يرى أغلب النقاد أن الشعر العربي شعر غنائي يفتقر إلى الحركية والدرامية التي تنتج عن سرد الأحداث الواقعية والخيالية كما تجلت في أشعار عالمية أخرى (الشعر اليوناني القديم مثلا)، غير أن كثيرا من نصوص الشعر العربي القديم والحديث تؤكد خلاف ذلك بما أنها جعلت من السرد مادة عضوية لها، واشتملت على قصص وأحداث مستقاة من واقع الشعراء أو من خيالهم.

وغنائية الشعر العربي ميزة تجعله أمكن من أداء وظيفته الإنسانية ببعث شعور الإنسان في مختلف أحواله النفسية من الفرح والحزن والأمن والخوف...غير أن الحكائية ملح لابد منه لارتباطها بذاكرة الشاعر وخياله، وربما لم يجد الشاعر بدا من التعبير عن بعض المضامين غير هذه الخاصة يستعيرها من الأجناس ويصوغها قصة أو حكاية شعرية.

وعلى خلاف الشاعر العربي القديم أتاح التطور الذي عرفته القصيدة العربية الحديثة لسلفه كثيرا من إمكانات السرد مثل تجاوز الأشكال الشعرية الجديدة لكثير من الضوابط العروضية مما أتاح نفسا يتلاءم مع انسيابية السرد، وظهور تطورات فكرية وسياسية واجتماعية بالعالم العربي خلال النصف الثاني من القرن الماضي الميلادي ومطلع القرن الجاري حتمت على الشعراء مواكبتها والتعبير عنها...ونجد صدى هذا الذي ذكرنا واضحا لدى عدد من الشعراء المعاصرين، ومنهم الشاعر العراقي أحمد مطر الذي تجلت في شعره مرارة الواقع العربي المليء بالمتناقضات والعلل سردا تسوده مسحة من السخرية والنقد اللاذع لا تكاد تخلو منه قصيدة من قصائده التي وسمها باللافتات بما يشي بطبيعتها التصويرية بإيجاز لا يخلو من الإيحاء الخفي تارة والإعلان الصريح تارة أخرى، فكأن كلا منها يسرد قصة الإنسان العربي بصيغة الجمع أو المفرد.

وقد جمع مطر شعره في مجلد واحد باسم "الأعمال الشعرية الكاملة"، واختار أن يصدره بإعلان صُراح للقطيعة مع الكلمة الرخيصة التي تركن إلى الظالم المستبد مستنشدة عطاءه وجوده، راضية وضع السكوت عن الحق، مقرة حال الذل والهوان...لكن شاعرنا مستعد لأداء ثمن الصدع بالحق ولو أودى به إلى القتل والتنكيل بالأخص إذا فتح نافذة يتنسم منها غيره عزة وإباء...

سبعون طعنة هنا موصولة النزف

تبدي..ولا تخفي

تغتال خوف الموت في الخوف

سميتها قصائدي

وسمها يا قارئي: حتفي!

وسمني منتحرا بخنجر الحرف.

لأني، في زمن الزيف

والعيش بالمزمار والدف..

كشفت صدري دفترا

وفوقه

كتبت هذا الشعر..بالسيف!

هذه هي إذن قصة الفن في العالم العربي الحديث، المقربون من أصحابه من جملة من يسبح في فلك الأمواج السائدة مهما كانت مخلة بكل القيم الشريفة، لا تنطق بتغيير ولا ترفض وتعارض وتنتقد...وتكتفي بالانضمام إلى جوقة التصفيق لموكب الحاكم ولو كان نظاما مستبدا..ولذا لما أعلن أحمد مطر القطيعة مع هذا الواقع نال ما نال من الحصار والتعتيم والإبعاد والنفي...

وعلى هذا المنوال الذي صدّر به الشاعر أعماله، جرت معظم لافتاته يغلب عليها السرد القائم على الصور الفنية التشخيصية أو المباشرة التقريرية دون أن تنزع عنها لباس الجمال الشعري المتأتي من قدرة هائلة على تصور الحدث، وتجسيده في ما يشبه قصة المثل التي تجري على الألسن فتصير بها الركبان وتخلدها الأقلام.

ففي اللافتة الأولى عمد الشاعر إلى حالة لا يغادرها بصر إنسان عربي عاقل يلفحه لظاها بالصباح والمساء وهو يمر بالشارع، أو يطالع الأخبار على الشاشات أو المواقع.. جالسا أو ماشيا أو راكبا...إنها حالة النفس العربية التي فقدت عزتها وأنفتها فدُنِّست كرامتها وانحدرت نحو الدناءة والخسة بلا وخز ضمير أو رشد عقل وقلب...هذه الحال التي أضحت مرئية مجسدة لدى شريحة واسعة من المجتمع العربي اليوم ساقها الشاعر قصة واقعية شعرية مؤثرة جاعلا من ضمير المتكلم شاهد عيان:

في مقلب القمامه

رأيت جثة لها ملامح الأعراب

ومسرح الحدث (أو الحالة) دال بوضوح على مرارته وقسوته (مقلب القمامة) والقوى الفاعلة في هذا الحدث مرتبطة بها صفة المكر والخديعة والافتراس والتنكيل المطلق من دون شفقة ولا رحمة (النسور والدِّباب)، وتَحبِك ذلك سردا صيغة الماضي (رأيت- تجمعت ـ كانت) بما يجعل من الكتابة الشعرية أشبه بآلة تصوير عمادها الخيال الشعري المرهف بمشاعر النفس البشرية وجمال الكلمة المنتقاة بدقة وعناية.

لقد ماتت الكرامة العربية وأُبيحت بفعل كثير من العرب الذين ركنوا إلى المذلة، وتكالبوا على طاعة عمياء لأهوائهم، وتنازلوا عن قيمهم ومبادئهم، وأسلسوا القياد لأعدائهم...

وفي اللافتة الثانية الموقعة بعنوان "قطع علاقة" صورة لواقع حرية الرأي والتعبير بالوطن العربي، وضحيتها الفن الذي غدا محاصرا لا يقبل منه إلا ما كان مدحا وتملقا للزمرة الحاكمة، فإذا أراد فنان حر أن يبدع خارج هذا السرب نال عقابه قهرا وإبعادا وحصارا بدعوى أن التدخل في السياسة ليس من شأن الفن، وهل الفن إلا تعبير عن رأي حر أو شعور وإحساس؟

وضعوا فوق فمي كلب حراسة

وبنوا للكبرياء

في دمي، سوق نخاسه

وعلى صحوة عقلي

أمروا التخدير أن يسكب كاسه

...

وفي هذه اللافتة أيضا تكتمل أركان السرد المستمد من الواقع الممزوج بلمسة الخيال ومن أهما:

الشخوص: شخصية محورية مجسدة في ضمير المتكلم المفرد فهو ناطق بذاته مشخص في صورة إنسان عاقل شاعر: فأنا الفن، فهو مفعول به، وتماهي هذه الشخصية مع ضمير المتكلم يوحي برغبة أكيدة من الشاعر للتعبير عن مرارة الشعور بالانتماء إلى فئة من الفنانين الذين اختاروا طريقا صعبا لكنه الطريق الصحيح الذي يضمن العزة والكرامة، ويحفظ الفن من الابتذال، إنه طريق الفن الحر الذي لا يماري ولا يداهن الظلمة والمستبدين من أبناء الوطن وغيرهم، رغم ما يمكن أن ينال أصحابه من صنوف الأذى والقهر.أما الشخصية الفاعلة فيدل عليها ضمير الجمع الغائب (وضعوا، بنوا، أمروا...) بما يوحي بتسلط الجماعة على مفرد بحيث تكون الغلبة للكثرة التي تملك القوة والسلطة والمال وكل ما من شأنه أن يفتل في حبال الاستبداد المطلق الذي تشير إليه الأفعال: وضعوا، أمروا، بنوا...إلى كون هذه الجماعة تملك القدرة على التخطيط للفعل وتنفيذه دون رقيب ولا حسيب، وهي تعرف كيف ومتى تختار ضحاياها ممن تسول لهم أنفسهم التغريد خارج جوقة الحاكم وأعونه...

الحدث: مجريات وأطوار التضييق على الفن وإفراغه من محتواه وجوهره المتمثل في التعبير الحر عن الفكر والشعور، وتجسَّد سرد هذا الحدث في جمل فعلية مصدرة بأفعال الماضي: وضعوا فوق فمي كلب حراسه ـ بنوا للكبرياء في دمي سوق نخاسة ـ أمروا التخدير أن يسكب كاسه ـ شيدوا المبنى وقالوا أبعدوا عنه ساسه...فقد تطورت مجريات الحدث من الرقابة على الكلمة إلى النيل من الكبرياء وتخدير العقل لإلهائه وصولا إلى امتهان الفن بقوة السلاح وجعله في خدمة المستبد حتما، هذا الأخير قد يشيد المباني الفاخرة من المسارح والقاعات المؤثثة، ويكتب على واجهاتها بالخط العريض الواضح عناوين رنانة لكن دون أن يسمح لها بالهمس بكلمة في السياسة.

المكان والزمان: العبارات المصدرة بحروف الجر والظروف المكانية التي لا تنفك عن بعض ما يتعلق بشخصية المتكلم من مثل: فوق فمي، في دمي، على رأسي، على صحوة عقلي، على رأسي، على أوتار جوعي...تدل على أن الجلاد اختار أن يخوض معركة غير متكافئة على أرض ضحيته ليقضي على جوهرها قضاء مبرما حتى لا تقوم لها قائمة، وما دام الزمان مفتوحا على الماضي فهذا يؤشر على أن تجربة المعاناة التي يخوضها الفن لا تقتصر على العصر الحالي بل هي قديمة قدم الفن نفسه، وإنما كانت أكثر مرارة في التاريخ العربي الحديث، واشتد أوارها في القرن الماضي تبعا لضراوة العدوان الداخلي والخارجي الذي يواجه الوطن العربي.

وهكذا يمضي السرد في لافتات أحمد مطر ممزوجا بالصورة الفنية القائمة على التشخيص المستمد من الواقع الملموس حسا أو معنى، ففي اللافتة الأولى تجسدت الكرامة الآدمية (وهي معنوية) في صورة جثة (مادة) ذات ملامح عربية (رأيت جثة لها ملامح الأعراب)، والقوى الخارجية المتكالبة للنيل من الكرامة العربية تشبه الكواسر والضواري في التداعي إلى افتراس الجثث وكلاهما مادي مع اختلاف في الخصائص الجوهرية (الإنسان / الحيوان)، فالإنسان مفروض فيه احترام آدمية أخيه الإنسان بينما هو يخرج عن طبيعته الجوهرية الإنسانية إلى طبيعة حيوانية، فيسود قانون الغاب ومنطق الغلبة للأقوى كما هو حال العالم اليوم، وتلك قصة تاريخ الإنسانية تجلت أقوى فصولها في عصر التقدم والحداثة.

والشاعر يمتلك قدرة هائلة على التصوير الدقيق بما يسمح بتجميع أكبر قدر ممكن من الإيحاءات والدلالات، ويجعل اللافتات مساحات واسعة مفتوحة على قراءات متعددة بتعدد مؤهلات وقدرات القراء والدارسين، فالسرد بهذا المعنى تعبير رمزي عن الواقع العربي المرير الذي يرفض القول الصريح بل ويفتش في ثنايا الكلام عن سند لتهم جاهزة ...لذا فالشاعر مجبر على نسج حيل كلامية تمزج بين الواقع والخيال، والسرد والتصوير، والهزل والجد، والضحك والبكاء، والفرح والحزن...بما يجعل من شعره نقدا صريحا لهذا الواقع بهدف الدفع بالفن ـ ومنه الشعر ـ نحو فعل تغييري بدل الركون إلى الهدوء الاستكانة في غنائيات ميتة تكتفي بمدح الوضع القائم وتمجيده.  

الدكتور غنام محمد خضر في مؤتمر جامعة رابرين

clip_image002_4ed91.jpg

clip_image004_9485c.jpg

شارك الدكتور معاون العميد للشؤون الإدارية في جامعة تكريت العراقيّة د.غنام محمد خضر في مؤتمر جامعة رابرين/حكومة إقليم كردستان العراق في دورته الدّوليّة الثالثة بورقة بحثيّة بعنوان " التحول والتعرف وجماليات التلقي:قراءة في نصوص سناء شعلان القصصية"،حيث قال في معرض تقديمه للبحث في جلسات المؤتمر:" لمعالجة ظاهرة التحول والتعرف في قصص القاصة الأردنية سناء شعلان، وهذه الظاهرة ترتبط ارتباطاً مباشراً بفن المسرح، إذ تتجلى من خلال الحدث الدرامي كما أشار لها أرسطو في كتابه فن الشعر، وبعد قراءات متعددة تبين أنّ هذه الظاهرة موجودة في الفن القصصي أيضاً لكن لم يسلط عليها الضوء بشكل كبير،وهذه الظاهرة تتعلق بجماليات التلقي؛ لأنها تتجسد من خلال ما تحدثه من تغييرات لدى المتلقي، وسنحاول أن نقف في بحثنا على تجليات هذه الظاهرة وانعكاساتها على النص القصصي من خلال المكان والشخصية".

 حيث تحدّث د.غنام محمد خضر عن التحوّل والتعرّف في أدب سناء الشعلان،إذ قال في معرض حديثه :" قامت معظم قصص سناء الشعلان القصيرة على هذه التقنية وتمركزت بشكل واضح وجلي لتجعل من القارئ يعيش لحظة الإدهاش الحقيقية عندما تفاجئه الشعلان بتحول على مستوى الأحداث فتكسر أفق التوقع عنده وتجعل من الأحداث تسير بشكل مغاير عمّا كانت عليه، وبالتالي هذا التحول جعل كسر أفق التوقع يرتبط بالحالة الشعورية للمتلقي من طرف وبالقصة أو فكرة النص من طرف آخر، وأحياناً يخرج عنصر المفاجأة ليشير أو يفتح التأويلات أمام المتلقي، أو يعطي لحظة تنوير، وهذه اللحظة تكون مرتبطة أيضاً بطرفين أحدهما المتلقي والآخر القصة أو الفكر. والبحث سوف يتعامل مع الوظيفة الجمالية للتحول والتعرف في نصوص سناء الشعلان القصصية وما يطرأ على المكان والشخصية من قيم جمالية جراء هذا التحول، وما يطرأ عليها من تغير في المستويات البنائية والقيم الجمالية".

 والجدير بالذّكر أنّ المؤتمر في دورته هذه كان برعاية وزير التعليم العالي وحضور رئيس جامعة رابرين في فاكلتي التربية في قلادزة،وقد انعقد في دورته الحالية الدّولية الثالثة تحت شعار" أثر اللغة والأدب على التكوين الفكري والمداومة العلميّة".وقد تكوّنت اللجنة التحضيريّة للمؤتمر من كلّ من:د.سه ردار فتح الله حسين،ود.شهاب طيب طاهر،ود.زبير رشيد محمد،ود.شيماء رشيد محمد،ود.سامي ناجي سوادي،وم.سامان محمد عثمان.في حين تكوّنت اللجنة العلميّة للمؤتمر من: د.صباح رشيد قادر،د.سه ردار فتح الله حسين،د.شهاب طيب الطاهر،ود.صفاء الدين أحمد فاضل،ود.دانا إبراهيم محمد.

 وقد قُدّمت أوراق بحثيّة على امتداد جلسات المؤتمر شملت مواضيع أدبية وفكرية في بوتقة بحثيّة تظهر الدور الكبير للأدب واللّغة وأثرهما في التكوين الفكري والمداومة العلمية وتسليط الضوء على أبعادهما المختلفة وتطويرهما.

clip_image002_8c6b3.jpg

لا ينطبق على مجموعة مازن معروف" نكات للمسلحين" شيء قدر ملاحظة الكاتب الايطالي الكبير إيتالو كالفينو الذي نوه بأن دور الفنان ليس رؤية الواقع بل انعكاس الواقع على الوعي. هذا من الناحية الفنية هو جوهر وامتياز مجموعة مازن معروف التي فازت بجائزة ملتقى القصة الكويتية هذا العام، فقد قفز الكاتب من شكل المخيمات والحرب والموت ورعب المدن تحت الرصاص في فلسطين إلي انعكاس ذلك كله على الوعي. يشير كالفينو في ملاحظته إلي أسطورة " ميدوزا" التي يتحجر الناس من نظرتها، وكيف أن " بيرسيوس" نجح في قتلها لأنه لم ينظر إليها مباشرة بل إلي انعكاس صورتها على صفحة درعه. ويضيف كالفينو:" إن بيرسيوس لم يرفض الواقع، لكنه رفض النظر مباشرة إلي الواقع". بهذه الرؤية، أو بهذا المنهج الفني، قدم لنا مازن معروف عمله الذي لم يتجاهل الواقع الفلسطيني المؤلم، ولم يغض عنه النظر، لكنه قدم ذلك الواقع في انعكاسه على صفحة الوعي، ومن ثم فإننا لن نجد في قصص مجموعته الأربع عشر وصفا مباشرا لمجازر الحرب، أو قتلاها، بقدر ما  سنقرأ انعكاس الحرب على وعى طفل صغير وأيضا على وعي الشخصيات الأخرى التي يقدمها لنا مازن معروف.

تنقسم مجموعة معروف إلي قسمين:الأول – ويمثل مركز الثقل السردي الأساسي في المجموعة- بعين صبي صغير يرصد حياة المخيمات والحرب والرعب والأجواء السوداوية والعبثية أحيانا التي تسم الحياة بطابع مأساوي، ويعد القسم الأول من المجموعة أقرب إلي متوالية قصصية روائية منه إلي القصص القصيرة، إذ تتابع القصص بعين الصبي الصغير متصلة ببعضها عن طريق الراوي وعن طريق الشخصيات التي تلازم تلك الحكايات. وفي هذا القسم سنجد أننا أقرب ما نكون إلي " تيار الشعور" الذي يعرض المشاعر والأفكار الداخلية للصبي بشكلها العشوائي، وجريان كل ذلك بغض النظر عن المكان أو الزمان أو السياق المنطقي للأحداث. وقد استخدم كتاب كبار تلك التقنية في إطار وصف الواقع بما يحدث فيه، أي عندما يكون " تيار الشعور" جزءا من نسق فني واقعي. لكن مازن معروف يستخدم تلك التقنية منطلقا من وصف الواقع عن طريق ما لايحدث في الواقع. في الواقع ينتشر الجوع في المخيمات والحروب، هذا ما يحدث في الواقع، لكن الكاتب لا يرصد ذلك في قلة أرغفة الخبز وشح المياه لكنه يرصده بما لا يحدث، أي حين يقرر الصبي الصغير أن يبيع أخاه إلي المسلحين! مثال آخر: في الواقع يموت البشر يوميا تحت القصف وبرصاص المسلحين، لكن الكاتب يقدم لنا ذلك ليس برصد عدد الجثث بل عن طريق ما لايحدث، أي بتقديم شخصية "الماتادور" الذي يموت ثلاث مرات في أسبوع واحد! في الواقع والحياة الاعتيادية لن نجد أبدا جنديا يصعد إلي دبابته مصطحبا معه بقرة ! لكن الكاتب يقدم لنا ذلك ليصف ما يحدث بما لايحدث، أي ليعبر عن محاولة الحياة الإفلات من سطوة الرصاص والموت بكل الطرق. في الواقع تصبح تصاريح المرور هي السبيل الوحيد لعبور نقاط التفتيش المسلحة، لكن معروف يجعل من" النكات" التي يحكيها الناس للجنود تصاريح مرور! إنه يصف ما يحدث بما لا يحدث. إن الحرب قاسية ومرعبة وقد وصفها كتاب عظام من قبل بأصغر دقائق وتفاصيل ذلك الرعب، لكن معروف يقفز من رؤية الواقع مباشرة إلي انعكاسه فيشير إلي الأب الذي فقد ذراعه فطلب من ابنه الصبي أن يتبرع له بذراع، وهي صورة قاسية أبعد غورا من وصف الحرب مباشرة. ينهل مازن معروف من فكرة إيتالو كالفينو القائلة بأن دور الفن ليس النظر إلي الواقع مباشرة بل إلي انعكاس ذلك الواقع على الوعي.       

في القسم الثاني من المجموعة ويضم سبع قصص تبدأ بقصة " سيندروم أحلام الآخرين" سنرى القصة القصيرة بكامل جمالها وبهائها واستقلال كل واحدة فنيا عن الأخرى حيث تستقر كل قصة منفردة قائمة بذاتها، ومع ذلك سنجد المنهج الفني ذاته لدي الكاتب: وصف ما يحدث بما لا يحدث. في الواقع يصدف كثيرا أن تحرم الظروف زوجين شابين من الانجاب، وإذا نحن نظرنا إلي الواقع مباشرة لكي نصفه، فسوف نرسم صورة لعذاب الزوجين وشوقهما إلي طفل، لكن الكاتب في قصته الجميلة " أكواريوم" يذهب بعيدا عن كل ذلك، ويتخيل أن الزوجين قد اتخذا لنفسيهما طفلا من كتلة دم متخثرة ، هي كل ما تبقى لهما من حمل كاذب، فيضعانها في"أكواريوم" ويتخذانها ابنا يطلقان عليه اسم منير ويحتفلان بعيد ميلاده كل سنة ويدعوان أطفال الآخرين إلي الحفل لينشدوا لكتلة الدم " عيد ميلاد سعيدا"، وهكذا تطفو على سطح القصة من أعماقها قسوة الحياة وومضة السخرية المريرة والفانتازيا كما في القصص الأخرى!

ومع أن مازن معروف ينهل من الآفاق التي فتحتها " الواقعية السحرية" إلا أنه ليس من الدقة في شيء تصور أن مجموعته " نكات للمسلحين" تندرج في إطار تلك المدرسة التي  ارتبط ظهورها بكتاب من أمريكا الوسطى والجنوبية ممن اشتمل ابداعهم على أحداث غرائبية فانتازية، مثل جابريل ماركيز وغيره في محاولة منهم لاكتشاف آفاق ومسارات جديدة للكتابة بالاعتماد على الأساطير والحكايات الخرافية. لكن مازن معروف لا يلجأ إلي الغرائبية أو الحكايات الخرافية أساسا لأعماله، بل إلي الشكل الغريب الذي ينعكس به الواقع في الوعي. والأقرب للصحة أن ما كتبه معروف ينتسب لتاريخ وجذور أخرى للكتابة بدءا من الكاتب الانجليزي العظيم جوناثان سويفت و مؤلفه " رحلات جوليفر" الذي نشر عام 1726م، وفيه سنجد منهج مازن معروف، أي وصف ما يحدث بما لا يحدث. في الواقع وفي الحياة نحن نرى دائما الإنسان الذي يرواح بين القوة والضعف، بين العظمة والتهالك، هذا ما نراه في البشر، لكن سويفت يصف ذلك المزيج من القوة والضعف بما لا يحدث، أي بخلق شخصية" جوليفر" الذي نراه مرة عملاقا بين أقزام، ومرة قزما بين عمالقة! فندرك تضافر القوة والضعف الانسانيين. في مرحلة لاحقا سنجد جذور تلك الكتابة عند الأديب الروسي نيقولاي جوجول( 1809-1852م) في قصته الشهيرة " الأنف" التي كتبها عام 1836وفيها يستيقظ  بطلها   " كوفاليوف" المفتش بالكليات ذات صباح فلا يجد أنفه على وجهه! ولا يعثر مكان أنفه إلا على " سطح منبسط "! فيفزع باحثا عن أنفه تحت السرير وفي سلة المهملات ولا يجده، فييخرج إلي المدينة وهناك يلمح أنفه بالمصادفة خارجا من أحد البيوت في هيئة سيد عظيم في رداء عسكري متقلدا سيفا على جنبه! ويترفع الأنف عن الحديث إلي صاحبه ناظرا إليه بازدراء قائلا بعنجهية:" بالنظر إلي ما ترتديه أنت من ملابس فلا يمكن أن تكون بيننا أي علاقة "!

وفي ما كتبه جوناثان سويفت، وما كتبه جوجول، وآخرون، سنجد المزج بين ما هو واقعي وما هو خيالي، وينهل مازن معروف من ذلك النبع أيضا لكن يظل مستقلا ومتفردا، فما يحكيه لنا ليس خياليا لكنه الواقع متبلورا في الوعي بهذا الشكل. لقد قدم لنا مازن معروف في مجموعته الجميلة" نكات للمسلحين" قصصا كتبت برهافة شديدة،وإتقان، وشربت من بحور الواقعية السحرية ومزج الخيال بالواقع وتيار الشعور، لكنها بعد ذلك كله اكتسبت طعمها هي الخاص متحررة من سطوة تقاليد الواقعية النقدية، ومن وطأة الكليشيهات اللغوية. ونجح الكاتب في أن يقدم لنا ذلك كله بروح طفل يميل إلي المشاكسة أكثر مما يميل حتى للإبداع. ويذكرني هذا بما قاله الرسام العالمي بيكاسو ذات مرة من أنه وهو شاب كان يحاول فيما يرسمه تقليد الرسامين العظام، وحينما تقدمت به السن أصبح يجتهد ليرسم بعيني طفل. وأظن– لكن لا أجزم- أن مازن معروف قد تقدم بالقصة الفلسطينية العربية خطوة أخرى إلي الأمام بعد أن ظلت تراوح مكانها طويلا برحيل المبدع الكبير غسان كنفاني.

تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (8)

(8)

"الهروب إلى الموت"

تحليل قصّة "المشاكسة"

( إن لدى الإنسان رغبة دفينة في الندم تسبق الشر ، بل وتخلقه .. وإن عطر الندم ليقودنا نحو الشر كأنه حنين إلى بلاد أخرى)

 (إميل سيوران )

مع كلّ قصةّ من قصص مجموعة القاسمي هذه أتذكّر لازمة سيّدة الحكّائين شهرزاد التي تقولها في الذروة المبهجة لكلّ حكاية :

"وجاء مفرّق الجماعات وهادم اللذات"

وهو الموت .. الحيّ الذي لا يموت .. يأتي دائماً في لحظات الإنجاز والنشوة والبهجة القصوى ، وكأنّه عقاب يحلً بنا . ألهذا تحذّر كل الأديان من الفرح المُفرط والمزاح المنتشي ؟! ألهذا ندعو الله إلى أن يجعل ضحكنا خيراً ، وكأن المُثكل يقف لنا خلف الباب يحسب علينا لحظات فرحنا وانفلاتات سعادتنا ؟

وفي قصّة "المُشاكسة" يصف القاص حالة "فاطمة" العائدة من مدرستها الثانويّة إلى منزلها ، وهي تشعر بسرور واعتزاز ، فقد جاء ترتيبها الأوّل بين زميلاتها . وها هي تتصوّر فرحة أهلها الغامرة بنتيجتها الباهرة ، فترتسم البسمة على شفتيها (ص 267)

ولكن هل يختار لاشعورنا طرقاً نعاقب فيها أنفسنا على الإنجاز الذي نحقّقه وكأنّه إثم اقترفناه ؟

للتحليل النفسي كلام طويل عريض في هذا الشأن قد يجرّنا بعيداً عن فاطمة التي قرّرت الآن تنفيذ رغبتها في الذهاب إلى معهد اللغة الإسبانية في وسط المدينة قبل أن تذهب إلى أهلها لتبلغهم بالبشارة ! تريد أن تتعلّم لغة إضافية .

تتمّ فاطمة إجراءات التسجيل في المعهد ، لكنها لا تعود بالحافلة لتبلغ أهلها بالبشارة التي ينتظرونها ، بل تقرّر أن تقطع المسافة سيراً على الأقدام ! أغواها الجوّ الرائق ، والسماء الصافية ، في ذلك اليوم الربيعي المُشرق . تورّد خدّها بنظارة الشباب . الحافلة ستحرمها من متعة المشي في المدينة الزاخرة بالناس والحركة والحياة . شعرت بسعادة غامرة ... لكنّها أحسّت أنّ شخصاً ما يسير خلفها .. يتبعها .. يسير إلى جانبها ، ويدعوها إلى مرافقته لقضاء وقت جميل .

لا تدري كيف تجيب على كلامه . لم يعلّمها أحد كيف تردّ ، وتناقش ذَكَراً غريباً . فهي أنثى .. فتاة .. وعلى الأنثى أن تحذر دائماً من الذكور ، وأفضل سبل التعامل مع الذكور الغرباء هو "الهروب" . ولو راجعنا أغلب أدبيّات علم النفس وعلم الإجتماع لوجدناها ترى في السلوك الهروبي "دعوة" للمتحرّش للإيغال في سلوكه المؤذي ، وتؤكّد – بالمقابل – على المواجهة .. مواجهة تقوم بها الفتاة المُتحرّش بها للشخص الذي يتحرّش بها من خلال نظرات رادعة أو كلمات حادة توقفه عند حدّه ، أو بتهديده ، أو الاستغاثة بالشرطة ، أو بمن حولها من الناس ، أو ... أو الكثير من السلوكيات التي تُشعر المتحرِّش بالرفض الحازم ، وبقوّة الضحيّة ، لا باستكانتها وانرعابها . وكل هذه السلوكيات التهرّبية هي ما تُدرّب عليه الأمّهاتُ بناتهن عندنا طلباً للستر !!

وهذه فاطمة (لا تعرف كيف تجيب على كلامه) .. كلام الشخص الذي تحرّش بها ، وتذكّرت فوراً أنّ أمّها نصحتها بعدم الإجابة في مثل تلك الحالات ، لئلا يجرّ الرفض إلى ردّ فعل سيّء !!

ولأنها لم تلتفت ، ولم تتكلّم ، ولم تردّ على الدعوة التحرّشية بأي كلمة وتظاهرت بأنّها لم تسمع شيئاً ، فإن دائرة التحرّش قد انفتحت بما إنّ طلب المتحرّش لم يُرد عليه و "يُغلق" بصورة نهائية . بل على العكس مما يجب أن يحصل ، أمعنت فاطمة في سلوكها الهروبي ، ليصبح فراراً حركيّاً فعليّاً حين أسرعت في مشيتها أملاً في التخلّص من هذا الغريب المُشاكس ، لكنّه بدوره – وهذا ما هو متوقّع – أسرع في مشيته ، يسبقها ويسدّ عليها الطريق . يقول شيئاً غاضباً بصوتٍ عالٍ لا تفهمه ، بسبب الخوف الذي يستحوذ عليها (ص 268)

وهنا ، يقدّم القاسمي صورة لأعلى اشكال المهانة واحتقار الذات والإنرعاب من الحياة التي تربّي العوائل بناتها كأناث عليها ، وهي الهروب من معضلات الحياة إلى الموت !! ففقدان الإحساس بالكفاية الشخصية وهشاشة الإرادة أو غيابها وعدم التعوّد على المواجهة منذ الطفولة ؛ الهروب – وهذا أقسى النتائج التي تثير الغثيان – من تحمّل مسؤوليّة الذات نفسها ، يجعل الفتاة تشعر بأن عليها أن تلعب دور الضحيّة الكاملة الذي لا ينتهي عادةّ إلّا بموتها :

(دون أن تتفوّه بكلمة ، تجد نفسها تستدير بصورة مفاجئة ، وتندفع من الرصيف في اتجاه الجانب الآخر من الشارع ، لتتخلّص من هذا الشخص المشاكس . في تلك اللحظة تصل سيّارة مسرعة ، تدهسها وسط الشارع) (ص 268)

ولا أدري كم سيكون وقع الخاتمة مؤثّراً لو توقف القاص عند هذا الحدّ بلا هذه الإضافة النهائية التي تأتي كاستطالة بعد الموت :

(تسقط فاطمة أرضاً مضرّجة بدمائها . أمّا هو فيواصل سيره من غير أن يلتفت ..)

ومن وجهة نظري الشخصية أرى أن الخواتيم التفصيلية تُضعف المفاجأة التي بطبيعتها "مفاجأة" كضربة سريعة موجزة ومباغتة .

ذيل إحصائي مخيف :

وقد كشفت دراسة للمندوبية السامية للتخطيط ، وهي مؤسسة حكومية في المغرب ، في الآونة الأخيرة ، أن 40.7 في المئة من الشابات في المغرب بين 18 و24 سنة تعرضن للعنف بما فيه العنف الجنسي والتحرش.

كما دُهشتُ ، بل صُدمتُ لتقرير بثّته الـ BBC عن وجود (26) ست وعشرين ألف حالة تحرّش جنسي بالأطفال في المغرب سنويّاً .

القصّة التي تمّ تحليلها :

المشاكسة

________

د. علي القاسمي

تستقلُّ فاطمة حافلة مدرستها الثانويّة عائدةً إلى منزلها، وهي تشعر بسرورٍ واعتزاز. فقد وزَّعت إدارة المدرسة نتائج الفصل الدراسيّ. جاء ترتيبها الأوَّل بين زميلاتها. تتصوّر في مخيَّلتها فرحة أهلها بالنتيجة الباهرة. تتردَّد في ذهنها عبارات التشجيع التي سيغدقونها عليها. ترتسم بسمةُ المسرَّة على شفتيْها.

تراودها رغبةُ الذهاب إلى معهد اللغة الإسبانيّة في وسط المدينة قبل أن تعود إلى المنزل، لتنخرط في دروس تعلّم اللغة الإسبانيّة، فقد شجعتها نتيجتها الجيّدة على ادّخار بعض الوقت لتعلّم لغة إضافيّة. تنزل من الحافلة بالقرب من المعهد. سرعان ما تتمّ إجراءات التسجيل. تغادر المعهد وعلامات الرضا باديةٌ على تقاطيع وجهها الجميل المفعم بالحيويّة.

المسافة بين المعهد ومنزلها لا تستغرق أكثر من عشرين دقيقة سيراً على الأقدام. الجوُّ رائقٌ، والسماء صافيةٌ، في ذلك اليوم الربيعيّ المُشرِق. النسيم المنعش يلامس وجهها فيتورّد خدّاها بنضارة الشباب. تبدو لها شوارع المدينة زاخرةً بالناس والحركة والحياة. واجهاتُ المحلات التجاريّة مملوءةٌ بالمعروضات المُتنوّعة من الألبسة الأنيقة، والمأكولات الشهيّة. تشعر بسعادةٍ غامرة. يخطر في بالها أنّ حافلة المدرسة تحرمها من متعة المشي في المدينة.

فجأةً تحسُّ أنّ شخصاً ما يسير خلفها، يتبعها. يتبادر إلى ذهنها أنّ ذلك لا يعدو أن يكون محض مصادفة. لا يستغرق الأمر طويلَ وقتٍ ليتأكَّد إحساسها، إذ يسرع ذلك الشخص ليسير إلى جانبها، يخاطبها، يدعوها إلى مرافقته لقضاء وقتٍ جميلٍ معاً.

لا تدري كيف تجيب على كلامه. تتذكّر أنّ أُمّها نصحتْها بعدم الإجابة في مثل تلك الحالات، لئلا يجرّ الرفض إلى ردِّ فعلٍ سيئ. تستمرُّ في سيرها، لا تلتفت ولا تتكلّم. تتظاهر بأنّها لم تسمع شيئاً. يواصل هو توجيه كلامه إليها. تسرع في مشيتها أملاً في التخلّص من ذلك الغريب المشاكس. لكنَّه هو الأخر يسرع في مشيته. يسبقها ويقف في وجهها سادّاً عليها الطريق. يقول شيئاً غاضباً بصوتٍ عالٍ لا تفهمه، بسبب الخوف الذي يستحوذ عليها.

دون أن تتفوّه بكلمةٍ، تجد نفسها تستدير بصورةٍ مفاجئةٍ، وتندفع من الرصيف في اتجاه الجانب الآخر من الشارع، لتتخلَّص من هذا الشخص المشاكس. في تلك اللحظة تصلُ سيّارةٌ مسرعة، تدهسها وسط الشارع.

تسقط فاطمة أرضاً مضرّجةً بدمائها. أمّا هو فيواصل سيره من غير أن يلتفت.

# وقفة : استيلاء على آراء الباحث الفرنسي "جورج رو" :

على الصفحة 139 يقوم ناجح بتصحيح ما يراه فكرة خاطئة وقع فيها الدكتور أحمد كمال زكي في كتابه (الأسطورة) حين شبّه باتا ، بموته وانبعاثه ، بموت وانبعاث الإله دموزي ، معتبرا إياه انسياقا وراء الدراسات الغربية عن الديانة في العراق القديم . ويقول ناجح إن الباحث "نائل حنون" قد اثبت – واعتمادا على النصوص المسمارية – بأن الإله دوموزي / تموز نزل إلى العالم الأسفل ولم يغادره (ص 139) (127).

وكملاحظة سريعة - لأن المجال ليس مناسباً هنا للرد على هذا الرأي المعقّد بصورة تفصيلية - أقول إن بعض الباحثين العرب قد استولوا على فكرتين طرحهما الباحث الآثاري الثقة ، الطبيب الفرنسي (جورج رو) في كتابه (العراق القديم) ، وهما :

- أن تموز ليس إلها للخصب وأن إنانا/ عشتار هي الأولى بهذا اللقب

- وأن الإله تموز من آلهة العالم الأسفل .

ولكن لا أحد منهم أشار إلى ملاحظتي هذا الباحث الفرنسي المسكين .

كما وجدتُ إشارة واضحة من المؤرخ المعروف "ول ديورانت" إلى كون الإله تموز هو من آلهة العالم الأسفل في الجزء الأول من كتابه "قصّة الحضارة" . وسوف تكون لنا وقفة طويلة مستقلة مع هذه الأطروحات في مستقبل قريب بإذن الله .

# الثور رمز لقوّة الإله الشاب وليس لتجدّده وانبعاثه :

--------------------------------------------------

في الشرح المطوّل عن تجليات العلاقة بين الثور والإله القتيل في الحضارات المختلفة يقول ناجح في أحد المواضع :

(ينطوي الثور المتناظر مع الالوهة الشابة / القتيلة في ديانات الخصب التي عرفتها بلدان الشرق الأدنى على دلالات عديدة ومتنوعة ، ولكنها مع كل التنوع تظل ذات صلة فكرية مباشرة بالإنبعاث / والقوة وتجدد عناصر الحياة - ص 159) (128) .

وفي موضع آخر يقول أيضاً :

(ويبدو واضحاً (...) الصلة الموجودة بين الاله امون والثور ورمزيته الكاشفة عن الاتساع الدلالي الجنسي والصلة المباشرة مع نظام الخصوبة وعقائد الانبعاث (...) كما يلاحظ في الاحصائية التي اشرنا لها التوزع بين الاشارات والعلامات الدالة على الجنس والعلاقة المباشرة مع التجدد والانبعاث والقوة ، ومعاودة الحياة تجددها مرة ثانية - ص 166) (129).

وفي كلا الموقفين – وهذا ديدن الكثير من الباحثين في مجال الأسطورة – يعتبر ناجح الثور رمزا للإله القتيل ولعملية الموت والانبعاث . وأعتقد أن الثور هو من رموز القوة الجسدية والجنسية للإله الشاب ، وليس من رموز موته وانبعاثه ، فالإنسان البدائي كان يرى مثلا القمح والزهور والشجر تجف وتموت أو تُحصد وتقطع ، ثم تعود للظهور والتجدد ، ولكنه لم ير هذه الظاهرة في الثور ، وحين ربطه بالإله الشاب فللتعبير عن قوّته الجسدية وكفايته الجنسية .

# الإله تموز ثور أم أنثوي ناعم ؟ :

-------------------------------

# وارتباطا بالإنخصاء والخصيان يقول ناجح :

(ان الخصيان يكررون امام الام الكبرى دور الاله تموز الذي كان جميلا ، غضا مؤنث الصفات ، خاضعا لعشتار ، مسلما لها قياده – ص 89) .

أي أن الإله تموز – حسب حكم ناجح السابق – كان مؤنّث الصفات ، جميلاً وغضّاً . ولكن ناجح سرعان ما يناقض نفسه حين يقول :

(وعرفت الحضارة العراقية القديمة الثور صفة للالوهة الشابة ورمزا للقوة والشجاعة وجسد نظام الخصب ايضا – ص 168) .

فكيف نستوعب هذا التناقض ؟

من جهة نسمع أن الإله تموز غض ومؤنث الصفات ، ومن جهة أخرى هو ثور قوي شجاع بكل ما تعنيه مفردة "ثور" من ذكورة متدفّقة وقدرة إخصابية هائلة !! فكيف يجتمع النقيضان ؟

ثم يمعن ناجح في مناقضة نفسه وأرباك القارىء حين يقول بعظمة لسانه أن الإله تموز كان ثورا قويّاً وفتيّاً :

(وكان الثور لقباً للإله الشاب السومري دوموزي / تموز ، وهو كناية عن قوّته وفتوته – ص 157) .

ولا يكتفي بذلك بل – وإمعاناً في إلغاء اي صفة أنثوية عن الإله تموز - ينقل لنا مقاطع من أناشيد عشتار وهي تتغزل بحبيبها الثور الفحل وتدعوه إلى أن يحرث فرجها :

(وقد اشارت الكثير من القصائد السومرية للثور دوموزي وخصوصا في نصوص الزواج المقدّس تعبيرا عن طاقته الجنسية وقوته الفحولية

فرجي ، انا الصبية من سيحرثه لي ؟

فرجي انا ، هذه التلة المنتفخة

هذه الارض الرطبة التي هي انا

انا الملكة من ذا الذي سيضع فيّ

ثيرانه للحراثة ؟

ايها الثور الوحشي "دوموزي"

في وسط الحظيرة ، دفق من اجلي

لبن ماعزك

اي دوموزي

اطلق سراحي ايها الثور الوحشي –ص 157 و158) .

واذا كان الإله تموز أنثوياً غضّاً ، فكيف نفسّر استعارة الملوك السومريين والأكاديين لاسمه في طقوص الزواج المقدّس الذي استمر لقرون طويلة ؟!

المزيد من المقالات...