحة من النساء المقدسيات.. مثقفة.. تحمل شهادة جامعية تعمل بها في مجال الاعلام المكتوب، معتدة بنفسها، ترفض أن يدوس كرامتها أي رجل، حتى ولو كان حبيبها.

 كما كانت سميرة تمثل شريحة أخرى منهن، الشخصية الضعيفة المستكينة الخاضعة لزوجها كروم.. الذي يدوس على كرامتها وهي راضية بذلك غير معترضة.

وهناك رقية الانسانة البسيطة التي تعمل عند صاحب المصنع اليهودي، تركض خلف لقمة العيش، وتؤمن بكل ما يقول وليّ نعمتها، فهو العلّامة ومصدر المعلومات المؤكدة مهما كانت، وفي الوقت نفسه تكون ضحية استيلاء المستوطنين على منزلها وترحيلها من الحي.

أمّا ( هو)،  فقد كان يمثل الرجل المقدسي الفلسطيني التائه، فهو المثقف والمناضل الذي لم يجد له مكانا يحتويه. ولا عملا يجد نفسه فيه بعد خروجه من المعتقل، بقي في عزلته حتى آخر أيامه، لذلك استصعب الكاتب أن يطلق عليه أي اسما، فبقي "هو".. هو الرجل الذي تاه بين حبه وكبريائه وكرامته وقناعاته ونضاله وعلمه والجري خلف لقمة العيش، يتأرجح بين ما يؤمن به وما يفرضه عليه مجتمعه من عادات وتقاليد زرعته فيه ثقافته، فنمت في كل خلية من خلاياه وكبرت، ليعيش ويموت وهو غير راضٍ عن نفسه وعلى كل من حوله.

أمّا نبيه فهو يمثل شريحة متواضعة جدا من الرجال المقدسيين.. لذلك استحق أن يطلق عليه اسم "نبيه"

وينتهي الجزء الثاني من الثلاثية ( حرام نسبي) نهاية مفتوحة، تزيد من تشويقنا إلى الجزء الثالث والأخير الذي سيتحدث عن مرحلة نعيشها حاليا، تصنعها يوميات  المواطن المقدسي. ويوثقها عارف الحسيني بقلمه الذي يحمل نكهة العارف بخفايا الأمور، فهو المواطن الشاهد على ما يجري، علّ الأيام القادمة تحمل في طياتها القسم الأكبر من الأمل والتفاؤل والسعادة، يستعين بها أحفادنا ليعيشوا حياة أكثر أمنا وأمانا.

وقال جميل السلحوت:

القارئ لروايتي عارف الحسيني سيجد أنّ الرّواية الثّانية تأتي استكمالا للرّواية الأولى، فكلا الرّوايتين تتكلّمان عن القدس والمقدسيّين، بحيث أنّ الثّانية تشكّل جزءا ثانيا للأولى، مع أنّ كلّا منهما مستقلّة بذاتها، ويمكن قراءتهما منفردتين، وهذا يسجّل لصالح الكاتب وحنكته وقدرته على السّرد.

العنوان: جاء في صفحة 107 :" فلا يحدّثني أحد من بعد عن الصّحّ والخطأ، ولا عن المنطقيّ وغير المنطقيّ، بل حدّثوني عن الحرام النّسبيّ، الذي يتلاعب به الأقوى، ليفصّله على مقاسه، أخبروا أبناء المستقبل أنّ الحرّيّة هي لمن يستطيع امتلاكها وليست لمن يستحقّها". وهذا تفصيل للحكمة القائلة:"الحرّيّة تؤخذ ولا تعطى."

والقارئ الحاذق لروايتي عارف الحسيني، سيجد نفسه أمام أديب خاض مجال الرّواية بقوّة وتميّز منذ روايته الأولى، ولا يحتاج القارئ لذكاء خاصّ حتّى يعرف أنّ كاتبنا يركّز على مدينته القدس التي ولد فيها أبا عن جدّ، وترعرع في حاراتها وأزقّتها وأسواقها ومدارسها ومساجدها وكنائسها، وبالتّالي فإنّ القدس تسكنه كما يسكنها هو نفسه.

    وفي رواية "حرام نسبي" وبالرّغم من أنّ الكاتب قسّمها إلى فصول، إلا أنّه أورد عشرات بل مئات الحكايات والقصص عن القدس وناسها، وتحمل هذه الحكايات في ثناياها تقاليد وعادات وأقوال وبعض الألفاظ المقدسيّة، عاشتها ثلاثة أجيال مقدسيّة من حوريّة الجدّة وابنتها اللتين جاءتا من الرّيف، وتزوّجت ابنتها من مقدسيّ، لتنجب ولدا وبنتا حملت اسم جدّتها "حوريّة"، ويلاحظ أنّ الجزء الأعظم من الرّواية جاء على لسان "حوريّة" الحفيدة، فهي "تبوح بما حملته معها عن الحياة والموت، عن الحبّ والزّواج، عن الفتاة والمرأة والرجل في مجتمع يعاني من قهر الاحتلال، وتذود عن حرّيّة روحها بكل ما لديها من عنفوان، فتنجح هنا وتفشل هناك، لكنّها تبقي الحبّ هاجسا وموجّها نحو الحرّيّة.

كما يلاحظ أنّ الرّواية رواية نسويّة بامتياز، ودور الرّجال فيها ثانويّ. وكأنّي بالكاتب يريد أن يطرح مسيرة المرأة المقدسيّة ومعاناتها من بطش الاحتلال، ومن سطوة المجتمع الذّكوريّ.

" والرّواية رواية مكان بامتياز، إذ نجد جلّ أحداثها في القدس القديمة وعقبة السّرايا والتكية، وتمتد إلى خارج السور في باب السّاهرة والشّيخ جرّاح وشارع صلاح الدّين والزّهراء وبيت حنينا."

وإذا كان المكان "القدس" يتعرّض للعسف والاغتصاب، فإنّ الإنسان هو الآخر يعاني، من تقاليد بالية تقيّده، ومن عسف احتلال يقيّد حرّيّته وينتهك حرماته وكرامته.

فحوريّة كانت تستمع مباشرة أو من خلال استراق السّمع في طفولتها لأحاديث "الآنسات" الدّينيّة، وحكايات النّساء في جلسات تعقد في بيت جدّتها حوريّة، فإنّها تربّت في حضن أب ماركسيّ، وتزوّجت من أسير محرّر يكبرها بسنوات، يعاني من البطالة، ليختلفا ويتطلّقا لاحقا دون أن ينجبا، ولتقع في ألسن النّاس وما يحيكونه من شبهات حول المرأة المطلّقة، خصوصا بعد بقائها في البيت وحيدة بعد وفاة أبيها، ولتقع لاحقا بغرام شابّ "نبيه" جمعتها به الصّدفة في طائرة أثناء عودتهما من رحلة إلى الولايات المتّحدة، ولم تنج من اعتداء المستوطنين عليها وعلى زائريها في البيت الواقع في الشّيخ جرّاح أحد أحياء القدس.

ويلاحظ أنّه جرى تغييب شقيق حوريّة، فبعد انهائه للمرحلة الثّانوية سافر إلى الأردن، ولم يعد حتّى أنّه لم يحضر جنازة أبيه، وفي هذا إشارة ذكيّة إلى هجرات أبناء العائلات المقدسيّة من مدينتهم واستقرارهم خارج الوطن.

ولم تقتصر المعاناة على حوريّة الحفيدة فقط، بل تعدّتها إلى زميلتها سميرة التي تزوّجت، وتمّ اصطحابها صباح زفافها إلى طبيب للتّأكد من عذريتها، ليتبيّن أنّ بكارتها من النّوع المطاطيّ الذي لا يزول إلا بالولادة.

وتطرّقت الرّواية بشكل سريع وذكيّ أيضا إلى موقف أبناء العائلات المقدسيّة من أبناء الرّيف ونظرتهم الدّونيّة لهم، فقد حذّرت الجدّة "حوريّة" عند زواج حفيدتها من أصول العريس القرويّة، رغم أنّها نفسها تنحدر من أصول قرويّة.

الأسلوب: اعتمد الكاتب في سرده على ضمير "الأنا" وجاء غالبيّة السّرد على لسان "حوريّة" الحفيدة، ورغم أنّ الكاتب قسّم روايته إلى فصول، إلا أنّها مترابطة، لتشكّل رواية متماسكة، لا ينقصها عنصر التّشويق.

اللغة: لجأ الكاتب إلى اللغة الفصحى والبليغة، ولم يلجأ إلى اللهجة المحكيّة المقدسيّة إلا قليلا، لتكون ذات دلالات بخصوصيّتها، لكنّ الرّواية لم تخلُ من بعض الأخطاء اللغويّة والنّحويّة.

وماذا بعد: تشكّل الرّواية إضافة نوعيّة للمكتبة الفلسطينيّة والعربيّة، خصوصا فيما يكتب عن القدس الشّريف.

وكتب محمد عمر يوسف القراعين:

  رواية "حرام نسبي" للأديب المقدسيّ عارف الحسيني، الصادرة عام 2017 عن دار الشّروق للنّشر والتّوزيع في رام الله وعمّان، وتقع الرّواية التي صمّم غلافها مجد عسّالي في 312 صفحة من الحجم المتوسّط.

الرواية مكتملة العناصر لغة وموضوعا، تعالج في مجملها مشاكل المرأة في مجتمعنا الأبوي الذكوري، وخاصة مشاعرها الداخلية، وهي تنتظر الشريك المناسب، الذي يقبلها مساوية له ولا ينفر من تميزها. ومع شمولية الرواية، إلا أنها قدمت لنا صورة مشوشة عن الزواج، فالتقليدي فيه كبت للمرأة التي يجب عليها القبول بالحرية النسبية، كما أن الزواج عن حب وتوافق لم ينصفها أي المرأة، لأن حبيبها لم يقبل أن تتميز عليه زوجته، فهرب إلى من تنجب له الأولاد.

وقد أعجبتني النسبية التي تظهر في معظم زوايا الرواية، كما تبدو في  كل نواحي حياتنا. أنا ألجأ إلي النسبية ببساطة، عندما يسألني البعض عن الصحة والأحوال، فأجيب قائلا: بالنسبة لسني أنا مْليح. وهذه عين الرضا، فلا أنسب للمطلق بل للمتغير. وأينشتاين شرح لنا نسبيته بشكل مبسط، كيف أن الشعور بالوقت أثناء انتظار دور الطبيب، يختلف عنه مع شلة أنس، مع أن الوقت هو الوقت. والحرام النسبي يظهر في بعض آيات القرآن الكريم، إذ تقول الآية الكريمة: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان". فالخطأ نسبي بالحَلف بالله. والبعض يقول: اليمين بكسر الهاء غيره بعدم الكسر. وفي الحديث الشريف أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يطلب إقامة الحد عليه، فحاول أن يثنيه عن طلب التهلكة قائلا: لعلك قبلت، لعلك لامست...إلخ، ليكون الجرم مخففا.

وعودة للرواية، فالنسبية في كل شيء هي الخط الموجه لحياتنا، تقودنا منظومة المصالح ولا تردعنا مبادئ الصواب والخطأ، والحرية هي لمن يستطيع امتلاكها وليس لمن يستحقها.

والبطلة حورية تتحدث عن أبيها الملقب بالشيوعي، الديمقراطي الليبيرالي مع التحفظ والنسبية، الماركسي في الشارع، والذي لا يمارس خلاف ما تفرضه الرجعية المطبقة على مجتمعنا في بيته. وهذه ربما من أكبر مفارقات الازدواجية في السلوك. ونظرة الناس لشخص ما نسبية: فرئيسة تحرير المجلة نظرت لشكل حورية، المنهك من أعباء العيش، فعكس أمامها نموذجا لكاتبة حكيمة مجربة متمردة موهوبة في الكتابة، ربما بسبب شعرها الأشعث، وعدم اهتمامها بالمكياج أو انتقاء ملابسها بعناية، بينما هي في الواقع منهكة من تفاصيل الحياة اليومية، والحالة الرمادية لعلاقتها الزوجية.

 كما أن هذا الوضع وخيبة أملها جعلها تصنف الهزائم لراحتها إلى نوعين: الأولى تنتهي مهما طال الزمن فيلتئم الجرح، والثانية لا تنتهي أبدا وتصبح عقدة غبية لا تتخطاها. والديمقراطية شيء نسبي عند سميرة، وهي أن زوجها مش رايح يتدخل فيها، بتفيق إيمتى ما بدها وبتجلي إيمتى ما بدها، المهم يكون الأكل جاهز عميعاد ترويحته.

أما النسبية التي لفتت انتباهي أكثر من غيرها في قانون الأحوال الشخصية، فتبدو ظاهرة في وثيقة الطلاق، من تمييز بين الرجل والمرأة، حيث تُبرئ المرأة زوجها إبراء تاما، مقابل أن يطلقها طلاقا تملك به نفسها، أي أنها أثناء فترة الزواج لا تملك نفسها، بينما هو يملك نفسه متزوجا أو مطلقا.

الرواية اجتماعية، ولكن المكالمة في الفصل الأول توحي بشيء من الحيرة والتشويق المعلق كما يقولون  a novel of suspense، كما في الروايات البوليسية. فحورية تهرع إلى بيت حبيبها على إثر مكالمة، ولا نكتشف سر حضورها لتلقى النظرة الأخيرة عليه وهو على فراش الموت إلا في آخر فصل منها، وبين الأول والأخير فصول عدة.

وكتب ابراهيم جوهر:

إنها رواية الإنسان في القدس بروحه وأحلامه ولهجته وحصاره واغترابه ومصادرة بيته وبيت جيرانه. رواية التّحدّي الذي تقوده فتاة مقدسية فتتغلّب على المعيقات التي تعترض طريق حياتها وتصرّ على إثبات ذاتها وتحقيق أهدافها.

تمثّلت براعة الكاتب "عارف الحسيني " في الغوص إلى أعماق الشخصية نفسيّا وفكريّا فنقل "مونولوجها" مما قرّبها للقارئ فتعاطف معها وأحبّها لتقوده وهو مستمتع ليقرأ ما ترويه بضمير المتكلّم تارة، وبأسلوب اليوميات تارة أخرى.

وقد أجاد الكاتب الرّوي بضمير الأنا الأنثوية ليوصل رسالته التي تتناغم مع شخصيات "نوال السّعداوي" الأنثوية. كما بدا التّناص جليّا مع إبداعات آخرين بما أغنى الفكرة – الرّسالة.

هذه رواية تثقيفية تحتجّ على العادات البالية وتدعو للتّغيير بما يحمي النفس البشرية من الضّياع والذّوبان، فأسلوبها الجميل ومضمونها الصّادم بجرأة الطّرح وانتقاد المواقف يدعوان للتّفكير والتغيير .

وقالت هدى عثمان:

تبدأ  الرواية بلغة سردية على لسان بطلة الرواية الشابة حورية في عشرة فصول، إلا أنه  يحدث انعطاف إلى ضمير المنفصل هو في الفصل السابع ،ويبدأ الأسير بالحديث عن ظروف سجنه وأثره على علاقته مع حورية.

حورية هي بطلة الرواية من قرى القدس تروي قصة زواجها حين قدمت إلى القدس، وما عانته  بسبب عدم حملها إلى أن تطلقت من زوجها الأسير المحرر رغم حبه لها، وثم رجوعها إليه في نهاية الرواية استجابة لندائه الأخير، وهو يحتضر، وعدم اهتمامها لرأي الناس بسبب علاقتها وارتباطها بحبيبها نبيه .

حورية هي الأنثى التي تثور، تتألم، وتنتقد العادات  التي سمعتها من جدتها حورية  وأُخرى عانت منها هي نفسها، فتعتبرها نسبيا حرام.

  تقول  حورية  من خلال الرواية المجتمع تسوده النّسبية في كل شيء، هي الأنثى التي لا يفهمها العالم، فتنتقد الأُمور التي عانت منها كعادة انتظار العروسين خلف الباب، وانتظار الرؤية الشرعية  لفض البكارة، واللجوء إلى مساعدة من إحدى النساء الخبيرات لتدليك الرحم من أجل تسريع الحمل، إلا أنها تفشل في الانجاب ويتم طلاقها من الأسير المحرر  .

في الرواية يرن خلخال القدس بداية بالأماكن حيث أسوار البلدة القديمة، عقبة التكية، والسرايا، وثم خارج الأسوار، الأسواق والمحلات التجارية، المصرف، البريد  والمقابر .

يرن بأسماء الشوارع  وأحيائها الشيخ الجراح، بيت حنينا، شارع صلاح الدين، ابن بطوطة وغيرها .

يرن في صندوق المرضى، مكتبة البلدية، التأمين الوطني، وبيت العزاء، المحكمة الشرعية، السجن،  المرور عبر حاجز الزعيّم، صور لهموم المواطن المقدسي من ضرائب مفروضة، وبيت مهدّد بالهدم لعدم وجود رخصة، وحتى الأغاني العبرية ترن في القدس، ويكون الكاتب صريحا في نقله لصورة من صور القدس من خلال الإشارة إلى مغازلة الشباب للبنات في الشارع، ولبس بعض الفتيات المحجبات للبنطال، وفي الرواية  نشم رائحة مصطلحات عبرية، القبعة المنسوجة" الكيباة "و مصطلح" الحاريديم "اليهود المتشددين، وذكر عادات اليهود عندما يحتفلون بأبنائهم حين يصلون لسن البلوغ بحفلة يقيمونها ذات طقوص معينة

كما وذكر الكاتب على لسان حورية صورة استيلاء اليهودي على بيت رقية جارة حورية في البلدة القديمة من خلال إبراز شخصيتي تسفيكا ورونيت .

 الرواية تمنح القارئ هوية معرفة للتعرف على ماهية الهوية الزرقاء، التي يستعملها الإسرائيلي والفلسطيني من القدس وداخل ما  يسمى بالخط الأخضر.

كما  ويشير الكاتب إلى جغرافية المستوطنات والتعريف بهبة النفق أسفل المسجد الأقصى. وتشير إلى أن المقدسي يتقاضى مخصصات تأمين للأولاد من قبل السلطات الاسرائيلية ، ويمنحنا للتعرف على مضمون كتاب تحفة العروس الذي هو المرجع المهم للدخول للحياة الزوجية.

 أشار الكاتب إلى أثر السجن على علاقة حورية وزوجها بعد أن جمعتهم الشاعرية وتفاصيل النضال ففرقهم الواقع وقهر الإحتلال.

أشار الكاتب لقضية الأسير المقدسي المحرر بصورة خاصة، وتعرضه لصعوبة وجود عمل، كما وأشار إلى  قضية تهريب النطفة من السجن .

قسم الكاتب الرواية إلى عشرة فصول، وكانت الرواية طويلة بحيث يمل القارئ من كثرة المشاهد السردية التي تمتلئ بالأماكن والتعريفات مما يجعله  يقرأ موسوعة وليس رواية. 

اللغة بسيطة مفهومة بصورة سردية، يستشهد الكاتب بالأمثال الشعبية وأحيانا لغة شعرية،  والحوار بالعامية باللهجة المقدسية. ينتقل من لسان الأنا المتكلم لضمير الغائب هو .

هنالك بعض الملاحظات الصغيرة التي لفتت انتباهي من خلال قراءتي للرواية تمنيت لو تجنبها الكاتب.

كذكره إسم البنك( بنك ديسكونت) كان بإستطاعته أن يبدله بكلمة المصرف الإسرائيلي مثلا، ذكره لبعض المحلات التجارية بأسمائها الحقيقة .

استخدام مفردات ليست فصحى "باص" بدل "حافلة."

وكتبت آمال القاسم:

رواية من 10 فصول، لوحة فيسفساء مقدسية نقشت بكل ألوان العذاب والمعاناة جسدت واقع كل الحوريات المقدسيات، رسمت حورية معالم وتضاريس القدس بوضوح وبساطة وسلاسة ولم تغفل شيئا، للوهلة أحسست أن هذه الحورية هي أنا بكل قسماتي وتفاصيل حياتي، لولا بعض التفاصيل الصغيرة، فحورية مثلت كل امرأة مقدسية كيف تكون مختلفة ومتميزة، كيف تواجه الضغوطات والتحديات، وكيف تحلم وتحب، وكيف تستغل الظروف للقاء حبيبها أمام مكتبة البلدية بشارع الزهراء،  في عمارة الجندول التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى مطعم الجندول الذي كان مكانا للعشاق والمثقفين؛ لتناول "الآيس كريم" وحورية المرأة التي تنقل حبيبها عبر الحواجز العسكرية بسيارتها ذات اللوحة الصفراء، واقع المرأة المقدسية التي اكتفت بعشق لون عيون حبيبها غير آبهة للون بطاقته

حورية المرأة التي لا تعرف الفشل الطموحة المقدامة، والتي لا يتقبلها المجتمع كانسانة قوية، لا أحد يريد أن يتعامل معها كعقل مستقل وحرّ، يريدها المجتمع جسدا تابعا، ليشبع شهوات الرجل، حتى أنها تعرضت للتحرش في العمل من قبل مدير الصحيفة التي عملت لديها، حورية التي عانت من استعباد الرجل لها ونزعة التملك لدى الرجل الفلسطيني، فحتى بعد طلاقهما يغار عليها ويراقبها ويحاسبها عن علاقاتها الجديدة، لم يتنازل عن حق الملكية.

لا تفاجئني ثقافة وقوة شخصية حورية التي تثقفت من كتب الدكتورة نوال السعداوي والتي اشتهرت كتاباتها بتحليل العلاقة بين الرجل والمرأة، لا زلت أذكر أول كتبها الأنثى هي الأصل والمراة والجنس.

أن تبني حورية ثقافتها على هذه الأدبيات فلا شك أنها ستكون محط الأنظار ومثيرة للجدل، وستتعقبها العيون أينما استدارت وستتحدث عنها كل الألسن، إنه ثمن التمرد على ثقافة تقليدية رجعية في سبيل الحرية.

لم يكن مصادفة أن يكون هناك حوريتان الكبيرة والصغيرة، فهكذا دأبت العائلات على تسمية البنت الأولى باسم والدة الزوج، وهي مثلت الجيل الجديد، وحورية الجدّة التي أتت مغمضة، وفتحت عينيها فيما بعد، ولكن فاتها الكثير من جمال الطريق إلى القدس في زمن الجيل الأول.

النهاية كانت البداية

من النهاية انطلق كاتبنا يتصفح مرارة الماضي ببؤسه وفقره وبساطته، وكأنه يضعنا على بركان يكبر ويكبر حتى يتم التحول الكامل، ويصل لحظة الانفجار، إنه بركان الانتفاضات والثورات العلمية والتقدم التكنولوجي من استخدام الهاتف الثابت ذي القرص المتحرك، إلى استخدام الأجهزة الذكية وصولا إلى الانترنت والفيس بوك .

انشغل كاتبنا بتوثيق تفاصيل مدينته بانسياب دون تلعثم شارحا التفاصيل الدقيقة للمدينة، حاراتها وشوارعها وأزقتها، وأهمّ حاراتها داخل أسوار المدينة وخارجها عقبة السرايا والشيخ جراح ،الشارع رقم واحد وحاجز قلنديا وجدار الفصل العنصري، مؤسسة التامين المكان الوحيد الذي يقف فيه المرأة والرجل بخطين متوازيين.

وتحدث بلغة كل مقدسي، الطالب والشباب والأسرى والجدات والمثقفين والماركسيين والمتدينيين الأصوليين، ورصد هموم المراة ومعاناتها مع المجتمع الذكوري، معاناتها تحت الاحتلال، الزواج المبكر والعنوسة، فالبنت التي وصلت سن السابعة عشر هي عانس، وحورية بطلتنا عرضت للزواج في الخامسة عشرة، والنظرة الدونية للمرأة المتعلمة المثقفة باعتبارها فاسقة وصاحبة رذيلة، والنظرة إلى المراة المطلقة المشتبه بكل تحركاتها وعلاقاتها، يضع حورية في قفص الاتهام.

أمّا العادات البالية التي تمس بكرامة المرأة دون الرجل، فهو اجراء فحص العذرية والتأكد من عملية فضّ غشاء البكارة ليلة الدخلة، على مرأى ومسمع أهل البلدة باشهار الدليل القاطع على فحولة العريس.

حورية ليست شخصا مراقبا أو راويا، حورية مرت بكل هذه التفاصيل ونالت منها، آلمتها ودفعت ثمن رفضها لكل هذا الواقع، الذي سرعان ما يتغير ولا يثبت على حال، فالتحول الفكري من ماركسي إلى أصولي إلى التغيرات الاجتماعية والجغرافية، إلى الازدحام المروري في شوارع القدس والتلوث البيئي بسبب الحفريات وعمليات هدم المنازل، التي تهدف إلى تغيير معالم المدينة، إلى الانتشار المكثف للاستيطان، والسيطرة على منازل الفلسطينيين من قبل المستوطنين الأغراب، غير معالم منزل الجارة رقية في الشيخ جراح بوابة حديدية مرتفعة تعلوها الكاميرات ونقاط الحراسة. 

استخدم الكاتب اللهجات واللكنات القديمة للمقدسيين (يوو- عدوات –العصملي-الوشتي بمعنى حبيبتي، وشيتي بمعنى خاصتي) وغيرها ممّا أضفى على الرواية مرحا وجمالا وروح المداعبة.

أعجبني أسلوب الكاتب عندما استخدم أسلوب رواية المشهد الواحد الذي كان يرويه تارة برؤية حورية، وتارة برؤية نبيه وآخرين، كأنه يريد أن يؤكد على دقة الأحاسيس والمشاعر داعما بذلك شهادة حورية.

الرواية توثيق دقيقة لكل تفاصيل حياة المقدسيين، تحركاتهم ومعاناتهم مع الضرائب وسياسة التمييز العنصري، وبحثهم عن سبيل للرزق.

عمّو احمد / صديق والد حورية، هذا الرجل جسد رمزا للوفاء الذي أصبح نادرا، يعود ليتصل بحورية من الأردن التي هاجر إليها يحمل في طيات هاتفه أمرين يهتم بهما الرجل الشرقي عن بعد وعن قرب، القضية الأولى الميراث الشرعي، والقضية الثانية العرض والشرف ،كلاهما يلتقيان عند نقطة واحدة، كلاهما يورث أو ينتقل بالوراثة، فسمعة حورية المثقفة والمتحررة ابنة الرجل الشيوعي "الكافر"، وقصة فسقها تلازمها أينما حلت حتى وصلت الى الأردن، فهناك من همس بأذن أخيها ( ضب اختك) 273

وهاجس الفسق والرزيلة تسيطر على حورية حتى اضطرت إلى الكذب حول الأجنبية التي استأجرت منزل حورية، وصديقها الأصغر منها سنّا فادعت أنها خالته حتى لا يقال عنها أنها تروج للرذيلة ص 278 ، تقول حورية لم أقرر العودة للقدس إلا من بعد أن أدمنت حبوبا مهدئة للأعصاب تجعلني سعيدة تارة وتعيسة تارة أخرى.

هل حبنا للقدس أصبح كالجنون الذي لا يهدأ إلا بأخذ نوع من الحبوب المهدئة لتساعدنا على الاستمرار في الصمود، وتحمل الاوضاع القاسية للمدينة

أجاد الكاتب فن التشبيك بين المواضيع، والانتقال بسلاسة إلى موضوع آخر يوثق فيه حالة أخرى، في مسيرة المقدسيين ص 277 الانتقال للحديث عن المقاومة الشعبية السلمية وعن المتضامنين الأجانب لمقاومة جدار الفصل العنصري

"حاصرني الناس حتى وجدت مستأجرين أجانب جاؤوا ليعلمونا النضال السلمي

كانو قد جندوا أموالا للمقاومة الشعبية"

لم يتجاهل الكاتب دور الحركة الأسيرة ومعاناة الأسرى في التحقيق داخل الزنازين وبعد التحرر، حيث يعيش الأسير حالة غربة وصعوبة التأقلم، فبعضهم يقبل على الزواج لاشباع رغبة جنسية، بينما هو لم يتأهل للاندماج بالمجتمع، وتقبل الآخر، الأمر الذي عكس نفسه على طلاق حورية نتيجة التحول الكبير الذي سيطر على زوجها بعد اطلاق سراحه، عانى من الاكتئاب والتخبط وعدم تقبل الواقع الذي فرض عليه أن يعمل عتالا في مطعم فلافل، والذي اضطر للعمل فيه ليتجنب الحصول على حسن السلوك، الذي لن يحصل عليه بسبب كونه أسيرا سابقا، هذا الأمر الذي ألقى بظلاله على حياة حورية وزوجها، الذي طرد من العمل لكونه أسيرا سابقا، وخانته ذكوريته وفحولته، فلم ينجب الأطفال، وألقى بهذا الأمر على كاهل حورية حتى بعد أن أثبتت الفحوصات الطبية أنها لا تعاني من شي، هو هذا الرجل الشرقي الذي يتقبل كل الأمور الا المساس بفحولته العظيمة، وبحجة عدم الانجاب أطلق زوج حورية عليها ثلاث رصاصات: أنت طالق... أنت طالق أنت طالق، ظنّا منه أنه أرداها قتيلة، ولكن حورية بسبعة أرواح متجددة قوية لا تعرف الخوف كما لا تعرف الفشل بحياتها

تقول حورية: أنا ابنة القدس العظيمة، أنا حورية الأنثى المرأة الفخورة بأنوثتي، ولست (أخت الرجال) كما ظن أنه يمدحني بأن يجمعني بمن هم أفضل مني حسب رأيه "الرجال". لا أجدهم أفضل مني بشيء، لهم من القوة ما لها وعليها من الضعف ما عليها، أنا استحق المديح يا معشر الرجال؛ لأني حورية وليس لأني أخت أحد.

وكتبت نزهة أبو غوش:

"حرام نسبي" رواية نسويّة بامتياز

من النّاحية الفنيّة اختار الكاتب عارف الحسيني في روايته" حرام نسبي" طريقة سرد الرّواية بضمير الأنا، مرّة على لسان الأُنثى، ومرة على لسان الذكّر؛ علما بأنّ نفس الحدث كان يتكرّر، لكن بوجهة نظر تختلف أحيانا حسب المتحدّث،

عندما اختار الكاتب الحسيني شخصيّة حوريّة بطلة الرّواية ساورني الشّك بأنّ اختيار شخصيّة امرأة يعبر عنها، هو اختيار غير موفّق؛ لأنّني أعتقدت دائمًا بأنّه لا يعبّر عن المرأة إِلّا المرأة نفسها؛ لكنّي فوجئت بعكس ما كنت أعتقد. فقد أبدع الرّوائي عارف الحسيني في التّعبير عن مشاعر وأحاسيس وتطلّعات البطلة حوريّة، تلك المرأة المقدسيّة المتمرّدة، الّتي لم تسكت أبدا عن الخطأ المجتمعي، وتمرّدت على عادات وتقاليد كثيرة لم ترق لها؛ لأنّها رأت بأنّها تقف عائقا أمام تقدّمها ومسيرتها الفكريّة والعمليّة. ذكّرتني شخصيّة حوريّة ببطلة بوصلة من أجل عبّاد الشّمس للرّوائيّة الفلسطينيّة ليانا بدر. إِذا ما فكّرنا أن نعقد مقارنة ما بين الشّخصيّتين، فلا نجد فرقا من ناحية التّعبير عن مشاعر القهر والظّلم المجتمعي الواقع على المرأة. المرأة الّتي لم تنجب، المرأة المطلّقة، المرأة مسلوبة الحقوق والارادة، المرأة الّتي تتحكّم بها عادات وتقاليد مجتمعيّة بائدة. المرأة الّتي يرى المجتمع فيها مرتكبة الحرام، بينما لا تراه هي حراما؛ لأن الحرام هو نسبي حسب القناعات الدّينيّة عند كل شخص.

في رواية " حرام نسبي"  دخل المؤلّف إِلى بيوت وشوارع القدس. رصد عاداتها  وتقاليدها وخنوعها، وخوفها. في الفقرة الّتي عبّر فيها عن الكشف عن عذريّة سميرة صديقة حوريّة وعرضها على طبيب نسائي؛ كانت الصّورة معبّرة عن إهانة المرأة بأقصى الدّرجات: سأل الطّبيب ببرود: مين بدو يعرف أنت ولا أُمّك؟ أجاب "كرّوم " باستنفار:

-أنا وأُمّي وكلّ لبلد ص 105"

بيّن عارف الحسيني في روايته قساوة وبشاعة الاحتلال، ومدى سيطرته وسلطته على مدينة القدس. الهويّة الزّرقاء الاسرائيليّة هي بمثابة تأشيرة للمقدسي؛ كي يخطو على أرضه المحتلّة، فهو بالنّسبة لباقي الأراضي المحتلّة "إِنسان مميّز"! هذه المفارقة بدت واضحة من خلال عدّة صور تبيّن مدى حاجة المقدسي لمحتلّه ؛ من أجل لقمة عيشه، فمن تقبله المحلّات التّجاريّة في القدس الغربيّة للعمل عندها، فهو ملك زمانه. مثل بائع الفلافل – زوج حوريّة – الّذي طرد من عمله حين تبيّن بأنّ له ملفا أمنيّا ضد الاحتلال. في القدس نرى أشياء لا نراها في باقي المناطق مثل مدينة رام الله أو نابلس أو... السّجين الأمني مثلا عندما يخرج من سجنه في مدينة القدس، يظلّ محاصرا ومراقبا لا يقبله أحد للعمل ويخافون التّقرّب منه تماما مثلما حصل لبطل الرّواية؛ بينما في باقي المناطق، فإِنّه يكرّم وينال أعلى المناصب والدرحات. هذه صورة من بين مئات الصّور الّتي أبرزها الكاتب والّتي يجهلها الكثيرون في العالم.

أدخل الكاتب بعض العبارات، والمصطلحات العبريّة الّتي اندمجت بلغة المواطن المقدسي نحو " الرامزور" بدل الاشارة الضوئيّة.

على لسان الشّخصيّات عالج الكاتب بعض المواقف بشكل فلسفيّ ينمّ عن تجربة وثقافة المؤلّف، حيث أدخل أسماء بعض الرّوايات الّتي اطّلع عليها. مثل: جلجامش، كتاب الملل... وغيره.

هناك أحداث حصلت في القدس كان لها الأثر الكبير على نفسيّة البطل، مثل المقهى الّذي انهار نتيجة للأمطار والعواصف في شارع  السّلطان سليمان، كذلك انهيار المقابر وسقوط الهياكل العظميّة  فوق الرّجال تحت المقهى. لقد كانت هذه الصّورة مؤثّرة جدّا؛ لأنّها فعلا حدثت.

في الرّواية حضرت أمكنة وقعت عليها بصمات التّاريخ.

قال عارف الحسيني هذه هي القدس أيّها العالم. القدس شيء آخر يختلف عن كلّ المدن. في القدس يسكن اليهوديّ ملاصقا للعربي. في القدس تسلب البيوت من أصحابها. في القدس يلبسون الحجاب والقناع. في القدس متديّنون وماجنون. في القدس كلّ شيء مباح للمحتلّ. في القدس عمليات تهجير وتهويد، وتطويع، ومحو ثقافات. في القدس الانسان محاصر ومكافح؛ من أجل بقائه وكيانه. في القدس يسيطرون على أماكنك المقدّسة وينسبونها لهم. في القدس حبّ ومحبّين، لكن فيها يضيع الحبّ ويختفي. في القدس متمرّدون، وثائرون، ومقهورون.

رواية " حرام نسبي" تعتبر توثيقيّا لمدينة عاشت وما زالت تحتلّ مساحة كبيرة في صدر التّاريخ .

وقالت رشا السرميطي:

عارف الحسيني: روائي يمتلك مفاتيح القدس والأنثى

رواية حرام نسبي كانت بدايتها النهاية والرجوع للخلف، ثم تضمنت الحب وجنون عشاقه، والغرق بسبب التخلي وصولا إلى حرام نسبي ونسبية كل شيء في حياتنا، الرجل في تباين أدواره: أب وحبيب، وأخيرا الحقيقة. وقد ضمها الغلاف اللافت الذي صممه الفنان مجد عسالي إذ يحمل أقصوصة فنية لفتاة بالأسود طمست ملامحها، وقد أشرقت من عتمة حداد آلامها زنبقة بيضاء، وعلى رأسها وخصلات شعرها امتدت القدس، هناك في تلك المدينة تمكن الروائي الحسيني من امتلاك مفاتيح أسرار القدس والأنثى معا، روى لنا ما جرى مما لم نقرأه من ذي قبل، مستثمرا تفاصيل الحياة الاجتماعية والذاكرة المكانية من خلال بطلة الرواية بنت البلد "حورية".

تنقلت أحداث روايته عبر خيوط مبللة بالدمع؛ ليجر لنا ما تبقى من حزن فتاة تعذبت وغلبت على أمرها منذ ميلادها حتى موتها الأخير، وولادتها من جديد على ضفاف قلب نبيه الذي بوجوده بدأت تلتئم بعض جراحها وتسكن عذاباتها، لتقع بالحيرة بعد اتصال صديقة الطفولة سميرة، وما بين ميت تحبه تخون ذاك الحي الذي أوقدها بعد انطفاءات شاسعة، تتشابك أحداث الرواية وتشتد عقدتها، ثم تنفرج على حبال المواقف التي تمكن منها الروائي بحنكة واتقان. لقد وفق الكاتب باختيار العنوان اللافت – حرام نسبي- لينقل لنا مضمونا غريبا ومثيرا، ومن يقرأ الرواية يعرف بأن الكاتب تعدّى الحرام النسبي الذي يتلاعب به الأقوياء؛ ليخبرنا عن النسبية في عدة أمور منها: الهدوء، الحب، الكره، الموت الوطن، التيه الضياع، الامتلاك، الخلود، وغيرها من نسبية المشاعر الضارمة تحت لواء الحرية لمن استطاع أن يمتلكها وليس من يستحقها فحسب.

الاهداء الذي قدمه عارف الحسيني إلى "لور" الابنة التي زف لها والدها تعب الحياة وقسوتها، على وردها من النساء قد وشى بأنّ هذه الرواية كتبت لأجل المرأة، وهدفت إلى رفع لظى الظلم عن فخذيها وقلبها وعقلها وفكرها. وكم بدا غريبا لدى القارئ هذا التراجع! أن يبدأ الرواية من النهاية. نجح عارف الحسيني ببراعة باستدراج قارئه للخلف ممسكا به بأذرع سرد متينة ومشوقة، مقلبا صفحات هذا الماضي المسكون بالتيه والتعب المثقل على كاهل الأنثى في المجتمع المقدسي خصوصا، التي جلدتها عصيّ الحبيب الأم والأب والجدة والأخ والعادات والتقاليد وتناقضاتها الفردية أيضا. بدا الكاتب مراوغا ومشوقا لقارئه، بارعا في اشعال شرارة الفكرة في سرد موارب لتفاصيل اجتماعية يومية لا لون لها سوى الجري الخافت؛ لتعقب خطوات الأسطر، في محاولة لتوريطنا بشخصية مزدوجة حملت اسم الحورية: الأولى تسرد على سجيتها، والثانية تندب بصلابة، ومابين اتصال غامض يباغت حورية من صديقتها سميرة إلى مشهد غباش يحمل صورة الموت لمن كانت تهوى، ينتهي فصل نقل به عن النساء وابل بؤس العادات المجتمعية، وتحت سياط من الشتائم والهمس واللمز تدخل حورية قاعة فسيحة لترى ما لم نعرفه سوى في فصول لاحقة، بغموض يثير الفضول، يسرد الكاتب الأحداث وينتقد الاعتقادات التي لا تنتمي لاستناد علمي حقيقي، ويفيض بالبوح الداخلي لشخصيته الرئيسة حورية عندما تعرف ذاتها صفحة (35): أنا بنت البلد التائهة في زحمة الأحداث، أكظم غيظ الطفولة، وتتلألأ أمامي أحلامي كالبلور المبلول في شعاع الشمس..جئت بمكالمة هاتف وسأذهب بلا شك، فلا تتسرعوا بشتيمتي.

وربما كانت دلالته الخروج عن المألوف المنطقي والمتقبل الحقيقي الواقعي، هنا برز الحلم بحب يحطم الظروف والمواقف، يسترسل الكاتب بتحليل مفهوم الأنثى بقلم رجل وبجرأة لم أعهدها، يختار زمان السبعينات كبداية، يروي قصة رقية والأحداث إبان اندلاع الانتفاضة الأولى، ثم الثانية، يدخلنا بفلسفته في تفكيك المصطلحات العبرية مثل مصطح (رمزور)، الذي يعني الرمز والنور، ويمرر مأساة حقيقية يشهدها المارين من الشارع عند مفرق كركشيان، وعنصرية إشارة المرور، تتداخل العبرية في حياة من عاشوا بالقدس بعد الاحتلال آنذاك، يصف المفاتيح المدورة التي ترمز الآن للعودة عند كل فلسطيني، فقد كانت مفاتيح الأبواب قديما هكذا، وفي تداخل تاريخي بين الجارة رقية والجيران الجدد تسفيكا ورونيت يبدأ السرد عن اليهود، وتتضح ثقافة الكاتب ومعرفته واطلاعه عنهم، يكتب عارف الحسيني بلغة الناس العاديين، يومض لأهمية الكلمة، في مشهد يقدم به الزوج الذي تخلى عن زوجته كلمات متناسقة ومنمقة لاسترجاعها واستمالتها، يجرحها النسر لتخبره حورية لم يعد بالواد غير الحجارة، ولم يعد له بالقلب مكان، في ايقاع شذي يعزف به الرجل على جسد المرأة ينتهي الفصل، لنبدأ تاليه برغبة أشد من البداية الأولى.

الوصف المكاني الدقيق لمدينة القدس، والتسميات الصحيحة ما قبل الاحتلال التي اتخذ لها مرجعيات تاريخية ميزت رواية عارف الحسيني بهوية مقدسية، القارئ لروايته يشعر بأنه يعيش داخل القدس، يتلمس حجارتها، يشتم عبق شوارعها، يسمع أصوات ولهجة المارين، بدأ الكاتب بالفصل الثالث – حرام نسبي- يتغلغل لعمق أكثر في شخصياته، تحدث عن الآنسة ودرس الجدة حورية، وتلصص حورية الصغيرة لاستقراء مجاهل لا تعرفها عن الأنثى التي تعيش فيها، يبدأ الكاتب من غشاء البكارة ونظرة المجتمع للأنثى من فخذيها؛ ليصل قلبها وفكرها متمكنا من عقل أنثوي ببراعة، فكيف يكتب عنه رجل؟ وهذا ما أثار استغرابي إذ تقمص الكاتب جسد امرأة ليرفع صوت النساء، وكأنه العارف بنساء المدينة التي حاكى معظم تناقضاتها ومنغصات العيش فيها. انتقد التداخل الثقافي التركي لحياتها، تطرق لأثر الكتب التي نقرأها، ويشرح " بعض الكتب تغير حياتنا"، تموت الأم ويبدأ الحديث عن حفظ فرج الرجل وتجنبه للمعاصي بتزويجه، لكنه يأبى ذاك السكير اليساري، يصف باب الساهرة العامر بالورود وحياة جميلة اجتماعية كانت بذلك الوقت متداخلا بتداعيات اجتماعية حدثت بعد الاحتلال، وغيرت ملامح المجتمع والمدينة، يومئ للموت من خلال مشهد مقبرة باب الساهرة، وفي الموت دلالة النهايات، يصف المكان ويحكي تبدل الأسماء، يلعب على حبال مشاعر القراء ليستدعي الواحد والعشرين من آذار في سياق جميل تتذكر به حورية أمها التي توفيت في لغة أدبية رشيقة ورصينة في آن، يعود للتداخل الثقافي الجديد الذي طرأ على المجتمع إثر اندماج الشعب اليهودي والعمالة الفلسطينية عندهم يحكي عن البارمتسفا والبات متسفا، والصديقة الفاجرة لسبب وحيد هو عدم التزامها بالحجاب مقابل المنقبة سميرة زوجة كروم الذي أحكم سيطرته عليها بعد الزواج برسم المسموح والممنوع في تفاصيل حياتها، ليدلل عن الصراع الديني والاجتماعي والجنسي، يتحدث عن الأغاني الدينية حسب اعتقاد المتديين رغم أنها على موسيقى عادية، يصطاد الأحداث، يبرز تناقضات المجتمع، ليسلط الضوء على تحرش المسؤولين بالفتيات في العمل كتجربة حورية الصحفية ومديرها، وفشل كروم في فض بكارة سميرة وعيشها الذليل في كنفه واستبداد الرجل الشرقي بالفطرة، واستبداد المرأة حينما يسمح لها المجتمع بذلك في تدهور ثقافي وحضاري.

استخدم عارف الحسيني شخصية الأب ليلقي الضوء على الانسان الماركسي المنفتح الذي يسكر ولا يأبه بالحياة والدين، تحدث عن الحاجز بعد اقامة الجدار، ومعاناة المقدسي من خلال كنبة تخرج من الحاجز ويصعب دخولها، يعود للموت الذي يبني ويهدم في الذات ويغلق ويفتح آفاق فيغيرنا ضمن حيز – كفر نسبي- يفصل هنا بين الإنسان وبين توجهاته الدينية وعاداته السلوكية الأخلاقية، مؤكدا على حرية الإنسان باختيار دينه وعقائده عن قناعة لا عن موروث فطري، يجري تغييرات على حياة شخصية اليساري بعد انقضاء مرحلة الشباب وعن فكرة الحج لبيت الله بعد الخمسين في سن الضعف والوهن، يعود بالمشتاقين للمدينة، فيتحدث عن القدس: زقاقها، قهوتها، طاولة الزهر، الشاي، مقر الإذاعة الذي يوجد مكانه اليوم مبنى التأمين الوطني، أسماء الشوارع، المباني، ملامح المدينة، ومشاهد الإذلال للإنسان الفلسطيني والعنصرية التي تمارس من شعب محتل لآخر ، يتحدث عن تطور المجتمع التقسيمات الجديدة الاجتماعية للناس، والأحزاب، رام الله العاصمة المؤقتة والقدس العاصمة المؤكدة، الرجل الذي لا يملك هوية زرقاء وحالة الزواج بامراة مقدسية تحمل الهوية (الخرقاء) والعرس الذي كان في قاعة متواضعه ببلدة العيزرية شرقي القدس، وانتهى بقبلة على الشاطئ، بعد انطفاء وهج الحب، رغم محاولات حورية بإنقاذ زواجها، حتى يغرق الحب ويفترقان، رجل يتخلى عن امراة تتقدم بحياتها وهو عاطل عن العمل، فمن رومانسية المسلسل التركي وركوع الحبيب أمام الموظفين، لخطبة حبيبته يبدأ الجد في واقع جلد الرجل للمرأة، وتحمليها وزر عدم الإنجاب، واللجوء للعادات القديمة لتمريج الرحم والزيت والقراءات الروحانية، حتى يصل الطلاق في النهاية؛ ليتحررا من طوق هذا الزواج الفاشل.

بالفصل السابع - يحكي (بصوت الرجل) عن تجربته، آلامه، والتحديات، تجربة الأسر، وعادة تهريب النطف من الأسرى لزوجاتهم الصابرات في الخارج، يتوسع في المفارقة الكبرى بين الأسير المحرر العائد إلى مناطق السلطة الفلسطينية حيث يحظى بالاحترام والتقدير والأحقية، وتفتح له الحياة ذراعيها بشرف اجتماعي، وبين الأسير العائد للقدس وقد سيطر الاحتلال على كافة جوانب الحياة، فتلوكه قيود المدينة؛ ليغدو المناضل من وطني إلى عالة اجتماعية أو عامل لدى اسرائيل، في هزة للقارئ يوقظ حواسه يقول عارف الحسيني " لا أدري إن كان كل شيء اختلف بالقدس بسرعة"، ينهي فصل الزوج الحبيب على عجل ليدخل القارئ بدور شخصية نبيه الرحل المحب الذي يبنبش حياة حورية وذكرياتها مابين نسيان الماضي والسماح لقلبها بأن يبدأ من جديد، وما بين اليأس من حياة لن يكون نبيه فيها مختلفا عن غيره من رجال هذا المجتمع.

أما الفصل التاسع -البنت أنا- يسلط الكاتب الضوء على المرأة المطلقة في مجتمعنا ونظرة الآخرين لها واعطاء الحق لأنفسهم باتهامها، وكأنها شاذة عن السلوك الأخلاقي القويم لمجرد حالة اجتماعية، وهي الانفصال الذي قد لا تكون سببا فيه، تبدأ القوة تتفجر من هذه الأنثى، تحاول بنت البلد العودة للتمركز حول نفسها بعيدا عن الرجال جميعهم: المتدين والملحد، اليساري المتحرر واليميني المحافظ، المتعلم وغير المتعلم، وفي حاجتها لرجل تلقي بأوجاعها على كتفيه يصبح نبيه الملاذ المتبقى بأمل خافت في ظل موت أبيها، وتخلي أخيها المهاجر ومطالبته للعم أحمد بأن يضبها (أخته المطلقة المنحلة حسب تعبيرات الجيران) وبحصته من بيت الأب أيضا، لتكون الخلاصة: فتاة طحنها المجتمع رغم تمردها وهي المحاصرة من الناس لحالة اجتماعية ألمت بها، يقرر الروائي عارف الحسيني النجاة لشخصيته البطلة (حورية) بعبارة:" من قال أن الحب الحقيقي يأتي مرة واحدة في الحياة؟ الحب الحقيقي يأتي مع الإنسان الحقيقي مهما كثر أو قل وجودهم بحياتنا.

تنتهي رحلة تيه – حورية- بطلة هذه الرواية بـــ "الحقيقة" التي لا شك فيها، حورية تحب رجلا ميتا وتواعد حبيبا على قيد الحياة، فهل حضور مراسم تشييع حبيب ميت خيانة لحبيب حي؟ وكأن الحياة لم تتسع لكليهما.. وكأن الموت هو الحاضر والغائب لا نسحبه عن الرف ونفكر فيه إلا حين يحل علينا.

ملاحظات عامة حول الرواية:

- وفق الكاتب باختيار المكان في روايته، فهو ابن القدس العارف فيها، ومنتمي لأدق التفاصيل الصغيرة التي ورد ذكرها بالرواية، نجح بالوصف ضمن مرجعية وسياق تاريخي واجتماعي، كما أعتقد بأن ذلك كلفه جهدا كبيرا على المستوى البحثي والاطلاع؛ ليصل الحاضر بالماضي من حيث الأسماء للشوارع والمباني التي استبدلت اليوم وانقلب حالها، وما هدم وشيد مكانه الآن.

- برع الكاتب في التغلغل لشخصياته بالوصف والسخاء بتكوين التفاصيل؛ ليعطي قارئه ويشاركه شخصية حقيقية تنطق وتتحرك رغم أنها مصنوعة من الورق والكلمات؛ في سياق سردي سلس لوضع الشخصية في موضعها الدقيق من الرواية، كان دخول الشخصية للحدث منمقا، نموها منطقي، نهايتها والتضاؤل بوعي ودقة وحكمة.

- الحورارات الداخلية لدى شخصيات الرواية كانت غنية، وتأخذ القارئ لمواطن التأمل بطريقة عميقة، إذ يبدأ بطرح أسئلته ويتحرك حوار ذاتي لديه، أعجبني حوار حورية بلغة الأنا ص35، وحديثها عن فلسفة التخلي عن رجل ص44 وصوت الميت لحظة وداعه في نهاية الرواية ص311 وغيرها من المواطن القوية في منولوج ضميرها.

- المدد الاجتماعي بتفاصيل الحياة، ميّز رواية حرام نسبي، سعة اطلاع الكاتب على تفاصيل الحياة الاجتماعية النسائية، التي لا أعرف كم كلفه ذلك من الجهد والوقت للاطلاع والتحليل والفهم؛ ليطرح ذلك ضمن سياق قويم كتب بقلم رجل! فكان منه الانتماء للمرأة والكتابة بلغة الأنثى المظلومة القوية والمتمردة وهو المنحاز إليها.

- تكسر الأحداث بأبعاد فلسفية برزت فيها الحوارات الداخلية التي تشارك القارئ في الصدمات العاطفية، التي تجعله يضحك ويبكي مع تسلسل أحداث الرواية المنظم، الأفكار مرتبة، النقلات بالأحداث واعية، مساحة التأمل وحيز التفكير للقارئ محفوظة، لم تزدحم الأحداث لترهقه فلا يرى نفسه منها، ويسمع صوته داخلها.

- اللغة محكمة رشيقة وسلسلة مملوءة بالحب والجمال والبساطة، لغة الناس في القدس، في وسطية واعتدال المنتصف، وربما تصنف هذه الرواية إن جاز لي التصنيف بأنها: أدب اجتماعي بحت، مقدسي الهوية، فلسطيني القضية، حيث أضاءت الرواية على صراعات دينية مجتمعية واجتماعية دونما تحكم من الروائي، ليفرض رأيه وفكره على قارئه، إذ وثق تفاصيل حياة اجتماعية ويومية بسلاسلة وتدرج، مثل: حالة السائق الثرثار الذي يعمل بالقدس الشرقية، والعلاج بالسحر وبول الحيوانات، المحلات في شارع صلاح الدين، المقبرة والنساء، جلسات الآنسة، النظرة الاجتماعية للمطلقة، الحب، الموت وغيرها.

في الختام – حرام نسبي- رواية تبدأ بالمرأة من فخذيها تمتلك قلبها وتحدث عقلها، نجح الروائي عارف الحسيني في تعرية المجتمع أمام قضية المرأة التي تشكل نصفه، وأثار الضجيج حول واقعها المؤلم بتداعيات متباينة، لينفض غبار الصمت والسكون عن كثير من الأحداث الاجتماعية هناك، وما هذه الرواية سوى كنز أدبي يضاف لمكتباتنا الفلسطينية.

clip_image002_d0f7b.jpg

  ( صورة غلاف الكتاب )

clip_image004_41dbb.jpg

  ( الأديب سهيل عيساوي مع حاتم جوعيه )

 مقدِّمة :  تقعُ هذه القصةُ في 30 صفحة  من الحجم الكبير، تأليف الأستاذ سهيل إبراهيم عيساوي ، رسومات : منار نعيرات ، إصدار  دار الهدى ع. زحالقة  -  كفر قرع  . 

مدخل :     تتحدَّثُ هذه القصَّة عن ملك  ذكي وحكيم  ومحبوب  من قبل  شعبه اسمه ( فهمان الزمان)  كان يحكمُ مملكةً اسمُها "مملكة النور" بالعدل والحكمةِ والإحسان، فأحبَّهُ جميعُ الناس في المملكةِ وعاش السكانُ في عهدهِ  بسعادةٍ  ورغدٍ  ورخاء .  وكانت الممالكُ  والأممُ  المجاورةُ  تحسدُهُم  على الإزدهار  الإقتصادي والرقيِّ  والعمران والإبتكارات والإختراعاتِ العلميَّة   والهيبة  السياسيَّة ، ومتانة  النسيج  الإجتماعي  وعلى  جوَّ المودَّة  والمحبّة والوداعة الموجود  في هذه  المملكة. وكان هذا الملكُ شغوفا ومغرما بالثقافة والمطالعةِ  وباقتناء الكتب  ويحبُّ العلم  والثقافة  والفنّ  والرقي والحضارة والتطوُّر ويقدِّرُ ويحترمُ العلماء ويكرِّمُ الأدباء  ويخصِّصُ  ميزانيَّات  طائلة   من خزينةِ المملكة لأجل نشر العلم والثقافةِ (وطباعة) الكتب النفيسة والهامَّة  لتنشئةِ  الفتيان  وتوعية  الأطفال ( صفحة 8 )... واستعملَ الكاتبُ هنا  كلمة طباعة الكتب ولا أعرف إذا  كان قد استعملها  عن قصدٍ  أو من  دون انتباه لأنه قديما  لم  يكن هنالك مطابع  وطباعة ، وكانت الكتب تنقلُ  وتنسخ  من  قبل الخطاطين  والنسَّاخين.. هذا قبل اختراع  ماكنات الطباعة )...وشيَّدَ هذا الملكُ وأقامَ المكتبات الوطنيَّة والكليَّات  العلميَّة  ودور العلم والمعاهد العالية حتى أصبحَ طلاب العلم يأتون ويتهافتون إلى هذه المملكة (مملكة النور) من كلِّ جهةٍ  وصوب لأجل العلم وطمعا في اغترافِ الدررالمنشورة  في بطون الكتب والمعاجم وافواه المدرِّسين (صفحة 9 )..ولكن هذا النجاح والإزدهار والتطوُّر وانتشار العلم  والرخاء الإقتصادي  لم  يرق   لوزير الملك  الأول فايق زمان  الذي كان يكرهُ ويمقتُ العلم  ويكرهُ المتعلمين ويستشيط  غضبا ويغيبُ عن وعيهِ  إذا  وقعَ على أسماعهِ اسمُ  كتابٍ  أو أديب  أو مؤرّخ  أو جغرافي أو كيميائي او فلكي ويتهمُ الملكَ  بتبذيرالأموال من خزينة  المملكة   على أوراق تعني ولا  تُسمن من جوع وتفسدُ عقولَ الأطفال وتضيع الشباب  والجيل الناشىء في الفلسفة والهرطقة والقصص الخياليَّة. وكان هذا الوزيرُ يفكرُ في  تدبير انقلابب  لإزاحة  الملك عن عرشهِ  ولكي  يجلسَ  مكانه ... واستغلَّ هذا الوزيرُ  سفرَ الملك  فهمان  الزمان في رحلةِ  صيدٍ  طويلة  في عمق الأدغال  وقام بانقلابٍ عسكري  مفاجىء وقسري  وأمسكَ عنوة بنظام الحكم في هذه المملكة بالتعاون مع رجالهِ واتباعهِ الأوفياء له من العسكريِّين  غلاظ القلوب.( واستعمل الكاتب هنا كلمة الرجال العسكريين غلاظ  القلوب لأن رجال الجيش والمحاربون يكونون في أغلب الأحيان بعيدين عن أجواء العلم والثقافة والأدب والفن وكلُّ تفكيرهم ونشاطعهم مكرَّس  للحرب وللقوة ولهذا هم غلظاء القلوب وقساة  وعواطفهم  ميتة ) .   وعندما عادَ الملكُ من رحلته فرحا  بصيدهِ  الثمين  تفاجأ  بتغيير الحرس الذين أحاطوا  به مهددين  بقتلهِ  مطالبين  باستسلامه  دون  مقاومة، وعندما أدركَ  الملكُ حقيقة الواقع والموقف المأساوي اشتدَّ غضبُهُ وأغمى عليه من شدّة ِ القهر وهول الصَّدمة  وأثرها على نفسِه الجريحة. فأمرَ الملكُ  الجديد  فورا ( الوزير السابق الذي قام  بالإنقلاب واغتصب الحكم  والسلطة )  بأن  يوضعَ  الملك الحقيقي  في غياهب السجون ... وأمر أيضا  باعتقال  جميع  الكتاب والعلماء  والباحثين والمفكرين  وبمصادرةِ جميع الكتب التي  تحتفظ  بها المملكة وتجميهعها في سجن القلعة  الكبير، وَحُظرَ على  الوراقين  والنسَّاخين  التعامل  مع  الكتب والكتَّاب ، ومنع  الأطفال  من  تصفّح  الكتب ، وأغلقت  دور العلم ( صفحة 14 ) وتمَّ  تحويل المدرِّسين  والمحاضرين  للعمل  في الصناعة  والزراعة  والجيش...( ذكر الكاتب هنا الأطفال وموضوع المطالعة والقراءة  ولم  يقل الكبار لأن القصَّة كتبت  للأطفال ) ولكي  يثيرَ انتباهَ الطفل  ويوقظ  حواسه  و يشجعَهُ ويشوِّقهُ على قراءةِ القصص.

ولنرجع للقصة... فهذا  الوضعُ الصعب  والمأساوي  في  عهدِ الملك الجديد  أغضب جميع الناس ، وعمت الإضطارباتُ  السريَّة  والعلنيَّة  جميع  أنحاء المملكة  ردًّا على الخطواتِ والقرارات المجحفة التي أصدرها الملكُ الجديد ، لكنه استعملَ القوَّة والبطش وأعمل السيفَ والقبضة الحديدَّة ، وسرعان ما خمدت نيرانُ الغضب والمدّ الشعبي الرافض وتلاشت همساتُ الليل الحزين ،من خلال عزف الحاكم على وتر التهديدات الخارجيَّة من الممالكِ الاخرى ( على حِدِّ  قول الكاتب  وإنه لتعبيرٌ شاعري  جميل ومنمَّق ).. وهذه الجملة الأخيرة  تذكرنا  بالأنظمة العربيَّة  القمعيَّة  والدكتاتوريَة اليوم  والتي تتبجَّحُ  بالعدالة  والديمقراطيَّة   وتتغنّى  بالكفاح   والنضال   والمقاومة   والمناوءة والتصدِّي للخطرالخارجي ومخططات الإستعمار لكي تلهي الشعبَ وتسكته  وتبعدَهُ عن الثورة والعصيان والتمرُّد ضدّها ولكي تبقى هذه الأنظمة القمعيَّة والدكتاتوريَّة  مستبدَّة  وفارضة  هيمنتها على شعوبها  المغلوبة على  أمرها  والمنكوبة بها طول الوقت   .

  وبعد عدة سنوات من هذا الوضع المأساوي تدهورت منزلةُ ومكانة ُ مملكة النور بين الممالك  ( صفحة 18) وسادَ  الفقرُ والإملاقُ والجوع ُ والقحط ... وعمَّت الامراضُ وتكدست البضائع وكسدت التجارةُ وسادَ الجهلُ وانتشرت الأميَّة بين الأطفال  في المملكةِ وعمّت الفوضى  وانتشر الفساد  الإجتماعي والأخلاقي بين العباد  واستاء الناسُ من هذا  الوضع  الصعب  ومن تكريس خزانة الدولة  لصناعةِ السيوف وآلات الحرب والقتل والدمار ..وقد خاضت هذه المملكةُ العديدَ  من الحروب والمعارك الخاسرة  وكبدت  خزينة  الدولة الأموالَ الطائلة  وفقدت  المملكةُ  من جراء  ذلك  ومن  نهج  وسياسةِ الملك الجديد  مناطقَ  شاسعة  وخيرة رجالها .

   وحدث عندما كان هذا الوزيرُ الذي اغتصب الملك يتفقدُ  ويتفحصُ الكتبَ  المكدسة قي القلعة الكبيرة اصطدم بإحدى الرفوفِ الضخمة ِ وفوقعت الكتب على رأسه  وجسمه  فأصيبَ إصابة بلغة جدا  وصار يتلوَّى  من شدَّةِ  الألم  كالحيَّةِ  الرقطاء  في الرمضاء  ويصيحُ   بأعلى  صوتهِ  فهرع   إليه  كبيرُ المستشارين ليَرَ ماذا جرى لهُ  فأخبرهُ  الملكُ  كيف هوت الكتبُ والمجلداتُ  الثقيلةُ عليه وأصابتهُ  بجروح  بالغة  وأمرهُ  أن  يسرع إلى أمهر طبيب في المملكة  لكي  يقومَ بعلاجه . فأجابه كبيرُ المستشارين : إنه لم يعد لديهم  في جميع أرجاء المملكة طبيبٌ واحد يمارسُ مهنة الطب ، فقسمٌ منهم تحوَّل إلى مهن أخرى  منذ سنوات ..والأغلبيّة  منهم  غادرت المملكة خلسة  بحثا عن مصادر للرزق  في أصقاع  الأرض  .  فطلب الوزيرُ ( الملك  الجديد)  من المستشارأن يحضر إليه أيَّ عرَّاف ولكل من يدَّعي معرفة التطبيب( صفحة 23 ) .     وقد جاء إلى الملك العليل العديدُ  ممن ادَّعوا معرفة أصول الطب  محاولين إنقاذ حياته، طمعا في عطيّة سخيَّة  وشهرة كبيرة مجانيَّة،ولكنهم لم  يوفقوا في مهمّتهم  وأخفقوا في التوصُّل إلى علاج ودواء ناجع  يناسب حالة الملكِ  المستعصية ،  فتدهورت  حالتهُ  بسرعة  وبدأ  يتقيَّأ  دما  وبدأ  وزنهُ  يتناقض  بشكل  ملحوظ  وذهبت  ريحهُ  وضعفت  ذاكرتهُ  وتراجعت حالتهُ النفسيَّة  وأصبحَ  وجهه  شاحبا ومكفهرًّا  وبائسا  وغارت عيونهُ  في وجهه الهزيل  وصار طريحَ  الفراش معتكفا في  حجرتهِ  واعتزلَ الناس  ولم يعد بإمكانه  إدارة شؤون البلاد  وانفضَّ الرجال  المخلصين  والأتباع من حولهِ   وخذلهُ جميعُ أعوانهِ ( صفحة 52 ) وبقي على هذا  الحال عدَّة أسابيع  حتى فارقت روحهُ الحياة ..وانتشرَ خبر وفاة الوزير في المملكة  بسرعة كانتشار النار  في  الهشيم  وعمَّت  الفرحةُ   قلوبَ  جميع  الناس  ورقصوا  وطربوا واحتفلوا وهتفوا بحياة  الملك السابق  فهمان الزَّمان الذي  سجنه الوزيرُ بعد الإنقلاب المشؤوم الذي قام به ، وتوجَّهت جماهيرٌغفيرة صوبَ سجن الملك   وحطموا الأبوابَ الحديديَّة المتينة وفكوا قيودَهُ الصَّدِئة وحملوهُ على الأعناق  وبرقص وغناء إلى قصرهِ .. وأصدر الملكُ الشرعي هذا  بعد أن  رجع إليه العرش والحكم  قراره التاريخي  بإعادة الهيبة  والمكانة المرموقة والسامية للكتابِ  والعلماء  والباحثين  والأطباء  وطلبة  العلم   وأطلقَ  سراحَ  جميع المسجونين  ظلما  في عهد  الوزير الخائن  وردَّ  الكتبَ  المكدَّسة  في سجن القلعة الكبير إلى أصحابها وأعاد افتتاح المكتبات والمدارس والمعاهد ودور العلم ..وبعد سنوات قصيرة رجعت مملكة النور إلى أوج  ازدهارها ورقيِّها وإلى الصدارة والريادة بين الأمم،وأشرقت شمسُ المعرفة ساطعة وانقشعت  غيوم الظلام  والجهل وعمَّ  الرخاءُ  والخيرُ والرَّغدُ والسعادةُ  جميعَ  ربوع المملكة. وتنتهي القصة هنا نهاية كاملة وسعيدة .

تحليلُ القصَّة :  هذه القصَّة كُتِبَت وصيغت  بأسلوب وطابع سرديِّ من بدايتها  للنهاية، ويتحدَّثُ الكاتبُ بشكل مباشر-عن مجرى الأحداث- بتسلسل  وبشكل انسيابي . ولا يوجد في القصة عنصرُ الحوار ( ديالوج ) إطلاقا بين الأبطال  وشخصيَّات القصَّة على عكس معظم  القصص التي  كتبها الأستاذ سهيل عيساوي  للأطفال ..وهذه القصة لغتها الأدبيَّة  جميلة  ومنمَّقة وممتعة  ويترعُها ويحليها  الكثيرُ من الصور واللوحات الشاعريَّة  والتعابير والجمل والعبارات  البلاغيَّة  الرائعة  والخلابة .   إنَّ  طابع  وأسلوب القصة  سلس   ومنمَّق وانسيابي ويوجد في القصة ،بوضوح،العنصر الخيالي ( الفانتازي ) والهام  جدا للأطفال ، ويوجد أيضا عنصرُ التشويق والإثارة .

 وللقصَّة أبعادٌ وأهدافٌ عديدة عدا  كونها ترفيهيَّة ومسلية للطفل فهي تشجع العلم  والثقافة  والمطالعة  وتحفزُ الطالبَ  والطفل على  القراءةِ  والمطالعة وتوضحُ له دورَ ومكانة العلم في تطور الشعوب  والأمم ورقيها وازدهارها في جميع المجالات والميادين .. وتعلمُ أيضا المحبَّة  والتسامحَ  وعملَ الخير والعطاء  والتضحية  وتنبذ الشرّ والضغينة  واللؤم  والإعتداء على الآخرين والعنف والقتل والحروب..ومفادُ القصة وفحواها إنَّ الشر والظلام سيزولان  والخير والحق هما اللذان سنتصران في نهاية المطاف .

        ومما يلفتُ إنتباه القارىء أو بالأحرى الطفلَ الذكي،في هذه القصة،أنَّ هنالك نقطة هامة  وربما نقّاد وأدباء يدعون الإلمام والمقدرة العالية في النقد الادبي لا ينتبوا لها وهي : إن القصة تتحدثُ عن أحداث وأمور  في  الزمن الغابر..( مع انها خيالية لم تحدث على أرض الواقع وربما حدث ما يشابهها قديما من تآمر وزير شرير على الملك فيسيطر ويستولي على الحكم ويظلم الرعية  والعباد  ويمنع العلم  والثقافة  وأي  تطور ورقي ) وفي ذلك الزمن الغابر كانوا  يستعملون السيوفَ والرماحَ  وكانت الكتبُ  تنسخُ نسخا بالحبر  ولم تكن مطابع في العصور القديمة.. وذكر الكاتبُ ان الملكَ  فهمان الزمان كان يوقرُ العلماءَ  ويكرم الأدباء  وينفق الأموال الطائلة  من خزانة المملكة لأجل نشر العلم بين الناس ، وطباعة الكتب النفيسة ، لتنشئةِ الفتيان  وتوعية الأطفال ( صفحة  8 ) وهنا خطأ  وتناقض  تاريخي  حيث  لم  تكن المطابع موجودة في العصور القديمة والوسطى مع ان القصة خيالية ...وفي موضع آخرمن القصة يذكرُ الكاتبُ العكس، ويقول:إن الوزيرمنع الكتاب والنسَّاخين أن  ينسخوا  الكتب  ( وَحُضِرُ على الورَّاقين  والنسَّاخين التعامل مع  الكتب والكتَّاب ومنع الأطفال من  تصفح الكتب ) ولم تكن المطابع موجودة  آنذاك ..وهذا الخطأ التاريخي والتناقض حتى الطفل الصغير قد ينتبهُ له وليس فقط الكبير..وأهم شيىء في هذه القصَّة أنها تعلم الطفلَ دروسا وأمورا عديدة في الحياة ، مثل : حب العلم وأهميّة  الكتاب والمطالعة  ومحبَّة  الخير ومساعدة الآخرين  ونبذ  الشر والعنف  والتنديد  بالحرب والقتل  وتدعو  لعمل الخير وللعدالة ، تعلمُ القيمَ والمبادىءَ والمُثلَ  والحميدة والتسامح وأن الشرّ والظلم لا يدومان وفي نهايةِ المطاف سينتصرُالحقُّ على الباطل والنورعلى الظلام  كما حدث في نهاية القصَّة حيث ماتَ الوزيرُميتة شنعاء ولاقى عقابه الإلهي العادل .. ومفاد  وفحوى القصَّة هو : إن القدرَ  في نهاية  المطاف سيقف مع الضعفاء  والمظلومين  وسينصفهُم  من  الأشرار والظالمين  والطغاة  الذين  يعتدون على حقوق وأملاك غيرهم وينشرون الفساد والفوضى والدمارعلى الأرض وبين العباد كهذا الوزيرالشرير والمتغطرس ( فايق زمان) المعادي لكلِّ  القيم   والأعراف  الأنسانيَّة   والمخالف   والمُناقض  للناموس  الإلهي ولقوانين السماء الذي اغتصبَ الملكَ من الملك ( فهمان الزمان) .

وهذه القصَّةُ  تنتهي نهاية عاديَّة  وكاملة  وسعيدة وليس نهاية مفتوحة  على عكس الكثير من قصص الاستاذ سهيل عيساوي التي كتبها  للأطفال  والتي تنتهي نهاية مفتوحة وتبقى معلقة  لا تكتمل  وتنتهي  فيها الأحداثُ والمشاهدُ الدرامية  وبالإمكان إضافة ما هو جديد إليها .

 وهنالك الكثيرمن الجمل  الشاعريَّة والتعابير البلاغية في هذه القصة،مثل : ( صفحة 19 )  حيث يقول الكاتب :  ( "وعمَّت  الفوضى  وانتشرت  شهوةُ  الفساد بين العباد، واستاء الناسُ من وطأةِ الإجحاف ، وتكريس خزانة الدولة لصناعة السيوف ، وآلات  الحرب والقتل ... إلخ ) .                                        وأيضا صفحة  (28 - 29  ) في نهاية القصَّة  يقول الكاتب :                             (  عادت مملكةُ النور إلى الإزدهار والصدارة والريادة بين الأمم، وأشرقت شمسُ المعرفة ساطعةً، وانقشعت غيومُ  الظلام والجهل،وابتسمَ  الغدُ  يرسمُ أحلامَهُ العسجديَّة في سماء المملكة،ويفتحُ الباب على مصراعيهِ لأيَّام  حبلى  ببشائر الخير ومواسم البركة ).

   ويستعملُ الكاتبُ أيضا بعضَ الأمثلة والتعابير المألوفة والتي تصيبُ كبدَ الحقيقة والهدف والموضوع  المطلوب، مثل : (إنتشرَ خبرُ وفاة ِالوزير في المملكة "كانتشار النار في الجحيم " ) .                                         وفي القصَّة بعضُ التوظيفات الدلاليَّة الملائمة والمناسبة للموضوع والمعنى والفحوى الذي يريده الكاتب، مثل :  أطلق على  اسم الملك - بطل القصة - ( الملك فهمان الزمان)  ويريد الكاتبُ أن يدخلَ  لذهن  ولعقل الطفل مباشرة أن هذا الملك هو الفهمان والحكيم والعبقري والذي يتصرفُ بحكمة ويسوس ويحكم الرعية بالعدل ويحبُّهُ ويحترمهُ جميعُ الشعب .

    وأما وزير الظلم والشرير والمغتصب للملك والعرش فقد اطلق عليه اسم ( فايق زمان ) وهذا  قد يرمز ويوحي  للقوّة والعنف  وللذي يريدُ أن  يتفوّق ويسود ويستولي على أموال وأملاك وحقوق غيره  ويفرض إرادته  وهيمنه على الآخرين  ظلما  وعدوانا .   وفي هذا الإسم  أيضا  إستحفاف واستهزاء بشحصية صاحبة .. أي أن هذا الوزير منذ زمن طويل فائق وصاحي وغير نائم  وحالم . هو فائق للشر والعدوان  ونشر الفساد  وكيف  يفكر  في  تدبير المؤامرات والمكائد  لكي يغتصب السلطة  ويصبح هو الملك والآمر الناهي في المملكة

     وأطلق الكاتبُ على المملكة التي يحكمها الملك  ( فهمان الزمان ) إسم ( مملكة  النور ) وهذا الأسم  يرمزُ  أو  بالأحرى  يشيرُ بشكل مباشر على أن هذه  المملكة  تنعم   وترتعُ  بالخير والسعادة  والهناء  والرفاهية  والرخاء.. وهي بالفعل مملكة النور لتطورها وازدهارها  في جميع  مجالات  وميادين الحياة...من  ناحية العلوم  والفنون  والتطور  والثقافة  والصناعات والفنون    والإنشاءات والسلوكيات والمستوى الإجتماعي الراقي وجو المحبة والمودّة السائد بين جميع السكان  .. فهي مملكة النور بكل جدارة وحق واستحقاق .

      وأريدُ أن أضيفَ  في نهاية المقالة : إنَّ لهذه القصَّة  أبعادا  سياسيَّة وان الوزيرَ الظالمَ  والشرير الذي  دبَّرَ الإنقلاب واغتصب الملكَ  والحكمَ  يرمز إلى الحكام العربِ اليوم  الذين يحكمون  شعوبهم  بيدٍ  من حديد  ويستعملون  كلَّ  وسائل البطش والعنف لكي يبقوا  في الحكم  ودائما يتبجَّحُون  بالنضال  والكفاح وأن بلادهم مهدَّدة من الإعداء الخارجيين (من الغرب والإستعمار) وأنهم هم الحماة  والذائدون  والمدافعون عن  بلادهم  وأوطانهم  وذلك  لكي يلهوا شعوبهم  ويبعدوهم عن التفكير في العصيان  وبالثورة  ضدهم ...ضدَّ  هذه الأنظمة القمعية والدكتاتوريَّة  .

 وأخيرا :     نهنىءُ الشاعرَ والأديبَ  والمؤرخ  الأستاذ  سهيل عيساوي على هذا  الكتاب الجديد  ونتمنَّى  له  إصدارات  إبداعيَّة  أخرى  جديدة  في الوقت القريب.

إتهمني بعض المثرثرين شعرا ونقدا بحوار في برنامج ثقافي بالراديو ، باني فقدت البوصلة ، ولم اعد أجاري عصري  ومن هنا نقمتي على الإبداعات الحديثة ، خاصة الشعر.. الذي يملأ صحافتنا.

ساءني أني لم أعط الفرصة لأفهم تهمتي وأقدم دفاعي ... كنت قد شاركت  بمداخلة قصيرة عبر التلفون، انتقدت فيها استعمال اصطلاحات لم تنشا القاعدة المادية لتصبح جزءا من ثقافتنا وخاصة مصطلح  الحداثة، الذي صار شرشوحة من كثرة استعماله  دون فهم الواقع الثقافي والاجتماعي الذي نشأ به هذا الاصطلاح، وإطلاقه على كل نص أدبي غير واضح  ومفكك. اتهمني احدهم ان مشكلتي اني لم استوعب الحداثة وتفاعلاتها في الأدب الحديث ، وكل ما نجحت في إيصاله للزميلين ، الضميرين المستترين ، بأن مفهومهما للحداثة عقيم ، وإذا كانت الحداثة تعني قطع التواصل بين القارئ والأدب ، فبئس مثل هذه الحداثة ... ولن أصوت لها في الانتخابات !!

اعترف ان الزميلين تكلما معي باتزان وهدوء ، ولا أريد كشف الأسماء لأن ما يهمني ليس الأشخاص بل الجانب الفكري والثقافي من الموضوع. ...

عدا قلة من المبدعين يكاد يكون غياب كامل للأعمال الأدبية المثمرة على صفحات الجرائد ... واعترف أني حين عملت نائبا لرئيس التحرير ومحررا أدبيا في صحيفة "الأهالي " رفضت بقوة نشر اي عمل أدبي مما سماه الزميلان وراء الأثير بالحداثة الأدبية او الشعرية .

إقرأوا مثلا هذا المقطع:

" سأحمل حبك سرا صغيرا

يؤانس قلبي الحزين الكسيرا

فهل تقبلين ،

بقلبي الكسير

يتوج بين يديك أميرا؟!"

هذه احدى قصائد الشاعر حسين مهنا ( من قرية البقيعة الجليلية ) نشرت في العدد الثالث من مجلة "المستقبل " ( مجلة فكرية ثقافية شهرية أصدرها وحررها نبيل عودة بالتعاون مع الكاتب والمفكر المعروف سالم جبران )

من يستطيع ان يقول أنها ليست شعرا ؟!

وفي قصيدة أخرى نقرأ هذا المقطع :

"وتمر يداي

على جيدك المرمري

فيزهر ورد وجنتيك

وينطق صمت

يفوق بيان الكلام  

وسجع الحمام

وهمس المطر.. "

هذه مقاطع لو طاوعت نفسي لنشرتها كاملة لأدلل على ما افهمه من الحداثة ، وعلى ما لا يفهمون .. إقرأوا معي هذا التجلي لحسين مهنا :

"سألتك : لا تقتلي الشعر عمدا

بطول التمني

وبعد الرجاء

ولا تتركيني أسيرا لطيفك هذا المساء

وكل مساء

تعالي فما زال في القلب بعض اخضرار

سينزف وردا

يعيد إلى الحب ما ضيعته الدروب

وللشعر قيثارة الحب والكبرياء "

هذا الشعر يحمل من الحداثة بمفهومها الأدبي أكثر من كل القصائد الغيبية لغة ومضمونا. والأهم انه لا يحتاج الى جهابذة النقد لتحليله ، لأنه شعر يتدفق كالماء بلا ضجيج، ويتغلغل بجماله ورونقه في وعي القارئ وأحاسيسه. وهو ، وهذا الأساس ، لا يحتاج الى مثقف عبقري ( نابغة عصره ) ليفهمه ويشرحه للقراء المساكين ،إذ ما قيمة الشعر حين تصبح قراءته مثل حل لغز الكلمات المتقاطعة؟...  

أردت أن استعمل بعض "الجواهر" التي تقصفنا بها "الفانتومات الأدبية" ب "أم القنابل" ، ولكني لا اقصد التشهير ، وأخاف ان تبدو مقارنتي بين شاعر حقيقي مثل حسين مهنا ، وناظمين بلا شعر .. تشهيرا فيهم ، أو إقلالا من قيمة شعر حسين مهنا . المقارنة لا تجوز إلا بين أنواع من نفس القيمة ، واترك المقارنة للقارئ الذي ما زال يجرؤ على المغامرة ...إذا تبقى لدينا مثل أولئك القراء ولم "يطفشوا" بعد .

تيار الحداثة او تيار ما بعد الحداثة ... هي تيارات تستعمل في ثقافتنا  خارج مسارها . الحداثة هي بجوهرها عملية تنوير اجتماعي وثقافي وفكري. مجتمعنا ، وكل المجتمعات العربية عامة ، ما زالت على ضفاف الحداثة، وعدا بعض المثقفين ... وقليل من الأدباء المبدعين ، ما زلنا اجتماعيا وفكريا نعيش في مجتمعات تحت سيطرة او تأثير وتحكم الفكر الأصولي المتطرف . وحتى على المستوى السياسي تتحكم بمجتمعاتنا قوى تفتقد للتوازن السياسي والفكري والثقافي . السيطرة للأسف ليست لحركة الإصلاح والتنوير العربية، إنما للقوى الظلامية ... ما زلنا نبحث ونتعارك حول السماح للمرأة بقيادة السيارة ... ولا نقبل الآخر المختلف، نفجره إذا استطعنا،  ونعاني من الرقابة الفكرية المتخلفة على الأعمال الأدبية، ويصل الأمر الى سجن المبدعين ومصادرة أعمالهم، وما زلنا نعلم طلابنا في الهندسة ان "المتوازيان لا يلتقيان إلا بإذنه تعالى" (حتى بإذنه لا يلتقيان!!) ، وما زلنا نطالب بإصلاح التعليم وتحرير عقل الطالب من أسلوب التلقين والإيمان الأعمى بلا وعي، ومجتمعاتنا ما زالت في أدنى مستويات الفقر دوليا، وتعاني من انتشار هائل للأمية ،خاصة بين النساء، هل يمكن تربية جيل جديد متنور بأحضان أمهات جاهلات؟

ونتحدث عن الحداثة ... وما بعد الحداثة ؟! نملأ صحافتنا شعرا لا شعر فيه ونقدا لا نقد فيه... هذا ليس دليل الحداثة إنما دليل انفصام ثقافي مع مجتمعنا ، بدل ان نوقفه نزيده اتساعا ب " العبقريات الفريدة " التي تطغى على النشر . ان ثقافة الحداثة أعزائي الأدباء لا تجيء ببضع خربشات شعرية او نثرية او نقدية ،إنما هي معركة تنوير ما زلنا على ضفافها ... استغرقت أوروبا مئات السنين من الصراع مع الأصولية المسيحية للقرون الوسطى ، ومع ذلك ما زال الغرب يعاني من أزمة معنى الحياة ومعنى الوجود ، مما يعني ان التطور الاقتصادي والأكل والمشرب والمتع الجسدية ، ليسوا كل شيء ، وهي مشكلة تختلف مع مشكلة الإنسان العربي   الذي ما زال يبحث عن إشباع جوعه أولا.

ان المحاولة للتقدم دون فهم أهمية عصر التنوير (الرينيسانس)الذي حرر الإنسان من التخلف الاجتماعي والعلمي والقوى الظلامية ، ووضع مستقبله بين يديه، وغير أولويات حياته ، وحرره من القيود على تطوير الفكر والعلوم والاقتصاد والثقافة وضاعف أوقات راحته وقدراته الاستهلاكية بمختلف أنواعها ، هي محاولة عقيمة ومحكومة بالفشل .

 أصبح مصطلح الحداثة تبريرا لغموض الكثير من النصوص الأدبية وغياب المضامين منها، وأصبح الغموض تقليعة نعلق عليها كل غسيلنا الأدبي الوسخ وكل عاهاتنا الإبداعية ونبرر بها أزمتنا الأدبية بمصطلح الحداثة.

ماذا تعني الحداثة؟ ولماذا تطورت في أوروبا وليس في شرقنا التعيس؟

 ان الحداثة هي وليدة مجتمع بشري متطور اقتصاديا ، ثقافيا، فلسفيا وعلميا، وهو ما لم تنشا له قاعدة مادية في ثقافتنا ومجتمعنا، وما كان للحداثة ان تنشا بدون الثورتين البرجوازية والليبرالية، وبدون الفكر الثوري الذي أطلقة كارل ماركس..

 ان الثقافة لا تعني الإبداع الأدبي فقط، بل أيضا إنتاج الخيرات المادية التي يحتاجها الإنسان. رجاء لا تقحموا الحداثة وانتم تجهلون نشأتها، تجهلون القاعدة المادية والاجتماعية التي شكلت مضامينها، وتجهلون الفكر والنظريات الفلسفية  التي انطلقت منها.

إن مفاهيم الحداثة ليست مميزا للأدب فقط ... وهذا ما يجب أن نستوعبه قبل ان نثرثر ونضفي الحداثة على أعمال غير ناضجة!!

clip_image002_340ff.jpg

صدرت عام 2017 رواية اليافعين"طير بأربعة أجنحة" للأديبة نزهة أبو غوش، عن مكتبة كل شيء الحيفاوية، وتقع الرّواية التي صمّمها ومنتجها شربل الياس في 108 صفحات من الحجم المتوسط.

وقد جاء على الصفحة الأولى: "رواية لليافعين/ طلاب الاعدادي". واليافع كما جاء في المعجم الوسيط: هو من اقترب من البلوغ، وهو دون المراهقة، أي ما بين سبع سنوات إلى عشر." وهذا الجيل يكون عادة من الصّف الثّاني إلى الرّابع الابتدائيّ.

الاهداء: أهدت الكاتبة اصدارها هذا إلى أحفادها، مع أمنياتها لهم بأن يكون حاضرهم أفضل من ماضيهم، وغدهم أفضل من حاضرهم. والاهداء للأحفاد يعطي العمل حميميّة أكثر، لأنّه كما قال المثل:" ما أغلى من الولد إلا ولد الولد" وأعتقد أنّ الكاتبة قد استفادت بعملها هذا من ملاحظاتها الثّاقبة لأحفادها وتصرّفاتهم في مرحلة عمريّة معيّنة، حتّى أنّ أسماء بعض أحفادها حملها بعض شخوص الرّواية.

المضمون: تتحدّث الرّواية عن مرحلة بداية البلوغ عند الصّبيان، وما يرافقها من طيش و"ولدنة"، خصوصا وأنّها مرحلة انتقاليّة من جيل الطفولة إلى مرحلة النّضوج، وهي ما تعرف بمرحلة المراهقة. وسيلاحظ القارئ للرّواية، كيف أنّ مروان بطل الرّواية الرّئيس، يتخبّط معتدّا بنفسه، محاولا فرض شخصيّته، مشكّكا بكل من حوله، بدءا من والديه وأشقّائه، مرورا بزملائه وأقرانه، معتقدا أنّهك كلّهم يقفون ضدّه، ظنّا منه أنّه هو الوحيد الذي يعرف الصّواب ويتصرّفه، ثمّ لا يلبث أن يكتشف أنّه هو المخطئ، وقد جاء في الرّواية أنّ مروان تدرّج بشقاوة هذا العمر المحبّبة والمعروفة لدى الرّاشدين، وارتكب عدّة "حماقات" صبيانيّة، ليكتشف بالتّجربة مدى فداحة الأخطاء التي يرتكبها، والتي أوصلته إلى الوقوع عن درّاجة هوائيّة، ممّا أدّى إلى إصابته بكسور وجروح، ليعرف أثناء وجوده في المستشفى أنّ والديه وزملاءه يحبّونه، ويلتفّون حوله متمنّين له الشّفاء، وليبدع في هوايته "التّصوير" وليفوز بلقب "الطالب المميّز".

البناء الرّوائي: وردت في الرّواية عشرات الأحداث والحكايات التي حصلت مع مروان بطل الرّواية المراهق، وربطتها مع بعضها البعض، في بناء ووصف محكم لشخصيّة المراهق، الذي يتصرّف دون تحكيم للعقل، ودون حساب للعواقب، ثمّ يكتشف بنفسه ومن خلال التّجربة الأخطاء التي وقع بها، وليكتشف أيضا أنّ تخيّلاته تجانب المنطق، إلى أن يصل بنفسه إلى قناعات بأنّه إنسان له قدرات إيجابيّة، وأن الآخرين يحبّونه ويتمنّون له الخير، لكن كانت هناك مبالغات غير مبرّرة مثل الذي ورد على لسان مروان عندما اعتبر "الليلة هي ليلة الاعدام" ص25، بسبب أنّه دخّن سيجارة.

اللغة والأسلوب: استعملت الكاتبة لغة فصيحة بسيطة تناسب الفئة العمريّة المستهدفة، وكان أسلوبها انسيابيّا في السّرد، ومع ذلك فقد وردت في النّصّ بعض الأخطاء اللغويّة منها: "فهي تواجه كلّ جبهة على حدًىّ" ص17، و"كل طالب وطالبة على حدى في غرفتها"ص23 والصحيح "على حدة". و"كأنّه لم يحدث شيئا"ص30، والصحيح "شيءٌ" و"لم يعجبه سوى(بنطالون) ممزقّا"ص47،/ والصّحيح "ممزّقٍ" و"لم أتوقع منها أن تقول عنّي:قط أو فأر" ص50، والصحيح" قطّا أو فأرا"

وفد جاء التّعامل مع كلمة النّاس خاطئا أكثر من مرّة منها:"كل النّاس صارت حكيمة هذه الأيّام" ص22، و"لأنّ النّاس تختلف عن بعضها البعض"ص24، و"تختلف النّاس عن بعضها في النّموّ"ص26، ويلاحظ هنا التّعامل لغويّا مع "النّاس" كجمع التّكسير لغير العاقل، كقولنا " المدارس والأبنية والألعاب تختلف عن بعضها البعض" بينما النّاس عاقلون، والصّحيح في الجمل السّابقة الواردة في الرّواية هو قولنا:" كلّ النّاس صاروا حكماء هذه الأيّام" و"لأنّ النّاس يختلفون عن بعضهم البعض" و"يختلف النّاس عن بعضهم في النّموّ".

المونتاج: وقعت أخطاء في المونتاج في أكثر من موضع، حيث جاءت الجملة منقسمة في منتصف السطر ليقفز إلى سطر جديد تاركا فراغا في السطر السابق. وقد جاء ذلك في عدّة صفحات منها الصفحة 15،19،23، ومن المعروف عن مكتبة كلّ شيء أنّها تتميّز في اصداراتها عن غيرها من دور النّشر، ولحرصها على عدم الوقوع في أخطاء المونتاج، فإنّها ترسل "الكتاب ممنتجا" لمؤلّفه، ولا تدفع به إلى الطباعة إلا بعد موافقة الكاتب عليه.

المزيد من المقالات...